الإحياء الديني: كيف يخدم التقدم حقًّا؟١

(١) الإحياء الديني ظاهرة تاريخية

الإحياء الديني ظاهرة تاريخية في الغرب أو في الشرق أو في العالم العربي الإسلامي، الوسيط بين الغرب والشرق، والذي يمتد عبر أفريقيا وآسيا في المركز، وأوروبا وأمريكا في الأطراف؛ فظاهرة الإحياء الديني ليست مقصورة على العالم العربي الإسلامي وحده، بل هي عامة في الغرب والشرق على حدٍّ سواء بالرغم من اختلاف الظروف في نشأتها، والأشكال في تكوينها، والأهداف والبواعث في حركتها.

ففي الغرب ارتبط الإحياء الديني بنهاية الحداثة وبسلب التنوير، أفضل ما أخرج الغرب في القرن الثامن عشر، فبعد الإصلاح الديني في الخامس عشر، والنهضة في السادس عشر، والعقلانية في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، وتكنولوجيا القرن العشرين، يبدو أن الغرب قد بدأ يغلق القوسين، قوسي العصور الحديثة، ومُثله في العقل والعلم، وفي النقد للموروث، وفي معرفة قوانين الطبيعة، وبعد نقد كل شيء لم يعد شيئًا، ومعرفة قوانين الطبيعة أدت إلى حربين عالميتين طاحنتين، وصعود النازية والفاشية، وإلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. أما الفردية وحقوق الإنسان فقد انتهت إلى الأنانية والنسبية وضياع حقوق الإنسان غير الأبيض. كما تم انتهاك مُثل التنوير خارج أوروبا بداية بإحضار العبيد من أفريقيا إلى أوروبا وأمريكا وبدايات الاستعمار الحديث والقضاء على استقلال الشعوب، ونهب ثروات الأمم المغلوبة، وقوضت الحضارة الغربية نفسها بنفسها، وانتهت إلى العدمية والنسبية والشك واللاأدرية، ولم يعد الشباب قادرًا على الولاء لشيء حتى للثقافات المضادة التي ازدهرت بعد ثورتهم في ١٩٦٨، فعادت الشعوب الأوروبية تبحث في ماضيها عن حلٍّ لأزمة حاضرها الذي كان مستقبلها في بدايات العصور الحديثة فوجدته في موروثها القديم، الدين أو العرق، فظهر الإحياء الديني كنوع من الدعامة للوعي الأوروبي وهو في مرحلة الأفول والحضارة الغربية وهي في مرحلة النهاية، وهو اختيار ما قبل المثالية، اختيار العصر الوسيط، فإذا ما عاد الوعي الأوروبي إلى بداياته الوثنية الأولى فإنه يكتشف العرق كما هو الحال في ألمانيا حاليًّا وصعود النازية، فالإحياء الديني في الغرب رد فعل على نهاية العصور الحديثة وإفلاسها، ومحاولة إيجاد بداية جديدة أو عود إلى البداية القديمة.

وفي الشرق بعد بدايات التصدُّع في المعسكر الشرقي نظرًا للحكم الشمولي القهري، وضياع الحريات العامة وحقوق الإنسان، وتغليب قوة الدولة على حاجات الأفراد الأساسية، انهار الحكم كلية، وظهرت القومية العرقية لدى الشعوب المغلوبة أو الإحياء الإسلامي في أواسط آسيا والتي امتد فوقها الاتحاد السوفيتي، وكما هو الحال أيضًا في أوروبا الشرقية التي كانت تعتبر في الأطراف، العرق عند الصرب والكروات والإحياء الإسلامي في البوسنة والهرسك وباقي دول أوروبا الشرقية عامة وفي البلقان خاصة.

وفي اليابان وكوريا، ومن أجل النهضة الاقتصادية تم إحياء التقاليد الدينية والشعبية تأكيدًا للهوية واعتزازًا بخصوصية التجربة، التمسك بالذات والانفتاح على الآخر، فظهر الإحياء الديني الشعبي للشخصية الآسيوية في الفن والأدب وأساليب الحياة وأنماط السلوك.

وفي فيتنام والهند الصينية وتايلاند والهند ظهر الإحياء الديني في البوذية والهندوكية من أجل الدفاع عن الاستقلال الوطني ضد الاستعمار الغربي وضد القهر الداخلي، مرة كفاحًا مسلحًا في فيتنام، ومرة مقاومة سلمية في تايلاند والهند، باستثناء بعض ولايات الهند التي يرتبط فيها الإحياء الديني بالعرق نظرًا لتعدد القوميات والأجناس واللغات.

وفي العالم العربي الإسلامي ظاهرة الصحوة الإسلامية ظاهرة تاريخية، تتبع قانونًا للتاريخ؛ ومن ثم لا يمكن وقف انتشارها أو مقاومتها، فهي تمثل المرحلة الثالثة في تطور الحضارة الإسلامية، فقد كانت المرحلة الأولى في عصر نشأة الإسلام وبناء الحضارة الإسلامية وبلوغها الذروة في القرن الرابع الهجري، العصر الذهبي للحضارة الإسلامية ثم انتهائها في القرن السابع بعد هجوم الغزالي على العلوم العقلية في القرن الخامس وإعطائه السلطان أيديولوجية القوة، وهي الأشعرية، ومده الناس بأيديولوجية الطاعة، وهو التصوف، ولم تنفع بارقة ابن رشد في القرن السادس في مد المسار الحضاري، وجاء ابن خلدون في القرن الثامن ليؤرخ لمسار الحضارة الإسلامية في هذه الفترة واضعًا قانون التطوُّر والانهيار وأسبابها، من العصبية إلى الترف، ومن البدو إلى الحضر.

ثم جاءت الفترة الثانية ابتداءً من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر، فترة الغزوات من الشرق والغرب، وفترة الحكم التركي المملوكي، عصر الشروح والملخصات، وفي نهاية هذه الفترة ومنذ مائتي عام فقط ظهرت حركات الإصلاح الديني في مصر والعالم العربي والإسلامي من أجل إنهاء عصر الركود والاستعمار والتخلف وبداية عصر جديد، وبعد انتصار حركات التحرر الوطني وإنشاء الدول الحديثة وبداية عودة الاستعمار من الباب الخلفي؛ الاقتصادي والسياسي والثقافي، وتبعية الدول بمحض إرادتها للدول الاستعمارية القديمة بدأ الإحياء الديني من جديدٍ يعود إلى المواجهة بعد أن تم استبعاده بعد الاستقلال، وخرج من العزلة أو السجن، من التهميش أو التعذيب راغبًا في الانتقام من الدول ونظمها السياسية، يعلن نهاية عصر، السبعمائة سنة الثانية، وبداية عصر جديد، مرحلة جديدة للحضارة الإسلامية منذ القرن الخامس عشر الهجري حتى القرن الحادي والعشرين الهجري، فتسود روح التفاؤل، ولا يعود الإسلام غريبًا كما بدأ، بل يصبح الإسلام هو الحل، الإسلام هو البديل، وبدلًا من حاكمية البشر، حاكمية الظلم، تأتي الحاكمية لله، حاكمية العدل.

وفي نفس الوقت يُعاد إلى الإصلاح الديني حميته الأولى بعد أن فقدها منذ هزيمة الثورة العرابية في ١٨٨٢ والتي أدت إلى احتلال مصر، وكانت قد اندلعت بسبب تعاليم الأفغاني؛ الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل، وقد أدَّى ذلك إلى خفض حماس الإصلاح إلى النصف عند محمد عبده، مؤثرًا التغير الاجتماعي البطيء على الثورة السياسية العارمة، وسار على أثره رشيد رضا في تيار الإصلاح ضد السلفيين العثمانيين وضد العلمانيين الأتراك حتى تم النصر للثورة الكمالية في تركيا في ١٩٢٤، فارتدَّ رشيد رضا سلفيًّا وهابيًّا حنبليًّا، ولما كان حسن البنا تلميذ رشيد رضا في دار العلوم، أخذ الإصلاح على يديه، وأراد تحقيق حلم الأفغاني في إنشاء حزب ثوري يساند الإسلام الثوري ويحققه بين الناس، فأنشأ جماعة الإخوان وأصبحت بعد عقدين من الزمان، أكبر تنظيم إسلامي شعبي جماهيري مما جعلها تصطدم بالنظم القائمة، الأحزاب والقصر والاستعمار، فلما قامت الثورة المصرية في ١٩٥٢ وكان نصف الضباط الأحرار من أعضاء مجلس قيادة الثورة منهم، ظن الناس أن الإسلام الثوري قد انتصر، الإخوان المسلمون والضباط الأحرار، وسرعان ما دبَّ الشقاق بين إخوة الأمس في ١٩٥٤، صراعًا على السلطة، ودخل الإخوان السجن، وتحت أهوال التعذيب خرجوا في السبعينيات لتصفية الحساب مع الثورة الأولى، ثم مع ثورة التصحيح التي شجعتها ودعمتها أولًا، وحين سارت أبعد من اللازم في الصلح مع إسرائيل والتبعية للغرب وقهر الحريات العامة، وكان الحال كذلك في المغرب والجزائر وتونس وليبيا وسوريا والعراق والأردن، فالإحياء الديني محاولة للحاق بجذور الإصلاح الأول فكرًا وتنظيمًا من أجل إعطائه دفعة جديدة من جيل جديد.

(٢) الدين روح مصر

منذ آلهة المصريين القدماء الشمس أو النيل أو الحيوانات الأليفة أو فرعون؛ ظلوا حتى الآن — وكما يبدو ذلك في دياناتهم عبر التاريخ، الفرعونية، والقبطية واليهودية، والإسلام، وكما سجلته ذاكرتهم في الأمثال العامية — متدينين، يعتبرون الدين حياتهم الذي يمدهم بتصوراتهم للعالم وبمعاييرهم للسلوك، يجمعون بين الدنيا والآخرة، ويجعلون العمل الصالح أساس الثواب والعقاب، الرحمة في الآخرة بعد العدل في الدنيا، ومن الدين في مصر القديمة خرجت الرياضيات لبناء المقابر والطبيعيات للتحنيط.

ثم تحوَّلت الديانة الفرعونية داخل القبطية في حسن الطوية، ومحبة الله، وحياة الروح، وكانت الكنيسة القبطية كنيسة مصر الوطنية تعبر عن نيلها في ترانيمها، وعن زرعها وحصادها في أناشيدها الدينية، وعن حب مصر في قداسها.

وكانت مدينة الإسكندرية موطنًا للفلسفات المسيحية واليهودية، منها خرج فيلون السكندري فيلسوف اليهودية، وفيها تمت الترجمة السبعينية للتوراة إلى اللغة اليونانية، وفي مصر ظهر سعيد بن يوسف الفيومي، وإليها هاجر الأنبياء يوسف وعيسى عليهما السلام، وفي مصر حفظت «الجنيزة»، وأبدعت مصر حياة الروح والتأمل الصوفي في الصحراء الغربية عند القديس أنطونيوس، وفيها ظهرت دعوة التوحيد عند موسى، وظلت مصر محور الثقافات القديمة في شمالها في الإسكندرية، وفي جنوبها في أسيوط، وفي غربها في سيوة، وفي شرقها في جبل الطور، اليونانية واليهودية والمسيحية والديانات الشرقية.

ثم صبَّ ذلك كله في الإسلام بعد الفتح، وما قيل في فضائل مصر كثيرٌ بعد ذكرها في القرآن؛ بلد الخير والأمان، والقدرة على الخلاص من الطغيان، طغيان فرعون، وقد قيل إن جندها خير أجناد الأرض، وإن شعبها مرابط إلى يوم القيامة، وأوصى بأقباطها خيرًا فإن فيهم رحم المسلمين، ورأى المقوقس عظيم مصر أن الفاتحين الجدد أهل وأصهار، محررين لمصر من طغيان الرومان، وظلَّت مصر بعيدًا عن المغالاة في العقائد، منغمسة في الشرائع، بعيدة عن الفلسفات النظرية، مبدعة في التشريعات العملية، ففيها قلَّ الكلام والفلسفة وازدهر الفقه والتصوف، وحفظت عبر العصر المملوكي المدونات والموسوعات الكبرى، ومنها حديثًا خرجت نهضة العرب وحركة الإصلاح الديني.

فالدين في ذاته ومصر عبر تاريخها حقيقة واحدة، الدين بنيتها، والتدين تاريخها، إنما الذي حدث في هذا الجيل هو قتال بين الإخوة الأعداء؛ السلفيين والعلمانيين، بين ما يظنُّون أن الدين هو عزلة عن الحياة والمجتمع، عقائد وشعائر لا صلة لها بالوطن ولا بالناس، حقيقة مستقلَّة بذاتها، غاية في ذاتها وليس وسيلة لغاية أخرى، الحفاظ على وطن وصنع حضارة، ومن يظنون أن الغرب هو مهد الثقافة، وأن الحضارة الغربية إنما كانت انقطاعًا عن الدين وانفصالًا عنه، وأن هذا هو النموذج الذي يجب أن يحتذى عند كل حضارة ولدى كل شعب، اتهم السلفيون العلمانيين بالإلحاد واتهم العلمانيون السلفيين بالخيانة.

وبصرف النظر عن الصراع على السلطة بين الفريقَيْن الذي قد يكمن وراء هذا الاقتتال طبقًا لمنطق الاستبعاد الممثل في «أنا وحدي» سواء الذي تمارسه الدولة أو المعارضة بجناحيها، وبصرف النظر عن مستويات الثقافة وراء هذَيْن التيارين، السلفي الذي يعبِّر عن ثقافته العامة، والعلماني الذي يعبِّر عن ثقافته الخاصة، ففي الحقيقة هناك خطابان على مستوى الثقافة السياسية؛ الأول: الخطاب السلفي الذي يعرف كيف يقول؛ إذ إنه يستعمل الثقافة الدينية ومفاهيمها وأدلتها ونماذجها وخيالاتها ومأثوراتها وأبطالها ونصوصها التي ما زالت حية ومؤثرة في قلوب الجماهير، ولكنه لا يعرف ماذا يقول؛ لأن مضمونه تقليدي، ومعاركه مكسوبة من قبل مثل الإيمان والعقائد والشعائر والأخلاق؛ والثاني: الخطاب العلماني الذي يعرف ماذا يقول؛ لأنه يتحدث عن الفقر والحرية والأسعار والإسكان والتعليم والمواصلات، ولكنه لا يعرف كيف يقول لأنه يستعمل مفاهيم الأيديولوجيات العلمانية للتحديث الليبرالي أو القومي أو الماركسي دون الاعتماد على ثقافة الجماهير، فيبدو متعالمًا غربيًّا نخبويًّا سلطويًّا علويًّا، والجماهير تنتظر خطابًا ثالثًا فيه لغة الخطاب السلفي ومضمون الخطاب العلماني، به ثقافتها وقيمها ونماذج بطولاتها ونصوصها الدينية وأمثالها العامية كأدوات للتعبير عن مصالحها المباشرة في الحرية والعدالة الاجتماعية والخدمات العامة والحاجات الرئيسية وهمومها اليومية، وهذا ما يسمى بالخطاب الإسلامي المستنير، أو بالإسلام الاجتماعي، أو بالإسلام السياسي القادر على المصالحة الوطنية بين السلفيين والعلمانيين في حوار ديمقراطي وتعدُّدية فكرية، وفي نفس الوقت حامل لمصالح الناس، ومعبر عنها وحاشد لقواها ومحقق لرغباتها.

(٣) الأسباب الداخلية والخارجية للإحياء الديني

تكاد تجمع الآراء على أن هزيمة يونيو ١٩٦٧ كانت البداية العلنية في هذا الجيل للإحياء الديني على كافة المستويات الثقافية والطبقات الاجتماعية، فكان البعد عن الله أحد أسباب الهزيمة، وكان تمسك العدو بالدين أحد أسباب نصره. ولما كانت من طبيعة التفكير البسيط تفسير الظاهرة بعامل واحد، أصبح العامل الديني هو الحاسم عن الجماهير.

وكانت الهزيمة أيضًا عند الطبقات المتوسطة، التي كانت دعامة بناء الثورة المصرية واختياراتها الاشتراكية الوطنية، نهاية للمشروع القومي ولحلم الثورة التي بَدَتْ منتصرة على الأحلاف العسكرية في ١٩٥٤ وفي معركة التأميم في ١٩٥٦ وبلغت الذروة في تجربة الوحدة مع سوريا في ١٩٥٨–١٩٦١ ثم في القوانين الاشتراكية في ١٩٦١–١٩٦٣ ثم في مناهضة الحلف الإسلامي في ١٩٥٧ ثم جاءت هزيمة يونيو ١٩٦٧ تجهض كل شيء؛ الشعب، والقائد والفكر والخيال.

وكانت إزالة آثار العدوان هو الحلم البديل الذي بدأ بمعركة رأس العش، وتدمير المدمرة إيلات في ١٩٦٧، وفي حرب الاستنزاف في ١٩٦٨-١٩٦٩، وفي النقد الذاتي بعد مظاهرات الطلاب في ١٩٦٨، وفي الإعلان عن النوايا: تأميم تجارة الجملة وقطاع المقاولات، ومضاعفة الدخل القومي، وإنشاء الحزب الطليعي، وبعد اختفاء القيادة الثورية في ١٩٧٠ وبداية قيادة جديدة اعتمدت على إعادة بناء القوات المسلحة، وتحت ضغوط الطلاب في مظاهرات ١٩٧١-١٩٧٢، والرغبة في رد الكرامة للوطن وللجيش وللأمة، وتحريك القضية على الصعيد الدولي تم انتصار أكتوبر ١٩٧٣، وسرعان ما تم تفسيره بالربط إيجابًا بين الإيمان والنصر، ورُفعت شعارات العلم والإيمان، وكثرت البرامج الدينية في أجهزة الإعلام، وساعدَت الدولة في ذلك بالإفراج عن الإخوان المسلمين في أوائل السبعينيات، وتدعيم الجماعات الإسلامية الناشئة في السجون كرد فعل على استسلام الإخوان، من أجل تدعيم القيادة السياسية الجديدة والاختيار السياسي الجديد، الانفتاح الاقتصادي، والسلام الاجتماعي، والصلح مع إسرائيل، والتعاون مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي بيدها ٩٩ في المائة من أوراق الشرق الأوسط، فبعد اتفاق المصالح مع اختيارات الدولة والجماعات الإسلامية في بداية السبعينيات على تصفية اختيارات الثورة الأولى، بدأ التعارض بينهما في أواخر السبعينيات على اختيارات الثورة الثانية، الصلح مع إسرائيل والتحالف مع الغرب، والقوانين المقيدة للحريات.

وبسبب غياب الاختيارات الاشتراكية الأولى للثورة، وبداية ظهور نتائج الانفتاح الاقتصادي على الطبقات الشعبية اشتدَّت قضية الفقر مع غلاء الأسعار، ورفع الدعم عن المواد الأولية، الخضوع لسياسات السوق، وتفاقم أزمة الإسكان والمواصلات والتعليم مع ازدياد السكان وظهور المناطق العشوائية حول القاهرة والمدن الكبرى، وزادت البطالة بين الحرفيين العائدين من العراق والخليج وليبيا وبين الخريجين، فسهل تجنيدهم، من لا شيء إلى أمير الأمراء، فأصبح الإسلام وسيلة للاحتجاج وحاملًا للمطالب الاجتماعية، وقناة للتعبير عن الغضب، وطريقًا من التهميش إلى المركزية في الواقع وفي الإعلام.

وكلما ازداد الفساد الأخلاقي والاجتماعي زادت موجة الاحتجاج الصامت والفعلي عن طريق الهروب من المجتمع والنزول تحت الأرض أو في الصحراء وعلى حواف الوديان لتكوين مجتمع الطهارة والعفاف، وحدث الفصام بين جماعات المستقبل القادم وعموم المجتمع الكافر كما يتبدَّى في الإعلانات التلفزيونية والسينمائية والمسرحيات الساقطة وأساليب الحياة العامة وعلب الليل وأفراح الفنادق الكبرى وحفلات الأندية وأغاني الحواري والأزقة.

ووسط هذا كله تضيع الهوية، ولا يعرف الشباب الطاهر في أي مجتمع هو يعيش، وأي تقاليد هو يمارس؟ هل هو مصري أم عربي أم إسلامي، شرقي أم غربي، أفريقي، أم متوسطي، وطني أم إسرائيلي، بلدي أم أمريكي؟

ونظرًا لغياب الهوية ظهرَتْ هُويات مصطنعة، بحراوي صعيدي، أهلي زمالكي، فلاح أو أفندي، وظهرت رموز للهُويَّة الضائعة تشير إلى التمسُّك بها مثل الجلباب واللحية، الطب النبوي وحياة الصحراء، والأغاني الدينية الجامعية والزوايا البسيطة، والزواج المبكر وبلا تكاليف كما كان الحال أيام الرسول.

وكما ضاعت الهُوية في الحياة الفردية والاجتماعية تضيع أيضًا في الحياة السياسية بالتبعية السياسية للقوى الخارجية وفقدان القدرة الذاتية على أخذ القرار، وعدم القدرة على إطعام النفس، ويزداد العجز العربي يومًا وراء يوم، وتتفتت قواه، ويتحوَّل الوطن الإسلامي إلى دويلات مذهبية وعرقية، ويضيع مثال الأمة الواحدة، ويقتل المسلمون بعضهم بعضًا في حربي الخليج الأولى والثانية، ويتحالف المسلمون مع الأعداء ضد بعضهم البعض، وتتكالب الدول الأجنبية على المسلمين كما تتكالب الحيوانات المفترسة على فريستها كما هو الحال في فلسطين، والبوسنة والهرسك والشيشان وبورما وكشمير، ويزداد العداء للمسلمين في ألمانيا وفرنسا، ويظهر عداء العالم كله في الشرق والغرب للمسلمين، ويؤخذ الإسلام كعدو بديل عن الاتحاد السوفيتي بعد زوال الخطر الشيوعي، ويتم التركيز على المسلمين حصارًا وضربًا بعد خفوت صوت لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية وانشغال آسيا بنهضتها الاقتصادية، فلم يبقَ إلا الإسلام كإمكانية وحيدة لتحدي نظام العالم الجديد.

(٤) توظيف الإحياء الديني من القوى الداخلية والخارجية

إذا كانت الأسباب الداخلية والخارجية تبدو أحيانًا مبررًا للإحياء الديني على نحو إيجابي، فإن توظيفه من القوى الداخلية والخارجية واستخدامه واستعماله يبدو على نحو سلبي نظرًا لأنه لم يستطع حتى الآن أن يكون رؤيته المستقلة وتنظيمه المستقل.

فقد تم توظيفه أولًا وببراعة كغطاء للانفتاح الاقتصادي، وقوة رأس المال الخاص تحت دعاوى كثيرة مثل البنوك الإسلامية التي تقوم على المرابحة وليس على الرباء، وشركات توظيف الأموال التي تعتبر أكبر عملية لنهب أموال المواطنين أمام سمع الدولة وبصرها ومن خلال إعلاناتها ورجالاتها ووجهائها، وكثرت الشركات الإسلامية، إسلامكو، إيمانكو، للملابس والمجوهرات، والزي والأفراح، والعيادات ودور المناسبات، فالإسلام ضمان للنجاح ووسيلة للربح، والإعفاءات من العوائد في حالة تخصيص الدور الأول في العمارة الشاهقة كمصلى للناس، ونيل الحسنيين في الدنيا والآخرة.

وانتشر الإسلام المحافظ الشعائري العقائدي الشكلي العقابي الردعي، وأصبح أداةً للضبط الاجتماعي والسيطرة السياسية، وهو ما أصبح يسمى في بعض الأدبيات «الإسلام السعودي» أو «الإسلام الخليجي». الإسلام في الظاهر، والغرائز في الباطن، التشدُّد على السطح والتسيب في العمق، الصرامة في الشكل والجنس في المضمون، وكل ذلك باسم الشرع؛ تعدد الزوجات، العقود الشرعية، السنة والاقتداء، المباح والحلال، فبيعت فتيات مصر وصغار السن في القرى والنجوع لمشايخ الحجاز والخليج، دفعًا للفقر وتحت ستار الدين.

فإذا ما استولت حركة إسلامية على السلطة في بلد ما مثل إيران أو السودان أو أفغانستان فإنها تصبح أممية، تدعو إلى الحكم الإسلامي خارج أوطانها، فتصطدم بالدول المجاورة، وقد تنشأ الحروب والنزاعات كما هو الحال بين إيران والعراق أو إيران ودول الخليج أو إيران وأفغانستان من ناحية والجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا من ناحية أخرى، وكما هو الحال بين السودان ومصر، أو بين الفصائل المتحاربة داخل أفغانستان بعد انتصار المقاومة الإسلامية على الحكم الشيوعي، وتنشأ قضية حقوق الإنسان، وضياع الحريات العامة، وتطبيق الشريعة بمعنى قانون العقوبات، وتشجيع جماعات الإرهاب المسلح للاغتيالات وتدبير الانقلابات باسم أممية الإسلام، وتنشأ الحروب المذهبية باسم الإسلام بين شمال السودان وجنوبه، أو بين وسط العراق وبين جنوبه وشماله، أو بين قبائل أفغانستان، فإن تصل الحركة الإسلامية إلى الحكم أو كادت تصل ينقلب عليها الجيش، ويلغي الانتخابات فتنشأ الحروب الأهلية، بين جيش مغتصب للسلطة وحركة إسلامية تحت الأرض كما هو الحال في الجزائر.

فإذا ما رأى الغرب في الحركة الإسلامية تأييدًا لاقتصاديات السوق، وللاقتصاد الحر، وأن الرأسمالية ليست جريمة، وأن الشرع مع التجارة والربح بشرط غلق الأسواق أوقات الصلوات ودفع الزكاة والتبرعات لأعمال الخير، وأنها لا تمثل خطرًا على الشركات المتعددة الجنسيات ولا على آليات السوق ولا على الرأسمالية العالمية بل هي جزء منها من خلال عوائد النفط والمضاربات في أسواق المال، وأنه يأمن من خلالها من التأميم والمصادرة وسيطرة الدولة على البنوك، والملكية العامة لوسائل الإنتاج فإنه يؤيدها معنويًّا وماديًّا، فلا تعارض بين الأخلاق الدينية وروح الرأسمالية، وإذا ما رأى النظام العالمي الجديد في الإسلام حليفًا سياسيًّا له سواء على مستوى الدول كما هو الحال في شبه الجزيرة العربية وتركيا والمغرب وأواسط آسيا، أو على مستوى الجماعات الإسلامية المعارضة فإن الإسلام يصبح حليفًا استراتيجيًّا للغرب يتبادل معه المنافع الاقتصادية والسياسية سواء على مستوى الدول الإسلامية لقمع الحركات الإسلامية المناهضة للغرب أو على مستوى الجماعات الإسلامية المسلحة لتهديد الدول المستقلة وتخويفها بها ولإجبارها على مزيد من التبعية، وتصبح الدولة المستقلة بين شقي الرحى، مجبرة على قبول أحد الاختيارين، وكلاهما مر.

وإذا ما رأت الصهيونية العالمية في الحركات الإسلامية تشددًا تعيش عليه الحركات المعادية للسامية فإنها تؤيدها من أجل إيجاد شرعية للصهيونية كحركة دفاع عن اليهودية، كما أيدت إسرائيل «حماس» في بدايتها ضد منظمة التحرير الفلسطينية، فالإرهاب يولد الإرهاب، والتطرف يؤدي إلى التطرف، واللاعب بالنار أول من يحترق بها.

(٥) الإحياء الديني والوحدة الوطنية

وعادة ما يثار موضوع الخشية على الوحدة الوطنية من الإحياء الديني إذا ما تعددت الديانات كما هو الحال في مصر؛ إذ قد يولد الإحياء الديني الإسلامي الإحياء الديني القبطي؛ ومن ثم تصبح الوحدة الوطنية في خطر، وإذا ما أخذ الإحياء الديني في كلتا الحالتين شكلًا سياسيًّا، في صورة حزب أو تنظيم أو منصب في الدولة — كما هو الحال في لبنان — فهل يمثل ذلك خطورة على الوحدة الوطنية؟

الحقيقة أن الأقباط في مصر ليسوا عنصرًا أو عرقًا أو جنسًا أو طائفة أو مذهبًا أو دينًا، بل هم جزء من تاريخ مصر ونسيجها الوطني، هم مصريون أولًا وأقباط ثانيًا، وليس لديهم شعور ديني أو مذهبي أو طائفي بالعزلة عن الكيان الأكبر، بل إن لفظ الأقلية لا ينطبق عليهم؛ لأنه لفظ عددي إحصائي ولا يدل على جوهر أو هُوية، هم أصحاب البلاد عندما وفد عليهم العرب والمسلمون فاتحين ومخلِّصين لمصر من ظلم الرومان، هم أصهار وأهل رحم، منهم من تبنى الدين الجديد، الإسلام، ومنهم من بقي على الدين القديم، القبطية، المسيحية الأرثوذكسية المصرية، في كنيسة وطنية تعكس مصر الأم، والوطن الأكبر.

وعلى مستوى الدين الشعبي لا يوجد فرق بين زيارة قبور الأولياء، يذهب المسلمون إلى كنائس السيدة مريم العذراء، وماري جرجس، وسانت تريزا للتبرك والدعاء كما يذهب الأقباط إلى الحسين والسيدة زينب والشافعي للتبرك أيضًا وإجابة المطالب، الطقوس والأعياد الشعبية واحدة، من الديانة الفرعونية، عروس النيل، وشم النسيم، والسبوع والأربعين عبر القبطية حتى الإسلام.

وكان الأقباط في مقدمة الحركة الوطنية المصرية كما بدا ذلك في ثورة ١٩١٩، وحدة الهلال والصليب، وكان أقطاب المعارضة السياسية منهم، وكان منهم أبطال في حرب أكتوبر ١٩٧٣؛ فهم جزء من الكنيسة الشرقية التي تقوم على التراث الوطني للشرق، وليسوا جزءًا من المسيحية الغربية التي ارتبطت كنائسها بالاستعمار والتبشير والتغريب، فهم جزء من كل واحد؛ لذلك لم تظهر فيهم بوادر انفصال أو انعزال ولم يتكون لديهم شعور بالعزلة أو الاستبعاد، لقد وصف القرآن مريم البتول وفضلها على نساء العالمين، ووصف المسيح بأنه روح الله وكلمة منه، وأثنى على النصارى وحواريي المسيح لما تذرف عيونهم من الدمع بما عرفوا من الحق، منهم القسيسون والرهبان، وهم لا يستكبرون، دعاهم القرآن إلى المساواة التامة مع المسلمين في آية المباهلة، ألا يتخذوا بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، وأن يأتوا إلى كلمة سواء بينهم، عبادة إله واحد.

ولكن في لحظات الضعف، ضعف الدولة، وضعف النظام السياسي تظهر بعض علامات التوتر خاصة في صعيد مصر بين الأقباط والجماعات الإسلامية، ففي غياب المشروع القومي، والهدف القومي، والتحدي القومي ينقلب المواطن إلى الداخل، إلى قريته ومحافظته ومنطقته وثقافته كملاذٍ وملجأ له، فيصبح المواطن جيزويًّا بحراويًّا أو أسوانيًّا صعيديًّا، مسلمًا أو قبطيًّا، فلاحًا أو بدويًّا، في غياب المشروع الكلي تظهر المشاريع الجزئية، وفي تعثر الهُويَّة الوطنية تظهر الهُويَّات العرقية والطائفية.

فإذا ما اشتدَّت جماعات المعارضة، الجماعات الإسلامية مثلًا، ولا تقوى على مواجهة الشرطة وقوى الأمن فإنها تلجأ إلى إحراج الدولة بالاعتداء على بعض المواطنين الضعفاء، شرطي أو أمين شرطة أو قبطي أو على رموز الدولة البارزين، وزير أو رئيس مجلس نيابي أو صحفي أو رئيس وزراء أو رئيس دولة، وربما تجد في الفقه القديم ما يشرع لهم ذلك، فليس القبطي هو الهدف، بل الهدف إحراج الدولة وإثبات عجزها عن حماية المواطنين ورموزها.

فإذا ما أرادت الدولة أن تقوي شوكتها عن طريق قوانين استثنائية مثل المحاكم العسكرية؛ فقد تقوم هي نفسها بإشعال الفتنة حتى تجد ذريعة لسن قوانين ضد الفتنة الطائفية ولحماية الوحدة الوطنية، فالغاية تبرر الوسيلة، وقد يقع شجار بين مواطنين لأسباب عادية ويتضح بالمصادفة أن أحدهما قبطي والآخر مسلم فيتحول الشجار إلى صراع طائفي، وقد يقع صدام بين عائلتين في الصعيد لأسباب اجتماعية أو أخذًا بالثأر، ويُعطى للأمر دلالة طائفية إذا ما اتضح أن إحدى العائلتين قبطية والأخرى مسلمة.

أما الدفاع عن الثقافة الغربية فليس مشروطًا بالقبطية، فهناك أقباط من أنصار الثقافة الوطنية والإسلام الحضاري بل والإسلام السياسي، وهناك مسلمون من دعاة الثقافة الغربية ومعادون للإسلام السياسي، كما أن القبطية ليست مشروطة بالغنى؛ فهناك أقباط فقراء مثل حي شبرا وصعيد مصر كما أن هناك مسلمين أغنياء؛ فالغنى والفقر علامتان على الطبقة الاجتماعية وليس على الانتماء الديني.

(٦) الدور التاريخي للإسلام السياسي

ما دامت الصحوة الدينية ظاهرة تاريخية في مصر والعالم العربي الإسلامي بل وفي الغرب والشرق على السواء، وما دامت تتفاقم أزمة التحديث الذي تم بمعزل عن الدين والتراث القومي للشعوب أو أحيانًا مناهضًا له وبديلًا عنه، فإن دور الدين سيظل متصاعدًا باستمرار كبديل أول يجد الناس فيه هويتهم وخلاصهم من أزماتهم، حقيقة أو وهمًا، فعلًا أو قولًا، تغيرًا أو شعارًا، ويمكن أن يتم ذلك على مرحلتين:
  • الأولى: تجديد التيارات الفكرية والسياسية نفسها بحيث تعيد صياغة رؤيتها وأسسها ومصادرها وطريقة التعبير عن نفسها للجماهير فتبدأ من تراث الناس الشعبي، والتراث الديني مكونه الرئيسي، فالليبرالية التي كونت تاريخ مصر الحديث والتي على أساسها قام مشروع النهضة الأول منذ القرن الماضي بدأت مرتبطة بالإسلام عند الطهطاوي، ثم بدأ الانفصال عنه تدريجيًّا عند علي مبارك وطه حسين حتى تحول إلى تغريب مطلق عند سلامة موسى ولويس عوض، ولقد استطاع العقاد إعادة هذا التيار إلى الرحم الذي نشأ منه، وهو التراث الإسلامي كما وضح ذلك في العبقريات، فإذا استطاعت الليبرالية، فكرًا وسلوكًا، نظرية وممارسة، نظرًا وعملًا، إعادة صياغة نفسها بحيث تبدأ من التراث الإسلامي، وتجعل التوحيد تحررًا للوجدان الإنساني تحت شعار «لا إله إلا الله»، وتأصيلًا لليبرالية في أقوال الصحابة مثل قول عمر «لماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟» بدأت تنغرس قيمها في النفوس، وتحمي نفسها من الوقوع في العلمانية والتغريب، وتصبح تراثًا نابعًا من قلوب الناس، ومعبرًا عن تراثها ووجدانها، كما تقوم القومية بتجديد ذاتها وتخليص نفسها من الظروف التي نشأت فيها عند ساطع الحصري وميشيل عفلق، وكما جسدتها الناصرية في مصر وربطها بالتراث الإسلامي، فالقرآن عربي، أُنزل بلسان عربي، والعروبة هي اللسان، والإسلام أتى تحريرًا للعرب ولشبه الجزيرة العربية ثم انطلاقًا منها إلى خارجها شرقًا في فارس وغربًا عند الروم، والإسلام أكبر دعامة للوحدة العربية، ورافد مكون للقومية العربية كتاريخ وتراث ومشترك، حدث هذا أيضًا أثناء الحروب الصليبية وأثناء حركة التحرر الوطني الحديث، وتقوم الاشتراكية، والماركسية إحدى صورها، بتجديد نفسها وربطها بالعدالة الاجتماعية في الإسلام وبالملكية العامة، وأن الأرض لمن يفلحها كما قال ابن حزم، وأن العمل مصدر القيمة بدليل تحريم الربا، وأن الأموال والثروات مشاركة بين الناس بدليل الزكاة، وأن الملكية تصرف واستثمار وانتفاع وليست اكتنازًا أو احتكارًا، فتحمي الاشتراكية نفسها من تهمتي المادية والإلحاد كما حذر الأفغاني من قبل في «الرد على الدهريين»، كما يحمي الإسلام نفسه من نفسه، من الوقوع في الإسلام «المؤسسي» الذي يتبع الدولة وأجهزة الإعلام ويفقد استقلاله وثقة الناس به، والذي يصدر التوجيهات الإسلامية بناءً على سياسات الحكم في الحرب والسلام، في الاشتراكية أو في الانفتاح الاقتصادي، في الوطنية أو القومية، كما يحمي نفسه من الإسلام الشعائري الشكلي الصوري الذي لا يطعم جائعًا، ولا يغني فقيرًا، ولا يعلم جاهلًا، ولا يكسي عاريًا، ولا يأوي يتيمًا، ولا يعالج مريضًا.
  • والثانية: تجديد المشروع القومي الموحد الذي تتبنَّاه الدولة ثم تجنيد الناس له بفعل التراث الإسلامي وثقافة الجماهير، فقد اعتمد مشروع محمد علي على سلطة الدولة، واعتمد مشروع عبد الناصر على زعامة الفرد، ولما كانت المشاريع القومية متجددة طبقًا للظروف، وكان التاريخ يسير بحركةٍ بطيئةٍ للغاية فإنه يمكن إعادة صياغة مشروع قومي تتأكد فيه الأهداف الوطنية، ويجد كل تيار فكري وسياسي فيه نفسه، وتتبناه الجماهير، وترى فيه معبرًا عن ثقافتها وموروثها وتأكيدًا لمصلحتها ومتطلباتها، فما زالت قضية تحرير الأرض في الوجدان القومي والتي يرمز لها القدس الشريف، وما زالت قضية وحدة الأمة ضد التجزئة والتفتت والحروب الأهلية ومخاطر الانفصال قضية واردة في لبنان وسوريا والعراق والمغرب العربي، وما زالت قضية تنمية الموارد البشرية والمادية واردة بحيث يستطيع الوطن أن يطعم نفسه بنفسه، وأن يعتمد على ذاته دفاعًا عن استقلاله، ورفضًا لارتهان إرادته، والإسلام قادر على تحقيق هذه الأهداف الوطنية للتحرر والوحدة والاعتماد على الذات. وإذا كان الشباب يعاني من الضيق والميوعة والفساد الأخلاقي فإن الإسلام قادر على تربية الشباب وإعطائهم مُثلًا جديدة في التقوى والعمل الصالح، بدلًا من أن يصبح الإسلام مجرد رفض للواقع وانقلاب عليه وتدمير له كما هو الحال في جماعات العنف المسلح، إن الإسلام المستنير، العقلاني الاجتماعي الوطني هو القادر على المساهمة في تجديد المشروع القومي والمساهمة في صياغته بما لديه من انفتاح فكري وسياسي وقدرة على الحوار وعدم مخاصمة أحد وربط الإسلام بالمصالح العامة وبحركة الجماهير، كما حدث عندما كان الإسلام المكون الرئيسي لحركة التحرر الوطني.

(٧) الإسلام السياسي واحتمالات المستقبل

يتزايد دور الإسلام السياسي في مصر وفي أرجاء الوطن العربي والإسلامي بل وفي الهند والصين شرقًا وفي أوروبا وأمريكا غربًا، ولكن القضية هي: هل هو الإسلام المنغلق أم الإسلام المنفتح؟ الإسلام الرافض أم الإسلام المحاور؟ الإسلام الذي يريد أن يفرض نفسه بالعنف المسلح أو الإسلام الذي يعبر عن مصالح الناس فيختاره الناس طواعية واختيارًا؟

إن التحدي الحالي أمام الإسلام السياسي في الداخل تحديان:
  • الأول: الرفض المطلق لكل ما هو موجود باعتباره لا إسلام في صراعٍ لا يمكن حله إلا بقضاء أحد الطرفين على الآخر، الإيمان والكفر، الإسلام والجاهلية، الله والطاغوت، حاكمية الله وحاكمية البشر، ثم يتجاوز هذا الرفض النفسي نفسه إلى رفض للواقع والتعامل معه والعزلة عنه، ثم تكوين جماعات سرية تمارس العنف من أجل أن تقوم بانقلاب عام في الدولة تستولي به على الحكم وتحقق الإسلام؛ لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فإلى أي حدٍّ يمكن تحويل هذا الوضع النفسي الاجتماعي السياسي إلى وضع آخر يقوم على التعددية وحق الاختلاف وعدم جواز التكفير، وحرمة دم المسلم، وأن اختلاف الأئمة رحمة بينهم، وأن الكل رادٌّ وأن الكل مردودٌ عليه.
  • والثاني: الشعائرية والشكلية والمظهرية والفرعية، والدخول في معارك تم كسبها من قبل والمسلمون فيها منتصرون وترك معارك ما زالت قائمة والمسلمون فيها منكسرون، مثل الاحتلال والتخلُّف والتجزئة والسلبية، وعلى هذا الأساس يتم فهم الشريعة وتطبيق الحدود مع أن أحكام الشرع وضعية، كما يقول الشاطبي تقوم على معرفة السبب والشرط والمانع، فلا قطع يد في حد السرقة عن جوع وبطالة وعوز، فالحدود واجبات بعد الحقوق، حق المسلم في الغذاء والكساء والسكن والعلاج والتعليم، وهو ما يكفله له بيت المال، إن الإسلام أرحب بكثير من الشكل والمظهر والعلاقة بين الجنسين، بل هو أدخل في السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون والتعليم والعلاقات الدولية. صحيح أن هذه المظاهر تفيد إعلاميًّا وتساعد على تأكيد الهوية، ولكنها لا تكفي لتغيير الواقع الاجتماعي العريض والدخول في تحديات العصر.

أما التحدي الخارجي، فكيف يتعامل الإسلام مع نظام عالمي جديد ذي قطب واحد بعد انهيار القطب الأول؟ كيف يتعامل الإسلام مع الغرب أولًا، ومع الشرق ثانيًا، ومع العالم الثالث، الأفريقي الآسيوي ثالثًا.

صحيح أن الغرب بدأ يأخذ الإسلام بديلًا عن الشيوعية، من أجل خلق عدو جديد يساعده على تجنيد قواه وتقوية نفسه، وهذا ما يحدث في البوسنة والهرسك والشيشان، وما يقع من اضطهاد للمسلمين الأتراك في ألمانيا، فهل الإسلام عدو للغرب؟ لقد استطاع الإسلام عبر التاريخ أن يورث الغرب حضارة اليونان وأن يورثه حضارته الخاصة في العصر الوسيط وكان باعثًا على النهضة الأوروبية الحديثة، وما زال الإسلام قادرًا على تجديد روح الغرب وإعطائه نموذجًا جديدًا من المثل والقيم يتجاوز بها الغرب أزمته وخواءه الروحي، ويتعالى على نسبيته وشكه ولاأدريته وعدميته، وتساعده على العودة إلى مُثل التنوير، العقل والعلم والإنسان والحرية والعدالة الاجتماعية، تلك المُثل التي كفر بها في القرن العشرين بعد حربين عالميتين طاحنتين، وبعد أن تفجرت العنصرية الدفينة فيه، والإسلام يقبل الديانات السابقة، اليهودية والمسيحية، فهما جزء منه وهو جزء منهما، أما على مستوى المصالح فالإسلام والغرب يعيشان على ضفتي بحر واحد، المتوسط، الإسلام في الجنوب والشرق، والغرب في الشمال والغرب، ومن هذا الجوار نشأت علاقات تاريخية تقوم على الصراع أحيانًا وعلى الحوار أحيانًا أخرى، ولما كان العالم الآن ينتقل من صراع القوى إلى توازن المصالح فإن مصلحة الغرب في ثروات العالم العربي الإسلامي في الطاقة والأسواق، ومصلحة المسلمين في التعلم والدخول في عصر الحداثة تجعل الإسلام والغرب طرفي حوار وتبادل مصالح وليس قطبي صراع وتوازن قوى، لا يمثل الإسلام أي تهديد للغرب بل هو عامل مساعد لتجديده وبعث روح جديدة فيه، وحضور المسلمين في الغرب وإقامتهم فيه لا يمثل خطرًا على هوية الغرب بل تأكيدًا للتعددية التي تقوم عليها الحضارة الغربية والإثراء المتبادل بين حضارتين متكافئتين، فإذا ما استطاع الغرب التخلي عن مركزيته وأسطورة تفوقه، وجاور باقي الشعوب في أفريقيا وآسيا على مستوى الندية فإن العالم حينئذٍ يصبح قرية واحدة بلا مركز وأطراف. وإن نهضة الشرق الحالية في اليابان والصين والهند والملايو والجمهوريات الإسلامية في وسط آسيا وسنغافورة لتبين أن العالم لم يعد له مركز واحد، وفي الوقت الذي تتعدد فيه المراكز، وينهض الشرق يصبح الإسلام كما كان في البداية نقطة تعادل واتزان بين الشرق والغرب في عالم متعدِّد المراكز ومتعدِّد الثقافات ومتَّحد في المثل والقيم المشتركة من أجل خلق عالمٍ أفضل تسوده الحرية ويعمه السلام.

١  مصر في القرن ٢١، الآمال والتحديات، تحرير د. أسامة الباز، الأهرام، ١٩٩٦، ص١٥٧–١٦٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤