الحوار والتعايش الثقافي١

تعبير «خليج فارسي» تسميةٌ جغرافيةٌ قديمةٌ في كتب الجغرافيين العرب مثل «بحر العرب» الذي يطلق عليه الآن «المحيط الهندي»؛ فالأسماء متغيرة عبر التاريخ طبقًا لميزان القوى، مثل «بحر الروم» وهو البحر الأبيض المتوسط. ولما كان عصر الصراعات الكبرى مؤذنًا بالرحيل مثل الصراع بين إمبراطوريتي الفرس والروم، والعرب والروم قديمًا، فقد توارت أسماء الشعوب الغالبة لصالح أسماء المناطق المحايدة مثل «البحر الأسود»، «البحر الأحمر»، وقياسًا على ذلك يمكن تسمية الخليج «الخليج العربي الفارسي» نظرًا لوجود العرب والفرس على ضفتيه الجنوبية والشمالية، ولما وحد الإسلام بينهما عبر التاريخ يمكن تسميته أيضًا «الخليج الإسلامي»، وإذا كانت التسمية غير مألوفةٍ في تاريخ الجغرافيا التي غلبت عليها مصطلحات الأقوام والشعوب والمناطق يمكن تسميته «الخليج» فحسب، لفظ واحد تقع عليه دول الجوار التي تنتسب إلى دينٍ واحدٍ وثقافةٍ واحدةٍ ولغاتٍ متعددة، العربية والفارسية، اللغتين الرئيستين للشعوب الإسلامية. ومع ذلك فالتسميات لا تهم، مجرد ألفاظ وأشكال، المهم هو المضمون، ألَّا يكون الخليج أمريكيًّا بريطانيًّا من حيث القوات الرابضة فيه أو غربيًّا من حيث الثقافة المهيمنة عليه. وكما قال ابن سينا «لا مشاحة في الألفاظ.» وكما هو في الحديث النبوي: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.» وما يهم في البحث العلمي ليس أخذ المواقف الحدية والمناداة بالحد الأقصى؛ فهي مواقف أيديولوجية مسبقة بنزعات قومية سوفيتية لا تؤدي إلا إلى إثارة الضغائن والأحقاد وربما إراقة الدماء، ما يهمُّ هو البحث العلمي الموضوعي الهادئ الذي يبغي المصلحة العامة للجميع متجاوزًا الحسابات الصغيرة القديمة إلى الاستراتيجيات الكبرى من منظورٍ تاريخيٍّ طويل وليس السياسات المتغيرة لأنظمةٍ سياسيةٍ طارئة.٢

ولقد عاش الخليج منذ أقدم العصور منطقة سكانية وثقافية واحدة لا فرق بين عربي وعجمي. ومن ذلك أتى حديث الرسول: «لا فرق لعربيٍّ على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح.» تكلَّمت الشعوب على شاطئيه العربية والفارسية، وتصاهر العرب والفرس قبل الإسلام وبعده، وتعاونا على الصيد والعيش المشترك والسعي للرزق والكدح في الأرض؛ فالأرض لله، يرثها عباده الصالحون كما عبَّر القرآن، والتاريخ هو الرصيد الأول للسياسة، ولا وعي سياسي دون وعي تاريخي.

ثم جاء الاستعمار البريطاني الحديث ليحتل دول الجوار حيث يقطن العرب والفرس وبعد القضاء على الخلافة العثمانية. وبدأت الثقافة الغربية، ثقافة المستعمر، في الانتشار، تقوم على التفرقة بين الشعبَيْن المسلمَيْنِ ووضع بذور الفتنة بينهما طبقًا لسياسة «فرِّق تَسُد»، وكما فعلت بين مصر والسودان في حلايب وشلاتين، وبين اليمن والسعودية في عسير ونجران، وبين اليمن والحبشة حول جزر باب المندب، وبين السعودية والكويت والعراق في مثلث تحت وصاية الأمم المتحدة شمال غرب الخليج، وبين الحبشة وإريتريا حول ترسيم الحدود، وبين العرب واليهود في فلسطين، والهندوس والمسلمين في شبه القارة الهندية لقسمة الشعوب والقضاء على ثقافاتها الوطنية الموروثة التي تقوم على وحدة الثقافة والأقوام، وقد فعل الاستعمار الفرنسي نفس الشيء بين الجزائر والمغرب في واحة تندوف، وبين سوريا ولبنان وتقسيم سوريا الكبرى، وبين سوريا والأردن في وادي الحمة، وكما فعل الاستعمار البريطاني والإيطالي في واحة جعبوب على الحدود المصرية الليبية وقسمة القبيلة الواحدة مثل قبائل أولاد علي إلى دولتين بحدود مفتعلة، تتقاتل فيما بينها، وكانت هذه عادة الاستعمار في أفريقيا بعد أن قسم الشعوب والقبائل باسم الحدود الدولية فوقت الحروب بين الدول المتجاورة، كلٌّ منها تود توحيد قبائلها، كما وقعت الحروب الأهلية بين القبائل المتناحرة داخل الدولة الواحدة مثل التوتسي والهوتو في رواندا، وقضية الشعب الكردي الموزع بين أربع أو خمس دول ما زالت في الأذهان، وأقرَّت الأمم المتحدة الحدود التي وضعها الاستعمار في القارة الأفريقية ورثتها الدول المستقلة بعد حركات التحرُّر من الاستعمار، ولا يجوز تغيير ما وضعه الاستعمار حتى تظل أفريقيا مجزأةً مقسمةً متشرذمةً متحاربةً فيما بينها باسم الحداثة. فالدولة أفضل من القبيلة، والحدود الجغرافية أبقى من السكان، أفريقيا للأفريقيين شكلًا، وأفريقيا للأوروبيين مضمونًا، والثقافة هي السياسة على الأمد الطويل.

لقد زرعت الثقافة الغربية في شعوب المنطقة أيديولوجيات سياسية غربية عليها مثل الأيديولوجية القومية ومفهوم الدولة ذات الحدود الجغرافية الطبيعية. فالدولة ذات شعب واحد، لغة وثقافة وتاريخًا ودينًا باستثناء القليل مثل سويسرا والدول ذات القوميات المتعددة خاصة في آسيا؛ ومن ثم ينشأ الصراع بين القوميات داخل الدولة القومية Nation-State الواحدة. فالهوية القومية من الحدود الجغرافية، والدفاع عن الوطن الأم دفاع عن هذه الحدود الجغرافية التي تم وضعها بفضل تقسيم الإمبراطوريات الكبرى مثل الرومانية والنمساوية والعثمانية، وعانَتْ من ذلك الأمة الإسلامية التي لا تستمد هويتها من الجغرافيا بل من التاريخ، ولا تتوحد مع الحدود المصطنعة، إرث الاستعمار الأوروبي الحديث بل مع عقيدتها التوحيدية الشاملة، فما ينشأ بين الشعوب الإسلامية من خلافٍ حول الحدود مثل الخلاف حول جزر الخليج إنما هو ناشئ من مفهوم الدولة القومية، وليس من مفهوم الأمة الإسلامية، الخليج عربي أم فارسي؟ جزره الثلاث عربية أم فارسية؟ وهي مشكلة مصطنعة لا حل لها من خلال مفهوم الدولة القومية، والأمة الإسلامية المتعددة الشعوب والثقافات واللغات قادرة على جعل الهوية من العقيدة. فلا فرق بين عربٍ وفرس على شاطئ الخليج. الكل ينتسب إلى الأمة الإسلامية المترامية الأطراف، من الصين شرقًا إلى المغرب غربًا، لا فرق بين لغة عربية ولغة فارسية، فكلاهما لغات الإسلام مثل التركية والأردية. هذا هو واقع التاريخ والجغرافيا أيضًا وليس مجرد مثالية دينية؛ فقد عاش الناس في الخليج لا يعرفون الحدود، وينتقلون بين الشاطئين وفوق جزره، يتصاهرون ويعملون، الجغرافية السياسية تحتم وحدة الخليج وشعوبه، والصراع بين الأنظمة السياسية الناشئة عن الدول القومية أي من أثر الثقافة السياسية الغربية في المنطقة وتبني النظم السياسية لها، المشكلة إذن جزء من عملية التغريب العامة التي وقعت للمسلمين منذ عهد الاستعمار، وأثر من أثاره بعد مرحلة التحرر الوطني.
وكلما تعثَّرت النظم السياسية في الداخل لجأت إلى إثارة قضية الحدود في الخارج ليهب الناس دفاعًا عن التراب والوطن ضد الاحتلال الخارجي وليس ضد القهر الداخلي، فبعد أن انسحبت بريطانيا من منطقة الخليج احتلَّ الشاه الجزر الثلاث، وقد كانت بطبيعتها الجغرافية وعبر امتدادها التاريخي وتحت ضرورة الحياة اليومية بين العرب والفرس، لا يعرفون حدودًا ولا هُويات قومية إلا الحياة المشتركة، واللغات المتبادلة، والمصاهرة، والسعي للرزق. وقد قام الشاه بذلك في حومة إنشاء الإمبراطورية الفارسية القديمة، عصر قورش، وأساطير الأبطال وبتأييدٍ من الولايات المتحدة الأمريكية واستعماله ضد الثورة العربية في الخليج في الجنوب وفي الشمال بمساعدة الأكراد ضد العراق، وكلما تعثَّرت الديمقراطية والمصالحة الوطنية ونشأَتْ نظم تسلطية أثيرت مسألة الحدود الخارجية تحويدًا للأنظار نحو الداخل دون الخارج كما هو الحال في إثارة مسألة حلايب وشلاتين في السودان أو واحة جعبوب بين مصر وليبيا أو واحة تندوف بين الجزائر والمغرب، فأصبح الوطن وسيلةً للاستهلاك المحلي وأداة للدفاع عن النظم السياسية، أصبح الوطن وسيلةً والنظام السياسي غاية وليس النظام السياسي وسيلةً والوطن غاية، ولو ترك الاستعمار الشعوب المتحررة حديثًا، ولو تركت النظم السياسية التي فرحت بالدول الوطنية وحدودها المصطنعة بفعل الاستعمار، لو ترك كلاهما الشعوب بثقافاتها الموروثة وحياتهما المشتركة وسعيهما وكدهما في الحياة لَما نشأت مسألة الصراع على الحدود أو مشكلة الخليج بين العرب والفرس.٣
إن ما يظن سلبيات قد يكون في غاية الإيجاب، وما يُحسب أنه خلاف بين العرب والفرس حول تسمية الخليج وملكية جزره الثلاث قد يكون بداية الحل عن طريق الثقافة، القضاء على التغريب الثقافي السياسي Political Cultural Westernization وتطهير النفس منها والعودة إلى الثقافة الإسلامية الأممية التي تقوم على وحدة العقيدة مع تعدُّد اللغات والثقافات الشعبية الخاصة والعادات والأعراف وأساليب الحياة اليومية، ويُصبح الخليج منطقة تفاعل وتكامل ومصالح وأمن مشترك على الشاطئَيْن بين العرب والفرس تحت راية الإسلام وباسم التوحيد، الوحدة والتنوع، الهوية والاختلاف، ويتكرَّر هذا النموذج في حلايب وشلاتين بين مصر والسودان، وفي عسير ونجران بين اليمن والسعودية، وفي واحة البوريمي بين عمان والإمارات، وفي مثلث الأمم المتحدة بين الكويت والعراق والسعودية، وفي واحدة تندوف بين المغرب والجزائر، وفي جنوب الصحراء بين ليبيا وتشاد، وفي واحة جعبوب بين مصر وليبيا، وفي المناطق المتنازع عليها بين موريتانيا والسنغال، وفي الصحراء بين المغرب والبوليساريو، وفي وادي الحمة بين الأردن وسوريا، ففي محافظات التكامل تنشأ الحياة المشتركة بين القبائل والأقوام، ويبدأ العمل المشترك لتنمية الموارد وإعمار الأرض حتى تتآكل الحدود الجغرافية المصطنعة الموروثة من عهد الاستعمار وتعود الثقافة الإسلامية القائمة على التوحيد بدلًا من الثقافة السياسية الغربية القائمة على التمزيق والتجزئة والتفتيت، وتحويل العالم الإسلامي إلى مجموعةٍ من الدويلات الطائفية والعرقية للعرب والبربر والأكراد والسنة والشيعة والدروز.
وتمحى التناقضات الثانية أمام التناقضات الرئيسية، فمهما كان من خلافٍ بين العرب والإيرانيين حول الخليج فإن كليهما لهما عدو مشترك، الاستعمار والصهيونية، أمريكا وإسرائيل، فلا يمكن إيثار التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي، تريد الولايات المتحدة كسر شوكة الثورة الإسلامية في إيران كما كسرت شوكة الثورة العربية إبان العهد الناصري الذي كان من دعائم الثورة الإسلامية قبل انتصارها، كانت الثورة العربية ظهيرًا للمعارضة الإسلامية والوطنية في عهد الشاه وضد سياسة الأحلاف ومناطق النفوذ، وضد محور الرياض–طهران–كراتشي، الحلف الإسلامي القديم منذ ١٩٦٥، وريث حلف بغداد المناهض للهُويتين العربية والإسلامية، وقد استأنفت الثورة الإسلامية المستمرة مشروع الثورة العربية المجهضة: مناهضة الاستعمار والصهيونية، وتوحيد الأمة والتنمية والاستقلال الذاتي الوطني والاقتصادي، السياسة استراتيجية كبرى شاملة على الأمد الطويل وليست حسابات صغيرة حتى ولو كانت حسابات النفط على الأمد القصير. إن بترول إحدى الجزر الثلاث يمكن استثماره استثمارًا مشتركًا بين دول الخليج لصالح تنمية مواردها وزيادة دخلها والدفاع عن أمتها بدلًا من ثروات النفط المبددة في الحروب بين دول الجوار بشراء الأسلحة من الدول الاستعمارية ووضع مرتبات جنودها وتكاليف دفاعاتها وتشغيل مصانع سلاحها. نفط جزر الخليج ملكية عامة مشتركة لسكانها. فمفهوم الملكية الخاصة مفهوم غربي. وقد هبَّت الأمصار كلها عام الرمادة لإنقاذ الأخوة في الحجاز، وتعمير الجزر مسئولية سكانها بما يعود بالفائدة عليهم، وأمن الخليج مسئولية دول الجوار على شاطئَيْه بدلًا من استدعاء الأجنبي الذي لا يبتغي إلا مصالحه الخاصة، يهدِّد إيران ويستولي على نفط الخليج وثرواته.٤ ومن ثم لا توجد رؤًى إيرانية وسعودية وكويتية وإماراتية وعمانية وقطرية وبحرينية وعراقية وسورية ومصرية لأمن الخليج، بل هناك رؤية إقليمية عربية إسلامية له في مقابل الرؤية الغربية.٥
وبالإضافة إلى المخاطر الخارجية هناك مخاطر داخلية على شاطئ الخليج، مخاطر النزعات العرقية والنعرات الطائفية، العرب والفرس والأكراد والأذريين، السنة والشيعة مما يهدد وحدة الدول وهي مقدمة لوحدة الأمم والأقوام داخل الوحدة الإسلامية العامة، وقد نبَّه جمال الدين الأفغاني من قبل على ضرورة وحدة الفرس والأفغان، والفرس والعرب، والسنة والشيعة في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل. وهناك خطر اقتصاد الريع على دول الخليج واعتماد اقتصادها على مصدر واحد، هو النفط الذي يكوِّن ٩٥٪ من ثرواتها، والنفط لا يدوم، ومخزونه يقل عامًا بعد عام، وماذا بعد خمسين عامًا من الآن؟ إن التفكير في موارد اقتصادية جديدة مثل التصنيع ابتداءً من الصناعات البترولية الكيميائية كهدفٍ مشترك أفضل من بيع الطاقة وتصنيع اليابان وتدفئة الغرب، وهناك خطر التركيبة السكانية في دول الخليج التي في غالبيتها من الآسيويين، الباكستانيين والهنود والفلبينيين، صحيح أنهم مسلمون معربون ولكن وضعهم الاجتماعي كعمالة أجيرة بدخل محدود يجعلهم أصحاب الحقوق في البلاد جيلًا وراء جيل، وهناك خطر التيارات الدينية المحافظة، نوع الطالبان، والتي لا ترى في الإسلام إلا الحدود والأشكال، العقائد والشعائر دون الأبنية الاجتماعية، وهي خطر يهم إيران والعرب على حد سواء. الهدف المشترك إذن هو تقوية التيارات الإسلامية المستنيرة القادرة على التعامل مع قضايا العصر والدخول في تحدياته، وتحويل الإسلام إلى بنيةٍ اجتماعيةٍ سياسيةٍ اقتصاديةٍ ثقافية، نمط حياة، قادر على أن يُظهر لشعوب العالم عظمته وإنسانيته ودفاعه عن حقوق الإنسان والشعوب بعد أن ارتبط في أجهزة الإعلام الغربية بالعنف والقتل والقسوة وانتهاك حقوق الإنسان والتخلُّف والفقر والجهل والمرض والقهر والتعذيب، إسلام الحريم والسراي والقصور والعبيد والإماء والغنائم.٦
إن الحوار الثقافي بين علماء الأمة العرب والإيرانيين لهو إحياء لتراث أصيل قديم، الثقافة مقدمة للسياسة، والسياسة تمهيد للاقتصاد، وعقد الندوات على كلا الشاطئين من أجل حوار عربي إيراني تتجاوز لقطيعة لا يستفيد منها إلا الاستعمار والصهيونية بدلًا من هذا الفصام الذي يعيشه عرب الخليج بين انتماء عربي وجوار إيراني، وبدلًا من هذه الازدواجية التي يعيشها شيعة الخليج بين حضور بدني عربي وحضور ثقافي إيراني. وربما يعيش عرب الأهواز نفس الازدواجية التي يعيشها شيعة العراق. والبداية بالعلماء قبل السياسيين فالعلماء ورثة الأنبياء ثم بالتجار والمصالح المتبادلة فالحسن أخو الحسين، «وليس منا من بات جوعان وجاره طاوٍ.» كما قال الرسول. وإن حب آل البيت في مصر جزءٌ من الدين الشعبي كما هو الحال في إيران، وقد زار مصر من قبل ناصر خسرو وسعدي الشيرازي وكثير من صوفية إيران مثل سهر التستري وتتلمذه على ذي النون المصري. ومنذ منتصف القرن الماضي بدأت السفارات بين مصر وإيران وكان سفراء إيران من كبار العلماء والمثقفين الإيرانيين مثل د. قاسم غني، والأديب علي دشتي، وقامت الطبعة الأميرية ببولاق بطبع أمهات الكتب الفارسية لا فرق بين تراثٍ عربي وتراثٍ فارسي، وتوالى انتشار المراكز الثقافية في مصر، وأقسام اللغات الشرقية في الجامعات المصرية، وأصبحت اللغة العربية بعد الثورة الإسلامية مع الفارسية لغتَيْن رئيسيتَيْن وليست لغةً أجنبية أسوة باللغات الأوروبية. الثقافة سياسية عليا واستراتيجية على الأمد الطويل. فإن تعثَّرت السياسات الوقتية نظرًا للحسابات الضيقة فإن الرؤية الاستراتيجية الأشمل تبدأ بالثقافة ركيزة الوعي السياسي.٧
إن خطر أفكار وأوضاع مثل العالم ذي القطب الواحد والعولمة ونهاية التاريخ وصراع الحضارات إلى آخر ما ينتجه الغرب الأمريكي من مفاهيم تجعلنا نشرحها ونلخصها ونهمش عليها دون أن نبدع مفاهيم خاصة تعبِّر عن مسارنا التاريخي الخاص ورؤيتنا للعالم لا يقف أمامه إلا تكوين قطب آخر ومفاهيم أخرى من منطقة أخرى من العالم، ليس من المركز الأوروبي التقليدي بل من الأطراف، وهناك ثلاثة أقطاب مرشحة لذلك: آسيا وهي مشغولة بنهضتها الاقتصادية بالرغم من بعدها التاريخي وثقافتها الخاصة ومساحاتها الشاسعة، وأمريكا اللاتينية التي كانت تقليدًا مهد جيفارا والتحرر من الاستعمار، والثورة على الثورة ولاهوت التحرير، وهي الآن مشغولةٌ بمشاكل القهر والفقر والفساد والمخدرات، لم يبقَ إلا القطب العربي الإسلامي المرشح كقطبٍ ثانٍ؛ لذلك يتم التركيز عليه بالحصار مثل السودان والعراق وليبيا، والتهديد مثل إيران وسوريا، والتهميش مثل مصر أو الحروب الداخلية مثل لبنان والجزائر أو التقسيم مثل العراق أو استنزاف الثروات مثل الحجاز في الوسط والأطراف أو الاحتلال مثل فلسطين. فالحوار العربي الإيراني، وجمع جناحي الأمة الإسلامية في آسيا وأفريقيا قادر على أن يكوِّن قطبًا ثانيًا للعالم ذي القطب الواحد، وأن يقوم العالم الإسلامي بالدور الذي كانَتْ تقوم به النظم الاشتراكية قبل انهيارها في أوائل التسعينيات، ولقد قام الإسلام بهذا الدور عبر التاريخ في صراعه مع الإمبراطورية الرومانية وأثناء غزو الصليبيين له وإبان حركة التحرُّر الوطني الحديثة.٨
١  ندوة الخليج الفارسي: «الواقع الموجود وآفاق المستقبل»، مركز دراسات الخليج الفارسي والشرق الأوسط، معهد الدراسات السياسية والدولية، طهران، ٢٢–٢٣ فبراير ١٩٩٩.
٢  د. محمد الرميحي وآخرون: الخليج العربي وآفاق القرن الواحد والعشرين، كتاب العربي، الكتاب الثلاثون، أكتوبر ١٩٩٧، الكويت.
٣  د. مريم سلطان لوتاه: المشاركة السياسية في دول الخليج العربي، تحليل تاريخي ورؤية مستقبلية، سلسلة بحوث سياسية، أكتوبر ١٩٩٤، مركز البحوث والدراسات السياسية، جامعة القاهرة.
٤  د. عبد المنعم المشاط (محرر)، أمن الخليج العربي، دراسة في الإدراك والسياسة، مركز البحوث والدراسات السياسية، جامعة القاهرة، القاهرة، ١٩٩٤؛ وأيضًا: د. مصطفى علوي، أمن الخليج، رؤية مصرية، دراسات في الأمن والاستراتيجية، قراءات فصلية، مجلد (٤)، العدد (٢)، يناير ١٩٩٦، مركز البحوث والدراسات السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
٥  د. محمد السعيد إدريس، إيران والأمن الإقليمي في الخليج العربي، مركز البحوث والدراسات السياسية، ندوة «علاقات مصر مع دول الجوار في التسعينيات»، ٥–٧ ديسمبر ١٩٩٨، مركز البحوث والدراسات السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة؛ وأيضًا: Professor Ali E. Hillal Dessouki: Regional Organization and Gulf Security, Political science research papers Vol. 1 No. 3. P., July 1994, Center for political research and studies.
٦  د. محمد السعيد إدريس، إيران والأمن الإقليمي في الخليج العربي، مركز البحوث والدراسات السياسية، ندوة «علاقات مصر مع دول الجوار في التسعينيات»، ٥–٧ ديسمبر ١٩٩٨، مركز البحوث والدراسات السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة؛ وأيضًا: Professor Ali E. Hillal Dessouki: Regional Organization and Gulf Security, Political science research papers Vol. 1 No. 3. P., July 1994, Center for Political research and studies.
٧  د. السباعي محمد السباعي، العلاقات الثقافية بين مصر وإيران، ندوة «علاقات مصر مع دول الجوار في التسعينيات»، ٥–٧ ديسمبر ١٩٩٨، مركز البحوث والدراسات السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة. وقد عقد مركز دراسات الوحدة العربية منذ عدة سنوات في جامعة قطر الحوار العربي الإيراني لأول مرة، ثم تلَتْه جامعة القاهرة، مركز البحوث والدراسات السياسية عن مصر ودول الجوار العام الماضي.
٨  مركز دراسات الوحدة العربية، العولمة، بيروت، لبنان ١٩٩٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤