صراع الحضارات أم حوار الثقافات؟١

نماذج متبادلة

أولًا: ملاحظات أولية

إن الحديث عن حوار الحضارات وموقف الثقافة العربية فيه يتطلَّب أولًا عدة ملاحظات أولية للمفاهيم وسياقاتها التاريخية، فمن الملاحظ أنه في العقد الأخير بعد انهيار المعسكر الشرقي في ١٩٩١ أن تسارع الغرب الذي أخذته العزة بالنصر، والثقة بالرأسمالية في إبداع مفاهيم جديدة شغل بها العالم، وانشغل بها المثقفون العرب وغيرهم من الشعوب في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يهمشون ويكتبون الحواشي والتخريجات وهم ما زالوا قريبي عهدٍ بعصر الشروح والملخصات أيام الخلافة العثمانية، ولما كان معدل إفراز المفاهيم والتصورات والمصطلحات في المركز أسرع من تهميشها وشرحها والتعليق عليها وتفسيرها في المحيط لم تعد هناك فرصة لشعوب المحيط لإبداع مفاهيمها وتصوراتها الخاصة التي تعبر عن رؤيتها للعالم، وتظل تلهث وراء فهم ما يُعطى كطعم لها، وهي فرحة بأنها على مستوى العصر، تدخل في عصر الحداثة، وتفكر فيما يفكر فيه الغرب فيقل الإحساس بالدونية أمامه، عصره عصرها، وتفكيره تفكيرها، وهمومه همومها، وألفاظه ألفاظها، ودون أن تدري أن متونه شروحها، وأن إبداعه استهلاكها، وأن الإحساس بمركب العظمة والتفوق لديه يزيد.

ومن هذه المفاهيم «صراع الحضارات»، «حوار الثقافات»، «نهاية التاريخ»، «العولمة»، الحكم Governance، «المجتمع المدني»، «حقوق الإنسان»، «حقوق المرأة»، «الخصخصة» … إلخ، وكلها مفاهيم موجهة، غير بريئة في ظاهرها الفكر وفي باطنها السياسة، في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب، «صراع الحضارات» المقصود منه أن الصراع بين المعسكرات وبين الأيديولوجيات والنظم السياسية، الاشتراكية والرأسمالية، الشرق والغرب، الشمال والجنوب، الأغنياء والفقراء، المركز والمحيط، الاستعمار الجديد وحركات التحرُّر الجديدة قد انتهى لصالح طرفٍ واحد هو الطرف الأول؛ فقد كان الطرف الأقوى، وعلى الطرف الثاني أن يعترف بالهزيمة. الصراع الآن لم يعد بين نظم سياسية وقُوى اقتصادية بل صراع حضارات، والمتفوق في السياسة والاقتصاد يكون بالضرورة متفوقًا في الحضارة؛ لأنها هي التي جعلته متفوقًا، وحتى يتم زعزعة ثقة شعوب الأطراف في ثقافتها ونزعها عن حضارتها، ومن يخسر في الواقع يخسر في الذهن، ومن ينهزم في الحاضر ينهزم في الماضي.

وربما يكون المقصود هو إشغال شعوب الأطراف بشيء عزيز عليها، متمسكة به، ترى فيه سبب بقائها في التاريخ واستقلالها وهويتها وهو الحضارة، وبيان أن هذا الشيء العزيز في خطرٍ يتهدده صراع حتى تتمسك به الشعوب وتشغل نفسها بالدفاع عن هويتها حتى تشيح بوجهها عن الصراع الحقيقي وهو الصراع الاقتصادي في عصر العولمة، واقتصاديات السوق، والشركات المتعددة الجنسيات، وكأن العالم قد انقسم قسمين، للمركز الاقتصاد وللأطراف الحضارة.

وربما يكون القصد حقيقيًّا، وهو إعلان ما كان الغرب يخفيه دائمًا، العنصرية والمركزية الحضارية كدافع دفين، فلم يكن دافع الاستعمار اقتصاديًّا سياسيًّا فقط بل قام أيضًا على النظريات العنصرية في القرن الماضي التي كانت تقوم على التفرقة بين الأبيض والأسود، بين السامي والآري، بين المتحضر والمتوحش، بين الحضر والبدو.

وقد تنبَّأ هنتنجتون بمستقبل يتحد فيه الإسلام بالبوذية في الشرق في مواجهة المسيحية واليهودية في الغرب، قد يكون الهدف هو إبعاد المسلمين عن الأخذ بأسباب القوة في الغرب، وزيادة ثقافتهم ثقافة، وإيمانهم إيمانًا، وروحانيتهم روحانية بعيدًا عن حضارة العقل والعلم والعالم.

ويقال نفس الشيء على باقي المفاهيم مثل «حوار الحضارات»؛ فالمقصود منه في الغرب أن يخف التوتر بين الشعوب في حوار على مستوى الثقافة بعيدًا عن السياسة ومشاكلها والاقتصاد وهمومه. الثقافة توحد الشعوب والاقتصاد يفرقها، فبدلًا من كل أشكال الصراع بين من يملكون ومن لا يملكون، بين الأغنياء والفقراء، بين المستغِلِّين والمستغَلِّين، بين القاهرين والمقهورين، بين المركز والمحيط يمكن عقد حوار بين الطرفين تآلفًا ومحبة وإخاء كما هو الحال في «حوار الأديان».

أما «نهاية التاريخ» فتعني إيقاف الزمان، واكتمال التاريخ، وتحقق النبوة؛ فالرأسمالية المنتصرة بعد هزيمة «الاشتراكية» في ١٩٩١ هي خاتم النبوة، ونهاية المطاف، فعلى كل الأنظمة التكيُّف معها وتبنيها، وهي قادرةٌ على تجديد نفسها، وتغيير أشكالها حتى لا تتحجر وتنهار كما حدث للاشتراكية، وقد بلغت نظرية «نهاية التاريخ» أوجها في القرن الماضي عند هيجل في ألمانيا اعتزازًا بالروح الألماني وبدولة بسمارك الموحدة، وكانت تلك النهاية قد تحقَّقت من قبلُ في «الثورة الفرنسية»، وقد لا تعني «نهاية التاريخ» الانتصار بالضرورة. فقد لاحظ فلاسفة التاريخ في الغرب أن القرن العشرين هو نهاية الغرب، ولما كان الغرب هو التاريخ، والتاريخ هو الغرب فقد انتهى التاريخ في «أفول الغرب» عند اشبنجلر، «وإفلاس الفلسفة» عند هوسرل، و«قلب القيم» عند شيلر، و«الغرب في قفص الاتهام» عند رسل، و«الغرب مصادفة» عند جارودي، و«موت الإله» عند نيتشه. وفي حضاراتٍ أخرى قد تعني «نهاية التاريخ» في الغرب «بداية التاريخ»، تاريخ أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية في دورة حضارية جديدة للشعوب التاريخية ممثلة في حركات التحرُّر الوطني، وفجر النهضة العربية، والصحوة الإسلامية، والنمور الآسيوية، وريح الشرق.

وتعني «العولمة» نهاية عصر الاستقطاب، وبداية العالم ذي القطب الواحد، تحت شعار «العالم قرية واحدة»، اقتصاديات السوق، مجموعة الثمانية، الشركات المتعددة الجنسيات، ثورة المعلومات، الثورة التكنولوجية الثانية، نهاية الأيديولوجيا، ويعني «الحكم» Governance نهاية الدولة الوطنية، وأنها في حاجةٍ إلى إدارة عليا من موظفي بنوك قادرين على تحويل الأموال من الداخل إلى الخارج، فالبنك الدولي وصندوق النقد، واتفاقية «الجات» والأمم المتحدة كلها حكومات بديلة عن الحكومات الوطنية، لا جمارك ولا حدود ولا حماية؛ فالأحلاف موجودة، وقوة الولايات المتحدة منتشرة في كل مكانٍ تدخل كل العصاة والنشاز إلى بيت الطاعة.

وتقوم «ثورة المعلومات» على احتكار المعلومات وحجبها أو نقلها، وتظل مراكز السيطرة فيها لمن أبدعها، فالمعلومات قوة، والأقمار الصناعية كلها في أيدي مبدعيها، وأصبح تسرُّب المعلومات من أكبر الجرائم؛ فالمعرفة ليست حقًّا للجميع، بل لمن يملكها فحسب، ثورة المعلومات من ناحيةٍ يقابلها احتكار المعلومات من ناحية أخرى، وتزدهر صناعة نظم المعلومات وصناعتها بحيث أصبحت تفوق الصناعات العسكرية.

و«الخصخصة» للشعوب في الأطراف فقد فشلت هذه الشعوب في التحول من الثورة إلى الدولة، كلفت الثورة المعسكر الشرقي الملايين ثمنًا للسلاح حتى انهار، وكلفت الدولة الولايات المتحدة والغرب مليارات في التنمية والخدمات حتى تفاقمت مشكلة ديون العالم الثالث. أصبحت «الخصخصة» عنوانًا لفشل التجارب الاشتراكية العربية والأفريقية في الستينيات، نهاية للقطاع العام، تدعيم الدولة للمواد الأولية رعاية للفقراء ومحدودي الدخل، ونهاية التخطيط والملكية العامة لوسائل الإنتاج، واتباع قوانين السوق، العرض والطلب، وحرية سعر الصرف والبنوك الخاصة، ومجانية التعليم، وخصخصة الماء والكهرباء والمواصلات، ولم يبقَ إلا الهواء والصرف الصحي، وفي نفس الوقت وفي اتجاه مضاد تتحول الحياة الخاصة إلى حياة عامة، فتزدهر تجارة الجنس والإعلانات الفاضحة والعلاقات الخاصة بما في ذلك حياة الرؤساء، وتأتي مفاهيم أخرى مثل «المجتمع المدني»، «حقوق الإنسان»، «حقوق المرأة» كي تساعد المفاهيم الأولى كبديل عن «الدولة» و«الأمة» و«الشعب» و«المواطن»؛ فالمجتمع المدني أو الأهلي مجتمع خاص، حر، ينشط من خلال الجمعيات الأهلية للخدمات العامة والدولة غائبة، فأزمة الحريات في دول العالم الثالث هي سيطرة الدولة على المجتمع، والحل هو أولوية المجتمع المدني على الدولة، أزمة وحل على طرفي نقيض، مع أن الحل هو ألا تكون قوة أحد الطرفين على حساب الآخر، وأن يكون النظام السياسي منتخبًا من الشعب؛ ومن ثم تخف حدة التناقض بين الدولة والمجتمع. أما مفاهيم «حقوق الإنسان» و«حقوق المرأة» فإنها إسقاطات غربية صرفة على باقي الشعوب، فحقوق الإنسان تقوم على فلسفة فردية، أن الإنسان الفرد محور الكون، في حين أنه في ثقافات العالم الثالث أن الجماعة هي البداية بما تمثله من تعاون وتراحم وألفة ومحبة، فإذا كان الغرب قد أعطى العالم «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» في ١٩٤٨، فإن العالم الثالث قد أعطى العالم أيضًا «الإعلان العالمي لحقوق الشعوب» في الجزائر ١٩٧١، أما «حقوق المرأة» فإنها أيضًا تقوم على مفهوم فردي جنسوي، بعد تجزئة الفردية إلى فرديات، رجل، امرأة، طفل، شيخ، شاب، وهذا كله تفتيت للمجتمع الواحد، وقضاء على مفهوم المواطن الذي لا يتمايز فيه الإنسان جنسيًّا أو طبقًا للأعمار.

وكلها مفاهيم أحادية الطرف، تظهر جانبًا واحدًا من الحقيقة وتخفي الجانب الآخر عن قصد، تظهر جانب المركز، وتخفي جانب الأطراف، مثلًا: «صراع الحضارات» يقابله «حوار الثقافات»، «نهاية التاريخ» تقابلها «بداية التاريخ»، «الحكم» تقابله «المشاركة الشعبية»، «حقوق الإنسان» وجهها الآخر «حقوق الشعوب»، «الخصخصة» في مواجهة «القطاع العام»، وقد يشتق مصطلحان من نفس الاشتقاق مثل «الخصخصة» Privatization وتعني تحويل القطاع العام إلى القطاع الخاص، و«الخصوصية» Specificity وتعني الهوية والأصالة في مقابل العولمة Globalization.

وهي في الحقيقة ليست مفاهيم أو تصورات بل هي أحداث وقعت تحاول أن تجد شرعية لها في مفهوم. «صراع الحضارات» مثلًا حدث في تاريخ الغرب الحديث وهو العنصرية الأوروبية التي قضت على ثقافات الشعوب المغلوبة، و«العولمة» تشريع للرأسمالية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي في ١٩٩١، و«نهاية التاريخ» تبرير للرأسمالية وانتصارها بعد انهيار الاشتراكية وإيقاف الزمن حتى تظل الرأسمالية هي المطلق الثابت والمرحلة النهائية لتطوُّر البشرية لإخفاء تناقضاتها الداخلية وأي حركات مناهضة لها، و«الحكم» يعني سيطرة جهاز الإدارة العليا الممثل في المؤسسات المالية الدولية من أجل إدارة اقتصاد الدول بصرف النظر عن حاجات الشعوب ولصالح الرأسمالية العالمية.

ولا يقوم بإخراج هذه المفاهيم العلماء بدافع نظري خالص وبفهم علمي صرف بل تخرج من مراكز أبحاث تخطط للسيطرة على العالم اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا وفنيًّا؛ فهي مفاهيم موجهة، ومن الطبيعي في الغرب أن تتفاعل مراكز الأبحاث والجامعات والمؤسسات العلمية والفنية الخاصة مع مراكز إصدار القرارات في الدول الكبرى كنوعٍ من التنسيق بين العلماء والقادة بما في ذلك الاستشراق، ويتم ذيوعها ونشرها على نطاقٍ واسع ومن خلال أجهزة الإعلام ودور النشر والترجمة والرحلات وتجنيد كل وسائل الاتصال لذلك.

بل إن هذه المفاهيم ليست آراء ووجهات نظر بل تعبِّر عن لحظةٍ من لحظات تغير نظم العالم، من نظام قديم إلى نظام جديد؛ فهي سلاح فكري مثل باقي الأسلحة الاقتصادية والحربية، وظيفتها إعلان نهاية النظام القديم وبداية النظام الجديد، والمساعدة على القضاء على مخلفات النظام القديم التي ما زالت رافضة للنظام الجديد واتهامها بالعنف والإرهاب والقتل والتعصُّب والتخلُّف والجهل وبقايا الماضي البعيد أو خطاب الستينيات القريب، ومن هنا أتَتْ ضرورة القضاء على بقايا حركات التحرُّر الوطني أو تطويرها في الحركات الأصولية أو غيرها من الحركات الشعبية Grass-Root Movements بما فيها الصحوة الإسلامية في إيران والسودان وأوروبا الشرقية والجمهوريات الإسلامية المستقلَّة في أواسط آسيا والفلبين.

موضوع «صراع الحضارات» إذن موضوع في ظاهره الثقافة، وفي باطنه السياسة، الشكل ثقافي لدى الشعوب التقليدية التاريخية التي ما زالت مرتبطةً بماضيها، والمضمون سياسي لدى الشعوب التي انفصلت عن ماضيها باسم الحداثة لإلهاء شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية عن أوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وشغلها بما تحبُّ وتعشق، هو جزء من كل، أحد أبعاد الصراع الدائم والمستمر بين المركز والمحيط في العصور الحديثة في الغرب.

ثانيًا: «صراع الحضارات»، نموذج الغرب الحديث

مر الغرب بثلاث مراحل، القديمة والوسطى والحديثة، اليونانية الرومانية، واليهودية المسيحية، ثم أوروبا ذاتها مسترجعة تاريخها الوثني الأسطوري القديم، وهي نفس المكونات البنيوية ومصادر تكوين الوعي الأوروبي، المصدر اليوناني الروماني، والمصدر اليهودي المسيحي، والبيئة الأوروبية ذاتها بأساطيرها القديمة وثقافاتها الشعبية.٢

في المرحلة اليونانية الرومانية كانت هناك عقدة التفوُّق اليوناني والتقابل بين اليوناني والبربري، كانت أحلام الإسكندر تكوين إمبراطورية تجمع بين الغرب والشرق من اليونان الحديث حتى الشرق القديم، وانتشرَت الثقافة اليونانية في مصر والشام، وأصبحت اللغة اليونانية لغة الحاكمين وليست لغة المحكومين، وكانت تصطدم بقوًى أخرى في الشرق مثل فارس على زعامة العالم القديم، ومركزيته في اليونان أم في فارس، كان هناك تناقض ثانوي بين أثينا وإسبرطة، بين العقل والساعد، بين الثقافة والحرب، بين القلم والسيف، كان تناقضًا فرعيًّا تجاوزه الإسكندر بتوحيد بلاد اليونان في مواجهة البرابرة.

واستأنف الرومان ما بدأه اليونان، وكان التوسُّع أكثر نحو الغرب في حوض البحر الأبيض المتوسط شمالًا وجنوبًا، كانت اللغة اللاتينية لغة المحتلين، وظلت الثقافات الوطنية في الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط باقية، وورثت المسيحية الرومانية المسيحية اليونانية ونشرتها في شمال أوروبا مع اللغة اللاتينية بعد أن تحوَّلت روما من عاصمةٍ للإمبراطورية الرومانية إلى عاصمة الإمبراطورية المسيحية بعد تحول قسطنطين في القرن الرابع الميلادي.

ولما انتشر الإسلام على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وأسَّس حضارةً جديدة ورثت الحضارة اليونانية الرومانية والحضارة اليهودية المسيحية، ودخلت المستعمرات الرومانية في آسيا وأفريقيا في الإسلام، وساهمت في تكوين حضارته بدأ عداء الغرب في العصر الوسيط للعالم الإسلامي بالحملات الصليبية المتتالية التي لم تحقق أهدافها النهائية، بل حدثت للصليبيين، أجداد الغربيين المحدثين، صدمة حضارية عن مدى تقدم المسلمين ثقافة وعلمًا وفنًّا وصناعة وعمرانًا وحربًا، وكانت أحد مصادر النهضة الأوروبية الحديثة؛ إذ بدأت الترجمات من العربية إلى اللاتينية مباشرة أو عبر العبرية في طليطلة وفي صقلية وفي بادو ثم عبر القسطنطينية فيما بعد.

وبعد سقوط غرناطة بعامين، وبفضل الخرائط الجغرافية التي تركها العرب في الأندلس تم الالتفاف حول العالم من الغرب، بعد أن فشل الدخول إليه من الشرق واحتلال القلب في فلسطين، واللحاق بالهند من الغرب فتم اكتشاف القارة الأمريكية، وبدأ النزوح إلى الأراضي الجديدة غربًا وشمالًا وجنوبًا، وتم القضاء على السكان الأصليين، عرقًا وثقافة، ومن تبقَّى منها يوضع في محميات فولكلورية لسينما هوليوود وللسياحة الأجنبية كالمحميات الطبيعية.

ولبناء «العالم الجديد» تم التوجه نحو أفريقيا بالالتفاف نحو البحار جنوبًا وصولًا إلى الهند شرقًا عن طريق «رأس الرجاء الصالح» للأوروبي الأبيض وبداية الاستعمار للأفريقي الأسود، وحدث أكبر نزح للسكان من أفريقيا إلى أمريكا خطفًا وعبودية وأسرًا لتشييد الطرق، وزراعة الأرض، وتعمير القاهرة، من ساحل أفريقيا الغربي إلى ساحل القارة الجنوبي، بل قامت حرب أهلية بين الشمال والجنوب، بعد الاستقلال حول تحرير الزنوج، وما زال الاضطهاد قائمًا حتى بعد إعلان «وثيقة الحقوق»، والتعليم المختلط، والتوظيف المشترك، وبالرغم من تاريخ أفريقيا العريق، مملكة مالي ومملكة غانا إلا أن ثقافتها قد تم اقتضابها في الرقص والتماثيل وطبول الإيقاع، ودخلت ثقافة الرجل الأبيض فيها لتحل محل ثقافاتها التقليدية عبر التبشير والاستعمار والتغريب حتى حركات التحرُّر الحديثة والعودة إلى «الزنجية» واستعادة تاريخ الصراع بين روما وقرطاجنة.

وما تم غربًا من انتشار الغرب الحديث عبر القارتين في نصف الكرة الغربي وما تم جنوبًا من التفاف الرجل الأبيض نحو القارة السمراء، تم أيضًا شرقًا بالالتفاف نحو آسيا عبر الهند وجزر الهند الشرقية حتى أواسط آسيا والصين، وتم القضاء على إمبراطورية المغول في الهند والاستيلاء على إندونيسيا والملايو والفلبين والهند الصينية وهونج كونج، شاركت في ذلك معظم القوى الغربية فرنسا وإنجلترا وهولندا والبرتغال وإسبانيا من الجنوب، وإمارة موسكو من الشمال لوضع العالم الإسلامي في آسيا بين المطرقة والسندان كما وضعت أفريقيا من قبل باستعمار فرنسا وإيطاليا لها من الشمال وإنجلترا لها من الجنوب وشق رءوس طريق يربط بينهما «من الرأس إلى القاهرة».٣ وقضى على ممالك بخارى وسمرقند وطشقند ودلهي وكابل ولاهور، وبدأت عملية إحلال الثقافة الغربية ليبرالية أولًا وماركسية ثانيًا محل الثقافات التقليدية الإسلامية والبوذية والهندوكية والكونفوشيوسية.

ولما كانت أستراليا ونيوزيلاندا امتدادًا لآسيا من الجنوب الشرقي فقد تم احتلال إنجلترا لهما والقضاء على السكان الأصليين، وتحويلها من قارة صفراء إلى قارة بيضاء، وتم تشريح آخر التسمانيين وتحويله إلى متحف التاريخ الطبيعي، وما زالت الأزمة حاليًّا في أستراليا وهويتها، أوروبية أم آسيوية؟

وكان من آثار هذا النموذج الغربي الحديث «صراع الحضارات» محاولة القضاء على الثقافة الوطنية، واللغات المحلية باسم التثاقف أو المثاقفة Acculturation. وتعني في الظاهر التحديث والتمدُّن والتفاعل الثقافي، والحوار المتبادل والأخذ والعطاء، وفي الحقيقة تعني التغريب، وانتشار ثقافة المركز على ثقافة الأطراف ابتداءً من اللغة حتى انقسمت أفريقيا وآسيا إلى أنجلوفونية وفرانكفونية، ولم يستطع الأفارقة الحديث بين أنفسهم إلا عبر لغات الرجل الأبيض أو الاتصال جغرافيًّا بين مناطقهم إلا عبر عواصم «المتروبول»، وباسم أسطورة «الثقافة العالمية» يتم الترويج للحضارة الغربية وكأنها آخر ما وصلت إليه البشرية من تقدم، وأن قيمها هي قيمٌ لكل البشر بما في ذلك الفردية والشك والنسبية واللاأدرية، وأن مراحل تاريخها هي مراحل تاريخ كل الشعوب، القديم والوسيط والحديث، وأن لغاتها هي اللغات الدولية، كل ذلك في الحقيقة تعبير عن لحظة واحدة في التاريخ هو الغرب الحديث، وكأن تاريخ البشرية الذي يمتد عشرات الألوف من السنين ما هو إلا مقدمة لتاريخ الغرب الحديث، بعدها يتوقف التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، التقدم التكنولوجي هو مقياس تقسيم الشعوب إلى متقدمة ومتخلفة أو نامية وفي طريق النمو، ونموذج الانقطاع بين القديم والجديد، بين التراث والحداثة هو نموذج كل الحضارات؛ فقد تقدم الغرب بهذا النموذج وأثبت نجاحه، مع أن اليابان والصين وكوريا وكثيرًا من البلاد الآسيوية قد تقدمت بنموذج مخالف، نموذج التجاور، تجاور القديم والجديد، القديم للحياة الخاصة، والجديد للحياة العامة في حالةٍ من التجانس والوئام دون خلطٍ بينهما أو تدخل أحدهما في الآخر تمامًا مثل وظيفة المرأة ووظيفة الرجل، وتتبنى الحضارة العربية الإسلامية نموذجًا ثالثًا، نموذج التواصل، الجديد من القديم استمرارًا له وتجديدًا فيه، المسيحية من اليهودية، والإسلام من المسيحية؛ لذلك كان «الاجتهاد» مصدرًا من مصادر التشريع، وظهور مجدد في كل عصر طبقًا لحديث المجددين الشهير.

وقد أدَّى هذا النموذج الغربي لصراع الحضارات في العصور الحديثة إلى خلق عقدة عظمة لدى الغرب؛ فهو حضارة العقل والعلم والحرية والعدالة والتقدم والعمران، التاريخ تاريخه، والعلم علمه، والقيم قيمه، والثورة ثورته، والحاضر حاضره، والمستقبل مستقبله، واللغات لغته، والثقافة ثقافته، وخلق عقدة نقص لدى الشعوب غير الأوروبية أنها ناقلة ومقلدة وتابعة ومتعلمة وهامش على المركز وفي محيطه، الغرب يبدع وهي تستهلك، الغرب يفكر وهي تنقل.

وكلَّما زاد النقل من حضارة المركز إلى حضارات المحيط زاد التغريب، وكلما زاد التغريب بدأ رد الفعل في الظهور، الدفاع عن الهوية ضد التغريب، والتمسُّك بثقافة الأنا ضد ثقافة الآخر، وتنشأ الحركات الأصولية ضد تيارات الحداثة، وربما يُشقُّ الصف الوطني بين جناحين متقاتلين وقوتين اجتماعيتين، العلمانية والسلفية، أنصار الجديد وأنصار القديم، الصفوة والجماهير، النخبة والشعب، وقد يصل الفصام إلى خصامٍ واقتتال بين الإخوة الأعداء كما هو حادث في الجزائر.

ويبدأ تشويه ثقافات الأطراف في الاستشراق وعلوم الأنثروبولوجيا الغربية المعاصرة، فبعد أن أصبح الغرب ذاتًا عارفة ووعيًا خالصًا حول غيره إلى موضوع للمعرفة، فنشأ الاستشراق، الغرب ملاحِظ (بكسر الحاء) والشرق ملاحَظ (بفتح الحاء)، فنشأت علوم الصينيات والهنديات والإيرانيات والإسلاميات والمصريات تعبِّر عن رؤية الذات أكثر مما تكشف الموضوع،٤ وبدأت نظريات التشيؤ للآخر التي تكشف عن العنصرية مثل «العقلية البدائية» (ليفي بريل)، «الفكر البري» (كلود ليفي شتراوس)، «العقلية السامية» (رينان).

وقد تبدو بعض المظاهر «الإيجابية» لصراع الحضارات في الظاهر، ولكنها في الحقيقة كانت لخدمة الغرب في المركز أكثر منها لصالح شعوب الأطراف، فإذا كانت فرنسا قد نشرت اللغة والثقافة الفرنسية فقد كان ذلك على حساب اللغة والثقافة العربية الإسلامية، ونزعًا لشعب الجزائر من جذوره التي هي مصدر حركات التحرُّر مثل «جمعية العلماء»، وبقدر ما تم تعميم اللغة الفرنسية والتعليم الفرنسي بقدر ما تم تدمير مدارس اللغة العربية وتحفيظ القرآن الكريم، وكان من الطبيعي بعد الاستقلال أن تنشأ حركة إعادة تعريب الجزائر بل وحركة أصولية شعبية كرد فعل على فرانكفونية النخبة، وما تم في الجزائر تم أيضًا في عديد من الدول الأفريقية الفرانكفونية أو الأنجلوفونية حتى قضى الأمل على تطوير اللغات الأفريقية الوطنية بما في ذلك «السواحيلي» كي تصبح لغة أفريقية وطنية يتم التخاطب بها بين شعوب أفريقيا التي ما زالت لغويًّا وثقافيًّا مرتبطة بالغرب حتى بعد الاستقلال، وبقيت اللغات المحلية للأسواق وللفنون الشعبية أو مكتوبة بالحروف اللاتينية، وإذا كانت الهند قد توحَّدت لغويًّا بفضل الإنجليزية، فإن ذلك منع من تطوير اللغة الهندية لأكثر من مائة لغة وطائفة.

وقد يقال إن من مآثر «صراع الحضارات» تحديث المجتمعات وبناء الدول، شق الطرق، وبناء المدن الحديثة، وتأسيس العمران، وإقامة الجامعات، وإدخال شعوب الأطراف عصر الحداثة وتأهيلها إلى وسائل العلم والتكنولوجيا وإلى أساليب الحكم التي تقوم على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والطفل والشيخ والشباب والحقيقة أن هذه الإيجابيات كلها إنما كانت بالقصد الأول لصالح دول المركز؛ فالاتصالات لخدمته، والتصنيع للغرب من المواد الأولية والأسواق والعمالة الرخيصة، والتعليم لتكوين أطر مهنية وفنية لجهاز الدولة الذي تحكم دول المركز من خلاله، وحقوق الإنسان الفردي تعمية وغطاء لانتهاك حقوق الشعوب.

ثالثًا: «حوار الثقافات»، النموذج العربي الإسلامي القديم

في مقابل نموذج «صراع الحضارات» الذي تبناه الغرب هناك نموذج «حوار الثقافات» الذي تبناه الشرق القديم حتى ظهور الحضارة العربية الإسلامية، وهو نموذج يقوم على الأخذ والعطاء على مستوى الندية بين الطرفَيْن.

بدأ في الصين القديمة عندما انفتحت على البوذية الوافدة من الهند جنبًا إلى جنب مع الكونفوشيوسية والطاوية، وبدأت في اليابان القديمة عندما انفتحت أيضًا على البوذية جنبًا إلى جنب مع الشنتوية ثم مع المسيحية والإسلام فيما بعد، وتتجاور الديانات الأربعة في الأسرة الواحدة للصلاة في نفس الحجرة، وانفتحت فارس القديمة على ديانات الشرق، المانوية والمزدكية والزرادشتية أولًا وعلى ديانات الوحي ثانيًا، اليهودية والمسيحية والإسلام.

كما ظهر هذا النموذج في حضارات ما بين النهرين وكنعان ومصر القديمة مع حضارات اليونان والرومان غربًا، والهند وفارس شرقًا، والنبط جنوبًا، وحدث تداخل حضاري بين مصر والشام، بين العبرانيين والكنعانيين، بين مصر والعبرانيين، وبين اليونان وبابل، فارس وبابل.

وقد تأكد هذا النموذج وبلغ الذروة في الحضارة العربية الإسلامية؛ فقد نزل الوحي بلسانٍ عربيٍّ مبين، مؤكدًا البلاغة العربية ومتجاوزًا الشعر العربي وأساليب بيانه، معطيًا إعجازًا أدبيًّا بطريقة العرب، ولم يقضِ الوحي على الثقافات الموجودة في شبه الجزيرة العربية، اليهودية والنصرانية والحنيفية والوثنية بل حاورها ووصف تطورها التاريخي ومذاهبها وانحراف بعضها عن الأصول الأولى، أكد بعض القيم العربية القديمة مثل نجدة الغريب، والشجاعة، والكرم، والشهامة، والصدق في القول، والإحساس بالطبيعة، وفي نفس الوقت غيَّر قيمًا أخرى وعادات جاهلية مثل وأد البنات، وعلاقة الرجل بالمرأة، والتمايز بين العبيد والأشراف.

ولما بدأ عصر الفتوحات، وانتشر الإسلام كدين لدى الشعوب المفتوحة حدث أكبر حوار حضاري بين الحضارة الإسلامية الناشئة والحضارات القديمة، يونانية ورومانية غربًا، وفارسية وهندية شرقًا، وقام النصارى العرب في الشام في الرها ونصيبين، وفي بغداد في «ديوان الحكمة» الذي أسَّسه المأمون بأكبر حركة ترجمة عرفها التاريخ القديم؛ فقد كان المترجمون عربًا لغة، ونصارى دينًا، ومسلمين ثقافة، كان ولاؤهم للثقافة العربية، فنقلوا التراث اليوناني في العلم والحكمة إلى اللغة العربية مباشرة أو عبر السريانية، لغة الأديرة.

ولا توجد ثقافة غالبة عظَّمت ثقافات الشعوب المغلوبة قدر الثقافة العربية الإسلامية، فأرسطو هو المعلم الأول، والفارابي المعلم الثاني، وأفلاطون صاحب الأيد والنور، وسقراط أحكم البشر، وأفلوطين الشيخ اليوناني، وجالينوس أفضل المتقدمين والمتأخرين، وأبقراط فاضل الأطباء، وهرمس الحكيم، وابن الهيثم بطليموس الثاني.

بل إن ترجمة كتب اليونان تمت بناءً على حلم المأمون؛ فقد ظهر أرسطو له في المنام يسأله عن الحسن والقبح، وبان اتفاق العقل والشرع، منطق اليونان وأساليب القرآن، فاستيقظ المأمون، وأسس ديوان الحكمة برياسة حنين بن إسحق وبدأ بترجمة كتب أرسطو.

ولقد بلغ من إعجاب الحضارة العربية الإسلامية به أن وضعت أحاديث على لسان الرسول تعظيمًا له مثل «والله لو كان أرسطو حيًّا لكان أخلص أتباعي.» أو قول أرسطو: «لو كنت حيًّا أيام الرسول لكنت أحد أتباعه.» مما يرمز إلى الاتفاق التام بين الفلسفة والدين، بين الحكمة والشريعة، وهو ما يتفق عليه الفلاسفة جميعًا الكندي، والفارابي وإخوان الصفا وابن سينا وابن رشد، وترمز قصة «حي بن يقظان» لهذا الاتفاق، وقد جعل إخوان الصفا حكمة اليونان شرط صحة تفسير الإسلام.

وبدأ الشرح والتلخيص ثم التأليف في موضوعات اليونان حتى حدث التراكم الفلسفي الضروري، فبدأ الإبداع الفلسفي الخالص، نشأت الثقافة العربية الإسلامية إذن بفضل ترجمة الثقافة اليونانية أولًا واللاتينية ثانيًا، ولم يجد الحكماء أي غضاضة في استعارة الألفاظ اليونانية للتعبير بها عن المعاني الإسلامية الموروثة كنوعٍ من «حوار الحضارات» بين اللفظ والمعنى؛ فالله هو المحرك الأول، والعلة الأولى، وواجب الوجود بلغة أرسطو، وهو مثال المثل، والخير الأقصى بلغة سقراط وأفلاطون، وهو الواحد بلغة أفلوطين وفيثاغورس، وفي نفس الوقت ترجم لفظ «آلهة» في النصوص اليونانية «ملائكة» حرصًا على التوحيد، وعربت كثير من الألفاظ اليونانية وأصبحت عربية مثل جغرافيا، هَيُولى، أسطقس، موسيقى، فلسفة، كما دخلت ألفاظ عربية في عصر الترجمة من العربية إلى اللاتينية مثل جبر، كلام، شريعة، صوفي.

وتم إكمال الفلسفة اليونانية وأحكامها والجمع بين آرائها، فإذا نقصت أرسطو إلهيات بالإضافة إلى المنطق والطبيعيات نسبت إليه أجزاء من تاسوعات أفلوطين حتى يصبح الفيلسوف الكامل، وإذا اختلف أفلاطون وأرسطو عند الشراح جمع الفارابي بينهما في «الجمع بين رأيي الحكيمين» ثم أوضح كليهما في رؤية إسلامية يونانية جامعة في «تحصيل السعادة» و«فلسفة أرسطو طاليس» و«فلسفة أفلاطون».

كانت الفائدة إذن متبادلة بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة اليونانية، حوار على مستوى الندية نحو غاية واحدة وهي الحقيقة التي يمكن الوصول إليها بالعقل والوحي، كانت علوم الوسائل وعلوم العرب علوم الغايات، والوسائل متاحة للجميع أي أدوات البحث والتطوير، والغايات كمال النفس واكتشاف الحقيقة.

وفي نهاية العصر الذهبي للحضارة الإسلامية في القرن السابع الهجري الذي يقابل القرن الثالث عشر الميلادي بدأت الترجمة من العربية إلى اللاتينية مباشرة أو عبر العبرية في طليطلة وفي بادو وبالرمو وفي القسطنطينية فيما بعد للفلسفة والعلم العربي، بل كانت اللغة العربية هي لغة البلاط عند فردريك الثاني والذي كتب له ابن سبعين «المسائل الصقلية» ردًّا على أسئلته الفلسفية حول خلق العالم وخلود النفس التي لم يستطع أحدٌ من الفلاسفة الغربيين الرد عليها.٥

وكان من آثار ترجمة الفلسفة أن ظهر نموذج فكري جديد في أواخر العصر الوسيط وفي أوائل عصر النهضة يوحد بين الفلسفة والدين كما هو الحال في علم الكلام الاعتزالي والفلسفة الإسلامية عند الكندي والفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن باجه وابن رشد، ونشأ تيار عقلاني جديد مشابه يرفض الحلول والاتحاد والتجسيم والتشبيه في العقائد ويقول بالتنزيه، ويرفض الجبرية والقدرية بل والتوماوية وهي نوع من الأشعرية اللاتينية دفاعًا عن حرية الإرادة الإنسانية وخلق الأفعال، وإقامة العقائد المسيحية على أصلَي التوحيد والعدل، ونشأ صراعٌ بين الجدليين، أتباع المسلمين، واللاهوتيين في القرن الحادي عشر لصالح الجدليين، وظهر أبيلار في القرن الثاني عشر ليؤسِّس النقل على العقل، ويبين تناقض النقل في أقوال الكنيسة في كتابه «نعم ولا»، ويوحد بين الفلسفة والدين في أول حوارٍ بين الأديان في كتابه «حوار بين يهودي ومسيحي وفيلسوف»، والفيلسوف هو المسلم.

وكان من آثار ترجمة العلم العربي أن نشأت العلوم الغربية الحديثة الرياضية؛ الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، والطبيعية والفيزياء والكيمياء والطب والصيدلة والنبات والحيوان والمعادن، فترجم «الجبر والمقابلة» للخوارزمي و«المناظر» للحسن بن الهيثم، وترجمت رسائل ابن حيان في الكيمياء، وظل الطب الإسلامي يدرس في الغرب، حتى القرن السابع عشر بعد ترجمة «الحاوي» للرازي، و«القانون» لابن سينا، و«الكليات» لابن رشد. أعطت الحضارة الإسلامية أساسًا جديدًا للعلوم الطبيعية وهو اتفاق نظام العقل ونظام الطبيعة، فاتحدت الأنساق الثلاث، العقل والوحي والطبيعة، وكان هذا النسق الجديد هو العامل الرئيسي وراء النهضة الأوروبية الحديثة بعد تحرير العقل من كل مظاهر الخرافة.

بل إن الإصلاح الديني في الغرب عند مارتن لوثر في القرن الخامس عشر إنما تم بناءً على نموذج الحضارة العربية الإسلامية، الكتاب وحده مصدر العقيدة والشريعة وليس أقوال آباء الكنيسة، وأن لكل مجتهد الحق في التفسير وليس الكنيسة وحدها، وأنه لا واسطة بين العبد والرب، وكلها مبادئ من الحضارة الإسلامية، وقد رغب لوثر في تعلم العربية لمعرفة التراث الإسلامي من أصوله الأولى، وظل هذا النموذج هو أيضًا نموذج الإصلاح اليهودي عن اسبينوزا، رفض تسلط الأحبار والدولة الثيوقراطية التي يحكم فيها الملوك باسم الله، وأثبت تحريف التوراة، ورفض عقيدة شعب الله المختار والميثاق الأبدي الذي عقده «يهوه» مع بني إسرائيل يعدهم بالأرض والنصر والمعبد دون أن يقابل ذلك عمل صالح أو تقوى وإيمان.

وفي فجر النهضة العربية بدأ الاتصال بالغرب الحديث في عصر ترجمة جديد بفضل روَّاد النهضة في الشام ومصر سواء العلمية مثل شبلي شميل وفرح أنطون ويعقوب صروف وسلامة موسى وزكي نجيب محمود، أو الليبرالية مثل الطهطاوي وأحمد لطفي السيد وطه حسين والعقاد، أو الإصلاحية مثل الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين ينقلون الثقافة الغربية ويترجمون أمهاتها، وتأسَّسَت مدرسة الألسن شبيهة بديوان الحكمة، أيام المأمون، وذاعت مفاهيم التنوير؛ العقل والحرية والإنسان والطبيعة والعلم والتقدم والعمران، ما أخذه الغرب منا في نهاية نهضته وبداية نهضتنا، وما زال الحوار قائمًا، بالرغم من انبهار البعض بالغرب وتبني العلمانية مما سَبَّب رد فعل فريق آخر رافضًا للغرب ومتبنيًا السلفية، وانقطع الحوار بين الفريقين، ووصل إلى حد الخصام والاقتتال كما هو الحال في الجزائر.

وذاعت ألفاظ الحرية والديمقراطية والدستور والشعب والبرلمان والدولة والكفاح والنضال والصراع والقومية والاشتراكية والليبرالية حتى أصبحت من مكتسبات الثقافة العربية المعاصرة، وتم تعريب عديد من الألفاظ مثل الأيديولوجيا والتكنولوجيا والبرجماتية. عندما يكون حوار الحضارات بين طرفين غير متكافئين، يعطي الطرف لغته للطرف الآخر، وهذا ما تم في فجر النهضة العربية منذ القرن الماضي كما تم من قبل في أوائل النهضة الأوروبية وأيضًا في عصر الترجمة الأول في القرن الثاني الهجري، وقد تم ذلك أيضًا في أوائل عصر النهضة الأوروبية بدخول المصطلحات العربية اللغات الأوروبية القديمة والحديثة، فحوار الحضارات مشروط بصراع القوى بينها ثقافيًّا وليس عسكريًّا، ففي حركة الترجمة الأولى كان العرب فاتحين عسكريًّا ومتلقين ثقافيًّا، وفي عصر الترجمة الثاني كانت مصر فاتحة عسكريًّا ومتلقية ثقافيًّا، وإبَّان عصر النهضة الأوروبي كان العرب منتصرين عسكريًّا في نهاية الحروب الصليبية وكان الغرب في نكوص، وكانت الثقافة تنتقل من الطرف الأقوى إلى الطرف الضعيف.

رابعًا: حوار نظري أم حوار عملي؟

إن حوار الثقافات كبديلٍ عن «صراع الحضارات» ليس فقط حوارًا نظريًّا حول القيم والمبادئ والعلوم والفنون، بل هو حوار يتضمَّن هذا المستوى النظري كنوعٍ من التقارب بين طرفي الحوار، واكتشاف العناصر الإنسانية المشتركة بينهما عبر تاريخٍ طويلٍ من التفاعُل المشترك على ضفتي البحر المتوسط، مرة من الشمال إلى الجنوب في عصر الإمبراطورية الرومانية، ومرة من الجنوب إلى الشمال في عصر الفتوحات الإسلامية، ومرة من الشمال إلى الجنوب أثناء الاستعمار الأوروبي الجديد، ومرة من الجنوب إلى الشمال أثناء حركات التحرُّر الوطني.

ربما يعني حوار الحضارات الآن، لا غالب ولا مغلوب؛ فقد جربت شعوب البحر الأبيض المتوسط هذا النموذج عبر التاريخ، إذا قوي الشمال فاض على الجنوب، وإذا قوي الجنوب فاض على الشمال.

وما يحدث من صراعٍ بين الشمال والجنوب يحدث أيضًا بين الشرق والغرب، إذا قوي الشرق العربي الإسلامي امتد نحو الغرب الأوروبي حتى الأندلس من أجل تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة عربية وعودة الفاتحين من دمشق إليها من جديد عبر شمال المتوسط، أوروبا، بعد أن أتوا إلى الأندلس، عبر جنوبه، شمال أفريقيا، وإذا قوي الغرب امتد إلى الشرق كما حدث أيام الحملات الصليبية من الغرب إلى الشرق والاستيلاء على الأراضي المقدسة، وبعد رد العدوان الصليبي وامتداد الدولة العثمانية من الشرق إلى الغرب حتى قلب أوروبا عاد الاستعمار الغربي الحديث من الغرب الأوروبي الصهيوني إلى الشرق من جديد للقضاء على دولة الخلافة واحتلال أراضيها، وبعد حركات التحرر تم تحرير الشرق من جديد في جنوب المتوسط وشرقه ورد الغرب إلى حدوده الطبيعية شمال البحر وغربه وربما عبر الأطلنطي، امتداد الغرب القديم إلى العالم الجديد.

تم «صراع الحضارات» حول البحر المتوسط، قلب العالم القديم، بين شماله وجنوبه، وشرقه وغربه مرتين، وكل طرف غالب مغلوب مرتين، مما يجعل عقدة التاريخ قابلة للحل عبر الزمن، طالما تم التخفف من ثقل الماضي والعمل المشترك من أجل تحديات الحاضر نحو مستقبل تتساوى فيه الأطراف ومع نموذج جديد بديل، من «صراع الحضارات» إلى «حوار الثقافات»، وهذا هو معنى الحوار بين الشمال والجنوب، الحوار العربي الأوروبي، والحوار بين الشرق والغرب الحوار العربي الأمريكي، فالغرب يمتد عبر الأطلنطي، والحوار العربي الآسيوي.

لم ينجح حتى الآن الحوار العربي الأوروبي؛ لأن أوروبا ما زالت تنظر إلى العرب كمجال حيوي لها، أسواقًا وطاقة وعمالة ومناطق نفوذ تكرارًا لصورة الغرب الاستعماري القديم، والعرب ينظرون إلى أوروبا باعتبارها المتحكمة في أقدار البشر، اقتصادًا وسياسة وثقافة، تريد أوروبا الاقتصاد قبل السياسة، ويريد العرب السياسة قبل الاقتصاد، تفهم قضايا العرب في رفع الحصار عن ليبيا والعراق واسترداد حقوق شعب فلسطين، وتقدم إيران وهي ظهير الوطن العربي، والثورة الإيرانية رصيد الثورة العربية الحوار الثقافي، للعرب رصيد تاريخي طويل في الثقافة قبل ثقافة الغرب في العصور الحديثة، والتفاهم الثقافي سابق على التبادل الاقتصادي والتعاون السياسي، وكما ساعد الشرق الجنوب إبان حركات التحرُّر يستطيع الغرب أن يساعد الجنوب لبناء الدول الحديثة والتنمية خاصة وأن الجنوب يعاني من مشاكل التصحر والفقر والتخلف ومعظمها من آثار الاستعمار الأوروبي.

وما زال الحوار العربي الأمريكي متعثرًا نظرًا لحصار ليبيا والعراق والتأييد شبه المطلق لإسرائيل، والعمل على تفتيت الوطن العربي وشرذمته وتفتيته حتى تبقى العولمة نظام العالم الجديد في عالم ذي قطب واحد، ويبقى للعرب صراعاتهم بين العرب والبربر والأكراد والمسلمين والشيعة والأقباط، نزاعات عرقية وطائفية ومذهبية في مصر والسودان والعراق ولبنان والخليج والمغرب العربي كله والسودان. إن وطنًا عربيًّا موحدًا في مقابل أوروبا موحدة على شاطئَي المتوسط لَقادرٌ على أن يحيل قلب العالم القديم إلى قلب العالم الجديد؛ فالشمال والجنوب على شاطئ المتوسط متكاملان تاريخيًّا وجغرافيًّا وثقافيًّا، وكلاهما مفتوحان على آسيا من الشرق وعلى عبر الأطلنطي من الغرب، فهما مركز الثقل في العالم.

والحوار العربي الآسيوي هو استئناف لتضامُن شعوب أفريقيا وآسيا وباندونج وقلب العالم الثالث مع أمريكا اللاتينية، والشرق امتدادٌ طبيعي للوطن العربي، ليس بين الاثنين إرثٌ استعماري، كما هو الحال مع الغرب، ساهمَا في حركة التحرر العربي، وكوَّنا كتلة عدم الانحياز، وكان الإسلام أول ما انتشر انتشر شرقًا نظرًا للامتداد الجغرافي للوطن العربي في آسيا. بل إن ما يزيد على ثلاثة أرباع المسلمين في آسيا. وأكبر دولة إسلامية في آسيا. وأصبحت النهضة الآسيوية اليوم مظهر إعجاب ومنافسة من النهضة الغربية التقليدية بالأمس، وأصبحت النمور الآسيوية بالرغم من الأزمة الأخيرة نموذجًا يُحتذى به في التنمية في وسط عالمٍ متبادل المصالح مع المحافظة على الاستقلال الوطني.

ويتحدث الغربيون أنفسهم عن «أفول الغرب» و«ريح الشرق»؛ إذ يبدو أن العصور الحديثة الغربية قد أوشكت على النهاية بعد أن بدأت منذ الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، والنهضة في السادس عشر، والعقلانية في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والثورة الصناعية الأولى في التاسع عشر، والثورة الصناعية الثانية في القرن العشرين مع حربين عالميتين طاحنتين أدت إلى الإحساس ببداية النهاية، وتحدَّث الفلاسفة عن «قلب القيم» (شيلر)، و«إفلاس الفلسفة»، و«أزمة العلوم الأوروبية» (هوسرل) و«الآلة التي تصنع الآلهة» (برجسون). وإذا كان نيتشه قد أعلن في نهاية القرن الماضي «موت الإله» وحياة الإنسان فإن كارل بارت قد أعلن في نهاية هذا القرن موت الإنسان، فسادت العدمية والشك والنسبية واللاإرادية، وظهرت في فلسفات ما بعد الحداثة والتفكيكية التي تنكر النظام والعقل والقانون والنسق في العقل والطبيعة والفن والمجتمع. البداية في «مقال في المنهج» عند ديكارت، والنهاية في «ضد المنهج» لفايرابند، البداية في «العقل النظري» عند كانط والنهاية في «وداعًا للعقل» لفايرابند، البداية في «البناء العظيم» لبيكون، والنهاية في «التفكيكية» لدريدا أو «الكتابة في درجة الصفر» لبارت.

ليس صعبًا أن يكون لحضارات الشمال والجنوب والغرب والشرق برنامج مشترك، فالاهتمامات واحدة، ولكن على درجات متفاوتة ونظام للأولويات متفاوت، فإذا اهتم الشمال بتلوث البيئة وبعيوب مجتمعات الوفرة، وبالمخدرات والشذوذ الجنسي والجريمة المنظمة وغياب المثل والعنصرية ومظاهر الرأسمالية فإن الجنوب يهتم أيضًا بالفقر والبطالة والتخلف والتعليم والإسكان والنظافة وكل مظاهر الحاجات الأساسية التي استطاع الغرب توفيرها، وإذا كان البشر يعيشون في عالم واحد، وكان العالم قرية واحدة فإنه يمكن صياغة مبادئ كوكبية واحدة؛ فالعدالة الاجتماعية لا تتحقق فقط في المجتمعات والدول بل أيضًا على مستوى العالم بين الشمال والجنوب، والشرق والغرب، فما يستهلكه الشمالي قدر ما يستهلكه الجنوبي عشرات المرات، وأقلية في الشمال لا تتجاوز ٥٪ من مجموع سكان الأرض يملكون ويتحكمون في ٩٥٪ من سكان العالم، ذلك سوء توزيع للثروات، فالعولمة ليست فقط اقتصاديات السوق وتصدير السلع بل أيضًا توفير الخدمات على قدر متساوٍ على شعوب العالم، وأن ما ينفق في صناعات السلاح في الدول الرأسمالية ليكفي في إشباع الحاجات الأساسية للشعوب التي ما زالت تحت خط الفقر.

إن التحول من «صراع الحضارات» القديم إلى «حوار الثقافات» الجديد ليس فقط على مستوى النظر، العلوم والفنون والآداب، ولكن أيضًا على مستوى العمل في صياغة برامج عمل مشتركة تسترد فيها الإنسانية وحدتها، وتتكامل إمكانيتها، بحيث تتساوى كل أطراف الحوار وتتجه نحو هدف مشترك يحقِّق مصالح الجميع بداية بالمنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة ونهاية بشعوب العالم، أطفالًا ونساء وشيوخًا، المهمشين في الأرض، ولو على مستوى الصراخ والأنين.

١  محاضرة ألقيَتْ بمناسبة معرض الكتاب العربي الخامس عشر في مكتبة الأسد الوطنية، دمشق، ١٩ / ٩ / ١٩٩٩، وقد ألقيت ارتجالًا باللغة الإنجليزية دون نصٍّ مكتوبٍ في المركز الثقافي السوفيتي بكاتماندو، نيبال في ٢٦ / ٢ / ١٩٩٨.
انظر أيضًا دراستنا بالإنجليزية: Cultures, in Conflict or Dialogue? Islam in the Modern World, Vol. 2, Anglo-Egyptian Bookshop. Cairo 1995. P. 493-499.
٢  انظر كتابنا: مقدمة في علم الاستغراب، الدار الفنية، القاهرة، ١٩٩١، ص١٠٧–١٥٠.
٣  From Cap to Cairo.
٤  Sinology. Indialogy. Iranology. Islamology. Egyptology.
٥  انظر دراستنا: روح الأندلس ونهضة الغرب الحديث، قراءة في المسائل الصقلية لابن سبعين، هموم الفكر والوطن، ج١، التراث والعصر والحداثة، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨، ص١٤٥–١٦٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤