ثقافة المقاومة

تحية لانتفاضة الاستقلال في عامها الأول ٢٩ / ٩ / ٢٠٠٠–٢٩ / ٩ / ٢٠٠١١

في هذه اللحظة التاريخية يشعر العرب بالعجز وامتهان الكرامة والتضحية بشعب عربي بأكمله، نسائه وأطفاله وشيوخه وشبابه، ويكاد يضيع ما تبقَّى من فلسطين ٢٢٪ أمام عيونهم كما ضاع الباقي ٧٨٪ في ١٩٤٨؛ وبالتالي تضيع فلسطين كلها في قلب العالم الإسلامي وفي عاصمتها القدس، والحرم الشريف، كما ضاعت الأندلس منذ أكثر من ستة قرون بسقوط غرناطة آخر مدنها. كان الغزو للأندلس من الشمال، من الغرب المسيحي ضد المسلمين واليهود في الجنوب، والآن الغزو في فلسطين من الغرب المسيحي اليهودي ضد المسلمين. عاش اليهود في حماية المسلمين في الأندلس، وها هم يعيشون في حماية الغرب الصليبي في فلسطين، والمسلمون خاسرون في الحالتين، في الماضي والحاضر. لا يعني ذلك أن ما يقع في فلسطين حرب دينية بل يعني أن الصهيونية هي إحدى الأيديولوجيات الاستعمارية وريثة القرن التاسع عشر، جمعت بين الاحتلال الاستيطاني والعنصرية والرومانسية والعودة إلى الأرحام، وأن فلسطين آخر بقعةٍ من الاستعمار الغربي الحديث، وأن المقاومة الفلسطينية هي حركة تحرُّر وطني، وأن انتفاضة الاستقلال هي آخر مرحلةٍ من مراحلِ الثورة الفلسطينية ضد الاستعمار الاستيطاني بعد أن تحرَّرت جنوب أفريقيا، المرحلة قبل الأخيرة، وقبل أن تبدأ معركة سبتة ومليلة في المغرب، وكشمير عند جموع المسلمين.

ماذا يفعل المفكر العربي؟ هل تُصيبه حالة العجز العام وامتهان الكرامة التي تُصيب الجميع، حاكمًا ومحكومًا أم أنه يحاول أن يقاوم، ويبرز فكر المقاومة، وفلسفة المقاومة، و«لاهوت» المقاومة؟ ألَا يستطيع أن يقاوم بسلاحه، الفكر إن عزَّت عليه المقاومة بالسلاح الفعلي؟ يستطيع المفكر مع المقاومة أن يكون هذا البصيص من الضوء في ظلام السكوت الرهيب الذي يبدو عن بعد، الرأي العام العربي، والشهداء، وصياح أين العرب؟ والمفكر بطبيعته يشعر بأن العالم بين يديه، وبأنه يستطيع تحقيق مدنيته الفاضلة، ملكوت السموات في الأرض، لا فرق بين الحلم والواقع، بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، ألم يرد في تراثنا أن العلماء ورثة الأنبياء؟

يستطيع المفكر العربي أن يؤصِّل فلسفةً للمقاومة في اتجاهين محاولًا الإجابة على سؤالين:

  • الأول: ما هي أسباب السكون الحالي في الوطن العربي، حكامًا ومحكومين، الذي يدهش الصديق قبل العدو مما جعل الوقوف إلى جانب المقاومة الفلسطينية محدودًا داخل الوطن العربي وعند أصدقائهم التقليديين في دول عدم الانحياز وفي المعسكر الشرقي القديم، وفي أوروبا الغربية، وانحياز أمريكا الكلي للكيان الصهيوني؟
  • والثاني: هل غاب مفهوم المقاومة في ثقافتنا الموروثة، وإذا حضر ففي أي جانب منها؟ وهل يمكن إعادة بناء الثقافة الوطنية بحيث ترتكز على المقاومة بدلًا من الاستسلام للقاهر الداخلي أو العدو الخارجي، وتنشط الحركات الشعبية وتجند الجماهير؟

وللإجابة على السؤال الأول يمكن التعرف على أسباب العجز العربي حتى يمكن معالجتها؛ فالتشخيص يأتي قبل العلاج في الاحتمالات الآتية دون أن يكون لأحدها الأولوية على الآخر بل قد تتضافر جميعها لخلق هذه الحالة من السكون العربي.

أولًا: لماذا العجز العربي؟

  • (١)

    هل عند النُّظم العربية عقدة ١٩٤٨، هزيمة الجيوش العربية وضياع نصف فلسطين، تمنعها من الوقوف بجانب انتفاضة الاستقلال ٢٠٠٠ حتى لا يضيع النصف الآخر؟ هل لدى العرب عقدة الحروب العربية الإسرائيلية بعد ١٩٤٨، العدوان الثلاثي في ١٩٥٦ ثم الطامة الكبرى في ١٩٦٧؟ ولماذا لم تستطع حرب الاستنزاف ١٩٦٩-١٩٧٠ وكذلك حرب أكتوبر ١٩٧٣ وانتصار المقاومة في جنوب لبنان حل عقدة التفوُّق العسكري للعدو الصهيوني؟ هل تغيَّرَتْ موازين القوى الدولية بعد نهاية عصر الاستقطاب ولم يَعُد للعرب حليفهم التقليدي كالاتحاد السوفيتي ودول عدم الانحياز ومعسكر العالم الثالث وانحياز أمريكا التقليدي كليةً إلى الكيان الصهيوني، وكما وضح في اجتماع مجلس الأمن الأخير الذي لم يستطع إصدار قرار ولا حتى بيان لتأييد الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني وفي انسحاب أمريكا وإسرائيل من مؤتمر مكافحة العنصرية في دوربان؟

    لقد دخلت الجيوش العربية الحرب في ١٩٤٨ وقبل أن تبلغ القومية العربية ذروتها في الخمسينيات والستينيات، وكان من نتائجها الثورات العربية في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات مثل الثورة المصرية ١٩٥٢، والتي كانت من أسبابها هزيمة الجيش في فلسطين وجريمة الأسلحة الفاسدة، فهل هناك إمكانية لثورات عربية أخرى بعد نصف قرنٍ كرد فعل على هذا الصمت العربي وعجز العرب عن الوقوف بجوار المقاومة الفلسطينية بالقول لا بالفعل، وبالسلاح لا بالبيان، وبالبيان لا بالنداء؟

    لقد دخل العرب الحرب في ١٩٤٨ نجدةً لإخوتهم في فلسطين قبل النظم الثورية العربية، وانهزموا وضاعت نصف فلسطين، وربما لن يدخل العرب الحرب عام ٢٠٠١ ويضيع النصف الآخر من فلسطين، ويُهزمون أيضًا تاريخيًّا دون حرب أو قتال؛ فالعرب خاسرون في حالة الحرب وفي حالة العجز، في الإقدام وفي الإحجام إلا أن تظهر إبداعات جديدة للمقاومة بين حرب الجيوش النظامية والمقاومة الشعبية الوحيدة الصامدة بمفردها.

  • (٢)

    هل حصار نظم الحكم العربية بين الضغوط الخارجية، أمريكا وإسرائيل والضغوط الداخلية، الشعوب والرأي العام، هو المسئول عن حالة العجز العربي؟ لقد ارتبطَتْ مصالحها بالخارج بالاعتماد شبه الكامل على القوات الأمريكية التي ما زالت رابضةً بالخليج وعلى المعونة الأمريكية لمصر والأردن وعلى التسليح الأمريكي والاستثمار الأمريكي وطبقة رجال الأعمال في الداخل، ونمط الحياة الأمريكي والثقافة الأمريكية عبر قنوات الفضاء. ولما كانت نظمًا في مجموعها لا تستمد شرعيتها من انتخابات حرة ونظم ديمقراطية سليمة فإنها تجد في التأييد الأمريكي في الخارج تعويضًا عمَّا ينقصها من شرعيةٍ دستوريةٍ في الداخل.

    وبعض الأنظمة العربية، وفي مقدمتها الشقيقة الكبرى، ودولة من دول الطوق عقدت معاهدات سلام بينها وبين الكيان الصهيوني مما يقيدها بالقوانين الدولية وبالمعاهدات التجارية وكما بدا في قرارات مؤتمرات القمة العربية ووزراء الخارجية الأخيرة، واستثناء مصر والأردن منها.

    وفي الطرف الآخر يضغط الرأي العام العربي، وتتحرَّك التنظيمات الشعبية وأحزاب المعارضة إسلامية وقومية، والتي ما زالت تحنُّ إلى الخمسينيات والستينيات والتي بلغت فيها حركات التحرر الوطني والقومي مداها. والنظم العربية ما زالت في معظمها ترث شرعيتها من هذين العقدين من الزمان، ملكية كانت أم عسكرية، قريش كانت أو الجيش، فكيف تكوِّن هذه النظم الجيل الثاني من حركات التحرر الوطني وهي تترك آخر حركة منها وحيدة معزولة، شعبًا أعزل يقاوم بأطفاله ونسائه وشيوخه جيشًا من أعتى جيوش العالم؟ وإذا استمرَّتْ حالة العجز على ما هي عليه قد تتفجر الهبات الشعبية في كل أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي كما حدث الأمر في بداية الانتفاضة ومحاولة قمعها بالحديد والنار.

  • (٣)

    هل تعوَّد العرب في نصف القرن الأخير، عصر الثورة العربية، على الصمت نظرًا لغياب الأحزاب السياسية الشعبية القادرة على تحريك الجماهير؟ كانت حركة الشارع العربي في الأربعينيات نشطةً ومؤثرة، الحركة الوطنية في مصر وسوريا ولبنان والمغرب العربي، وضُربت دمشق بالقنابل في ١٩٤٥، واغتيل حسن البنا في ١٩٤٩.

    جاءت الثورات العربية عن طرق الجيوش الوطنية التي كان ضباطها الأحرار روافد في الحركات الوطنية، الإسلامية كالإخوان المسلمين أو الماركسية كحدتو أو مصر الفتاة أو التيار الوطني الشعبي التلقائي وريث ثورة ١٩١٩. وبعد أزمة مارس ١٩٥٤ انفردَت الثورة المصرية بالحكم بعد حلِّ الأحزاب في ١٩٥٣ وتنظيمِ الإخوان في ١٩٥٤، واستقرَّت بعد تأميم القناة في ١٩٥٦. وثق الناس بعبد الناصر وسلموه قيادة العمل الوطني عن طريق التأييد الشعبي المباشر والخطاب السياسي للجماهير، وتوالت الأحداث تباعًا: الوحدة مع سوريا في ١٩٥٨، قوانين يوليو الاشتراكية في ١٩٦٢-١٩٦٣، مقاومة الحلف الإسلامي في ١٩٦٥، حرب الاستنزاف في ١٩٦٩–١٩٧٠، وقامت الثورة العراقية في ١٩٥٨، واليمنية في ١٩٦٤، والليبية في ١٩٦٩، وتحول عبد الناصر إلى رمزٍ لحركات الاستقلال الوطني، وبطل للقومية العربية، وأحد زعماء العالم الثالث ودول عدم الانحياز منذ باندونج ١٩٠٥ حتى بلجراد ١٩٦٤.

    ولما كان من الصعب خلق تنظيم شعبي بديل بعد حل الأحزاب والجماعات السياسية التي كانت موجودة قبل ١٩٥٢، والتي تكون فيها الضباط الأحرار، ولم تستطع هيئة التحرير ولا الاتحاد القومي ولا الاتحاد الاشتراكي العربي تجنيد الجماهير عن اختيار حر واقتناع سياسي، بدأت الجماهير في إدارة ظهرها إلى التنظيمات السياسية للثورة وهي تولي قائدها ثقتها المباشرة كما ظهرت وهي تودعه بالملايين إلى مثواه الأخير.

    وبعد أن انقلبت الثورة على نفسها من داخلها وبنفس رجالها في ١٥ مايو ١٩٧٠ لم تهب الجماهير دفاعًا عن مكتسباتها، لا الفلاحون عن الأراضي التي وزعت عليهم، ولا العمال على المصانع التي شاركوا في إدارتها، ولا الطلاب عن جامعاتهم الوطنية ضد الجامعات الخاصة، ولا تحالف قوى الشعب العامل عن سيطرة طبقة رجال الأعمال على السياسة والمال.

  • (٤)

    وبعد ما يقرب من نصف قرنٍ على الثورة المصرية خرج الجيل الأول عليها في مظاهرات ميدان التحرير في ١٩٧١–١٩٧٢، وتضامنت مع الأجيال قبل ١٩٥٢ في معارضة زيارة القدس في نوفمبر ١٩٧٧ بعد مظاهرات يناير في ١٩٧٧، ومعاهدة كامب ديفيد في ١٩٧٨، واتفاقية السلام في ١٩٧٩، وقرارات سبتمبر ١٩٨٠ والتي أدَّت إلى تصفية رأس النظام في أكتوبر ١٩٨٠، وخرج جيل ثانٍ متضامن مع الأول في مظاهرات عارمة ضد العدوان الأمريكي على شعب العراق في ١٩٩١ ثم في عام ١٩٩٨. وما زال الجيل الثالث، جيل الصلح، يرفض التطبيع، ويتضامن مع انتفاضة الاستقلال في الجامعات أثناء العام الدراسي، وما زالت النقابات والاتحادات والجمعيات والتنظيمات الأهلية تمثل الخيط الرفيع الذي يدل على حيوية الشعب، ويشير إلى حركة الجماهير.

    يظل السبب الرئيسي في سكون الجماهير استبعادها من المشاركة السياسية على مدى نصف قرن، عمر الثورة المصرية، باستثناء الهبات الشعبية مثل حركة الطلاب في مارس ١٩٦٨ ضد أحكام الطيران، ومظاهرات الطلاب في ميدان التحرير في ١٩٧٠–١٩٧٢، ضد احتلال سيناء والأراضي العربية، ويناير ١٩٧٧ ضد غلاء الأسعار، ويناير ١٩٩١ ضد العدوان على العراق. لم تنشأ أحزاب تلقائية شعبية مثل حزب الوفد أو التنظيمات الشيوعية العديدة أو جماعة مثل الإخوان المسلمين ينتسب إليها الناس طواعية، يؤمنون بها، وينشطون من خلالها.

    وما زالت جماعات حقوق الإنسان والمرأة والمجتمع المدني محدودة الأثر، نخبوية تدافع عن نفسها ضد تشويه صورتها بأنها غربية التوجه في المفاهيم والدعم المالي، ما زالت مطاردة وملاحقة من أنظمة الحكم؛ ومن ثم تختفي هذه الهبات والانتفاضات والجماعات النشطة في بحر العزوف عن العمل السياسي في نصف القرن الأخير.

  • (٥)

    قد يكون غياب الخيال السياسي عند القادة العرب أحد أسباب العجز العربي؛ فالطريق ليس مسدودًا تمامًا، عندما كان عبد الناصر يُفاوض أوجين بلاك رئيس البنك الدولي لبحث تمويل مشروع السد العالي، واشترط مدير البنك أن تدخل مصر في حلف بغداد، رأى عبد الناصر أمامه صورة دليسبس الذي كان يفاوض إسماعيل على حفر القناة، وجاءته فكرة التأميم، وقد أتَت النظم العربية فرص عديدة كي تتم فيها اليقظة، ويبدع فيها الخيال السياسي مثل غزو جنوب لبنان وحصار بيروت، ضرب المفاعل النووي العراقي، اغتيال أبي جهاد في تونس، خطف الطائرة المصرية فوق قبرص، التدعيم الأمريكي الكامل للكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، ولكن نقص الخيال السياسي لم يحول هذه الأعراض السياسية إلى مبادرات تاريخية تستطيع إخراج العرب من هذه الحالة من العجز التام. وفي حالات الخوف يقل الخيال.

  • (٦)

    لقد تقبَّل العرب في تاريخهم الحديث عدة إهاناتٍ متكررة مثل حصار العراق واستمراره أكثر من عشر سنواتٍ بعد حرب الخليج الثانية بلا مبرر، واستمرار الغارات والقصف اليومي، وقبول العرب الحصار دون أن يتجرَّأ نظام عربي على خرقه حتى يتحول الوطن العربي إلى عراق كبير تُحاصَر أجواؤه وبحوره ومحيطاته وسواحله، والغرض من ذلك كله تدمير العراق عسكريًّا وتشتيت القوى العربية، وإضعاف الجبهة الشمالية بعد محاصرة إيران حتى يتم تصفية القضية الفلسطينية، ويتم حصار ليبيا قبل أن تدان أخذًا بالشبهات، وقبول العرب الحصار دون أن يجرؤ أحد قادة العرب على خَرْقه في حين استطاع بعض القادة الأفارقة ذلك مما جعل ليبيا تتحوَّل من قلعةٍ للقومية العربية إلى زعيمة للتكتل العربي الأفريقي، وتحويل منظمة الوحدة العربية إلى الاتحاد العربي الأفريقي. ويتم تهديد السودان ومساعدة المتمردين في الجنوب وضربه بدعوى امتلاكه مصنعًا للأسلحة الكيماوية من أجل فصل الجنوب عن الشمال. أصبحت أمريكا متحكمةً عن بعد في الفضاء العربي، وقبل العرب ذلك، وتحول إلى جزءٍ مألوفٍ من حياتهم اليومية يتعوَّدون عليه يومًا وراء يوم. أصبح العرب سجناء داخل أوطانهم لا يتحرَّكون فيه إلا بإذنٍ من الأمم المتحدة التي تخضع للولايات المتحدة الأمريكية.

  • (٧)

    أما الحركات الإسلامية المعاصرة خارج فلسطين فإنها عادت بقوة بعد أن أخرجها النظام السياسي من السجون في السبعينيات لتصفية الناصرية، ثم انقلبت عليه بعد اتفاقيات الصلح مع الكيان الصهيوني، وما زالت تريد الانتقام من كل الحركات العلمانية الناصرية والقومية والماركسية التي استبعدتها في الخمسينيات والستينيات من العمل السياسي بعد أن كانت بؤرة الحركة الوطنية ومصدرها. هدفها الأول تصفية النظم السياسية في الداخل قبل التوجه نحو الخارج تحت تأثير فتوى ابن تيمية بتكفير من لا يحكم بشريعة الله. ما زالت هي القادرة على تحريك الجماهير والنزول إلى الشارع وتنظيم المظاهرات ضد العدوان الأمريكي على شعب العراق ولصالح المقاومة الفلسطينية. أما في فلسطين فإنها توحدت في ميدان القتال مع باقي الحركات الإسلامية والوطنية والقومية والماركسية في مواجهة الاحتلال الاستيطاني، لا فرق بين حماس والجهاد والديمقراطية والشعبية والعرب الأفغان.

    ما زالت خارج فلسطين مقاومتها في الداخل، ضد النظم السياسية القائمة شعاراتها وتنظيماتها ومظاهراتها لصالح المقاومة الفلسطينية «الحاكمية لله»، «الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل»، «تطبيق الشريعة الإسلامية» كلها موجهة إلى الداخل أكثر منها إلى الخارج، وإذا كان منها في الخارج فإنه يتعلَّق بالداخل مثل «خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود.» «إن الأقصى قد نادانا، من سيُعيد القدس سوانا.» ليس منها شعار «تحرير الأرض»، «إزالة آثار العدوان»، «التحرر الوطني»، «الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني»؛ لأنها شعارات علمانية، وتحقق مضمونها الشعارات الإسلامية الأولى.

  • (٨)

    وربما كان لحربي الخليج الأولى والثانية أثرٌ على زهد الناس في السياسة وعدم تحمسهم للعمل السياسي؛ فقد وقعت حرب الخليج الأولى بطعن الثورة الإسلامية في إيران في الظهر بعد عامها الأول وهي في ذروة تحدي الاستكبار الأمريكي، وبإيحاء من الولايات المتحدة حتى تتخلص من الثورتين معًا، الثورة الإسلامية في إيران والقومية العربية في العراق، وإيقاع تناقض بينهما وتحت ذريعة تصدير الثورة الإسلامية أو تحرير عربستان. كانت الثورة الإسلامية في إيران ظهير الثورة العربية ونصيرًا لها. وفي حرب الخليج الثانية جاءت الضربة للكويت من العراق وليس من إيران، من الشمال وليس من الشرق، من القومية العربية ودُعاتها وليست من الثورة الإسلامية وأئمتها، أراد العراق أن يملأ دور مصر الذي بدأ في الغياب، وأراد حاكم العراق أن يقوم بدور عبد الناصر بعد اختفائه دفاعًا عن الثورة الفلسطينية أثناء مذبحة سبتمبر (أيلول) ١٩٧٠.

    وتوالت مآسي العرب، الحرب الأهلية في لبنان ثم في الجزائر والصومال، وانشغال المغرب بقضية الصحراء، وتونس بالجماعات الإسلامية ونشاطها، وليبيا بأفريقيا، والسودان بالجنوب، والأردن بجماعات المعارضة، واليمن بالمحافظة على الوحدة، والبحرين بالتحوُّل الديمقراطي، وقطر بالبحث عن دور، والكويت بالأسرى، وفي عصر العولمة الذي يتجمع فيه العالم كقرية واحدة يتفكك العرب، ويتشرذمون بين عرب وبربر وأكراد، سنة وشيعة، دروز وعلويين، نجد والحجاز، شمال وجنوب، ومسلمين وأقباط.

  • (٩)

    وربما أدَّت سياسة الانفتاح الاقتصادي وتخلي الدولة عن دورها في التخطيط الاقتصادي ودعم المواد الأولية والإسكان للطبقات المحرومة إلى ازدياد درجة الفقر واتساع رقعة الفقراء. مما دفع كل مواطن للسعي وراء لقمة العيش، وجرى الشباب وراء الوظيفة والاستقرار الاجتماعي، تلهيهم عن أحوالهم البرامج الدينية، وانتشار الإعلام الديني وكتب الجنة والنار، وعالم الجنة والملائكة، تعويضًا لهم عن مآسي الدنيا، وذاعت المسلسلات التلفزيونية، وجلس المواطن بالساعات كل يومٍ أمام الشاشة الصغيرة، ينتقل من مسلسل إلى آخر ليعرف الخاتمة، نهاية النصاب والمحتال والمخادع والمنحل والمهرب وتاجر المخدرات. وانتشرت مباريات كرة القدم المحلية والإقليمية والدولية لحرب الأندية والفرق القومية، وكأنها حربٌ بين معسكرات أيديولوجية وحروب استقلال وطني يشارك فيها الجماهير في الساحات الرياضية مع اللاعبين أو ضدهم فتتحول إلى ساحات حرب، يسقط فيها الشهداء، وانتشرت مقاهي «الشيشة» للرجال والنساء، وعمَّت الفنادق الكبرى في مداخلها، وأصبحت قاسمًا مشتركًا في معظم الأفلام، بل انتشرت ديانات الشباب الجديدة، المخدرات، وعبادة الشيطان، والشذوذ الجنسي، وجماعات اللهو والجريمة المنظمة، فمن من هؤلاء يتحول من الأسى والحسرة على فلسطين إلى العمل والمقاومة في فلسطين؟

  • (١٠)

    ربما تعوَّد الناس على أخبار الانتفاضة كل يوم، الأولى في ١٩٨٧ والثانية منذ ٢٩ سبتمبر ٢٠٠٠، وأصبحت جزءًا عاديًّا من أخبار اليوم مثل مقدونيا وأيرلندا والشيشان وكوسوفو، وقبلها البوسنة والهرسك، وما زالت أخبار المذابح في الجزائر مستمرةً كل يوم بالعشرات، لم يعد فيها شيء غريب يستدعي الانتباه، ولا يحرك سقوط الشهداء يوميًّا معرفة جديدة إلا من قسوة العدو ووحشيته وبسالة المقاومة وشجاعتها، وهو الاعتراف بالحق، والتعاطف مع المظلوم، وهو أضعف الإيمان، وأحيانًا لا تكون أخبار الانتفاضة في مقدمة النشرة الإخبارية اليومية، بل تأتي بعد مقابلات الرؤساء وأسفارهم، أقوالهم وتصريحاتهم، زياراتهم وحواراتهم مع المؤسسات المالية والاقتصادية، ثم تأتي أخبار الانتفاضة كأحداثٍ يوميةٍ دون تحليلٍ أو تعليقٍ وفي مدةٍ قصيرةٍ تقل عن الأخبار المحلية، أخبار الرياضة والنشرة الجوية، بل إن القنوات الفضائية الأخرى، قناة الجزيرة وغيرها، بالرغم من تغطية الانتفاضة إلا أن أثرها إخباري خالص لا يتجاوز حد التقارير الإخبارية من المراسلين والتعليقات من المختصين وتصريحات المسئولين حتى تتفرد على باقي القنوات بالسبق الإعلامي، وفنية التغطية، والمهارة الإعلامية، وبعض النداءات بالتبرع، وفتاوى صحة الاستشهاد.

ثانيًا: هل هناك ثقافةٌ للمقاومة في تراثنا القديم؟

للإجابة على السؤال الثاني: هل هناك ثقافة للمقاومة في تراثنا القديم؟ وأين عاشت؟ ولماذا لم تترسَّب في وعينا الثقافي؟ وهل يمكن إعادة بناء الثقافة الوطنية بحيث تكون وعاء نظريًّا للمقاومة؟ يمكن الإجابة على هذا السؤال المركب على النحو الآتي، وإن صمود المثقفين لا يقلُّ أهميةً عن صمود المقاتلين:

  • (١)

    جاء الإسلام كي يحدث ثورةً في حياة العرب، ثورة المستضعفين، الفقراء والعبيد، ضد المستكبرين، والأغنياء والسادة، داعيًا إلى الحرية والمساواة، وأسس نظامًا يقوم على البيعة العامة واختيار الناس لإمامهم؛ فالإمامة عقد وبيعة واختيار، كانت خطبة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة نموذج العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وظل الأمر شورى بين المسلمين، فإذا ما ظلم الحاكم فهناك طرق للخروج على الحاكم الظالم، ابتداءً من النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واللجوء إلى قاضي القضاة، ثم الخروج عليه كإجراء أخير. كانت المقاومة في الداخل، رقابة على الحكام من أجل تقويم اعوجاجهم ولو بالسيوف، ثم كان الفتح في الخارج في لحظة تاريخية والقوتان في الغرب والشرق، الرومان والفرس، على وشك الانهيار، فبرزت القوة التاريخية الثالثة في الوسط كي ترث الروم والفرس وتؤسِّس نظامًا عالميًّا جديدًا للتوحيد بين الشعوب والمساواة بينها، وهو ما تكرر من جديدٍ في الخمسينيات والستينيات أثناء حركات التحرر الوطني إبان الحرب الباردة.

  • (٢)

    ولما أخذ الأمويون الحكم عنوة، بعصا معاوية وجزرته، واستعصى على المعارضة الشرعية مواجهته انقسمت إلى أربعة اتجاهات؛ الأول: المعارضة العلنية بالسلاح كما فعل أئمة آل البيت، فأعظم شهادة قول الحق في وجه إمامٍ ظالم، وتكوين جماعاتٍ مسلحة خارج المدن تنقض عليها من الخارج إلى الداخل، ومن الصحراء إلى الأسواق، لا فرق بين رجلٍ وامرأةٍ وشيخٍ وطفل؛ فالأطفال على دين آبائهم، وهؤلاء هم الخوارج.

    والثاني: المعارضة العلنية في الداخل عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الحسبة وهي الوظيفة الرئيسية للحكومة الإسلامية، النصيحة في الدين، ورفع الأمر إلى قاضي القضاة إذا ما خرق الإمام شروط العقد، صالح الأعداء، وتهاون في تقوية الثغور، و«الذب عن البيضة» بتعبير القدماء، وهم المعتزلة.

    والثالث: حركة سرية في الداخل لتقوية الروح، وتكوين جماعة متآلفة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيما بينها، تتعلَّم ثقافة العصر، وتعمل على إعلاء الروح، وتنتظر اليوم الموعود الذي يظهر فيه إمام الزمان ليقودَ الثورة، وتتحوَّل الجماعة من السر إلى العلن، ويملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جورًا، وهم الشيعة.

    والرابع: معارضة سلبية فردية عن طريق الصمت أو الحديث رمزًا وألغازًا، تدعو إلى ترك الدنيا بمن فيها على من فيها، والزهد في العالم الذي يرغب الناس المزيد منه، فلا يُعرف الله إلا ببطن جائع وبدن عارٍ، إن استعصى صلاح العالم الخارجي فعلى الأقل الإبقاء على طهارة العالم الداخلي، إن استحالت المقاومة في الخارج فعلى الأقل تستمر المقاومة في الداخل، مقاومة أهواء النفس، والصمود أمام تيار البذخ والترف، فالسلطة ليست في البدن بل في الروح، والسلطان ليس هو القابع في القصر بل هو القابع داخل النفس، وهم الصوفية. وهو ما تكرر في تاريخ العرب المعاصر، أخذت الجماعات الإسلامية المسلحة طريق الخوارج، وآثرت أحزاب المعارضة الشريعة طريق المعتزلة، واستأنفت الثورة الإسلامية في إيران طريق المهدي المنتظر، وفضلت جماهير الأمة، طريق الصوفية، طريق العجز والهوان.

    وبرز في العقائد نسقان؛ نسق أشعري يدور حول الذات والصفات والأفعال أي حول التوحيد ولا شيء سواه؛ ونسق اعتزالي يدور حول أصول خمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والحسن والقبح العقليين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. واستقر النسق الأشعري في الثقافة الموروثة، التوحيد، في حين انزوى النسق الاعتزالي الذي يقرن التوحيد بالعدل، فلا توحيد بلا عدل، ولا عدل بلا توحيد، وجعل «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» أصلًا من أصول الدين كما أن الإمامة أصل أيضًا عند الشيعة، وقبلنا أن نكون موحدين في نظم سياسية تقوم على الظلم بالرغم من محاولة شعر المقاومة التحول من صفات الله إلى صفات المقاومة كما أنشد سميح القاسم:

    وكأننا عشرون مستحيل
    في اللد والرملة والجليل
  • (٣)

    وأفرز الأمويون تصورًا متعاليًا للألوهية، ونظَّر له الغزالي في «الاقتصاد في الاعتقاد»، ينقده ابن رشد ويُسميه علم الأشعرية، فالله قادر قدرة مطلقة، تتجاوز إرادته حكمته، يفعل ما يشاء، فعَّال لما يريد، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، يسمع ويُبصر ويتكلم ويريد، خالق كل شيء، ورازق كل ذي كبد، ومقدر الآجال والأرزاق والأسعار، ليس في محل، وقائم بالنفس، وترسب هذا التصور في الثقافة الشعبية، لا فرق بين تصور الله وتصور السلطان القادر أيضًا على كل شيءٍ والذي يقرر كل شيء ولا يخفى عليه شيء، ويعترف الغزالي بأن السلطان هو الذي أعانه على صياغة هذه العقائد ليدرسها في «المدرسة النظامية».

    وورثنا تصورًا آخر يربط الحق بالخلق، والله بالعالم، ويجعل الله أقرب إلينا من حبل الوريد، وهو التصوُّر الأقرب إلى الفاعلية والنشاط؛ فالله «إله السموات والأرض»، «رب السموات والأرض»، «وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله». فتحرير الأرض جزء من النشاط الإلهي في الإنسان، في مواجهة عدو صهيوني عقد حلفًا بين الله والشعب والأرض وبمقتضاه أعطى الله هذا الشعب هذه الأرض والمدينة المقدسة والمعبد والهيكل، ولا يُعبد إلا فيها في حين أن «الله» في التصور الإسلامي في كل مكان، ويُعبد في أي مكان، فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.

    لقد ثار الحلاج وقاوم الظلم وكان تصوره للألوهية يقوم على الحلول، «أنا الحق»، «ما في الجبة إلا الله»، وكانت معظم الحركات الثورية أقرب إلى الحلول منها إلى المقاومة، ولقد ربط بعض علماء تاريخ الأديان بين المقاومة والتسلط، وبين الحلول والتحرر، وكلاهما مجاز أي تصوران إنسانيان، والبعض الآخر ربط بين المفارقة والتحرر والبحث المستمر عن الأقصى والأبعد، وبين الحلول والتسلط وقبضة الروح على العالم، وبصرف النظر عن الصدق النظري، ما يهمُّ هو وظيفة التصور في الحياة العامة، التصور الذي يؤدي إلى التحرُّر ضد التسلُّط، وهو التصور الذي عليه تقوم ثقافة المقاومة والذي توارى في ثقافتنا الموروثة.

    ونشأت عن هذا التصور للألوهية عقيدة القضاء والقدر أفرزها الأمويون حتى يستتب الأمر لمعاوية؛ فالحكم الأموي قدر من الله لا يمكن الفرار منه، «وما تشاءون إلا أن يشاء الله.» «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.» وقد تحولت العقيدة إلى ثقافة شعبية وأمثال عامية يكتبها السائقون على عرباتهم والباعة في محلاتهم مثل: «العين صابتني ورب العرش نجاني.» «المكتوب ما ممنوش مهروب.» «لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع.» وليس في الإمكان أبدع مما كان، ولا يغني حذر من قدر، والمؤمن المصاب، ولك يوم يا ظالم مما يجعل الخلاص في المستقبل وليس في الحاضر، انتظارًا وليس مبادرة.

    في حين قامت تصورات أخرى على تأكيد حرية الإنسان واختياره، وأن الحرية شرط المسئولية، والمسئولية شرط الجزاء، ضياع فلسطين ليس قضاءً مقدرًا بل لأسبابٍ خارجية وداخلية، وتحرير فلسطين بمبادرة الإنسان وحركات الشعب وتنظيماته السياسية، إن المقاومة تبدأ بتغليب العوامل الداخلية على العوامل الخارجية، وبالإرادة الذاتية على الإرادة المساعدة، وبتصور الإنسان حرًّا مختارًا مسئولًا، لا الهزيمة مقدرة على العرب «لا يُغني حذر من قدر.» ولا النصر مقدرًا على الكيان الصهيوني وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُها بَيْنَ النَّاس.
  • (٤)

    ولتحديد الصلة بين الله والعالم ينشأ التصور الهرمي للعالم، كلما صعدنا إلى أعلى وصلنا إلى أعلى درجات الكمال وكلما نزلنا إلى أسفل وصلنا إلى أدنى درجات النقص، فالكمال والخلود خارج الأرض، ولا يوجد في الأرض إلا النقص والفناء. وقد أدى هذا التصوُّر إلى القبول والطاعة والاستسلام والإحساس بالدونية، فإذا أراد الإنسان الرقي فعليه الصعود إلى أعلى وليس التقدُّم إلى الأمام، التقرب إلى السلطان والسعي نحو المناصب العليا وليس المعارضة مع الشعب وتجنيد الجماهير.

    وقد ربط علماء الاجتماع والتاريخ والثقافة بين الثقافة الشرقية والاستبداد الشرقي وجعلوه مرتكزًا على الدين، وهو ما عبَّر عنه الكواكبي أيضًا في «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، لا فرق بين الله والسلطان، وصفات الله وصفات السلطان في الوظيفة الثقافية؛ لذلك كثيرًا ما تدعي السلاطين الألوهية منذ فرعون، في حين ظهرت تصورات أخرى للمعارضة الشيعية تجعل الدرجات من الماضي إلى الحاضر، ومن الخلف إلى الأمام في تاريخ النبوة منذ آدم أول الأنبياء حتى محمد آخر الأنبياء، وهو تصور أقدر على المقاومة وعلى الفعل في التاريخ، الأعلى هو الأمام والأدنى هو الخلف، «فالسابقون السابقون»، «فاستبقوا الخيرات»، «لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر»، وهو تصور لم يعش في ثقافتنا الموروثة؛ لذلك فشلت تجاربنا التنموية؛ لأنها قامت على التصور الرأسي وليست على التصور الأفقي.

    وقد يقتصر التصور الهرمي للعالم على درجتين فقط فينشأ التصور الثنائي للحياة، وقسمة العالم قسمين؛ الأعلى والأدنى، الكمال والنقص، الصورة والمادة، الجوهر والعرض، البسيط والمركب، المقدمة والنتيجة، الوسيلة والغاية، القديم والحادث، الأول والآخر، الواجب والممكن، الرجل والمرأة، الذكر والأنثى، الخير والشر، الصواب والخطأ، الحلال والحرام، الحق والباطل، النظر والعمل، الواجب والمحرم، الإيجاب والسلب، الإثبات والنفي، الوجود والعدم … إلخ، وشارك في هذه الثنائية المتكلِّمون والفلاسفة بعد أن تحوَّل الكلام إلى فلسفةٍ في العصور المتأخرة.

    يتشدَّد الإنسان مع طرفٍ ويتساهل مع الطرف الآخر، ما دام الطرف الأعلى راضيًا فليفعل الطرف الأدنى ما يشاء، تطهر من جانب، ومادية مقنعة من جانب آخر. وينتهي هذا التصور إلى نوعٍ من الازدواجية المتعادلة، ترضي الآخرة والدنيا، والروح والبدن، فيعيش الإنسان بكل قوةٍ حياة الروح وحياة البدن، وقد تنتهي الازدواجية إلى نوعٍ من النفاق، أن يعيش الإنسان حياة البدن ويتستَّر بالروح مثل راسبوتين، والراهب الفاسق، والشيخ متلوف، وهو السلوك الغالب في حياتنا اليومية.

    وتؤدي الازدواجية إلى التعاطُف مع المقاومة بالوجدان دون الإعلان أو بالقول دون العمل كما هو الحال في الصمت العربي الآن. والساكت عن الحق شيطان أخرس، في حين تقتضي ثقافة المقاومة التوحيد بين المستويين، القول والعمل، الفكر والوجدان، الداخل والخارج، من أجل توحيد شخصية المقاوم، وتوحيد طاقاته فيصبح كالسيف القادر على القطع دون أن ينكسر الحد.

  • (٥)

    كما ورثنا من التراث القديم موقف المرجئة في علاقة الإيمان بالعمل، فكل من قال «لا إله إلا الله» يكون مسلمًا بصرف النظر عن أعماله التي يتولاها الله يوم القيامة؛ فالعمل ليس جزءًا من الإيمان، تكفيه الشهادة ولو بالشفتين وحتى لو أضمر الكفر؛ فنحن لم نشق على قلوب الناس؛ لذلك سموا مرجئة، لإرجائهم العمل عن الإيمان، يفصل الله فيه يوم القيامة، فما دام الأمويون يؤدون الشهادة بل يقيمون الصلوات ويبنون المساجد تجب لهم الطاعة ولا يجوز الخروج عليهم. وربما أراد البعض حقن الدماء في عصر الفتنة وتوحيد الأمة مثل الحسن بن علي الذي رفض الانضمام إلى أيٍّ من الفريقين المتحاربين، وهو التصور الذي ساد في ثقافتنا الموروثة.

    وأفضل للمقاومة الآن جعل العمل جزءًا من الإيمان، فمن لا عمل له لا إيمان له، ومن يكتفي بالتعاطف مع المقاومة الفلسطينية يؤيدها بالدعاء بالنصر ويشجب قسوة العدو فإن إيمانه ناقص؛ ومن ثم يكون موقف الخوارج بالنسبة للمقاومة، العمل جزء لا يتجزأ من الإيمان، أفضل حتى من موقف المعتزلة الذي يعتبرونه في منزلة بين المنزلتين، منافقًا أو عاصيًا؛ ومن ثم لا يصدق اتهام بعض المستشرقين بأن العرب ظاهرة صوتية، ووصف أحد شعرائنا بأننا دخلنا الحرب بمنطق الناي والربابة التي ما قتلت ذبابة، ورؤيتنا لأنفسنا بأننا مناضلو صالونات، بضاعتنا الكلام، وأن الكلام عالم مستقل بذاته، مكتفٍ بنفسه، وأن الخطاب السياسي للحاكم هو النضال السياسي للمحكوم.

  • (٦)

    وفي الأخرويات في علم العقائد، النبوة والمعاد خارج الزمان، النبوة تاريخ البشر الممثل في قصص الأنبياء، والمعاد مستقبل البشرية الممثل في البعث والنشور والحشر، وهو تاريخ خارج العالم من الماضي إلى المستقبل، وما الحاضر إلا الممر الوهمي بين البعدين الآخرين للزمان. ما الإنسان إلا عابر سبيل في هذا العالم، هو فيه وليس منه. في حين أن التصور الآخر، أن النبوة جزء من تاريخ البشر، وأن المعاد ومستقبل البشرية والتفاؤل بالنصر قد يعطي للمقاومة أساسًا نظريًّا في التاريخ، أنها جزء من حركة التاريخ وتراكم خبراته المستمرة، وما استقر في وجداننا الثقافي هو أننا على راحلة، في سفر، عابرو سبيل منذ الفراعنة القدماء حتى الدعاة المحدثين.

    وبدلًا من أن يكون التاريخ في تصاعد حتى اكتمال النبوة ثم في انهيار تدريجي حتى نهاية الزمان، جيلًا وراء جيل، من الأفضل إلى المفضول، من النبوة إلى الخلافة حتى الملك العضود، من الصحابة إلى التابعين إلى تابعي التابعين، من السلف الطاهر إلى الخلف الذين أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات مما يبعث على التشاؤم، يكون للتاريخ تصورٌ آخر أقدر على المقاومة، تاريخ في تطور مستمر وارتقاء دائم حتى يظهر المهدي فيملأ الأرض عدلًا كما مُلِئت جورًا. ولا يقوى على الإمام الظالم في الحاضر إلا المهدي المنتظر في المستقبل، كما لا يقوى على الشيطان في الخطيئة الأولى إلا المسيح لخلاص الإنسان وفداء البشر، كما لا يقوى على الشيطان الماكر عند ديكارت إلا الفضل الإلهي. وقد حضر هذا التصور في الوجدان الثقافي للشيعة فثاروا وغاب في الوجدان الثقافي للسنة فلا انتظروا المخلص ولا ثاروا ضد الحاكم الظالم.

    ومنذ القرن الخامس الهجري أضيفت خاتمة في كتب العقائد تقليدًا للغزالي «في ما يجب تكفيره من الفرق» واضعًا داخل العقيدة سلاح التكفير؛ فالحق واحد وليس متعددًا، واحد في العقيدة، وهي الأشعرية، وواحد في الشريعة وهي الشافعية، اعتمادًا على حديثٍ ضعيف يشكك في روايته ابن حزم وهو حديث «الفرقة الناجية» الذي له صياغاتٌ عديدة بين الزيادة والنقصان، والسؤال والجواب، والعموم والخصوص، ومنها «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقةً كلها في النار إلا واحدة.» وعادةً ما تكون هذه الفرقة الناجية هي فرقة السلطة، الأموية رمزًا، والتي جمعت بين الأشعرية والشافعية، فأصبحت السلطة مقدسة، معصومة من الخطأ لا يجوز الاعتراض عليها في حين أن كل أحزاب المعارضة من الفرق الهالكة.

    في حين أن المقاومة لا تقوم إلا على مفهوم الجبهة الوطنية المتحدة و«الجمع بين الفرق» وليس «الفرق بين الفرق»، التعددية على مستوى النظر والواحدية على مستوى العمل، الحق النظري متعدد، والحق العملي واحد، وقد قامت الحركة الوطنية في فيتنام وكوبا على هذا التصور. وكانت كل مقاومات الاحتلال جبهات وطنية متحدة في فرنسا أثناء الاحتلال النازي، وفي الجزائر أثناء حرب التحرير، وهو أحد مكتسبات المقاومة الفلسطينية، ثورة الاستقلال، في نهاية عامها الأول، وفي هذه الأيام تتلقى حماس والجهاد الإسلامي العزاء في الشهيد مصطفى أبو علي، الأمين العام للجبهة الشعبية، ففي العمل يتوحد النظر.

  • (٧)

    ولقد ورثنا من علوم الحكمة القديمة أن المعرفة عطاءٌ وإشراق، وأن المعارف إلهامٌ وفيض، وأن العلوم تشرق في النفس باتصالها بالعقل الفعال خارج العالم الذي يدبر فلك القمر، والذي على أساسه تمَّت قراءة الطالع اليوم وقام علم التنجيم. فالمعارف إلهية، والحكمة ربانية، والعلوم نبوية، ولا شيء منها يأتي من تحليلات الواقع أو المجتمع أو التاريخ. فغاب التراكم التاريخي في وجداننا القومي أمام عدو قوته في ماضيه، وشرعيته في تاريخه، ومستقبله في تخطيطه منذ ثلاثة آلاف عام «العام القادم في أورشليم.» ونحن نذكر عمر بن الخطاب وصلاح الدين كماضٍ تليد، نفخر به ونعتز به، يعوضنا عما نحن فيه من مآسٍ وأحزان، كما يلجأ الحكام الذين يستندون إلى شرعية التراث إلى النداء الإعلامي للجهاد كلما زاد الإحساس بالعجز والحصار بين الضغط الداخلي والتبعية الخارجية.

    والمنطق مجرد قوانين صورية تعصم الذهن من الخطأ ولا شأن يجدل الواقع أو المجتمع أو التاريخ. والطبيعة طريق إلى ما بعد الطبيعة ودلالة عليها صعودًا من أسفل إلى أعلى، ومن النهائي إلى اللانهائي، ومن المادة إلى الصورة، والإنسان مقسم إلى قسمين، نفس تعشق الصورة، وعلى اتصال بالعقل الفعال واهب الصورة، وبدن مادي، موطن الحواس والغرائز والانفعالات، يفنى بعد الموت ويتحول إلى تراب. والمعاد روحاني خالص، صحيح أن إخوان الصفا أضافوا جزءًا عن الإنسان في المجتمع «الناموسيات الإلهية والشرعية»، وأن الفارابي جعل العلم المدني وعلم الفقه وعلم الكلام في مجموعةٍ واحدةٍ تضم العقيدة والشريعة والمجتمع، ومع ذلك تظل الحكمة في قسمتها النمطية التي أعطاها لها ابن سينا موزعةً بين المنطق والطبيعيات والإلهيات، وتغيب الإنسانيات، في حين أن ثقافة المقاومة تبدأ من الإنسان والمجتمع والأرض والدولة أي من العلوم الإنسانية والاجتماعية، والأيديولوجيات جزء منها. الإنسان بين عالمين، السماء والأرض، ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، المثال والواقع، حامل الأمانة التي رفضت السمواتُ والأرضُ أن يحملنها وحملها الإنسان.

  • (٨)

    وورثنا من التصوف المقامات والأحوال والطريق الصاعد إلى الله، فرارًا من العالم وهربًا إلى الله. وتغلغلت مقامات الصبر والتوكل والورع والزهد والرضا والقناعة في أمثلتنا العامية وثقافتنا الموروثة، وملأت الأغاني الشعبية والمواويل وسير الأبطال. في حين أن المقاومة تقوم على أن للصبر حدودًا «فما أصبرهم على النار»، وعلى التمييز بين التوكل الذي يستدعي العمل والجهد، والتواكل أو الاتكال الذي ينتظر الفرج، وعلى الغضب والتمرد والثورة والاعتراض والرفض وليس على «الإعراض عن الاعتراض»، وهو أحد تعريفات التصوف. وفرق بين الزوايا والرباط، بين القاعدين والمقاتلين.

    كما انتشرَتْ بعض أحوال الصوفية في حياتنا اليومية مثل الخوف والخشية والهيبة والفقر والسكر أكثر من أحوالٍ أخرى مثل الرجاء والأنس والصحو والوجد، وأخذت معاني حسية وليست رمزية، في علاقةٍ مع البشر وليس مع الله؛ فالخوف من الناس، والخشية من الضرر، والهيبة من الحكام، والفقد من الأعداء، والسكر من المخدرات. وتحول العالم النفسي الداخلي إلى بديلٍ عن العالم الخارجي وتعويض عنه، في كل رواية مجذوب، وفي كل فيلم ولي، قبلة الحبيب شحاذة من الله وليست استحقاقًا وطبقًا لعقلية «هاتولي حبيبي».

    في حين أن المقاومة تقوم على تحليل «حال الأمة»، وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية وليس فقط أحوال الأفراد، ويتمثَّل حال الأمة في تبعيتها أو استقلالها، قهرها أو حريتها، ظلمها أو عدلها، تجزئتها أو وحدتها، سكونها أو حركتها. المقاومة صراعٌ في المجتمع، والتاريخ يبدأ من وعي الفرد إلى وعي الجماعة، «الأنا تضع نفسها حين تقاوم.» كما قال فشته في صراعه مع احتلال نابليون لألمانيا، وقانون الهوية الأنا تساوي الأنا يسبق قانون الاختلاف، الأنا مغاير للاأنا.

    لقد أعطى الغزالي في القرن الخامس الهجري الحاكم «أيديولوجية السلطة» في «الاقتصاد في الاعتقاد»، وأعطى الجماهير «أيديولوجية الطاعة» في «إحياء علوم الدين». للأول العلم والقدرة والحياة الأبدية والسمع والبصر والكلام والإرادة، وللثاني الطاعة والصبر والورع والرضا والتوكل والخوف والخشية. وبرر شرعية الحكم بالشوكة أي بالانقلاب وليس بالبيعة، وكفر المعارضة العلنية والسرية، بالسلاح أو بالبرهان. وفضل الإمام القوي على الإمام العادل في حين أن العدل أساس الملك، وأن الكافر العادل أفضل عند الله من المؤمن الظالم. تقتضي ثقافة المقاومة فك هذا الارتباط بين أيديولوجية السلطة وأيديولوجية الطاعة من أجل الرقابة على السلطان وتثوير الجماهير، وتقتضي المقاومة التحرر من القهر الداخلي والخارجي، وثورة الناس على الحاكم الظالم في الداخل والمحتل في الخارج.

    وفي الموروث القديم طاعة الإمام جزءٌ من طاعة الله مع إساءة تأويل أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، وتُروى أحاديث مرسلة عن ضرورة قتل الخارج على طاعة الإمام. وفيها أيضًا ثقافة الثورة على الإمام، وأنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة حتى لا يستبد أحدٌ بالناس، ومن يُقاوم في الداخل يكون قادرًا على المقاومة في الخارج، وتحرير الذات أولًا يأتي قبل التحرُّر من الغير.
  • (٩)

    وقد يمنع من المقاومة التصور الحرفي للنص، ولقد عرفت حضارتنا بأنها حضارة كتاب، وأن ثقافتها ثقافة نص، وأننا في تفسيرنا عبدة الحرف، نفسِّر النص ولا عبرة بالمصالح العامة، وحتى لو نشأ من تفسيرنا الضرر نأخذ بظاهر النص دون تأويل حتى ولو وقعنا في التجسيم والتشبيه في العقائد، وفي التشدُّد والإضرار بمصالح الناس في التشريعات وكأن النص هو الغاية وحياة الناس وسيلة. أعطينا الأولوية للنص على الواقع، وللحرف على الروح، وأخرجنا النص من سياقه الداخلي والخارجي، وقد ترسبت هذه الأولوية في وجداننا الثقافي فأعطينا الأولوية أحيانًا للأيديولوجية على المقاومة، وللإطار النظري على التغيير الفعلي فأصبحت المعركة بين الأيديولوجيات المختلفة بدلًا من الصراع بين قوى المقاومة وقوى المحتل.

    تعطي ثقافة المقاومة الأولوية للواقع على النص كما هو الحال في «أسباب النزول»، الواقع يسأل والوحي يجيب، وحتى لا يكون سؤال لا يكون جواب. بل إن النص يتغير بتغيُّر الواقع، والزمان والمكان وكما هو الحال في «الناسخ والمنسوخ»؛ ومن ثم هناك حدود للمداخل «الأيديولوجية» للمقاومة. لا تهم نصوصها بل أفعال متمثليها. لا يوجد صدق نظري للنص الاجتماعي بل هناك صدق عملي، مدى تأثيره وفاعليته؛ ومن ثم تراجعت الاختلافات النصية بين فصائل المقاومة الفلسطينية لصالح الشهادة والنضال اليومي ضد الاحتلال، لا فرق بين الحركة الإسلامية حماس والجهاد، وبين الحركتين القومية والماركسية، المقاومة حركة تلقائية في التاريخ تبدأ من رفض الذات العبودية، ورفض المجتمع التسلط، ثم تدون النصوص بعد ذلك. المقاومة سابقة على النص، والنص يدون خبرة المقاومة للأجيال القادمة.

  • (١٠)

    ومما يزيد الوقوع في حرفية النصوص وأولوية الأيديولوجيات المغلقة سيادة العلوم النقلية الخمسة على ثقافتنا الشعبية، علوم القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، علوم القرآن كما حددتها الكتب القديمة مثل السيوطي والزركشي تتضمن تفصيلات عن نزول القرآن وكيفيته، والمكي والمدني، والبدوي والحضري، أول ما نزل وآخر ما نزل منه، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وبعض المبادئ اللغوية. في حين تقتضي ثقافة المقاومة تحديد الصلة وظيفيًّا بين الوحي والواقع وأنماط وطرق وآليات تغييره، وكيفية إدارة الصراع مع المشركين والمنافقين والحانثين بالعهود مثل اليهود حتى تقوم ثقافة المقاومة على منطق للجدل، ولا يوجد كتابٌ يمكن أن يُستنبط منه حكم بتحريم الصلح مع إسرائيل مثل القرآن الكريم.

    وقامت علوم الحديث على جمع الروايات؛ فإثبات صحة المتن بصحة السند. وانتشرت بعض أخبار الآحاد مما قد يكون لها أثر سلبي على المقاومة مثل حديث «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.» وشرح الجهاد الأكبر بأنه جهاد النفس. وقد نبَّه الفكر الإصلاحي المعاصر مثل المودي وحسن البنا وسيد قطب على خطورة مثل هذه الأحاديث على حركات التحرُّر الوطني. تقتضي ثقافة المقاومة تنقية الأحاديث من هذا النوع الذي قد يكون لها مردود سلبي على المقاومة وإبراز الأحاديث التي تحثُّ على المقاومة، وما أكثرها، وأشعار المقاومة وما أكثرها في أدب المقاومة. والرسول قدوة ليس فقط في السلوك الفردي، ولكن أيضًا في كيفية إدارة الصراع وكسب المعارك والانتصار على الأعداء.

    واعتمدت علوم التفسير على العلوم القديمة ونشأت عليها، فنشأ التفسير التاريخي كالطبري وابن كثير اعتمادًا على علوم التاريخ ومستواها في ذلك العصر اعتمادًا على الروايات، والتفسير اللغوي اعتمادًا على علوم اللغة مثل «إعراب القرآن» للزجاج، والتفسير الفقهي اعتمادًا على علوم الفقه مثل «أحكام القرآن» للقرطبي، والتفسير الكلامي (الاعتزالي) مثل «الكشاف» للزمخشري، والتفسير الإشاري مثل «لطائف الإشارات» للقشيري، والتفسير الإصلاحي مثل تفسير «المنار» لرشيد رضا و«في ظلال القرآن» لسيد قطب … إلخ. ولم ينشأ حتى الآن التفسير الثوري الاجتماعي الذي يصف نشأة المجتمع الإسلامي الأول وتطوره وصراعاته، التفسير الذي يضع النص في أتون الصراع الاجتماعي والسياسي، ويبين كيف كان الوحي حركة مقاومة في التاريخ، وإبراز مفاهيم الأرض والمقاومة.

    وتمَّت صياغة السيرة القديمة على نمط حياة يسوع المسيح، ولادته وحياته ومعجزاته وموته بما يثير الانتباه ويستثير الخيال ويدعو إلى الإعجاب والانبهار بعظمة الرسالة وقدر الرسول. صحيح أن المقاومة تحتاج إلى قيادةٍ بل وإلى بطولة، ولكنها تحتاج أيضًا إلى تنظيماتٍ شعبية وقواعد جماهيرية؛ ومن ثم تحتاج المقاومة إلى إعادة بناء علوم السيرة بحيث يتم التحول فيها من الشخص إلى المبدأ، ومن الرسول إلى الرسالة، ومن البطل إلى البطولة كما فعل كارلايل. فمهما سقط من نشطاء الانتفاضة وزعمائها فالانتفاضة مستمرة بجماهيرها وتنظيماتها وإبداعاتها المستمرة. وغزوات الرسول، وجدل الكم والكيف بين حنين وبدر قادرة على الصمود الفكري ضد دعوات أنصاف الحلول.

    وفي علوم الفقه القديمة ما زالت العبادات تتقدم المعاملات نظرًا لطبيعة العصر القديم وجدة العبادات وقدم المعاملات. والآن تغير العصر، وأصبحت للمعاملات الأولوية على العبادات، أولوية الجديد على القديم، والمجهول على المعلوم، وفيها إعادة النظر في عدة موضوعات قديمة بقراءة جديدة مثل الجهاد، والخروج على الحاكم الظالم، والشهادة، وفقه المظالم، وعدم جواز الصلاة في الدار المغصوبة لعدم جواز اجتماع الحسن والقبح في فعل واحد؛ فوجوب تحرر الأرض سابق على وجوب الصلاة فيها، ومعنى دار الإيمان ودار الكفر، ودار الإسلام ودار الحرب، كل ذلك من أجل صياغة ثقافةٍ شعبيةٍ فقهيةٍ جديدةٍ للمقاومة.

    إن المقاومة حقٌّ مشروع في كل ثقافة ودين، عندما يُنتزع شعب من أرضه ويخرج من دياره: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ؛ لذلك نقد القرآن الخوالف والقاعدين والمتخلفين والمتثاقلين والمتباطئين والمنافقين المعتذرين بأنه ليس لديهم ما يُقاتلون به وغير ذلك من الأعذار. والمقاومة تتبعها شهادة وتدمير ولكن العدو أيضًا يُصاب بخسارة: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.
  • (١١)

    فإذا كانت هناك كل مقومات الثورة وعناصر التمرد في الثقافة الموروثة فلماذا ارتكنت الثقافة على جوانبها السلبية دون الإيجابية؟ لماذا لم توظف ثقافة المقاومة في الوطن العربي الذي ما زال يئنُّ تحت ضغوط النظم الحاكمة ومحاصرًا بين وجدانه وسياجه، بين وجوده وحدوده، بين تمنياته وإحباطاته؟ إنها مهمة الصامدين؛ فالفكر سند للأرض، والثقافة دعامة للنضال، لا يكفي «التنوير» كحركةٍ فكريةٍ وتيار عقلاني؛ فالعقل والثورة شيء واحد كما قال ماركوز.

    السؤال الآن: من أين يأتي التحرك؟ هل هناك فعاليات جديدة؟ هل هناك جيل ثانٍ من الضباط الأحرار يتكوَّن أثناء العجز الحالي أمام العدو الصهيوني كما تكون الجيل الأول أثناء حرب فلسطين قبل ذلك بنصف قرن؟

    هل هناك إمكانية لهبات شعبية تفرض رأيها على نظم الحكم لتدرك أنها محاصرة بين المطرقة والسندان، عدو في الخارج وثورة في الداخل، وأن التحالف مع الداخل ضد الخارج أولى وأبقى من التحالف مع الخارج ضد الداخل؟

    هل هناك إمكانية ليقظة النظم العربية وإحداث تحول في الوعي الوطني والقومي كما حدث لعبد الناصر في ١٩٥٦ بتأميم قناة السويس، وكما حدث للمهلهل بن أبي ربيعة «اليوم خمر وغدًا أمر.» وكما حدث لإخناتون على مستوى الدين من التحوُّل من عبادة آمون إلى عبادة آتون؟

    ربما تكون المقاومة هو العرض التاريخي، الحدث الذي يفجر طاقات الشعوب ويصحح مسار التاريخ، الضرورة التي تستثير اختيارات الشعوب فتختار بدائل أخرى غير التي فرضتها الإرادات الخارجية وقوى التسلط الداخلي والقهر الخارجي.

    هناك مثقفو المقاومة، المفكرون الأحرار الذين يرثون الضباط الأحرار، يحاولون إقالة النهضة العربية الأولى من عزلتها لإرساء قواعد نهضة عربية ثانية لتأسيس ثورة ثقافية تواكب المقاومة وتكون قادرة على مخاطبة الرأي العام الداخلي والخارجي، فمقاومة المحتل، وحق تقرير المصير، جزء من الإعلان العالمي لحقوق الشعوب. والمقاومة الفلسطينية آخر حركةٍ من حركات التحرُّر الوطني من الاستعمار الاستيطاني بعد الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية والثورة البلشفية والثورة الإسلامية في إيران.

  • (١٢)

    إن الصراع بيننا وبين إسرائيل ليس صراعًا عسكريًّا فقط، بين شعب محتل وشعب يمارس أبشع أنواع الاستعمار الاستيطاني بل هو صراع صور ذهنية، صورة في مقابل صورة، قيمة في مواجهة قيمة، حضارة في مقابل حضارة. الصهيوني له حق الحياة والاستيطان والتفوق والعلم وليس الإنسان العربي. الموت للعرب، الأفاعي، كما يصف عباديا يوسف. الكيان الصهيوني واحة الديمقراطية في الوطن العربي وسط نظم تسلطية، وهو الذي يسيطر على وسائل العلم الحديث والتقنية وسط شعوب متخلفة ناقلة للعلم والمدنية.

    لقد خلق العدو الصهيوني لنفسه صورة القوة التي لا تقهر، والسلاح المتفوق عددًا، والجندي المقاتل، والتكنولوجيا المتقدمة، والعلم الحديث، واحة الديمقراطية، تعاطف العالم بعد أن حاولت النازية استئصالهم، السيطرة على حكومات العالم ورأس المال الدولي، الانتصارات المستمرة التي لا تتحمل خسارة واحدة، وهي مجموعة من الأساطير الحالية مثل الأساطير القديمة أرض الميعاد والميثاق.

    والآن تخلق المقاومة لنفسها صورة أطفال الحجارة الذين يواجهون أعتى جيوش العالم، والنساء والشيوخ الصامدين أمام الجند المدجج بالسلاح، والحركة الاستشهادية من شبابٍ آثر الموت في سبيل الحرية على الحياة تحت العبودية، والشعب الأعزل الذي يواجه الأسلحة الحديثة للجيش النظامي، والمقاومة بمفردها وسط صمتٍ عربي وتواطؤ دولي. وتنهار نظريات الأمن للكيان الصهيوني. وإن الاستخدام المفرط للقوة دليل ضعف وليس برهان قوة.

    إن التاريخ يتغير نوعيًّا الآن، وينتقل من مرحلة استجداء العون والتمسك بقرارات الشرعية الدولية إلى مرحلة التحرك الفعلي من خلال مقاومة الشعوب في عصرٍ كاد البشر ينسون تاريخهم النضالي الطويل تحت وهم أن العالم قرية واحدة تحت مظلة العولمة. وثقافة المقاومة هي الضمان الأول لحركة الشعوب.

١  مجلة «وجهة نظر»، أكتوبر ٢٠٠١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤