الثقافة العربية بين العولمة والخصوصية
(١) تعدُّد مسارات التاريخ
لكل ثقافةٍ مسارها، ولا يوجد مسار واحد لجميع الثقافات؛ فالثقافة تعبيرٌ عن مرحلة تاريخية بعينها، وتتشكَّل في إطار الوعي التاريخي لأمةٍ ومن خلاله، وتتعدد المسارات بتعدُّد الثقافات عبر التاريخ، فإذا ما سيطرَتْ ثقافةٌ وذاعت، وتحولت إلى ثقافةٍ مركزية وأصبحت باقي الثقافات في الأطراف، وأصبح مسار الثقافة المركزية هو العصر والتاريخ والمسار لباقي المسارات، يعادل الثقافة العالمية، وغيرها ثقافات محلية، حدث ذلك في الحضارة المصرية القديمة بل وفي مجموع حضارات ما بين النهرَيْنِ وكنعان عندما كانت تمثِّل الثقافة المركزية وغيرها من الثقافات اليونانية في الغرب، والفارسية والهندية في الشرق ثقافات الأطراف، وحدث ذلك أيضًا مع حضارات الشرق القديم، عندما كانت ثقافة الهند في المركز تنتشر خارج حدودها إلى الصين وأواسط آسيا فتحولت ثقافاتها إلى ثقافة الأطراف، كما حدث ذلك في الصين عندما انتشرت ثقافاتها ودياناتها خارج حدودها، وأصبحت مركز العالم، وتحوَّلت باقي الثقافات حولها إلى امتداداتٍ لها، ثم تكرَّر ذلك مع اليونان، بعد فتوحات الإسكندر، عندما أصبحت الثقافة اليونانية ثقافةَ المركز وباقي الربوع التي انتشرَت فوقها اللغة العربية والثقافة اليونانية عند الرومان غربًا، وفي مصر جنوبًا، وفي آسيا شرقًا، وفي وسط أوروبا شمالًا، هي الأطراف، ثم ورثت الثقافة العربية الإسلامية الثقافات القديمة، وذاعَتْ في الشمال الغربي إلى أوروبا عبر الأندلس، وفي الشمال الشرقي في أواسط آسيا، وفي الشرق في جنوب آسيا عبر فارس والهند حتى الصين، وأصبحت هي ثقافة المركز تفيض على غيرها من الأطراف، ثم جاء الغرب الحديث يرث الثقافة العربية الإسلامية، فتصبح أوروبا مركز الثقافة العالمية، وثقافات أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية في الأطراف. وقد يكون العالم على أعتاب تحوُّلٍ جديدٍ في علاقة المركز بالأطراف، من أوروبا إلى آسيا من جديدٍ بمفردها أو في لقاء مع أفريقيا وكما تجسده الثقافة العربية الإسلامية في آسيا وأفريقيا، وكما انتقلت الروح من الشرق إلى الغرب عبر آلاف السنين، فقد تعود الروح من الغرب إلى الشرق من جديد في المستقبل القريب أو البعيد، «وتلك الأيام نداولها بين الناس».
وفي خضم سيطرة المركز الأوروبي في عصوره الحديثة وترويجه لثقافته خارج حدوده إلى باقي الثقافات أصبح مسار التاريخ الأوروبي عن وعي أو عن لا وعي هو المسار التاريخي لجميع الثقافات؛ فنحن في نهاية قرن وفي بداية قرن آخر، في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، في نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة، وكأن تاريخ العالم يبدأ فقط منذ ألفي عام، منذ ولادة السيد المسيح، وكان قبل ذلك لم يكن هناك تاريخ ولا ثقافات ولا شعوب، وماذا عن حضارات الشرق القديم بما في ذلك مصر التي بدأت منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام أي ما يُقارب من ضعف التاريخ الميلاد. ولمَ يكون ميلاد المسيح هو الحد الفاصل بين ما قبل التاريخ، وما بعد التاريخ، بين القديم والجديد، بين الشرق والغرب؟ لكل ثقافةٍ بدايتها في التاريخ؛ فاليابان تبدأ التاريخ كل مرة ببداية تولية الإمبراطور العرش، وفارس وحتى عصر الشاه تبدأ التاريخ منذ قورش، والعبرانيون يبدءون التاريخ منذ أكثر من خمسة آلاف عام، منذ خلق الله العالم. والمسلمون يبدءون بالتاريخ الهجري، وهم الآن في الربع الأول من القرن الخامس عشر، في نهاية ١٤١٨ وبداية ١٤١٩، ومع كل حدثٍ عظيم يبدأ التاريخ؛ عام الفيل، ميلاد الإسكندر، تنصيب إمبراطور، لا توجد نمطيةٌ في المسار التاريخي لكل الشعوب والثقافات. إنما المركز هو الذي يفرض مساره على الأطراف، ولما كان الغرب الحديث الآن هو المركز فهو الذي يفرض مساره على باقي الثقافات، ويجعل العالم كله يمتثل بمساره هو نهاية قرن وبداية آخر فتضع كل الشعوب نفسها في مسارها، ويزداد الاغتراب الثقافي والحضاري عند كل الشعوب باستثناء ثقافة المركز، وفي خضم الإعجاب بالحاضر يتم نسيان الماضي، وفي زحمة الوعي السياسي يتم طي الوعي التاريخي، وفي لذة التمتع بالثمار ينسى الآكلون الجذور التي بدأ غرسها قبل فصل الحصاد، وفي تدوين التاريخ الحديث، وقعت مؤامرة صمت على الجذور لصالح الثمار ربما لنزعة نفعية مباشرة أو بنية إخراج الشعوب التاريخية القديمة من التاريخ وحصرها في متاحف تاريخ الحضارات القديمة لاتساع المجال للشعوب اللاتاريخية الأوروبية الحديثة التي ابتلعت عصورها الحديثة في القرون الخمسة الأخيرة كل تاريخ البشر السابق، اعتزازًا بالجديد على حساب القديم.
(٢) العولمة وأشكال الهيمنة الغربية
إن «العولمة» هي أحد أشكال الهيمنة الغربية الجديدة التي تعبِّر عن المركزية الأوروبية في العصر الحديث، والتي بدأت منذ الكشوف الجغرافية في القرن الخامس عشر ابتداءً من الغرب الأمريكي والتفافًا حول أفريقيا حتى جزر الهند الشرقية والصين، بدأ النهب الاستعماري للسكان من أفريقيا والثروات من آسيا وأفريقيا والعالم الجديد لتكوين الإقطاع الأوروبي في عصر الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، ثم النهضة في السادس عشر ثم العقلانية في السابع عشر حيث تحول الإقطاع إلى ليبرالية تجارية، ثم الثامن عشر والتنوير الأوروبي في التاسع عشر والثورة الصناعية الأولى والنهب الاستعماري الثاني في صورة الاستعمار القديم لأفريقيا وآسيا في القرن العشرين، واندلاع حربين أوروبيتين على أرض الغرب سميتا الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبعد عصر التحرر من الاستعمار في هذا القرن بدأت أشكال الاستعمار الجديد في الظهور باسم مناطق النفوذ، والأحلاف العسكرية في عصر الاستقطاب، والشركات المتعددة الجنسيات، واتفاقية تعريفة التجارة الخارجية، واقتصاد السوق، ومجموعة الدول الصناعية السبع أو الثمان، والعالم ذي القطب الواحد، وثورة الاتصالات، والعالم قرية واحدة.
وإذا تم إخراج مفاهيم العولمة أو الكونية والإدارة العليا ونهاية التاريخ لتقوية المركز فإنه قد تم نحت مفاهيم أخرى للتصدير خارج المركز إلى الأطراف مثل مفاهيم «ما بعد الحداثة» نهاية عصر الحداثة الذي ارتبط بالقانون والنظام، والتنظير والتعقيل والترشيد، والتحكُّم في قوانين الطبيعة، وغائية الإنسان والكون، والتقدم والطموح، وهي المفاهيم التي قامت عليها حضارة المركز ذاته منذ بداية عصوره الحديثة حتى الآن؛ وبالتالي بداية عصر الفوضى في الطبيعة، والمعاداة للمنهج، وهد العقل، والتعددية بلا غاية أو هدف، وغياب الحوار والتفاهم والتخاطب (فاير آبند)، وكان الغرب بعد ما نعم بالحداثة ومآثرها واكتفى منها وسئمها يريد هدمها بما في الغرب من قوة على التجاوز يحاول منع الحضارات الأخرى من الوصول إليها والاستفادة منها خاصة وأنها في مرحلة التحول من القديم إلى الجديد، ومن التراث إلى الحداثة، ومن الماضي إلى المستقبل. كما ذاع مفهوم «التفكيك» كخطوةٍ أبعد من التحليل، تفكيك كل شيء بما فيه العقل وحده، اللوجوس الذي جعله القدماء أحد تجليات الألوهية وأشكالها، أصبح الشيطان الذي يجب التخلص منه، نسيج العنكبوت الذي يجب تقطيعه حتى لا يبقى شيء ولا العنكبوت نفسه (دريدا)، في التحليل كانت الغاية ضبط العبارة وإحكام اللفظ تجنبًا للإنشائية والخطابة، وفي التفكيك تبدأ الكتابة من درجة الصفر (بارت)؛ فالفكر مجرد وحدات كتابية لا تعبر عن معنى سابق ولا تفيد معنى لاحقًا، الفكر أجراس اللغة وأصوات الألفاظ وحضارات الهامش تحاول التجميع والتركيب خوفًا من التفتت والتشرذم والضياع باسم الملل والنحل والأعراف وبحجة الطوائف والأجناس، وأخيرًا يتم تصدير «صراع الحضارات» للنطق بما كان مسكوتًا عنه سلفًا ولتحويل العالم إلى دوائر حضارية متجاورة ومتصارعة على مستوى الثقافات لإخفاء الصراع حول المصالح والثروات، وإلهاء الشعوب الهامشية بثقافاته التقليدية، بينما حضارات المركز تجمع الأسواق، وتتنافس في فائض الإنتاج عودًا إلى النغمة القديمة، مادية الغرب وروحانية الشرق، الحضارة اليهودية المسيحية في مواجهة الحضارة الإسلامية البوذية الكنفوشوسية.
(٣) مخاطر العولمة على الهوية الثقافية
وبطريقة لا شعورية وتحت أثر تقليد المركز والانبهار بثقافته يتم استعمال طرق تفكيره ومذاهبه كإطار مرجعي للحكم دون مراجعة أو نقد، وتتبنَّى ثقافة الأطراف كل ما يصدر في المركز من أحكام خاصة: ثنائيات الحس والعقل، وتعارض المثالية والواقعية، الكلاسيكية والرومانسية، وتعارض الدين والعلم، والفصل بين الدين والدولة، والانقطاع مع القديم، وكلها أحكام صدرت في المركز بناءً على ظروفه الخاصة، ولا يتم تعميمها على غيره من ثقافات الأطراف التي قد يكون فيها اتفاق شهادة الحس وشهادة العقل وشهادة الوجدان، والجمع بين المثالية والواقعية كما حاول الفارابي من قبل الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطاطاليس الحكيم، وخروج العلم من ثنايا الدين، وقيام الدين على تصوُّرات العلم، واستنباط شريعة وضعية تجمع بين القيم الدينية العامة وهي مقاصد الشريعة التي هي في نفس الوقت مجموع المصالح العامة، والتواصل بين القديم والجديد، المسيحية من اليهودية، والإسلام من المسيحية واليهودية معًا، يفكر الهامش بمقولات المركز، ويعمم أحكامه، ويقع في خطأ الانتقال من الجزء إلى الكل دون أن يرد هذه الأحكام إلى ظروفها التي نشأت فيها ويتحرر منها ويقيم أحكامه الخاصة بناءً على ظروفه الخاصة التي قد تختلف مع ظروف المركز وأحكامه وقد تتفق، تمنع ثقافة المركز إذن، نظرًا للانبهار بها وتقليدها وتبنيها وإطلاقها واعتبارها الثقافة العالمية الممثلة لجميع الثقافات، والتجربة النموذجية التي تحذو حذوها كل التجارب الأخرى، تمنع إبداعات الأطراف الذاتية والتفكير المستقل، والانعكاف على الذات وممارسة قوى التنظيم الطبيعية في كل عقل بشري، واستنفار الاجتهاد الكامن لدى كل الشعوب، فالغرب ليس بدعة، ولا نسجًا عبقريًّا على غير منوال، ولا يتمتع بقدرة فريدة على التنظير دون غيره، بل إن قوة رفض الماضي، الكنيسة وأرسطو، هي التي دفعته إلى التوجه نحو الواقع والمجتمع اعتمادًا على العقل البديهي، فأنشأ العلم التجريبي، وأقام المجتمع على العقد الاجتماعي، وانتقل من التمركز حول الله والسلطان إلى التمركز حول الإنسان والدستور. وليس هناك ما يمنع أية ثقافة من التحول الطبيعي من التقليد إلى الاجتهاد واعتمادًا على الجهد الإنساني، سواء على نفس نمط المركز أو على أنماط أخرى، فتتعدد الإبداعات البشرية، ولا يتم إيقافها أو إجهاضها بتقليد نموذج واحد في إبداع المركز.
وبمقدار ما يزداد التقريب في المجتمع، وتنتشر فيه القيم الغربية، والعادات الغربية وأساليب الحياة الغربية خاصة عند الصفوة التي بيدها مقاليد الأمر مع شريحة كبيرة من الطبقة المتوسطة، يزداد تباعد الجماهير عنها واتجاهها إلى ثقافتها، وتمسكها بتقاليدها، فالفعل يولد رد الفعل المضاد، ليس المساوي له بل الأعنف منه، فتنشأ الأصولية عن حق، دفاعًا عن الأصالة، وتمسكًا بالهوية، تغريب في الظاهر وأصولية في الباطن، انبهار بالغرب عند الصفوة ورجوع إلى التراث عند الجماهير، فباسم الحداثة يتم التمسك بالقديم، وبدعوى اللحاق بالمستقبل يتم تأصيل الرجوع إلى الماضي والتشريع له، وباسم الانفتاح والتنوير يتم الانغلاق والإظلام، وينشق الصف الوطني إلى فريقين: العلمانية والسلفية، كل منهما يستبعد الآخر إن لم يكفره أو يخونه، وكما هو الحال في الجزائر إلى حد سفك دماء النساء والأطفال والشيوخ وزهق أرواح الأبرياء، وكما هو الحال في مصر بصورة أقل وفي باقي أرجاء الوطن العربي في الخليج واليمن وليبيا والمغرب والعراق والسودان، كل فريق يمتلك الحقيقة المطلقة ويستبعد الآخر، والدولة تؤيد مرة هذا الفريق الإسلامي إذا كان الخطر قادمًا من العلمانية، ناصرية شعبية مثلًا، ومرة أخرى الفريق العلماني إذا كان الخطر قادمًا من الحركة السلفية، من أجل إشعال النار بين جناحي الأمة فيضعفان معًا ويقوى القلب أو الوسط الذي تدعي الدولة تمثيله حماية له من التطرف، ويتحول الخصام الثقافي بين أعضاء العولمة وأنصار الهوية إلى صراع على السلطة عندما تضعف الدولة، وينهار مشروعها القومي. كل فريق يرى أنه أحق بوراثة الحكم من الفريق الآخر بمفرده، يتحوَّل إلى صراع على السلطة، صريح أو ضمني، يصل إلى حد الاقتتال بالسلاح وتصفية المجتمع، فيكون الضحية، ويجد كل فريق أعوانه في الخارج، الغرب لأنصار الحداثة والنظم التقليدية لأنصار السلف، والوطن هو الضحية، ميدان لصراع القوى الكبرى بالمال والسلاح، وتضيع الخصوصية لصالح الصراعات المحلية والدولية، ويصمت الحوار الوطني، ويشق صف الوطن؛ فالمعركة إذن بين الخصوصية والعولمة ليست معركةً بريئةً حسنة النية أكاديمية علمية بل تمس حياة الأوطان ومصير الشعوب.