مستقبل المنطقة العربية والمتغيرات الدولية١

أولًا: مقدمة، مسار العرب في التاريخ

في هذا الوقت العصيب الذي أصبح فيه الوطن العربي في مفترق الطرق، ومؤسساته القومية في مهب الريح، بعد العدوان على العراق وتسليم بغداد، وعجز الوطن العربي عن دَرْء العدوان، ومواصلة المقاومة، وتهديد سوريا ولبنان وإيران بل وشبه الجزيرة العربية، ومصر وليبيا حتى اليمن والسودان، يجدر التساؤل حول «مستقبل المنطقة العربية والمتغيرات الدولية». والحقيقة أن العرب لا يعيشون في منطقة جغرافية فقط، شبه الجزيرة العربية وامتداداتها في الشمال في العراق والشام وفي الشرق، في مصر والسودان والمغرب العربي كله بل يعيشون كشعبٍ واحد، في وطنٍ واحد، بتاريخٍ مشترك، وثقافةٍ تجمع بين الوحدة والتنوع، وهموم واحدة، مصير الوجود العربي في التاريخ.

ولا يمكن تحديد مستقبل الوطن العربي دون معرفة حاضره، ولا يمكن معرفة حاضره دون معرفة ماضيه؛ فالتاريخ مسار واحد متصل، من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، ومن لا يعرف ماضيه لا يعرف حاضره، ومن لا يستطيع تشخيص حاضره ومعرفة في أي مرحلةٍ من التاريخ هو يعيش لا يستطيع استشراف مستقبله، وربما كانت أحد مثالب العرب هو وجود وعي سياسي لا يقوم على وعي تاريخي كافٍ، فتلعب الاتجاهات والقوى والأحزاب السياسية أدوارًا غير أدوارها، قد تقوم بدور أجيال مضت كما تفعل الحركة السلفية أو بدور أجيال قادمة كما تفعل الحركة العلمانية، ولا أحد يقوم بجيله هو في اللحظة التاريخية الراهنة لصعوبة تشخيصها إجابة على سؤال: في أي لحظة من التاريخ نحن نعيش؟ هل نحن جيل الثورة أم جيل الثورة المضادة؟ هل نحن في عصر الاستقلال الوطني الذي طالما دافعنا عنه واستشهدنا في سبيله أما أننا في عصر التبعية؟ هل نحن الذين قاومنا الاستعمار والصهيونية أم نحن الذين تحالفنا مع الاستعمار واعترفنا بالصهيونية وصالحناها، والأراضي العربية ما زالت محتلة بما في ذلك كل فلسطين والقدس العربية؟ هل نحن الذين حاولنا توحيد الأمة على الأقل على مستوى مشاعرها وأهدافها أم نحن الذين قسمناها وساهمنا في تجزئتها بعدوان بعضنا على البعض الآخر فزادت القُطرية، مما شجع الآخرين على العدوان علينا لمزيد من تفتيت الأمة إلى فسيفساء عرقي وطائفي في وقت يتوحد فيه العالم بقيادة القطب الأوحد، الولايات المتحدة الأمريكية، باسم العولمة وقوانين السوق، واستغلال الأمم المتحدة لحصار الشعوب، ثم العدوان عليها، وضربًا بالشرعية الدولية.

ولا يوجد مسار تاريخي واحد لكل الشعوب، ولكل شعب مساره التاريخي الخاص، ولما أخذت أوروبا الريادة في عصورها الحديثة فإنها دونت التاريخ من خلال مسارها الخاص وأطلقته على باقي مسارات الشعوب الأخرى؛ فهي المركز وباقي الشعوب الأطراف، وحقبت التاريخ إلى قديم يوناني روماني، ووسيط مسيحي مدرسي، وحديث ومعاصر، لم يأخذ اليونان شيئًا ممن سبقهم من الحضارات المصرية والبابلية والآشورية والكنعانية والفارسية والهندية، ولم يأخذ الغرب المسيحي شيئًا من الحضارة الإسلامية التي يرجع فضلها فقط في نقل الحضارة اليونانية لها عندما ترجمت من اليونانية إلى العربية بفضل نصارى الشام، ثم ترجمت مرة ثانية من العربية إلى اللاتينية بفضل نصارى الأندلس خاصة في طليطلة، وبطبيعة الحال لم يأخذ الغرب الحديث شيئًا من الحضارة الإسلامية التي كانت نموذجًا للتخلف إبان الدولة العثمانية، وكأن العمارة العربية الإسلامية لم تؤثر في الغرب منذ أن اكتشف الغرب الشرق.

ثم وضعنا أنفسنا في العصر الوسيط الغربي مع أن الحضارة الإسلامية لها تحقيبها الخاص، العصر الذهبي أولًا عندما نشأت العلوم الإسلامية واكتملت في القرون السبعة الأولى التي أرخ لها ابن خلدون في «المقدمة» الشهيرة، ثانيًا عصر الشروح والملخصات إبان العصر المملوكي العثماني عندما دونت الحضارة بالذاكرة ما أبدعته من قبل بالعقل خوفًا على نفسها من الضياع أمام هجمات الصليبيين من الغرب وجحافل التتار والمغول من الشرق، ودونت الموسوعات الكبرى في شتى العلوم، ثالثًا العصر الحديث الذي بدأ منذ فجر النهضة العربية في القرن التاسع عشر بتياراته الفكرية الثلاثة: الإصلاح الديني عند الأفغاني، والليبرالي عند الطهطاوي والتونسي، والعلمي العلماني عند شبلي شميل.

فالغرب في نهاية عصوره الحديثة ونحن في بدايتها، ونحن في بداية عصورنا الحديثة والغرب في نهايتها، نحن ما زلنا بين الإصلاح الديني والنهضة، والغرب جاوز الإصلاح الديني عند لوثر وكالفن، والنهضة عند جيوردانو برونو منذ القرنين الخامس عشر والسادس عشر، لا يعني ذلك أن الغرب متقدم علينا أو أننا متخلفون عن الغرب، بل هي مسارات متعددة ومتعاصرة للشعوب مع اختلاف التحقيب، المهم أن تاريخ العالم لم يخلُ مرة من ريادة حضارة كما كانت مصر والصين والهند وفارس واليونان والعرب قبل ذلك حتى وصلت الريادة إلى الغرب الحديث.

ثانيًا: الماضي القريب للوطن العربي

بالرغم من محاولات القوميين العرب الذهاب إلى الماضي البعيد للبحث في جذور تكوين الأمة العربية منذ نشأة الإسلام والدولة الأموية، وذهاب آخرين إلى الماضي الأبعد في شبه الجزيرة العربية، أقوام عاد وثمود، وأهل حمير، ومملكة اليمن وسبأ، بل وحضارات بابل وآشور وكنعان ومصر القديمة، فالعروبة بلورة للعبقرية السامية عبر التاريخ، أدركت مصر في القرن التاسع عشر أن البديل عن الخلافة العثمانية في حال تعذر إحيائها من مصر هم العرب حول مصر، وهو ما رآه إبراهيم باشا في الشام ومحمد علي في السودان وفي شبه الجزيرة العربية في حروبه مع الوهابيين لدعوتهم الانفصالية عن الدولة العثمانية، فالعرب حول مصر في الشمال والشرق والجنوب، وقد كان المغرب العربي مواليًا للعثمانيين حتى الجزائر، وكان طيعًا خاليًا من أي دعوات انفصالية، فالوطن والعروبة والإسلام فيه شيء واحد:

بعد ذلك نشأت حركة القوميين العرب في أوائل القرن العشرين ورأت فيها الدولة العثمانية حركة انفصالية فدافعت عن وحدة الخلافة، وعلقت للقوميين العرب المشانق في دمشق.

ولما هزمت تركيا في الحرب العالمية الأولى وتقطعت أوصالها استولت القوى الاستعمارية الكبرى في ذلك الوقت خاصة فرنسا وإنجلترا على الأقطار العربية، لفرنسا تونس والجزائر والمغرب وسوريا ولبنان، ولإنجلترا مصر والعراق والأردن وشبه الجزيرة العربية كلها من اليمن وحضرموت جنوبًا حتى فلسطين شمالًا.

ولما انتصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وأرادوا ملء الفراغ في منطقة الشرق الأوسط بعد أن تعاطف العرب مع دول المحور وقامت ثورة رشيد علي الكيلاني في العراق تأييدًا له، كما تعاطف مع بعض كبار الضباط في الجيش المصري مثل عزيز المصري، أرادت بريطانيا إيجاد منظمة إقليمية تضم العرب ومعظمهم تحت إمرتها، احتلالًا أم انتدابًا أم وصاية، فنشأت فكرة الجامعة العربية وتأسست في ١٩٤٥ كمنظمة إقليمية تجمع العرب في إطار من التعاون مع بريطانيا، وقد نشأت كمنظمة دول وليست كتنظيم شعوب وكما يدل عليها اسمها «جامعة الدول العربية»، كانت عاجزة منذ بداية تأسيسها، فقد واجهتها النكبة الأولى في فلسطين في ١٩٤٨، وكانت بعض دولها ما زالت تحت الاحتلال البريطاني المباشر أو غير المباشر، تتنازعها أنظمة ملكية أو إماراتية أو سلطانية، ولم يكن النفط بعد قد أعطى العرب قوة اقتصادية، كما أن حركات التحرر الوطني لم تكن قد قامت بعد بشكلٍ واسع باستثناء ثورة ١٩١٩ في مصر، وثورة عز الدين القسام في فلسطين في ١٩٣٦، وبعض الهبات هنا وهناك مثل المقاومة المسلحة لجيش الاحتلال البريطاني على ضفاف القناة في ١٩٥١، وضرب الفرنسيين دمشق بالقنابل في ١٩٤٥.

وفي وسط الحرب الباردة قامت الثورات العربية بقيادة الضباط الأحرار في الجيوش الوطنية منذ أواخر الأربعينيات في سوريا عام ١٩٤٩، وفي الستينيات في اليمن في ١٩٦٤، وفي ليبيا في ١٩٦٩، وانتهى المد الثوري العربي في ١٩٧٠ بوفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، نشأت معظمها كرد فعل على هزيمة ١٩٤٨ في فلسطين، وكما عبرت عن ذلك المبادئ الستة في البيان الأول للثورة المصرية.

كانت العروبة في الشام جزءًا من تاريخها منذ الأمويين حتى حركة القوميين العرب وتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي وبدء تأسيس الأيديولوجية القومية منذ ساطع الحصري حتى ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأكرم الحوراني وغيرهم من أقطاب البعث، ولم تكن فكرة القومية منتشرة خارج الشام لظروف المناطق العربية، حمل لواءها نصارى الشام، ففي العروبة يتوحد النصارى والمسلمون في حين أنه في الإسلام يتوحد المسلمون وحدهم بالرغم من انتهاء ميشيل عفلق في حزب البعث من أن الإسلام ثقافة العرب جميعًا نصارى ومسلمين في خطابه الشهير عن المولد النبوي: «إذا كان محمد كل العرب فإن كل العرب محمد».

وتدرجت مصر في تبني القومية العربية منذ مقاومة الأحلاف العسكرية مع سوريا في ١٩٥٤ حتى تأميم القناة في ١٩٥٦، وقف العرب مع مصر وتفجير أنابيب النفط إلى أول تجربة وحدوية في تاريخ العرب الحديث، الجمهورية العربية المتحدة ١٩٥٨–١٩٦١، وبالرغم من الانفصال فقد عززت قوانين يوليو الاشتراكية ١٩٦٢-١٩٦٣ التحول الاشتراكي في الوطن العربي، وأصبحت القومية العربية إحدى أيديولوجيات التحرر في العالم الثالث، وكان عبد الناصر هو المجسد لها، كما أصبحت ميزان الثقل في عصر الاستقطاب، وكانت بؤرة دول عدم الانحياز مع الهند ويوغوسلافيا وإندونيسيا، وركيزة العالم الثالث في القارات الثلاث، وفيها المركز الرئيسي لمنظمة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا، ولعب العرب هذا الدور باقتدار، وأصبحت الاشتراكية العربية إحدى الأيديولوجيات الرائدة في الفكر السياسي والعلاقات الدولية، بين الشيوعية في الشرق والرأسمالية في الغرب.

ثم وقعت الواقعة، هزيمة يونيو ١٩٦٧ والتي انكسر فيها الحلم العربي، واحتلت أراضي ثلاثة أقطار عربية، مصر وسوريا وفلسطين، ومع ذلك صمد العرب في مؤتمر الخرطوم باللاءات الثلاثة الشهيرة، لا صلح ولا مفاوضة ولا اعتراف بإسرائيل، وبالرغم من حرب الاستنزاف في ١٩٦٨-١٩٦٩، ووفاة عبد الناصر في ١٩٧٠، وتحت ضغط المظاهرات الطلابية في ١٩٧٢ انتصر العرب، مصر وسوريا، في حرب أكتوبر ١٩٧٣، وعاد التحالف العربي من جديدٍ بين مصر وسوريا عسكريًّا، وبين مصر والسعودية نفطيًّا، وذلك بحظر تصدير النفط، وربما ضحى الملك فيصل بحياته من أجل ذلك وبإصراره على الصلاة في القدس المحررة.

ثم تحول النصر العسكري في أكتوبر ١٩٧٣ إلى هزيمة سياسية ما زالت آثارها تتجلَّى حتى الآن؛ فقد صدرت قوانين الاستثمار في ١٩٧٥ لتقضي على التجربة الاشتراكية في مصر، وتعلن بداية التحول إلى الاقتصاد الرأسمالي فيما يُسمى بالانفتاح الاقتصادي، وتم حل الاتحاد الاشتراكي وتحويل المنابر فيه إلى أحزابٍ سياسية من كنف الحزب الحاكم، ولما اندلعت الهبة الشعبية في يناير ١٩٧٧ ضد غلاء الأسعار، وظهرت صور عبد الناصر من الإسكندرية إلى أسوان، قام السادات بزيارة القدس تحت الاحتلال في نفس العام في نوفمبر ١٩٧٧ للبحث عن أحلاف في الخارج، إسرائيل وأمريكا بعد أن فقد الأحلاف في الداخل، مصر الناصرية الإسلامية، ثم جاءت اتفاقيات كامب ديفيد في ١٩٧٨، ومعاهدة السلام في ١٩٧٩، وقادت مصر حركة التراجع عن القومية العربية تحت شعار «مصر أولًا»، وقطع العرب علاقاتهم مع مصر، وانتقلت الجامعة العربية إلى تونس، وزُرع في الجسد العربي قلب اصطناعي لم يستطع ضخ الدماء في الأطراف، وتوقف الجسد العربي.

وقامت الثورة الإسلامية في إيران في فبراير ١٩٧٩ لتجديد الناصرية وتركيبها على الإسلام بعد أن أزاح عبد الناصر الإخوان والشيوعيين منها، فحكمت بمفردها وفي فراغٍ لم تستطع تنظيمات الثورة ملئه، هيئة التحرير، والاتحاد القومي، والاتحاد الاشتراكي في الجمهوريات الأولى، ولا حزب مصر، والحزب الوطني الديمقراطي في الجمهورية الثانية، ولا أحزاب الورق الاثنا عشر في الجمهورية الثالثة. كان عبد الناصر من كبار المؤيدين للخميني قبل الثورة في معارضته للشاه عميل الاستعمار المتحالف مع الصهيونية، وكان يمد مجاهدي الخلق بالسلاح عن طريق بغداد للثورة على الشاه، ولما سقط ولم يجد له مكانًا يطوي ثراه انزعج الاستعمار وارتعشت الصهيونية لإمكانية قيام جبهة شمالية من إيران والعراق وسوريا ضدها، وزاد العمق العربي بالمحيط الإسلامي، وعادت للثورة العربية روحها الأولى بالإضافة إلى حشد الملايين في الشوارع، والأيديولوجية الإسلامية، وقيادة سياسية لا تلين ولا تساوم.

ثم قام العراق تحت ستار القومية العربية بطعن الثورة الإسلامية في الظهر بدعوى تحرير عرب الأهواز في عربستان وهي في ذروة صراعها مع الولايات المتحدة الأمريكية، قام العراق بالعدوان بإيماء من أعداء الثورة الإسلامية، وعدوها الأول، الشيطان الأكبر، والطاغوت الأعظم، الولايات المتحدة الأمريكية، واستشهد الآلاف من المسلمين على جانبي الجبهة، ودمرت مئات المركبات والمصفحات والدبابات وقطع المدفعية، فأين الجبهة على حدود إيران في الشرق أم على حدود فلسطين في الغرب؟ ركب العراق الحصان الخاسر ففرق العرب، وخشيت دول الخليج أن تساعد العراق باسم العروبة فتخاطر بعداوة إيران باسم الإسلام، أو أن تساعد إيران باسم الإسلام فتخاطر بعداوة العراق باسم العروبة، فساعدت الطرفين وازدادت النار اشتعالًا، وطال أمد الحرب، وانقسم العرب فريقين؛ الأول يناصر إيران المعتدى عليها ضد العراق المعتدي، فالحق حق، والعراق جناح خائن من حزب البعث ومارق عليه؛ والثاني يناصر العراق ضد إيران، فالعراق هو بوابة العرب الشرقية، لو انهارت انهار الجدار الشرقي للمنزل العربي، ولو انتصرت إيران لعمت الثورة الإسلامية الأقطار العربية أو على الأقل لقويَتْ شوكة الجماعات الإسلامية فيها، وهي المطاردة من أجهزة الأمن والمقصاة من النظام السياسي.

وتوالت المصائب على العرب بعدها، فلم تكن حرب أكتوبر في ١٩٧٣ آخر الحروب بل كانت بداية لسلسلة من الغزوات الإسرائيلية على الوطن العربي مثل غزو جنوب لبنان، واحتلال بيروت في ١٩٨٢، وضرب المفاعل النووي العراقي في ١٩٨٤، وتم حصار ليبيا فوق ما يزيد على العشر سنوات، والعرب عاجزون عن فك الحصار، وكان الزعماء الأفارقة أكثر قدرة منهم عليه بزياراتهم المتكررة إلى ليبيا من الجنوب مما دفع ليبيا إلى التوجه إلى أفريقيا كبديلٍ عن العرب، وتحويل منظمة الوحدة الأفريقية إلى الاتحاد الأفريقي.

وبمجرد ما قامت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في ١٩٨٧، وانتبه العالم إلى ثورة أطفال الحجارة، اغتالت إسرائيل أبو جهاد في تونس ظانَّةً أنها تستطيع إخماد الانتفاضة، واعتدى العراق مرة ثانية عام ١٩٩٠ على جارته العربية الكويت، المحافظة التاسعة عشرة الجنوبية للعراق، منكرًا الوجود التاريخي الشرعي لها وتحت ذريعة شفط النفط من حقول العراق وتخزين أموال قارون، وبإيعاز ثانٍ من الولايات المتحدة الأمريكية لإيقاع العراق مرة ثانية حتى يسهل ذبحه والتخلُّص منه احتل قُطرٌ قُطرًا عربيًّا آخر، ولم يستطع العرب تحقيق المصالحة بينهما، وانقسم العرب مرة ثانية في حرب الخليج الثانية كما انقسموا أولًا في حرب الخليج الأولى بين مؤيدٍ لقوات التحالف مثل مصر وسوريا، ركيزتي القومية العربية ومفجري الثورة العربية، ومعارض لها مثل ليبيا واليمن، وانقسم العرب في مؤتمر القاهرة عام ١٩٩٠، وشرعوا للعدوان على العراق بفارق صوت واحد، ثم دخلت القوات العربية، جنبًا إلى جنب مع القوات الأمريكية، فقتل الأخ أخاه، وأراق العربي الدم العربي على عكس عبد الناصر الذي ضحى بالوحدة مع سوريا أثناء وقوع الانفصال وأرجع قواته المحمولة جوًّا والمتجهة إلى اللاذقية التي كانت ما زالت مع الوحدة؛ حتى لا يريق العربي دم العربي. وطُردت القوات العراقية خارج الكويت، وانهزم العراق، وحُوصر دوليًّا بقراراتٍ من الأمم المتحدة، وذاق مر الهوان والجوع ثلاثة عشر عامًا، وكانت الضربة القاضية ضد العروبة والعرب بعد أن احتل قُطرٌ عربي قُطرًا عربيًّا مجاورًا وبعد أن حارب العربي العربي، فأين المعركة؟

وانتهى عصر الاستقطاب في ١٩٩١، وانهار النظام الاشتراكي الشمولي ابتداءً من أوروبا الشرقية حتى وصل إلى موسكو ذاتها عاصمة المعسكر الشرقي والاشتراكية الدولية، وتفرَّد بالعالم قطب واحد، الولايات المتحدة الأمريكية، وبدأت تبحث عن شرعيةٍ جديدةٍ للنظام الرأسمالي بعد انتهاء الحرب الباردة، فوجدتها في العولمة، وقوانين السوق، ونهاية التاريخ، وثورة الاتصالات، والعالم قرية واحدة، وهي مفاهيم تعبر عن أشكالٍ جديدة للهيمنة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. ومن يخرج على بيت الطاعة فجزاؤه أن يدخل إليه بالقوة سواء بموافقة الأمم المتحدة وبغطاء شرعي منها أو بدونها؛ فالقوة تصنع الحق، وتفرض شرعية المنتصر، وصدرت أمريكا للوطن العربي جدول أعمال آخر في بنوده: الإدارة العليا Governance، المجتمع المدني، حقوق الإنسان، حقوق المرأة، حقوق الأقليات، التحوُّل الديمقراطي، ثقافة السلام، تحديث التعليم. وبدأ ضخ الأموال في المنظمات الأهلية لتحقيق ذلك، ومع ذلك ظل محدود الأثر، عمل نخبة من المثقفين الليبراليين، لا يجتهدون في وضع جدول أعمال وطني بديل مثل الدولة الوطنية المستقلة، المواطنة، تحرير الأرض، العدالة الاجتماعية، التنمية المستقلة، توحيد الأمة، الهُوية الثقافية، حشد الجماهير.

وبدأ العرب يحزمون أمرهم للدخول في عصر العولمة، ووقع البعض منهم على اتفاقية الجات، وفتح الأسواق للاستيراد، وأسقط حواجزه الجمركية، يستورد أكثر مما يصدر، فأين لهم بقوانين السوق، المنافسة والربح، وبالدول المصنعة، مجموعة الثمانية؟ أين لدول الأطراف بالمنافسة المتكافئة مع دول المركز؟ وبدأ ابتلاع الوطن العربي في الاقتصاد العالمي؛ ثرواته ونفطه وأسواقه وخبراته البشرية. وظلت السوق العربية المشتركة حبرًا على ورق منذ ١٩٥٤ وحتى الآن، وظلَّت مجموعة الثمانية والعشرين من بعض الدول الأفريقية الآسيوية على مستوى الخطابة والشعور، ولم تقم منظمات إقليمية مثل السوق الأوروبية ثم الاتحاد الأوروبي، تقف في مواجهة السوق الأوحد، سوق العولمة.

وفي هذا الإطار قامت الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى بعد زيارة شارون للحرم الشريف في القدس في سبتمبر ٢٠٠٠، وتحول الحجر إلى سلاح، واجتاحت إسرائيل الضفة الغربية كلها، مدنها وقراها، حضرها وريفها بعد أن عجزت عن إيقاف الانتفاضة، وصمدت المقاومة، وحقَّقت بطولات في المخيمات وفي مقدمتها جنين، ومع تحرير جنوب لبنان بفضل حزب الله، وبفضل العمليات الاستشهادية للمقاومة الفلسطينية خاصة سرايا القدس، وطلائع فتح، وحماس، والجهاد، عاد للعرب ثقتهم بالنفس، وقدرتهم على مواصلة النضال من أجل تحرير الأرض، خاصَّة بعد فشل محاولات التسوية في أوسلو ومدريد.

ثم وقعت حوادث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، واهتزَّ المجتمع الأمريكي، وطعنت أمريكا في الصميم، فبعد أن كانت تنتظر العدو من أبعد الآفاق، وتخطط لحرب النجوم، وتصنع الصواريخ العابرة للقارات، جاءتها الضربة من حيث لا تتوقع، وبأسهل الطرق، وبأضخم الخسائر، ثم قام العدوان الأمريكي على أفغانستان لرد الكرامة، وعودة الغرور، وقتل النساء والأطفال باسم القضاء على الإرهاب، وتعاونت قوات الشمال من الأفغان مع الغازي الأمريكي ضد الطالبان.

واستمرارًا في العدوان، وتحت ذريعة نزع أسلحة الدمار الشامل، وإيواء العراق لمنظمات الإرهاب تم العدوان على العراق وتسليم بغداد، ضد الشرعية الدولية، ووسط العجز العربي، أوروبا وروسيا احتجَّتا قبل العدوان، وكلاهما ينتظر عقود الإعمار بعد العدوان، وعجز العرب عن مد يد العون للشقيق العربي، فلديه نظام قمعي يصعب الدفاع عنه، وما ذنب شعب العراق وتاريخه ومتاحفه وجامعاته ومكتباته؟ ونعى البعض النظام العربي ومؤسساته الإقليمية، وتخوَّف البعض الآخر، فعلى من تدور الدائرة اليوم؟ وجمل فريق ثالث نظامه القمعي بإجراءات ديمقراطية شكلية مثل إلغاء محاكم أمن الدولة العليا، وإلغاء الأشغال الشاقة، وطالب البعض بمجالس شورى أقوى تحاسب وتقيل، وماذا ينفع الشكل الديمقراطي والمضمون القمعي؟

ثالثًا: حاضر الوطن العربي

وحاضر الوطن العربي هو حصيلة ماضيه القريب، البعض يتوقَّع من المتشائمين السيناريو الأسود في السنوات الخمس القادمة، وفي رأي الأمريكيين هو السيناريو الأفضل في السنوات العشر القادمة؛ فقد يتكرر نموذج العراق على إيران حتى يقضي على النموذج الثوري الديمقراطي الإسلامي، ولا يبقى إلا نموذج القمع العربي، والذريعة حاضرة، تطوير إيران للمفاعل النووي في خورمشهر، والتعاون النووي مع روسيا، وإيواء بعض عناصر تنظيم القاعدة، ونظام القمع الذي يفرضه المحافظون مما يستلزم القضاء على النظام الإصلاحي الذي يقوده الرئيس حتى يتم التشويه المطلق للعدو ومحو كل فضيلة فيه.

ثم يأتي الدور على سوريا حليفة إيران وبغداد؛ فقد هرب إليها قادة العراق وهرَّبوا إليها أسلحة الدمار الشامل، وساعدت العراق بمناظير الرؤية الليلية، وهي معبر الأسلحة من إيران إلى حزب الله في جنوب لبنان، وما زال اسمها مدرجًا في قائمة الإرهاب، ترفض كل مشاريع التسوية للصراع العربي الإسرائيلي، ولا تبتعد كثيرًا عن نظام القمع في العراق، وملفات حقوق الإنسان القائمة، تحتل لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية، والفساد في جهاز الدولة، والنظام جمهوري ملكي وراثي.

ثم يأتي الدور بعد ذلك على لبنان من أجل انسحاب قوات حزب الله من الجنوب، فما زالت تهدِّد إسرائيل وتستعد لتحرير مزارع شبعا، وتطلق الكاتيوشا على شمال إسرائيل، وترفض كل مشاريع التسوية، ولا ترضى بالمقاومة بديلًا، وتمثِّل نموذجًا ناجحًا للمقاومة ضد العدوان الخارجي، وللبناء الديمقراطي، والمجتمع المدني، تزكي روح الوطنية عند اللبنانيين من أجل تجاوز المذهبية والطائفية، وتقوي الفلسطينيين، وتدفعهم إلى الصمود وعدم التنازل ليس فقط عن الأراضي المحتلة بل عن كل فلسطين، وتعادي أمريكا ونظام القطب الواحد، ولا تستسلم للعولمة وقوانين السوق، تمثل دولة داخل الدولة، ونموذجًا أهليًّا عربيًّا يحتذى به في المقاومة والبناء.

ثم تدور الدائرة على ليبيا بعد حصار لها دام حوالي خمسة عشر عامًا؛ فهي ما زالت أيضًا مثل سوريا مدرجة في قائمة الإرهاب، ومتهمة بتفجير طائرة لوكيربي، وتدعم الإرهاب في كل مكان، من الفلبين شرقًا حتى الأرجنتين غربًا، ولا توجد مصيبة تقع على الأرض إلا وكانت ليبيا ضالعة فيها، نظامها أتوقراطي، أطول نظام عربي قارب على خمسة وثلاثين عامًا، لا يعرف ماذا يعني تداول السلطة، نظام متقلب المزاج من التطرف الحاد في القومية العربية ثم الكفر بها إلى تطرف حاد آخر نحو الوحدة الأفريقية، وقد يكفر بها، من تدعيم كامل للقضية الفلسطينية إلى طرد الفلسطينيين خارج ليبيا بعد مدريد وأوسلو وإنشاء الدولة الفلسطينية وتركهم على الحدود بين مصر وليبيا، في العراء كما في فيلم «الحدود» لدريد لحام، تعطي الأولوية لأيديولوجيا «الكتاب الأخضر» على مصالح الناس، ترفض الديمقراطية التمثيلية لأن «التمثيل تدجيل»، وتفضل الديمقراطية المباشرة عن طريق اللجان الشعبية، وهو باختصار نظام لا يتفق مع مقتضيات العولمة!

ثم يأتي الدور على السعودية، الصديق التقليدي، نظامها يفرخ الإرهاب فالنقيض يولد النقيض، والتأخُّر في التحول الديمقراطي يولد إرهابًا مضادًّا وقمعًا بديلًا ممثلًا في جماعات العنف والتفجيرات وقتل الأبرياء، أجانب وعرب، هي نموذج العصور الوسطى، السلطة المطلقة للملك، وسيطرة رجال الدين، والتفسير الحرفي للنصوص، وطلب الطاعة المطلقة، وتكفير المخالفين، نظامها مثل نظام الإمامة في اليمن قبل الثورة اليمنية في ١٩٦٤، يعمها الجهل باسم الدين، وفتاوى علمائها خارجة من أقبية التاريخ، فما زالت الأرض ثابتة، والشمس تدور حولها، وما زالت الأرض مسطحة لا كروية، هكذا تبدو الأشياء للعيان، وهكذا يفسر القرآن تفسيرًا حرفيًّا، وبالإضافة إلى القمع، يضاف فساد القصور، ومجون الأمراء، وفضائح لندن.

ومصر أيضًا مستهدفة، وهي نموذج الحليف، مع السعودية، وربما إسرائيل، للولايات المتحدة الأمريكية، فهي تقوي الفلسطينيين، وتدفعهم إلى الصمود وعدم التنازل عن حق العودة بالنسبة للاجئين، هي التي دفعتهم إلى رفض ورقة كلينتون، وتميز بين الإرهاب والمقاومة وفي رأي الأمريكيين أن كل مقاومة إرهاب، ما زال السلام بينها وبين إسرائيل سلامًا باردًا، شعبها يقاوم التطبيع، وإعلامها معادٍ لإسرائيل، سياح كثير من إسرائيل لمصر، ولا سائح مصري واحد إلى إسرائيل، ومن تجرَّأ وفعل فُضح وفُصل من اتحاده أو نقابته، لم تستطع القضاء على جماعات الإرهاب فيها، وما زالت تحاول الحفاظ على الحد الأدنى من كرامة العرب، بها الجامعة العربية، بيت العرب. ما زالت تلم الشمل وتحرص على استقلال الدول ووحدة أراضيها، مثقفوها الوطنيون يقاومون العولمة وقوانين السوق، ويقفون بالمرصاد للمخططات الأمريكية في المنطقة.

وأخيرًا يأتي الدور على اليمن والسودان؛ فمهاجمة المدمرة كول كان من تدبير اليمنيين، وما زالت تتمسك بالقومية العربية، ساندت العراق، وما زالت تدعم المقاومة الفلسطينية، حافظت على وحدة التراب الوطني بالسلاح، وتتمسك بثورة ١٩٦٤ مع أن العهد قد طال عليها، رئيسها معمر في اليمن مثل الرئيس معمر في ليبيا، يختطف فيها السياح الأجانب، وما زالت فيها روح الثورة، ولم تتخلَّ عن مبادئها بعد.

أما السودان، فبالرغم من محادثات ماشاكوس، ونية إقرار السلام بين الشمال والجنوب بمباركة أمريكية فما زال اسمه مدرجًا في قائمة الإرهاب، وبالرغم من التخلص من أحد رأسي النظام إلا أن معسكرات التدريب للجماعات الإسلامية ما زال مستمرًّا، جمع بين القمع العسكري والقمع الديني، بين الجيش وقريش، مؤسسات المجتمع المدني فيه واهية، وملفات حقوق الإنسان لديه ليست براقة.

وفي غياب الحليف الروسي أو الصيني أو الآسيوي التقليدي الذي وقف بجوار العرب في الخمسينيات والستينيات حتى إنشاء الدول الوطنية برامجها الاشتراكية والتنموية، يُخطَّط للوطن العربي مزيد من التقسيم والتجزئة والتفتيت إلى فسيفساء طائفي أو مذهبي أو عرقي، وتنتهي قصة الدول الوطنية التي طالما قاومت الاستعمار والصهيونية ووحدت الشعب وجندت الوطن خلف مشروع قومي نهضوي.

يُخطَّط للوطن العربي الآن أن يكون فسيفساء من الدويلات المذهبية والطائفية والعرقية لتحقيق أهداف الحرب الأهلية في لبنان على الصعيد العربي كله؛ فالعراق دويلات ثلاث، شيعة في الجنوب، وسنية في الوسط، وكردية في الشمال، والخليج دويلات شيعية وسنية، إمارات مذهبية جديدة، وعمان إباضية وسنية، واليمن زيدية وشوافع، شمال وجنوب من جديد، والسعودية نجديون وحجازيون، والمغرب العربي، عرب وبربر، والسودان مسلم في الشمال ومسيحي وثني في الجنوب.

ويعم التقسيم بعض الدول الأفريقية؛ ففي تشاد ومالي ونيجيريا شمال مسلم وجنوب، الشمال يطبق الشريعة الإسلامية ويعني هذا التطبيق الحدود وليس الحقوق، يخرق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الجنوب يرفض والشمال يصر حتى ولو وقع الانفصال بين الشمال والجنوب، فالدين أولى بالحفاظ من الوطن.

وهو نفس المخطط أيضًا في الدول الإسلامية في آسيا، في تركيا بين الأكراد والأتراك، وفي إيران بين سنة وشيعة، فرس وأذر، وفي باكستان وأفغانستان أشتون وطاجيك، وقد بدأ الانفصال في إندونيسيا بتيمور الشرقية وآتشيه في الطريق، وماليزيا بين ماليين وصينيين وهنود.

وعلى هذا النحو تصبح إسرائيل هي أقوى دولة طائفية عرقية في المنطقة، وتأخذ شرعية جديدة من الواقع الجغرافي السياسي الثقافي المحلي بدلًا من أساطير التأسيس الأولى، أرض المعاد، وشعب الله المختار، وتصبح إسرائيل وليست فلسطين، من البحر إلى النهر، والنهر هذه المرة ليس الأردن بل دجلة والفرات، وتتحقق لها نبوءة أرض المعاد، من الفرات إلى النيل، إسرائيل الكبرى التي ليس لها حدود إلا ما تستطيع أن تصل إرادتها وطموحاتها وجيشها وأجيالها إليه، وتقوم إسرائيل في المحيط العربي الجديد بدور أداة التحديث للمنطقة بدلًا من مصر في شرق أوسطية جديدة تكون إسرائيل فيه المركز أو في متوسطية جديدة تكون إسرائيل فيه أيضًا القلب، وكما لها نصيب في مياه دجلة والفرات يكون لها نصيب في آبار نفطه ونفط الخليج، وتتحول العراق ومدن العرب إلى نماذج من هونج كونج وتايوان وسنغافورة لرأس المال الأمريكي والعقل اليهودي والسواعد والأسواق العربية.

رابعًا: مستقبل الوطن العربي

وهو السيناريو الأفضل الذي يعبر عن نوع من التفاؤل اعتمادًا على صمود العرب في التاريخ، وهو أن العالم العربي سيتجاوز محنه في الماضي القريب وسيعلو على محنته في اللحظة الراهنة استعدادًا لمرحلة قادمة بدأت تتشكل ملامحها؛ فقد صحا الشعب العربي بعد غزو العراق وتسليم بغداد، وبدأت تتجمَّع بوادر وحدة وطنية من أجل انسحاب قوات الغزو بعد تفويت الفرصة على المخطط الأمريكي الصهيوني بتقسيم العراق، بداية لتقسيم المنطقة كلها، ووضع خريطة جديدة للمنطقة بعد خريطة سايكس بيكو الأولى بعد الحرب العالمية الأولى، بل إن بوادر المقاومة المسلحة قد ظهرت أيضًا في العراق بطريقة حرب العصابات التي كثيرًا ما تنجح أمام جحافل الغزو كما حدث في فيتنام في الستينيات، وكما يحدث الآن على أرض فلسطين والشيشان وكشمير.

وتلتقي صحوة الشعب العربي مع صحوة الشعوب الإسلامية في أفغانستان وباكستان وآسيا الوسطى والفلبين وإندونيسيا وماليزيا والهند وإيران وتركيا وأوروبا الشرقية بل والمسلمون في أوروبا وأمريكا وأفريقيا، ويتم توسيع مفهوم القومية العربية بحيث يضم الجبهات المساندة لها في إيران وتركيا، في آسيا وأفريقيا، وكما فعل عبد الناصر في تصور الدوائر الثلاث، العربية والأفريقية الآسيوية والإسلامية، وكما تصور مالك بن نبي فكرة الأفريقية الآسيوية.

إن العرب في حاجة إلى حركة تحرر عربية إسلامية ثانية بعد الحركة الأولى في الخمسينيات والستينيات، لقد شاخت النظم العربية الآن بعد أن جاوزت نصف القرن، بقي النظام كما هو وربما بنفس أشخاصه في حين نشأت على الأقل ثلاثة أجيال وراءه، فلم تعد القيادة التاريخية القديمة قادرة على فهم متغيرات العصر الجديدة ومتطلبات أجياله، ومن لا يتقدم يتأخر، ومن لا يخطو خطوة إلى الأمام يتراجع خطوات إلى الوراء، والثعبان الذي لا يغير جلده يتقلص ويموت.

إن العرب في حاجةٍ إلى نهضة عربية ثانية بعد النهضة العربية الأولى منذ قرنين من الزمان، تبدأ بإعادة بناء الثقافة الوطنية لإرساء قواعد نهضة عربية ثانية تتجاوز نخبوية رواد النهضة العربية الأولى، وتبني النموذج الغربي لها: الملكية المقيدة بالدستور التي تقوم على التعددية الحزبية والبرلمان والصحافة الحرة والوزارة المسئولة، وتعليم البنات والبنين، ومؤسسات المجتمع المدني، والمنظمات الأهلية، وهو النموذج الذي تبنَّتْه التيارات الفكرية الرئيسية الثلاثة، الإصلاح الديني الذي أسَّسه الأفغاني، والتيار الليبرالي الذي أسَّسه الطهطاوي في مصر وخير الدين التونسي في تونس، والتيار العلمي العلماني الذي أسسه شبلي شميل في مصر والشام، فبالرغم من اختلاف البدايات والمنطلقات، الدين والدولة والمجتمع إلا أن النهايات واحدة.

النموذج الجديد يهدف إلى نزع جذور التسلُّط في الموروث الثقافي من أجل إرساء قواعد الحرية في العقل أولًا، وفي المجتمع ثانيًا، ويتم ذلك بتغيير التصوُّر للكون القديم، والقضاء على التصور الهرمي للعالم الذي يقوم على التراتبية في القيم، ويجعل العلاقة بين طرفين، علاقة رأسية، بين الأعلى والأدنى، وليس علاقة أفقية بين الأمام والخلف، ويتجاوز النظام المعرفي القديم الذي يقوم فيه العقل بتبرير المعطيات السابقة دون نقدها، وبتنظيرها دون تحليلها، وبقبولها على أنها حق دون بحث عنها؛ ومن ثم يمكن الانتقال من التبرير إلى النقد، ومن القبول إلى الرفض، ومن الطاعة إلى الاعتراض، ومن السلطة إلى المعارضة.

وبعد إرساء قواعد الحرية في الضمير تُرسى قواعد التعددية السياسية على شرعية الاختلاف؛ فالاختلاف والتعدد جوهر الحياة الإنسانية والطبيعية لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ، والتخلي مطلقًا عن حديث الفرقة الناجية الذي يشكك في صحته ابن حزم فهو ضد روح الأمة، وتعدد الصواب «أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم».

ويعاد بناء المؤسسات الإقليمية العربية كي تصبح مؤسسات شعوب لا دول، ونظمًا إقليمية تضم مؤسسات المجتمع المدني العربي؛ فقد ساهمت الجامعات والاتحادات في الوحدة الألمانية، فالوحدة في التصور والإرادة قبل أن تكون في المواثيق والنظم.

والبداية من أسفل لا من أعلى، من حياة الناس وليس من مؤتمرات القمة، وقد بدأنا مشاريع الوحدة ومنظماتها قبل السوق الأوروبية المشتركة والاتحاد الأوروبي، يكفي إلغاء تأشيرات الدخول في الوطن العربي، وإلغاء قوائم الممنوعين من السفر عبر الحدود، وحرية التجارة والتصدير، وإلغاء الحواجز الجمركية، وحرية انتقال المطبوعات، وإلغاء الرسوم على الطلاب العرب للدراسة في الجامعات العربية، وإقامة شركة طيران عربية واحدة، وشركة نقل بري عربية واحدة، وشركة بواخر لنقل الركاب والبضائع واحدة، وشبكة اتصالات عربية واحدة؛ فالوحدة تُصنع على الأرض بالفعل ولا تُصاغ في المواثيق بالكلام، وإلا فلماذا يُتهم العرب بأن عبقريتهم صوتية، وبأن حضارتهم حضارة كتاب، كما قال محمود درويش:
واحتمى أبوك بالنصوص،
فدخل اللصوص.

إن العالم كله يصحو بعدما رأى من مخاطر العولمة كأحد الأشكال الجديدة للهيمنة، فقامت مظاهرات سياتيل وجنوه ولندن وباريس وبراج ودافوس ضدها دفاعًا عن حقوق الشعوب المنهوبة، ودفاعًا عن حقوق العمال المهضومة باسم الثورة الآلية الصناعية الجديدة، وتصحو أوروبا ضد مخاطر الهيمنة الأمريكية الاقتصادية والسياسية والثقافية، والثورة الفرنسية لم تمت بعد، كما تصحو أفريقيا خاصة جنوب أفريقيا كي تناضل من جديد دفاعًا عن حقوق الشعوب.

وتصحو آسيا ابتداء من اليابان والصين وروسيا، أكبر تجمع بشري صناعي، الصناعة اليابانية والسوق الصينية، والمواد الأولية الروسية، وستتجاوز هونج كونج وتايوان النماذج البريطانية الأمريكية القديمة لتصبح جزءًا لا يتجزأ من نهضة الصين الحديثة، وستظل النمور الآسيوية قادرة على القيام من كبوتها، والمؤامرات الأمريكية على عملتها، وتنهض ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة وأواسط آسيا بالرغم من القواعد الأمريكية في قازكستان لحصار الصين وروسيا، والوجود بالقرب من نفط بحر قزوين في الشمال.

إن قطبًا جديدًا يتشكل الآن في الشرق، ابتداء من المنطقة العربية الإسلامية في أفريقيا وآسيا حتى اليابان والصين فيما يعرف باسم «ريح الشرق»، وهو قادر على التشكل كقطب ثانٍ في مواجهة القطب الأوحد، الولايات المتحدة الأمريكية؛ لذلك يتم التركيز عليه بالحصار الاقتصادي والعدوان العسكري، والتآمر على الاستقلال الوطني، ومستقبل الوطن العربي مرهون بالتحالف مع هذا القطب الصاعد بعيدًا عن المفهوم الضيق للقومية العربية الذي ساد إبان القرن العشرين.

إن العولمة لن تبقى، وقد تجهض وهي ما زالت في بدايتها؛ فالمجتمع الرأسمالي يحتوي على تناقضاته في داخله بين الشركات المتعددة الجنسيات، والفساد، والركود، والجريمة المنظمة، والعنف الداخلي، ونسق القيم المادي الاستهلاكي، المهم أن يعي العرب قوانين التاريخ لمسارهم ومسار غيرهم، من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل.

١  المائدة المستديرة لجامعة ناصر الأممية، ٢٣–٢٦ يوليو ٢٠٠٣، طرابلس، ليبيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤