من ثقافة السلطة إلى سلطة الثقافة١
أولًا: ثقافة السلطة
-
(١)
موضوع «المثقف والسلطة» موضوع شائع، تم التطرُّق إليه في عدة رسائل جامعية ومؤلفات علمية ومقالات اجتهادية، وعُقدت له عدة مؤتمرات وندوات عربية ودولية، وشاعت فيه الأحكام النمطية. ومن الصعب التطرق إليه من جديدٍ دون تكرار ما هو معروفٌ من أنماط العلاقات بين المثقف والسلطة، ومع ذلك إنه لشرفٌ للمثقفين أن يذكروا أنفسهم برسالتهم، وأن يوقظوا ضمائرهم لأهمِّ الأخطار التي يتعرَّضون لها في حياتهم ألا وهو إغراء السلطة ومجاورة السلطان، وكما حرَّم البعض نقد حتى بغلة السلطان كفر أبو موسى المردار شيخ المعتزلة كل من جالَس السلطان.
ولا تبرز هذه القضية إلا في المجتمعات النامية والتي تحتاج أنظمتها السياسية إلى نوعٍ من الشرعية عن طريق التبرير الأيديولوجي لها نظرًا لأن الشرعية الدستورية تنقصها إثر انقلاب عسكري أو نظام ملكي أو حكم تسلطي يعتمد على الطبقة أو نظام قبلي عشائري، طالما أن السلطة السياسية غير مستمدةٍ من الشعب عن طريق الانتخاب الحر المباشر دون تزييف أو تلاعب بنتائج الانتخابات ودون قهر أو تخويف للمرشحين من أجل ضمان نتيجة شبه إجماعية على الرئيس الأوحد والمرشح الواحد مدى الحياة أو على نواب الحزب الحاكم الذي يجري الانتخابات وهو في السلطة وفي كنف الدولة التي بيدها أجهزة الإعلام والأمن.
هنا تنشأ الحاجة إلى ثقافة السلطة من أجل إقناع الناس بشرعيتها واختياراتها السياسية، وهي ثقافة تابعة للسلطة، تدور في فلكها حتى ولو غيرت السلطة اختياراتها من النقيض إلى النقيض، من مقاومة العدو إلى الصلح معه، من الحرب إلى السلام، من مناهضة الاستعمار إلى التحالف معه، ومن الاشتراكية كحل حتمي إلى الرأسمالية كضرورة اقتصادية، ومن القومية العربية إلى القُطرية، وغالبًا ما يتم ذلك بنفس الرجال؛ فالمثقف مهمته التبرير وليس التفكير، الدفاع وليس التحليل، المهنة وليس الرسالة، الوظيفة وليس القضية.
ولا يختلف في ذلك المثقف العلماني عن رجل الدين؛ الأول يبرِّر اعتمادًا على النظريات السياسية المدنية، والثاني يبرِّر اعتمادًا على الموروث الديني القديم؛ لذلك تحالف رجال السياسة ورجال الدين عبر العصور، وتفاوتت السلطتان السياسية والدينية على حكم الشعوب، وكان أحد أسباب التحرر الفصل بين السلطتين، بين الكنيسة والدولة، في بدايات العصور الحديثة في الغرب.
ويمكن معرفة ذلك اعتمادًا على التجارب الحية الفردية والاجتماعية، «اعرف نفسك بنفسك.» كما قال سقراط، و«في داخلك أيها الإنسان تكمن الحقيقة.» كما قال أوغسطين وكما يستشهد بها هوسرل في التأمل الخامس في «تأملات ديكارتية»،٢ وهو اختيار القرآن الكريم: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. فالاعتماد على رؤية ما يحدث في العالم الخارجي وفي النفس هو الاستبطان الذي يتحوَّل فيه الخارج إلى الداخل، والمكان إلى زمان، والواقع إلى ماهية.٣ -
(٢)
والمثقف في علاقته بالسلطة على ثلاثة أنواع؛ الأول الموظف الأيديولوجي التابع للسلطة والمبرر لقراراتها أيًّا كانت، يستعمل علمه وثقافته وأسلوبه وقدراته في تزيين قرارات السلطة بطرقٍ جدلية، الدفاع عن القرار والهجوم على الخصوم كما يفعل رجل الدين في الدفاع عن العقيدة والهجوم على خصومها. وقد يستعمل طرقًا سوفسطائية، قلب الحق باطلًا والباطل حقًّا ما دام الهدف هو إقناع الناس، والتسليم بما يقول، والخضوع للسلطان. الحقيقة هو مدى إقناع الناس بها كما هو الحال في الإعلام حتى ولو لم يقتنع بها المبرر نفسه. فالوجود يقوم على العدم يثبته الإيهام والكذب والإقناع بالباطل والنفاق والازدواجية كما حلل سارتر في «الوجود والعدم» وكما حلل هيدجر ظاهرة «الرغي» في «الوجود والزمان».٤
والثاني الشهيد، المناهض للسلطة، المعارض لقراراتها، الناقد لسياستها، الرافض لاختياراتها بالقول وبالفعل، ويتم ذلك من خلال القنوات الشرعية وصحف المعارضة والجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية والاتحادات الطلابية والنقابات العمالية والمهنية كالمحامين والصحفيين والأطباء والمهندسين ونوادي أعضاء هيئة التدريس بالجامعات، وهي محدودة الأثر ليس لها وسائل الاتصال الجماهيرية العامة، وهي مهددة دائمًا بالحصار والحل والمنع، صحف المعارضة تطبع في دور الحكومة، قليلة التوزيع، مثقلة بالديون، همها أن تكون المعارضة بديلًا عن السلطة القائمة بنفس الفكر وطرق الممارسة وإن اختلفت في الظاهر، المعارضة في الحكم تسلطية أحادية الطرف لا تسمح بالمعارضة كما تفعل السلطة.
وقد يتم ذلك بطرقٍ غير شرعية عن طريق التنظيمات السرية، والنشرات والمطبوعات والكتيبات والمنشورات تحت الأرض، وهو طريقٌ مسدودٌ لأن عيون الدولة في كل مكان، وأجهزة الأمن لا تخفى عليها خافية، وهي في الغالب مخترقة أو يتم التعرف عليها إذا ما اعترف أحد أعضائها بسبب أهوال التعذيب. وهي عاجزة عن تغيير نظام الحكم بالقوة إلا إذا تبناها الجيش، والجيش جزء من النظام، لا يتدخل في السياسة، والهبات الشعبية وقتية، مثل هبات الخبز أو المظاهرات المؤيدة للانتفاضة والمعارضة للعدوان الأمريكي على شعب العراق سرعان ما تعود إلى سابق عهدها من استكانة وركود.
والثالث الجسر بين السلطة والمعارضة فيما عُرف أخيرًا بنظرية «التجسير» من أجل الإقلال من مضار السلطة والزيادة في منافع المعارضة، وتقليل الفجوة بين السلطة والمعارضة من أجل استتباب النظام وإطالة أمده. الحوار الوطني هو الطريق، والتعددية الفكرية والسياسية هي المنطلق، تصبح السلطة أكثر ديمقراطية باستماعها إلى آراء المعارضة، وتصبح المعارضة أكثر اقترابًا من السلطة والتأثير فيها. هو الطريق الثالث بين السلطة التي تقمع المعارضة، والمعارضة التي تريد اقتلاع السلطة.
وإن كان التجسير ممكنًا بالفعل، وأقرب إلى الحل العملي لتحقيق السلم الاجتماعي ونزع الفتيل من الصدام بين السلطة والمعارضة الذي قد يصل إلى حد القتال المسلح كما هو الحال في الجزائر والسودان بشكل علني جهري وفي مصر وتونس وليبيا والمغرب والعراق بشكل مكبوت ضمني. هي طريقة شد الحبل بين السلطة والمعارضة، وجولات الحرب، بلا غالب أو مغلوب كما هو الحال في اليمن والكويت والأردن، وتظل التجربة اللبنانية فريدةً في نوعها حيث تقوم المعارضة بدولة داخل الدولة، وتمارس سلطة الدولة في الدفاع وتحرير الأرض وتنظيم الخدمات الاجتماعية.
ولا يوجد ضامنٌ لئلا يتحوَّل التجسير بين السلطة والمعارضة إلى نوعٍ من الانتهازية؛ فالمثقف يستفيد من الفريقين، يستفيد من السلطة المنصب والتأييد والمنبر والإعلام والأمان وبعض هامش الحرية والمناورة وربما بعض الربح من أهل الحظوة، ويستفيد من المعارضة احترامها وتقديرها؛ فهو لسان حالها والمعبِّر عن مطالبها والمُطالِب بشرعيتها، فهو أشبه الملونين بين البيض والسود، وهو ليس غريبًا على الطبقة المتوسطة، البرجوازية الانتهازية بطبيعة تكوينها وممارساتها.٥ -
(٣)
ومهما بلغت خدمة المثقف للسلطة فإن السلطة تضحي به بعد أن تستعمله؛ فالسلطة لا تعمل إلا بمنطق الاستمرار والبقاء ضد الخصوم، وتعمل على التناقضات بين المثقفين واستعدادهم جميعًا لخدمتها. فإذا كان الخطر من الإسلاميين فإنها تستعمل العلمانيين ضدهم لوصفهم بالعنف والحرفية والتخلف كما حدث في مصر في الخمسينيات والستينيات ثم في الثمانينيات والتسعينيات حتى الآن، وكذلك في تونس وسوريا والعراق وربما المغرب، وإذا كان الخطر من العلمانيين فإنها تستعمل الإسلاميين ضدهم وتصفهم بالمادية والإلحاد والانحلال، ومن لا إيمان له لا أمان له، كما حدث في مصر في السبعينيات، وما زال في السودان وأفغانستان وشبه الجزيرة العربية والتيار المحافظ في إيران الذي يسيطر على القضاء والثقافة. تضرب السلطة هذا الفريق بذاك الفريق من أجل إضعاف الفريقين المعارضين وتقوية النظام القائم، ويقوى القلب إذا ما ضعف الجناحان، وإذا ما كانت السلطة قوية فإنها تضرب التيارَيْن في آنٍ واحدٍ لإضعافهما في البداية كما حدث في مصر في الخمسينيات بضرب الإخوان في ١٩٥٤ والشيوعيين في ١٩٥٨ بعد تأميم قناة السويس في ١٩٥٦، والوحدة مع سوريا ١٩٥٨ في ذروة القومية والنضال ضد الاستعمار والصهيونية.
العلاقة بين المثقف والسلطة هنا تقوم على الكذب والنفاق والمنفعة العاجلة، والشعب هو الضحية، يظن المثقف أنه يستعمل السلطة لصالحه لنشر تياره السياسي بالاستعانة بالدولة خاصةً أن الإعلام في يده ميسر، سواء كان إسلاميًّا أو ماركسيًّا، والحقيقة أن الدولة هي التي تستعمله وتستدرجه، تقدم له القليل لتأخذ الكثير، تحسن صورتها أمام الشعب وفي نفس الوقت تضحي به إذا ما تجاوز الخط الأحمر، وقام بدوره الخاص لحسابه الخاص؛ فالعبد لا يصبح سيدًا، والخادم لا يصير مخدومًا.
-
(٤)
والمثقف السلطوي هو الأيدلوجي بصرف النظر عن اتجاهه، إسلاميًّا كان أم ماركسيًّا، وهما الجناحان الرئيسيان للقلب، هو الذي انتسب إلى حركة الإخوان المسلمين أو إلى إحدى الفصائل الشيوعية في شبابه، وربما يكون القومي خاصة في الشام والعراق ومصر الذي كان اختيار معظم النظم السياسية في الخمسينيات والستينيات، وفي الخليج في السبعينيات والثمانينيات وربما حتى الآن عندما أصبحت القومية اختيار العرب بعد حركات التحرر الوطني وأثناء بناء الدولة الحديثة.
وهو الجامعي، الباحث الأكاديمي الذي توظفه سلطته العلمية ونظرياته السياسية لخدمة النظام، وسرعان ما يترقَّى فيه إلى اللجنة المركزية للحزب أو الوزارة، ومن أفضل من الأستاذ الجامعي لكي يكون الموظف الأيديولوجي للسلطة بما له من مكانةٍ اجتماعيةٍ مرموقة، وحلو الحديث، والمهارة المهنية، وما يفترضه الشعب فيه من أمانة القول وصدق الخطاب.
وهو المهني المهندس أو الطبيب أو المحامي، رجل الفكر والعمل الذي يضحي بوقته من أجل القضية العامة، والقادر أمام الناس على حل أزماتهم بالعلم والعمل، يبني السدود، وينشئ المستشفيات العامة، ويدافع عن حقوق الناس، هم أهل الخبرة في مقابل أهل الثقة. ولما كانت الجماهير تئنُّ من ضنك العيش فإنها تنظر إليهم باعتبارهم مخلصين، وتصدقهم القول، وهو الضابط في القوات المسلحة بعد أن يحال إلى الاستيداع، ويتفرغ للعمل السياسي. فالثورة من صنع الضباط الأحرار وهم ورثتها، والقادرون وحدهم على تحويل الثورة إلى دولة، يجمعون بين أهل الثقة وأهل الخبرة، يمثلون النظام في الجيش، والقدرة على الفاعلية، ويعملون في الحقل المدني بعد أن كثر كلام السياسيين، وقل الفعل، وبما لديهم من ثقةٍ عند الناس خاصة إذا كانوا من أجيال الضباط الأحرار من أهل الثقة وإن لم يكونوا من أهل الخبرة؛ لذلك تم الحديث في عهود الثورة العربية منذ الخمسينيات خاصة في مصر والعراق عن «عسكرة المجتمع» خاصة في لحظات الأزمات الكبرى الداخلية أو الخارجية.
وهو رجل الدين، فقيه السلطان، وقد كان منذ نشأته الأولى مثقف السلطة منذ إضفاء الشرعية على مغتصب الحكم منذ الأمويين القدماء والأمويين المحدثين ضد ثورات آل البيت والخوارج والمعتزلة وفقهاء الأمة الذين نالهم السجن والتعذيب. فالفقهاء نوعان: الأول لبس الحلة، ونال المشيخة، وتنصب في دار الإفتاء، وتصدر الإعلام وسار في موكب الرؤساء،٦ يفتي بالحرب إذا حارب الرئيس: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ، ويفتي بالسلم إذا شاء رئيس آخر: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا. يفتي باشتراكية الإسلام إذا اختار الرئيس الاشتراكية «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار.» ويفتي بالرأسمالية إذا اختارها رئيس آخر بآيات التجارة وفقه النشاط الاقتصادي الحر وبتشبيه القرآن علاقة الإنسان بالله وبالآخرة على أنها تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، مثل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ؛ فقد استعمل القرآن لغة الربح والمكسب والخسارة: وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا، فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ، وتحدث عن حرية التعامل التجاري: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ، وغالبًا ما يتم ذلك بنفس الرجال وأصحاب الفتيا نظرًا لقصر عهود الرؤساء بسبب الاغتيال أو الموت وطول عمر المشايخ لما ينعمون به من رغد العيش وموفور الصحة وراحة البال. -
(٥)
ويسرع المثقف إلى السلطة يحقق فيها ذاته، فلم يكن له دورٌ بارز في مجتمعه، ولم يكن له مشروعه الفكري أو العلمي الخاص. لم يكن له أثرٌ على الحياة العامة، كان يقتصر دوره على العلم للعلم، والثقافة للثقافة، والأدب للأدب، ثم وجد في السلطة حضورًا أكثر، وأثرًا أوسع، وتحولًا مصطنعًا من النظر إلى العمل. علمه لم يساعده على الرقي الاجتماعي، فهي إذن فرصة العمر لأن يتحول من دائرة الظل إلى دائرة الضوء.
لم تكن ثقافته بطبيعتها سلطة، سلطة المثقف والعالم، كان حامل ثقافة أكثر منه مثقفًا، حامل علم أكثر منه عالمًا، ناقلًا أكثر منه مبدعًا، وسلطة الثقافة بطبيعتها إبداع في عملية التغير الاجتماعي، والصلة بين النظر والعمل، سواء كانت ثقافة الحاكم أم ثقافة المحكوم، فلجأ إلى ثقافة السلطة كي يكمل بها نقصه، نقص الممارسة والفاعلية، والخروج من دائرة المجهول إلى دائرة المعلوم، لم يكن ولاؤه للمجتمع أو للتاريخ، من أجل التغيير الاجتماعي ونقل مجتمعه من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى؛ إذ يتحقق هذا الولاء قبل اقترابه من السلطة وبعد خروجه منها، هو الولاء الدائم لحركة التاريخ وليس الولاء الوقتي للسلطة أو للمنفعة الشخصية، فيجد في الولاء للنظام السياسي القائم بديلًا عن الولاء للمجتمع وللتاريخ؛ فالعاجل أفضل من الآجل، وعصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة، والحاضر أولى من المستقبل.
لا يعرف أن السلطة الفعلية هي سلطة الثقافة وليس ثقافة السلطة، سلطة العالم وليس عالم السلطة، سلطة الفقيه وليس فقيه السلطة، تنبع سلطة الثقافة من داخلها ولا تأتي من خارجها، هي ما سماه الفلاسفة الفكرة–القوة وليس بالضرورة إرادة القوة المنفصلة عن الفكر وحتى لا تتحوَّل إلى مجرد قوةٍ عضلية؛٧ فالوحي ممكن الوقوع كما يقول محمد عبده؛ لأنه يتضمن في ذاته إمكانية تحققه، وهي سمة المثال عند فشته أيضًا، مثال واقع عن طريق التحرر، تحرر الأنا من سيطرة اللاأنا.٨ويطل مزدوج الشخصية بين الداخل والخارج، الأنا والآخر، العلم والعمل، الصدق والنفاق، الضمير والتملق، الصدق والكذب، واجهة مع النفس وواجهة مع الآخر، طرف في السر وطرف في العلن، فينشأ الخطاب المزدوج، حديث النفس وحديث المجتمع، وسرعان ما يكتشفه الناس أو تلفظه السلطة وتستبدل به غيره أكثر قدرةً على الإيهام.
ويكتنف ذلك كله حب الظهور والرغبة في الوصول، والتحول من عالم ما بين الجدران إلى عالم الاجتماعات وأجهزة الإعلام، من دور العلم إلى دور الصحافة، من الصورة الذهنية إلى الصورة المرئية، ومن قلب النظرة إلى الداخل كنظرية في الرؤية إلى قلب النظرة إلى الخارج، فلا يرى شيئًا إلا أشباحًا يتحرك وسطها، يخاطبها وهو ينكرها، ودائرة الضوء خير وسيلة للحضور من دائرة الظل، يبغي الرقي الفردي وليس التقدم الاجتماعي، الانتقالي من منصب أدنى إلى منصب أعلى، ولا يأس من المصاهرة كسبيلٍ للوصول.
ثانيًا: سلطة الثقافة
-
(١)
إذا كانت ثقافة السلطة هي ثقافة الحكم فإن سلطة الثقافة هي ثقافة المعارضة، ليست المعارضة السياسية الحزبية بل المعارضة الشعبية؛ إذ إن المعارضة السياسية الحزبية إنما تمثل أيضًا ثقافة السلطة البديلة بمنطق السلطة القائمة عن طريق مثقفي المعارضة الذين يتحوَّلون إلى مثقفي السلطة إذا ما وصلوا إلى الحكم، كلاهما مثقفو السلطة، في الحكم أو خارج الحكم، في الحكومة أو في المعارضة، اعتمادًا على مبدأ تداول السلطة، يتغير الحاكم وتبقى ثقافة الحكم.
إنما سلطة الثقافة هي التي توجه الحكم، هي الثقافة الشعبية التي تتحكم في سلوك الناس وقيمهم ومعايير سلوكهم بل وتصوراتهم للعالم، وفيها تتفاعل كل عناصر الموروث الثقافي الديني والشعبي، النصوص الدينية والأمثال العامية والحكم الشعبية ففي المجتمعات التراثية أي النامية، الثقافة ما زالت حية، ماضية حاضرة، تؤثر في سلوك الناس، لم تتم القطيعة مع موروثها بعدُ كما هو الحال في التجربة الغربية في مطلع العصور الحديثة، هي أكثر من «ولاية الفقيه» التي تستمد سلطتها من الشخص الملهم المطاع وليس من الفكر الناقد، من سلطة الإيمان وليس من نقد العقل. ولاية الفقيه سلطة رجل الدين الذي تحول إلى رجل سياسة، سلطة الفقيه الذي أصبح رئيس دولة، سلطة الرأي الذي تحول إلى سلطة المذهب، هي ثقافة غير مشخصة في مجموعة القيم والعادات والتقاليد والممارسات الشعبية بصرف النظر عن الحاكم، بل إن الحاكم يعرف ذلك، ويستعملها مثقفو السلطة خاصة رجال الدين من أجل الدعوة إلى طاعة السلطان.
وسلطة الثقافة نوعان، سلطة الحاكم وسلطة المحكوم، سلطة الحكم وسلطة المعارضة، وكلاهما مختلطان في الثقافة الشعبية، يعتمد الحكم على ثقافة، وتعتمد المعارضة أيضًا على ثقافة السلطان دون ثقافة المعارضة فضعفت وغاب أثرها، وضاع تصديقها، وأصبحت معارضة مستأنسة تمثل المعارضة باسم السلطة وتمثل السلطة باسم المعارضة.٩ -
(٢)
وتبدو سلطة الثقافة التي يفرزها الحكم في التصور الهرمي العالم، شعوريًّا أو لاشعوريًّا، موروثًا من الفلاسفة أو من الصوفية أو من التراث المصري الفرعوني القديم أو من حضارات الشرق القديم، فالعالم يتوزع بين الأدنى والأعلى في محور رأسي وليس في محور أفقي، وعلى درجات وليس على درجتين أو درجة واحدة، كلما صعدنا إلى أعلى زادت مراتب الكمال وقلَّت مراتب النقص، وكلما نزلنا إلى أسفل قلَّت مراتب الكمال وزادت مراتب النقص، فالعالم موزعٌ بين قطبين أعلى وأدنى، موجب وسالب على التراتب والتواصل، وليس على مستويين لا اتصال بينهما إلا الإنسان من حيث هو نفس أو عقل أو روح يشير إلى أعلى، وبدن أو جسم يشير إلى أسفل.
هذه التراتبية في الكون تنعكس على كل شيء وعلى المعارف الإنسانية التي إذا أتت من أعلى مثل النبوة والإلهام والحدس كانت أقرب إلى الصواب، مما لو أتت من أسفل، خاصة من الحواس الخمس الخارجية، وفي الفضائل الخلقية، الفضائل النظرية أعلى من الفضائل العملية، والحكمة أعلاها والعمل اليدوي أدناها، وفي الطبقات الاجتماعية الرئيس أعلاها، كامل الأوصاف، والمرءوسون أدناها خاصة العمال والفلاحين كما هو الحال في «المدينة الفاضلة» للفارابي، التي ما زالت مخزونًا نفسيًّا عند الناس وبنية ثقافية تقام عليها الدول الحديثة وأحد أسباب تضخم جهاز الدولة والبيروقراطية.١٠ولا يتطلَّب هذا التصوُّر الهرمي للعالم أي تغيير فهو نظام أبدي ثابت، يكفي أن يعيَه الإنسان، أن يصعد بعقله، ويسمو بروحه حتى ينال الكمال، ودون حاجةٍ إلى أعمال الجوارح كما تقترحها الشريعة، شريعة القلب أعمق وأسرع من شريعة البدن، لا يحتاج الإنسان إلا أن يعود إلى الوراء بذهنه متراجعًا، إذا كان صدره ووجهه إلى الأمام فإنه يعود القهقرى إلى منشئه الأول وظهره إلى الخلف راجعًا إلى الوراء وليس «خلفًا در» وتغيير الاتجاه بالفعل والسير إلى الأمام عودًا إلى المصدر الأول واجتهادًا بالفعل عن طريق العمل الصالح والسيطرة على الانفعالات ومواجهة النفس والحرص على صفاء السريرة ونقاء الضمير.
فإذا كانت المراتب على درجتين فقط ينشأ التصور الثنائي للعالم كما هو الحال في نظرية الخلق وقسمة للعالم إلى خالق ومخلوق، علة ومعلول، محرك ومتحرك، صورة ومادة، فعل وانفعال، جوهر وعرض، كيف وكم، تخلخل وتكاثف، خلاء وملاء. وتنعكس هذه الثنائية في الإنسان، نفس وبدن، عقل وحس. وفي المعرفة حق وباطل، صدق وكذب، صواب وخطأ، يقين وشك، وفي الأخلاق فضيلة ورذيلة، حسن وقبيح، حلال وحرام، وفي العلاقات الاجتماعية ذكر وأنثى، رئيس ومرءوس، ملك ورعية، حاكم ومحكوم، قوي وضعيف، إمام ومأموم. وهو ما زال التصور الشعبي السائد وأحد أسباب تحوُّل العلاقات بين الذوات إلى علاقة السيد بالعبد.١١ -
(٣)
وفي المعرفة، تهبط الحقائق وحيًا أو إلهامًا، كالمعرفة الربانية، والعلم اللدني، معرفة مطلقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ثابتة لا تتغير لا تأويل فيها، تُفهم حرفيًّا، فالنقل أساس العقل، النقل يقين والعقل هوى وظن وشك، وتقبل توجهاتها لا اعتراض عليها، بها مصلحة البشر، ومن عصى يكون له أشد العذاب ومن أطاع يكون له حسن الثواب.
وتحتوي هذه المعارف على حقائق قائمة بذاتها، مقياس صدقها في مصدرها وفي الإيمان بها والإخلاص لها، هي غاية في ذاتها وليست بالضرورة وسيلة لغاية أخرى، الوحي والنبوة حقائق في ذاتها من الحقيقة الأولى، والعقيدة حق ويقين وليست مجرد بواعث على العمل الصالح. والشريعة عبادات ومعاملات، تطبيق للأوامر الإلهية وليست بالضرورة تحقيقًا للمصالح العامة، والدين حقيقة في ذاته وليس وسيلة لإسعاد البشر.
وفي العصور المتأخرة تداخَلَتْ مع الخرافة والسحر والطلسمات في الثقافة الشعبية، فلم يعُدْ هناك فرقٌ بين الصوفي والمشعوذ، بين الرباني والدجال، بين العالم والجاهل، مما دفع البعض إلى إنكارها والدعوة إلى العقل الخالص، والقول البرهاني. فالحكمة كما يقول ابن رشد هي «النظر في طبيعة الموجودات كما تقتضي به طبيعة البرهان.»
فإذا ما تكلست هذه الحقيقة في التاريخ وتحجرت أصبحت من المقدسات بل ومن المحرمات، لا يمكن تناولها بالنقد والتحليل مع أنها من صنع التاريخ، صاغها رجال ونحن رجال، نعلمهم ولا نقلدهم. فالأشعرية هي الحق في العقيدة، والشافعية هي الحق في الشريعة، والفرقة الناجية في الجنة، وهي فرقة السلطان، والفرق الهالكة في النار وهي فرق المعارضة، فينشأ التكفير ويغيب الحوار، ويسود منطق الاستبعاد والإقصاء، والماضي خير من الحاضر، والسلف أفضل من الخلف فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، «خير القرون قرني والذي يلونه.» -
(٤)
التحول إذن من ثقافة السلطة عند المثقف السلطوي إلى سلطة الثقافة عند المثقف المعارض لا يفيد كثيرًا لأن سلطة الثقافة أيضًا ثقافة سلطوية عن طريق التاريخ، في المخزون الثقافي لا تختلف كثيرًا عن ثقافة السلطة، ثقافة الفرقة الناجية. السلطة والمعارضة تقومان على نفس المنطق، منطق السلطة، في الحكم القائم أو في المعارضة القادمة.
كيف يمكن التحوُّل إذن من ثقافة السلطة وسلطة الثقافة معًا حتى يمكن أن يتحرَّر الناس من ثقافة السلطة وسلطة الثقافة في آنٍ واحد؟ كيف يمكن إعادة بناء الثقافة الوطنية التي تصب فيها ثقافة السلطة من خلال أجهزة الإعلام أي من السلطة السياسية وسلطة الثقافة من خلال رجال الدين أي السلطة الدينية؟
كيف يتمُّ التحول من سلطة ثقافة الفرقة الناجية الأشعرية في العقائد، والشافعية في الفقه، والتصوف كعلمٍ لبواطن القلوب، والظاهرية في الأصول؟ كيف يمكن التحول من ثقافة الحاكم في السلطة أو في المعارضة إلى ثقافة المحكوم التي انزوت في التاريخ وأصبحت على هامش الوعي التاريخي «تزعم» و«تدعي» في حين أن الفرقة الناجية «تقول» و«تقرر»؟
إنما يتم ذلك عن طريق إعادة بناء الموروث الثقافي حتى يتحوَّل من سلطة الثقافة إلى تحرر الثقافة بحيث ترتكز الثقافة ليس على القمة بل على القاعدة، وليس على النص بل على الواقع، وليس على النقل بل على العقل، وهذه البدائل موجودة أيضًا في التراث القديم ولم تَعِش في المخزون النفسي إلا عند القلة التي يسهل حصارها واستبعادها واتهامها بالكفر والخروج والمروق والزندقة والإلحاد وشق عصى الطاعة على الحاكم والأمير، يستحق القتل أكثر من مرة، كفرًا في الدين، وخيانة في السياسة، فإن لم تكفِ هذه البدائل يمكن إبداع بدائل جديدة؛ فالزمن يتغير والعصور تتوالى، والاجتهاد لا يتوقف.
-
(٥)
ولما كانت العلوم الإسلامية القديمة هو المصدر الذي أفرز الثقافة الموروثة من خلال التعليم فإنه يمكن إعادة بناء هذه العلوم القديمة سواء العقلية أو النقلية أو النقلية الخالصة أو العقلية الخالصة أو العقلية الخالصة بناءً على تحديات العصر. فمن العلوم العقلية النقلية الأربعة علم الكلام، وقد أفرز نسقين، الأشعري كثقافة السلطة، والمعتزلة كسلطة الثقافة. الأول نظرية الذات والصفات والأفعال التي جسدت الوعي وصفاته خارجًا عنه وحنطته وتعبدته مما يتطلَّب استرداده داخل الوعي الفردي والجماعي من جديدٍ فيصبح موجودًا قديمًا باقيًا، قائمًا بالنفس منزهًا وواحدًا، عالمًا قادرًا حيًّا سمعيًّا بصيرًا متكلمًا مريدًا حتى يتحول الفرد وتتحول الأمة من جهلٍ إلى علم، ومن عجزٍ إلى قدرة، ومن موتٍ إلى حياة.
ويرد الاعتبار للمعتزلة، المعارضة العلنية بالفكر (المعتزلة)، والمعارضة العلنية بالسلاح (الخوارج)، والمعارضة السرية بالانتظار (الشيعة)، وإحياء التعددية الفكرية ضد حديث الفرقة الناجية، فلا تجتمع الأمة على ضلال، والكل راد والكل مردود عليه. وفي علوم الحكمة يُعاد الاختيار بين البديلين، الإشراقي (ابن سينا) وهو ثقافة السلطة إلى العقلي وهو سلطة الثقافة (ابن رشد). وفي أصول الفقه يُعاد الاختيار بين الشافعية وهي ثقافة السلطة إلى المالكية وهي سلطة الثقافة إثباتًا للمصالح. فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، والمصلحة أساس التشريع كما قال الطوفي. وفي التصوف يتم الاختيار بين تصوف الصبر والخوف والخشية والرضا والتوكل إلى تصور أكثر فاعلية يقوم على مقامات الجهاد والاعتراض ومواجهة الحاكم الظالم، والغضب لحق الله.١٢ويمكن إعادة بناء العلوم النقلية وهي أكثر العلوم أثرًا في المساجد والزوايا والمعاهد الدينية وفي الثقافة الشعبية للناس، علوم القرآن وبيان أهمية أسباب النزول والناسخ والمنسوخ أي حوامل المكان والزمان، الواقع والتطور للوحي، وعلوم الحديث والتحول من نقد السند إلى نقد المتن، من النقد الخارجي إلى النقد الداخلي، وعلوم التفسير، والانتقال من التفسير الطولي، سورة سورة وآية آية إلى التفسير العرضي أي التفسير الموضوعي، تجميع الآيات كلها حول الموضوعات طبقًا لوضع الإنسان في العالم، مع الآخرين ووسط الأشياء، وعلوم السيرة والانتقال من الشخص إلى المبدأ، ومن عبادة الأشخاص إلى الالتزام بالقضايا، وعلوم الفقه والانتقال من فقه العبادات إلى فقه المعاملات خاصَّةً في النظام الدولي في عصر العولمة والعالم ذي القطب الواحد.١٣أما العلوم العقلية الخالصة فقد استحوذ عليها الغرب في تاريخ العلوم، وجعلها جزءًا من تاريخ العلم وليس العلم إخفاء لمصادره، وأخذ النتائج دون المقدمات، والنهايات دون البدايات مما يسبب أزمة في العلم، وجعلناها نحن مقررًا جامعيًّا «تاريخ العلوم عند العرب» تقوم على أن العرب كانوا أسبق من الأوروبيين وعلى عظمة العلماء العرب دون معرفة كيف خرج العلم الرياضي والعلم الطبيعي من عقلية القومية، والتوحيد بين الوحي والعقل في العلوم الرياضية، والوحي والطبيعة في العلوم الطبيعية، والوحي والتجربة البشرية في العلوم الإنسانية.
لقد حاولنا ذلك منذ فجر النهضة العربية على نحو انتقائي، كما أعدنا المحاولة على شكل كلي بعد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧. وما زال المشروع قائمًا لم يتم؛ فتلك مهمة فريقٍ من الباحثين لعدة أجيال وعلى الأمد الطويل؛ إذ ما زال الوعي العربي يتنفس برئتين؛ الأولى قوية، ألف عام من المحافظة منذ الغزالي حتى الآن، والثانية تحررية لم تعش أكثر من أربعمائة عام، القرون الأربعة الأولى فيصاب بالاختناق. ويرى العالم بعينين: الأولى قوية معاصرة في المحافظة والحرفية، والثانية مجرد بصيص ضوء ليبرالي فيكون أقرب إلى الأعور. ويسير على ساقين؛ الأولى طويلة للغاية في الشعائرية والطقوس، والثانية قصيرة في العقلانية والبرهان فيكون أقرب إلى الأعرج. طائر بجناحين؛ الأول قوي شديد في القطع واليقين، والثاني ضعيف مترهل في الحوار والتشكك فينحرف الطائر نحو الجناح الأقوى. ولم الاستعجال حتى لا نكبو من جديدٍ بدعوى اختصار المراحل واللحاق بالزمان وتكون النتيجة العودة إلى المراحل الأولى، وضياع الزمن، وتوقُّف التاريخ؟
-
(٦)
وفي هذا التصور العام للمرحلة التاريخية الراهنة من منظورٍ كليٍّ شامل يمكن إدراك أهمية النقد الحضاري المزدوج للموروث القديم وليس للوافد الغربي الحديث فقط كالعولمة، ونظام العالم الجديد، ونهاية التاريخ، وصراع الحضارات، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والأقليات، وتلوث البيئة، والطائفية، والعنف، والنزعات العرقية الجديدة. يُضاف إلى ذلك النقد الاجتماعي لمشاكل السكان والبطالة والطفولة والشيخوخة والأمراض الاجتماعية وعلوم الحياة، والجينات، والهندسة الوراثية، بل ويعني أيضًا النقد الاجتماعي المباشر للتسلط والنظام الأبوي والتجزئة والتزلف والظلم الاجتماعي والتغريب ولامبالاة الناس.
إن المحاور الثلاثة للنقد الحضاري: المثقف العربي والسلطة، تحرير المرأة، الحداثة وما بعد الحداثة لهي تجلياتٌ لنفس الموضوع، جذور التسلُّط في الموروث القديم، علاقتنا بالغرب وفي أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش دون الوقوع في الاضطراب الزماني Anachronism، ونعيش مرحلة لسنا فيها، ونضع أنفسنا في مسار غيرنا، فنحن ما زلنا نتحول من القديم إلى الجديد، من الماضي إلى الحاضر، ومن التراث إلى المعاصرة، ولم نحقِّق بعدُ الحداثة القائمة على مثل التنوير: العقل والطبيعة، والإنسان، والحرية، والمساواة، والعدالة الاجتماعية، والتقدم؛ ومن ثم يكون نقد العقل، والحداثة، والقانون، والنظام، والنسق والتقدم وكتابة «وداعًا أيها العقل» و«ضد المنهج» نوعًا من الاضطراب الزماني في مراحل التاريخ وتداخل مسارات الحضارات، وأقرب إلى نهاية العصور الحديثة الغربية من بداياتها «قواعد لهداية الذهن»، «مقال في المنهج»؛ ومن ثم كان السؤال الضروري السابق على النقد الحضاري «في أي مرحلةٍ من التاريخ نحن نعيش»؟