مصر تتحدث عن نفسها

قراءة سياسية١
لا يوجد وطنٌ يخاطب مواطنين كما تخاطب مصر المصريين. ولا يوجد مواطنون يخاطبون وطنهم كما يخاطب المصريون مصر، هذه العلاقة المتبادلة بين مصر والمصريين، وهذا الحوار المستمر بين المصريين ومصر هو الذي أبدع الأدب والفن والسياسة منذ «شكاوى الفلاح الفصيح» في أدب مصر القديم حتى رسالة قاسم أمين في باريس «مصر للمصريين»، شعارًا أو صنعة الأفغاني، وهو ليس مصريًّا جغرافيًّا، ولكنه أدرك هذه العلاقة فأصبح مؤسس الحركة الوطنية الحديثة ومؤسس حزبها الوطني الذي صاغ تلميذه محمد عبده برنامجه السياسي.٢

إن «مصر تتحدث عن نفسها» ليست قصيدة شعر لحافظ إبراهيم ولكنها تعبير عن أحوال مصر المعاصرة وعن وعيها التاريخي بين الماضي والحاضر، عن ذاكرتها خوفًا عليها من الفقد والضياع. وعندما يتحدَّث الوعي التاريخي فإنما ذلك نهاية لمرحلة وبداية لأخرى كما هو الحال عند أرسطو مؤرخًا لليونان، وابن رشد مؤرخًا للمسلمين، وتونينبي وشتجلر ورسل وهوسرل وبرجسون مؤرخين للوعي الأوروبي الحديث الذي شارف على الانتهاء، وربما تكون العولمة، وثورة المعلومات، وصراع الحضارات ونهاية التاريخ الآخر صيحاته التي كشفت عن بداية النهاية في التفكيك وما بعد الحداثة، مع بداية وعي جديدٍ في العالم العربي الإسلامي مركزه مصر وإيران بعد أن عزَّت المراكز الأخرى التي كان يمكن أن تكوِّن قطبًا ثانيًا في أمريكا اللاتينية من حلم جيفارا القديم ولكنها مشغولةٌ بالفقر والقهر والمخدرات، أو في أفريقيا بعد تحرُّر الجنوب ولكن الحروب الأهلية والقبلية والقتل على الهوية والفقر والتصحير والأمراض، أو في آسيا والنمور الآسيوية، ولكن التلاعب بالأسواق المالية وخرب عملتها وحصارها واعتمادها على أسواق المال العالمية جعلتها تجني ثمار اختيارها، بمزاياه وعيوبه، الاقتصاد قبل السياسة، والصناعة قبل الفكر. لم يبقَ إلا العالم العربي والإسلامي القادر بحيويته ونشاطه وتساؤلاته ونهضته ونضاله بالرغم مما يبدو عليه في الداخل والخارج من نقائص في الحرية والعدالة في الداخل والاستقلال والاعتماد على الذات، هو المرشح لإمكانية قيام قطب ثانٍ في عالم متعدد الأقطاب.

ولا تتحدد السياسة الداخلية أو الخارجية إلا بشخصية الشعوب وليس فقط بأنظمة الحكم وهناك عشر سمات في مصر والمصريين، هذه العلاقة المتبادلة بين العاشقين يمكن رصدها، وهي أشبه بالوصايا العشر التي يمكن تأسيس أنساق كاملة من الأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد والقانون والتاريخ عليها. هي مبادئ عامة، دستور غير مكتوب، وعرف شعبي، بل وشريعة إلهية جعلت مصر والمصريين باقيين على مدى التاريخ بالرغم من عواصف الدهور وغوائل الزمان.

  • (١)
    إن من بديهيات الفكر ومسلماته الأولى أن يتحد الشيء مع ذاته قبل أن يتمايز مع الآخر، وهو ما سمَّاه الفلاسفة من قبلُ الهوية والاختلاف. الهوية أن تكون أ هي أ، والاختلاف أن تكون أ ليست ب، فوجود الأنا سابق على وجود الآخر، معرفيًّا في إدراك الذات، «أنا أفكر فأنا إذن موجود.» وهو الكوجيتو الشهير عند ديكارت، ووجوديًّا: «الذات تضع نفسها حين تقاوم.» وهي العبارة الشهيرة عند فشته للتعبير عن مقاومة الألمان لاحتلال نابليون. وهو ما عناه القرآن الكريم في آية أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ الأنا واحد، والآخر كثير؛ ومن ثم فإن علاقة الذات مع نفسها تسبق علاقتها مع الآخر.
    وقد ظهر ذلك أيضًا في تاريخ الفكر السياسي بأولوية البناء الداخلي على العلاقات الخارجية، والبداية بالسياسة الداخلية من أجل تدعيم السياسة الخارجية. هكذا فعلت مصر محمد علي، ومصر عبد الناصر، الاستعداد الداخلي قبل المشروع الوطني، الإعداد داخل الحدود قبل الانطلاق خارج الحدود. هذا الجدل بين الداخل والخارج مستمر عبر التاريخ في النظم السياسية، فإذا ما أصبح للخارج الأولوية على الداخل حدث رد فعل، هزيمة الخارج والعودة إلى البناء الداخلي، نابليون بعد واترلو، ومصر بعد معركة نوارين، ومصر بعد عبد الناصر. وقد عبَّر القرآن الكريم أيضًا عن هذه الحقيقة في آية: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ؛ وأيضًا: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ؛ لذلك أصبح شعار الحركة الإصلاحية البداية بالنفس قبل البداية بالعالم: إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وأيضًا: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ، استئناف لقول المسيح الشهير: «ماذا تكسب لو كسبت العالم وخسرت نفسك؟»

    لذلك أن يبدأ الفكر السياسي برد الاعتبار للسياسة الداخلية والبناء الداخلي بالإضافة إلى السياسة الخارجية والانتشار الخارجي فإن ذلك يمثل تقدمًا منهجيًّا في الفكر السياسي في مصر، وأن تتأسس مجلة «قضايا برلمانية» كرصيد «السياسة الدولية»، فإن ذلك يكمل جدل الداخل والخارج تجاوز لحساسية الموضوعات الداخلية والأمان السياسي في الموضوعات الخارجية.

  • (٢)

    ولا تعني السياسة الداخلية فحسب تحليل المؤسسات والنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية والإعلامية والتعليمية وأنساق القيم ومعايير الأخلاق، إنما تعني التجربة والممارسات الوطنية، الإحساس الداخلي للمواطن، الولاء الوطني، المصالح العامة التي سمَّاها الطهطاوي المنافع العمومية، يعني الداخل السياسة في بدايتها في التعليم العام وفي الممارسات الطلابية الجامعية وفي حياة الأحزاب السياسية وفي المشاركة الشعبية في الانتخابات للمجالس المحلية والتشريعية والرئاسية، السياسة الداخلية تعني الروح قبل أن يتحوَّل إلى تشريعات، والرؤية قبل أن تصبح قوانين، والتجربة الحية للوطن وللمواطن قبل أن تتحوَّل إلى نظمٍ ولوائح، السياسة الداخلية هي التربة التي ينشأ فيها الزرع والسيقان التي تورق الأوراق والثمار في السياسة الخارجية.

    السياسة الداخلية أقرب إلى الفلسفة السياسية التي تضع المبادئ العامة التي تنظم علاقة الحاكم بالمحكوم، والسلطة بالجماهير، وتبحث في أسس العقد الاجتماعي وأنواعه، في طبيعة العدل والدرجة المسموح بها في التفاوت الطبقي، وفي كيفية توزيع الدخل القومي على مجموع المواطنين لتحقيق أكبر قدرٍ ممكن من المساواة والعدالة الاجتماعية، وفي التعددية السياسية وحق الاختلاف، والتوازن بين الحقوق والواجبات الذي يكفله الدستور، السياسة الداخلية هي الحياة السياسية في كافة نشاطاتها، حكومة ومعارضة، الجمعية السياسية التي تظهر في الأدب والفن وفي الأمثال العامية، بل وفي النكات الشعبية.

    السياسة الداخلية هي الوعاء الذي تنطلق منه السياسة الخارجية، والتربة التي فيها تنبت التشريعات والقوانين، الروح قبل البدن، والفكر قبل الواقع، والإمكان قبل الفعل، والتأهيل قبل المهنة، إن نشأة القوانين ليست فقط من الحق الطبيعي العقلي الثابت الأبدي الأزلي، ولا من مصالح الطبقات المتغيرة والمتضاربة، ولا من المصالح العامة التي تتجاوز الصراع الطبقي بل من التجارب الوطنية التاريخية الحية التي تكون الرصيد الأول للوعي السياسي والتاريخي للأمة، إنها خبرة السنين الطويلة التي عبَّر عنها كل شعب بحكمته في أمثاله العامية وآدابه الشعبية وفي سلوكه اليومي غير المدون، في التحضر والتمدن وعمران الأرض والبقاء في التاريخ.

    ومن الواضح أن أحد أسباب العثرة في العقدَيْن الأخيرَيْن في تاريخ مصر السياسي المعاصر هو الانكفاء على الذات بعد ١٩٧٠ تحولًا من الجمهورية الأولى إلى الجمهورية الثانية، من إعطاء الأولوية للسياسة الخارجية، التحرر العربي، الوحدة العربية، القومية العربية، دور مصر في أفريقيا وآسيا، مسئولياتها عن الجزائر واليمن، ونضالهما من أجل الاستقلال، على السياسة الداخلية خاصة على مستوى الحريات العامة والتنظيمات الشعبية والتساهل مع الطبقات الجديدة ورأس المال الطفيلي تحت غطاء الشعارات السياسية والخطاب السياسي الجماهيري. وأن أحد أسباب شرعية الجمهورية الثالثة هي إعادة بناء البنية التحتية والخدمات العامة التي طالما كان المواطنون يغنون بها مقارنة بالدول الحديثة في الخليج أو حتى في ليبيا الشقيق، فإذا كانت الجمهورية الأولى قد أعطت الأولوية للسياسة الخارجية فإن الجمهورية الثالثة قد أعطت الأولوية للسياسة الداخلية فقد كانت حرب أكتوبر آخر الحروب، وأصبح السلام خيارًا استراتيجيًّا بعد أن دخلت مصر أربعة حروب على الحدود وتساندت عدة حروب أخرى ما وراء الحدود.

  • (٣)
    وإن أهم ما يميز مصر هي الاستمرارية في التاريخ، والتواصل عبر المراحل، فبالرغم من توالي نظم سياسية عديدة على تاريخ مصر، الفرعوني، واليوناني الروماني، والقبطي، والإسلامي القديم والغربي الحديث إلا أن هناك عناصر ثابتة في تاريخ مصر لا تتغير بتغير النظم السياسية، هناك بنية تتحكم في التاريخ، وخلود وراء الزمان، ومعية وراء التوالي هي التي تتحكم في النظم السياسية حتى ولو بدت مختلفة بل وحتى متناقضة في الخارج. ٣
    هناك نظام مركزي رئاسي، في قمته السلطة العليا التي تصل إلى حد التقديس والمتجسد في فرعون حقيقة ومجازًا، منذ أول الفراعنة حتى آخر الفراعنة، قد يكون ذلك مطلبًا تاريخيًّا لتوزيع مياه النيل، وتنظيم الدورة الزراعية، وجبي الضرائب، وتجنيد الجند، وبناء الأهرام، والدفاع عن البلاد، وبلا سلطة مركزية يتفتت الوطن كما كان الحال في العصر المملوكي. إذا كانت سلطة شعبية ترعى مصالح الناس التفوا حولها، وإن لم تكن كذلك أداروا لها الظهور دون الثورة عليها، تجاهلوها وأسقطوها من الحسبان؛ لذلك انتسب مصر للدولة الفاطمية، وللعقائد الشيعية، وظهور الإمام والمهدي المنتظر، وظهر عند المصلحين نموذج «المستبد العادل» والذي عُرف في الفكر السياسي باسم «الاستبداد الشرقي» عند هيجل ومونتسكيو، وربما عبَّر القرآن الكريم عن ذلك بقول فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى وأيضًا: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي.
    لذلك نشأ الخلاف في الحركة الإصلاحية الحديثة حول نموذج الإصلاح، «الاستبداد الشرقي»، أو «الفرعونية»، في مقابل «الديمقراطية» الغربية، تعدد الأحزاب، البرلمان، الدستور، الأغلبية والأقلية، المسئولية أمام الشعب، أو «المستبد العادل» الذي فيه يستمر التاريخ، السلطة المركزية للصالح العام، أحمس وصلاح الدين ومحمد علي وعبد الناصر.٤

    وما زال الموضوع مطروحًا في الفكر السياسي المعاصر عن الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في الوجدان العربي المعاصر، وما زال السؤال مطروحًا في علم الاجتماع السياسي: من أين نبدأ؟ من تغيير الثقافة السياسية التي ما زالت ترى: «أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.» تبدأ من السلطة، فالله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر، أم تبدأ من الناس، وحركة الجماهير، ومراجعة الحكام؛ فالإمامة عقد وبيع واختيار، وليست نظامًا ملكيًّا وراثيًّا كالنظام البيزنطي، وليست نظامًا عسكريًّا انقلابيًّا، أخذ السلطة بالشوكة كما شرع الغزالي كالنظم العسكرية الانقلابية المعاصرة سواء تلك التي تحولت إلى ثورة اجتماعية أو تلك التي بقيَتْ بعقلية الانقلاب العسكري.

    لا فرق بين النظم السياسية في «وحدانية التسلُّط» بتعبير ابن رشد، بل إن النظم الليبرالية نفسها لا تستطيع أن تقرر شيئًا إلا بأمر «الباشا»، والصراع على أشده بين من يريد خلافته ووراثته دون احتكامٍ بقواعد الحزب الليبرالية، كما أن النظام الاشتراكي الديمقراطي نفسه لا يقوم إلا على الزعامات التاريخية والقيادات النشطة والمؤثرة التي منها تخرج التوجيهات لقواعد الحزب باسم الديمقراطية الموجهة أو المباشرة في اللجان الشعبية، والنظم القومية لها قياداتها التاريخية، وآلهتها ومفكروها ولا يستطيع أحدٌ أن يخرجَ على الأيديولوجيا وإلا كان تحريفيًّا مراجعًا، خرج على النص، وانحرف عن التيار، وهو نفس الموقف في النظم الماركسية والإسلامية التي تمتلك قياداتها الحقيقة المطلقة والإمارة الشرعية، والتي تتحدَّث باسم الشعب والتاريخ أو الحاكمية وتطبيق الشريعة الإسلامية، على الرغم من اختلاف النظم السياسية إلا أن بنيتها التسلطية واحدة، وتلك مأساة الأحزاب التقدمية في البلاد المتخلفة.٥
  • (٤)

    ومصر بوضعها الجغرافي السياسي مركز لدوائر ثلاث، كما حدَّد عبد الناصر في «فلسفة الثورة»، وكما عبَّر عن ذلك مالك بن نبي في «فكرة الآسيوية الأفريقية»، وهي تصور لا خلاف عليه بين الإخوان، مصر والعروبة والإسلام، وبين الضباط الأحرار والثورة المصرية في ١٩٥٢؛ فمصر مركز لها محيطان، المحيط العربي، والمحيط الأفريقي والآسيوي؛ لذلك أنشأت مصر «منظمة تضامن شعوب أفريقيا وآسيا»، وساهمت في انتشار «المؤتمر الإسلامي» الذي يضمُّ كل الدول الإسلامية، ولا تناقُض بين هذه الدوائر الثلاث.

    فمصر هي الوطن الذي ارتبط به المصريون منذ أقدم العصور، وهي من أقدم الحضارات البشرية؛ فسيناء هي المدخل الشرقي لمصر كما لاحظ حامد عمار وجمال حمدان من قبل، تأتيها الغزوات من الشمال الشرقي، العرب، وتتبادل ثقافيًّا وتجاريًّا مع الشمال، اليونان والرومان، ومع الجنوب، السودان والحبشة «بلاد بنط»، كليوباترا من الشمال في الإسكندرية، وحتشبسوت من الجنوب في أسيوط، وحمامات فرعون في سيناء، والإله آمون في الغرب في واحة سيوة.

    عزلها عن محيطيها مقتل لها، وتهميشها قضاء على دورها، وقد كان هذا هو هدف الاستعمار منذ هزيمة محمد علي وتحديد جيش مصر ثم ثورة عرابي وهزيمة العرابيين وتكرار نفس المطلب، ثم عدوان ١٩٥٦ عقابًا لها على مساندة الجزائر ومعاداة الغرب ورغبتها في توحيد العرب. وربما كان الهدف أخيرًا من معاهدات السلام هو استبدال إسرائيل بمصر كأداة للتحديث وفقدان مصر دورها التقليدي لغيرها مما يقضي على دور القلب بالنسبة لضخ الدم في الأعضاء.

    إن قوة مصر بمدى تحمل مسئولياتها في الدوائر الثلاث، وقوة الدوائر الثلاث بمدى انجذابها حول مركزها في مصر وإلا اتجهت إلى الغرب كما هو الحال في الخليج أو إلى الشرق كما هو الحال في مجموع الدول الإسلامية في آسيا. إن دور مصر في محيطها العربي الإسلامي مثل دور ألمانيا في أوروبا، ودور أمريكا عبر الأطلنطي، ميزان ثقل في المنطقة؛ لذلك كانت سياستها باستمرار، الحياد الإيجابي، وعدم الانحياز لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ كما عبَّر القرآن الكريم.
  • (٥)

    تجتمع مصر الوطنية والعروبة والإسلام كثقافات متداخلة، حب الوطن، واللسان العربي، والثقافة الإسلامية، وهي السمة الغالبة على الشمال الأفريقي كله، الجناح الغربي للوطن العربي، فالعربي هو المسلم، والإسلام هو ثقافة الوطني وهوية الشعوب؛ لذلك انتشرت دعوة الأفغاني في مصر والمغرب العربي لتوحيده بين الوطنية والعروبة والإسلام، وكان من تلاميذه علماء علال الفاسي مؤسس حزب الاستقلال، ولم يغب هذا التيار عن الشام في شخص «شكيب أرسلان»، واستمر هذا التيار في مصر والشام عند محمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب في مرحلته الاجتماعية. ومن الحركات الإصلاحية الحديثة خرجت معظم حركات التحرر الوطني في مصر وتونس وليبيا والجزائر والمغرب واليمن والعراق، وسوريا ولبنان والسودان، ولم يشذ عن ذلك إلا أصحاب مصر الفرعونية، أو مصر القبطية وهو تيار هامشي غير مؤثر في مجموع الشعب المصري.

    لم يحدث تساؤل حول القومية والإسلام إلا في الشام لقربه من تركيا وكرد فعلٍ على القومية الطورانية، وخرجت حركة القوميين العرب على نفس نمط تركيا الفتاة، وحزب الاتحاد والترقي، مما سبَّب خلافًا في الرأي والاتجاه السياسي بين الحركتين الإسلامية والقومية، وقبل أن تُعقد سلسلة الحوارات بينهما بعد هزيمة ١٩٦٧؛ فالقومية ظاهرة شامية، والإسلام الوطني ظاهرة مصرية، وانتشرت الظاهرة الشامية في العراق وفي الخليج، بينما انتشرت الظاهرة المصرية في المغرب العربي والسودان وموريتانيا واليمن وشبه الجزيرة العربية، ولقد قامَتْ مصر بدورها في تدعيم حركات التحرُّر الوطني في المغرب العربي، تونس والجزائر والمغرب وفي اليمن. كما حملت لواء تعليم اللغة العربية وتعريب الجزائر، كما تخرج منها معظم الحركات الإصلاحية وروافدها في الوطن العربي منذ الأفغاني حتى حسن البنا.٦ ومن أجل الشام جمع الكواكبي بين العروبة والإسلام، وجعل ميشيل عفلق الإسلام ثقافة العرب والعروبة جسد الإسلام وحامله «إن كان محمد كل العرب فإن كل العرب محمد.»

    وثارت مشكلة في الأيديولوجيات السياسية المعاصرة حول دور الدين في نشأة القومية، فبينما يرى القوميون الحرفيون أن القومية لها وجودها المستقبل ومقوماتها الذاتية خارج الدين وكما هو الحال في «الكتاب الأخضر» يرى آخرون أن الدين هو الدعامة الأولى للقومية مثل الصهيونية، والسيخ. نشأ تياران في فهم القومية الأول يجعلها علمانية حرفة، والثاني يجعلها مرتبطة بالدين، كما نشأت في الفكر الماركسي بين نزعتين، أممية تنكر القومية «يا عمال العالم اتحدوا» وماركسية قومية ترتبط بالذات القومي للشعوب كما هو الحال في الماركسية السلافية أو الإيطالية أو الفرنسية أو الاشتراكيات في العالم الثالث، أفريقية أو آسيوية أو عربية.

  • (٦)

    وتتميز مصر بوحدة الشخصية عبر التاريخ، وحدة السكان والدين والمجتمع والعادات والتقاليد والسلوك الوطني. ربما ساعدت جغرافيتها، واديها وصحراءها، على هذا الاتساع في الفضاء الجغرافي، والرحابة والسماحة والتواصل في السلوك الوطني. تجمع في ألوان البشرة السواد والسمار والبياض ودون أن يكون عاملًا في التمايز الاجتماعي. يجتمع الأغنياء والفقراء في إطار التكامل الاجتماعي والترابط الأسري والإقليمي، ولا يجوز لأخٍ أن يخاصمَ أخاه أكثر من ثلاث ليالٍ، وخيرهما من بدأ بالسلام، وكان الإيمان بالدين، والوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي ركائز ثلاث للقومية العربية.

    وبالرغم من توالي عدة ديانات عليها إلا أن جوهرها واحد؛ التوحيد الذي يعبِّر عن وحدة الأرض والشعب والرؤية والسلطة والولاء والقدر والمصير، لا فرق بين إخناتون وموسى وعيسى ومحمد عقائدها واحدة: وجود الله، وخلف العالم، وخلود النفس بعد الجزاء ثوابًا أم عقابًا. والدين فيها هو كل شيء، مصدر الحضارة والعلم والفن والثقافة والحضارة والتاريخ، هذا التجانس في الشخصية المصرية هو الذي جعل شعب مصر قائمًا وصامدًا في التاريخ أمام نزعات الانفصال بين الشمال والجنوب أو الخلاف المفتعل بين المسلمين والأقباط.٧

    لذلك كان من أهم الأخطار التي تهدد مصر هو تفتيت الوطن، وفك العروة الوثقى باسم الطائفية، مسلمون وأقباط، وباسم الماركسية أغنياء وفقراء، ياقات بيضاء وياقات زرقاء، أصحاب رءوس الأموال والعمال، إقطاعيون وفلاحون، وباسم القومية، قوميون وقُطريون، وحدوديون وانفصاليون، وباسم التاريخ، تقدميون ورجعيون، ليبراليون ومحافظون، لا يعني ذلك إلغاء الصراع الاجتماعي والسياسي وجدل التاريخ بل يعني فقط أن يتم ذلك في إطار الوحدة الوطنية والحوار السلمي، ومقارعة الرأي بالرأي، والحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان.

    إن أخطر ما يهدِّد مصر والأمة العربية والإسلامية اليوم هو هذا الصراع العلني أو الضمني بين جناحي الأمة الرئيسيين، الحركة الإسلامية والحركة التقدمية، الأولى تكفِّر الثانية، والثانية تخوِّن الأولى، صراع دموي في الجزائر وصل إلى مائة ألف شهيد، يصفي كل جناحٍ الآخر حتى يقضي عليه، فإذا نجح أحد التيارين لا يجد أحدًا يحكمه بعد أن ضحى الفريقان بالشعب ذاته، النساء والأطفال والشيوخ، وهو صراعٌ مكبوتٌ في المغرب وتونس وليبيا ومصر وسوريا والعراق والسودان. قد ينفجر في أية لحظةٍ إن لم تنشأ محاولات للحوار الوطني من أجل الوحدة الوطنية. إذا قويت الدولة انضم الجناحان إليها؛ فالقلب في حاجةٍ إلى رئتين، وإذا حققت الدولة ضربت أحد الجناحين بالآخر على التبادل، اليمين باليسار مرة إذا كان الخطر من اليسار، واليسار باليمين مرة إذا كان الخطر من اليمين، فيضعف الجناحان الوريثان للدولة الرخوة في الداخل التابعة في الخارج.

  • (٧)

    ويرتبط المصري بأرضه ويحن إليها، إذا ما هاجر تحت ضغط الظروف الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، ولم تصبح الهجرة ظاهرةً في مصر، إلا بعد ثورة ١٩٥٢ ثم عظمت أثناء الجمهورية الثانية بعد ١٩٧٠، وحتى الآن سواء داخل المنطقة العربية في الخليج شرقًا أو في ليبيا غربًا طبقًا لسوق العمالة أو في أصقاعٍ بعيدة مثل كندا وأستراليا حتى تربى عند جيلٍ جديد من الشباب إحساس أن الأزمة في الداخل والحل في الخارج، الضيق في الوطن والانفراج خارج الحدود.

    والأغاني الشعبية والمواويل والأمثال العامية مملوءةٌ بالحزن والحسرة والآلام على مغادرة الوطن ولوعة الفراق، ومنذ الأدب العربي القديم والبكاء على الأطلال وفراق الحبيب أصبح عنصرًا ثابتًا في الوجدان العربي، والناي هو خير معبر عن هذا الحزن مثل لحن «الصبا» في الموسيقى العربية، وأطربت كوكب الشرق جماهيرها بألحان الهجر والفراق والحنين إلى العودة والوئام.

    والهجرات العربية الأولى لبلاد المهجر أو أفريقيا في الساحل الغربي أتَتْ من الشام وليست من مصر، والجاليات اللبنانية والسورية أصبحت بعد قرنين من الزمان جزءًا من نسيج المجتمع الأمريكي اللاتيني أو الأفريقي كما هو واضحٌ في «أدب المهجر» بكل رومانسية العودة إلى الأرحام والوطن الأم والغربة في الوطن الجديد مع مقابلة الماضي بالحاضر، الأنا بالآخر، الهوية بالاختلاف.

    وفي الشريعة أصبح التغريب أداةً للعقاب أي البعد عن الأهل والوطن، وتكاثرت الأحاديث والأقوال المأثورة عن حب الأوطان كما عبر الطهطاوي في أول «مناهج الألباب» وكما تعلَّم المصريون وهم صغار حديث «حب الوطن من الإيمان.» من القواعد العامة للآداب والأخلاق العامة، وقول عمر بن الخطاب: «عمر الله البلاد بحب الأوطان.» وقول علي بن أبي طالب: «سعادة المرء أن يكون رزقه في بلده.» وقد كتب التوحيدي رسالة «الحنين إلى الأوطان». وأصبح «الإخراج من الديار» في الشريعة أحد أسباب الجهاد. وإن لمصر في الشريعة الإسلامية مكانةً خاصة فجندها خير أجناد الأرض، وشعبها مرابط إلى يوم القيامة، أوصى الرسول بقطبها خيرًا فإن لهم فيها ذمة ورحمًا، ويُروى أن الرسول قال بعد موت إبراهيم وحزنه عليه: «والله لو عشت يا إبراهيم لَرفعت الجزية عن كل قبطي.»٨

    والآن تمثل الهجرة خطورة على الوطن يضعف الولاء له، والإحساس بالسعادة في البعد عنه والعمل خارجه، وبناء كل شيء إلا فيه، والحضور إليه سائحًا بجواز سفر أجنبي أو على الأقل بجنسية مزدوجة. الوطن للفرجة وللسخرية والتندر أو للمقارنة الظالمة أو للتعالي عليه وربما العداء له والعمل ضده، ويشهد بذلك طوابير المصريين على أبواب السفارات الأجنبية طالبين تأشيرات دخول بلاد النفط أو لبلاد الوفرة.

    ومنذ عشرات السنين بدأت مؤتمرات المغتربين للمصريين العاملين في الخارج لربط المواطنين بوطنهم وتجديد الولاء الذي ضعف على مر السنين حماية لذرية جديدة أخذت الجنسية الأمريكية أو غيرها وتتلعثم بالعربية وفقدت الهوية أو كادت، وتُعقد المؤتمرات وتنفض، وتُنفق عليها الأموال وتصبح موضوعًا مثيرًا للإعلام، وينشر عن المشاريع المالية الاستثمارية الضخم وتحويل مدخرات المصريين في الخارج داخل الوطن، ولكنها تأتي من عمال الخليج وليس من النخبة في العالم الجديد، وتُوضَع الخبرات العلمية للمصريين في الخارج لتشارك في الخبرات العلمية في الداخل، ولكن الخارج والداخل لا يلتقيان، بسبب أهواء البشر، الحسد، والغيرة، والمنافسة، ولا يأتي المصري الأجنبي إلا أيامًا معدودةً لإجراء فحصٍ طبيٍّ أو عملية جراحية أو الإشراف على مؤسسة علمية باعتباره خبيرًا يساعد من لا خبرة لهم.

    وبالتالي يكون التحدي في السياسة الداخلية الآن كيف يمكن إعادة روح طلعت حرب لمصر والمصريين وتأسيس البنوك الوطنية، والشركات الوطنية؟ كيف يمكن إعادة موجةٍ ثانيةٍ من التمصير للشركات الأجنبية؟ ما هو مشروع القرش الجديد؟ وهل الشعار القديم «صُنع في مصر» صعب المنال؟

  • (٨)

    حب الأوطان سمةٌ مميزةٌ للمصريين يتعلَّمها التلاميذ في درسٍ مشهور لجيل قديم كان يسمى «التربية الوطنية» قبل أن يصبح «المقرر القومي» بعد ثورة ١٩٥٢، وبعد أن يختفي كلية من الحياة العامة والخاصة، ومنذ الثورة العُرابية في ١٨٨٢ وثورة ١٩١٩ ثم اشتداد الحركة الوطنية في الأربعينيات ثم قيام الثورة المصرية في ١٩٥٢ بدأ احتكار العمل الوطني وتحقيق برامجه الاجتماعية حتى استأثرت الدولة به، ثم عادَتْ على استحياءٍ من جديدٍ في مظاهرات مارس ١٩٦٨ ومظاهرات الطلبة ١٩٧١، والانتفاضة الشعبية في يناير ١٩٧٧، وانتفاضة الأمن المركزي في ١٩٨٦، والمظاهرات الطلابية لم تتوقف ضد العدوان الأمريكي على العراق في يناير ١٩٩١ وضد الاعتداء الإسرائيلي على مركز المقاومة في تونس، والمفاعل النووي في العراق، وجنوب لبنان، وحرق منبر المسجد الأقصى، وبناء المستوطنات.

    انحسر المد الوطني شيئًا فشيئًا من حركة شارع إلى حركة حرم جامعي، ومن انتفاضة شعبية إلى مظاهرة طلابية، وأصبح الوطن في حاجة إلى صياغة جديدة لمبادئ التحرك الوطني استئنافًا وتطويرًا للأربعينيات، الاستقلال الوطني، ووحدة وادي النيل، ويبدو أن حركة وطنية جديدة تتبلور منذ أوائل الجمهورية الثانية وخلال الثالثة تتركز على الجبهتين الداخلية والخارجية في آنٍ واحد: الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية وحقوق الإنسان وتقوية مؤسسات المجتمع المدني والعدالة الاجتماعية في الداخل، والاستقلال الوطني، والاعتماد على الذات، ومقاومة التطبيع، والصمود في وجه العولمة واقتصاد السوق واتفاقية الجات. صحيح أن البطالة وأزمة الإسكان والعرف الصحي والحياة النقية والنظافة والمواصلات والخدمات العامة ما زالت مطروحةً على الداخل، ولكنها لا يمكن أن تكوِّن رؤيةً سياسيةً واعيةً كتمهيدٍ لرؤيةٍ سياسيةٍ خارجيةٍ أكثر استقلالًا، وكأن إشباع الحاجات يتم خارج الرؤية السياسية العامة لتفاعل الداخل والخارج.

    إن المسموح به الآن هو الحديث في الوطن، والمعارضة السياسية والاعتراض على السياسات العامة على مستوى الخطاب السياسي، وليس على مستوى العمل السياسي؛ فالحاكم يقول: «تكلم كما تشاء، وافعل كما أريد.» فمن الأفضل أن يكون الكلام صمام الأمان حتى لا يغلي القدر لدرجة الانفجار. والقضية الآن إلى متى؟ إلى متى ينحسر الوطن في قلوب المصريين، وينحسر المصريون عن وطنهم؟ أم أن مصر مخصبة في العقدين الأخيرين؟ وتحن إلى الستينيات، ويعز عليها الحلم المجهض؟

  • (٩)

    إن مصر في التاريخ لها منزلة خاصة أدركها العلماء وكل من نزل بها مقامًا، فهي أم الدنيا كما سماها ابن خلدون، وهي مصر المحمية ومصر المحروسة في العصر العثماني عندما بدأ الاستعمار يطمع في ممتلكات الرجل المريض. يرعاها الله، ويحميها من غوائل الزمان، وهي مذكورة في القرآن خمس مرات.

    مصر بلد الاستقرار والسكن، ومكان العيش والحياة، يأتيها الناس ولا تذهب إليهم، الهجرة إليها وليست منها، ويتخذونها قبلة ومقرًّا: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً، يسكنها الأنبياء وذووهم، وتخرج منها القادة العظام، وتعيش فيها القبائل وتعجزها الشعوب، صحراء تحتاج إلى تعمير وأرض تستدعي البناء من أهلها. إن تركها أهلها بلا تعميرٍ استعمرها غيرها، واستوطن فيها، بنى فيها البيوت، وأقام المستوطنات، وأنشأ المزارع الجماعية، وشيد المعسكرات لأن أهلها لم يستقروا فيها، ولم يبنوا فيها، ولم يحوِّلوها إلى كتلٍ بشرية تحمي صدورها، وتمنع غزوها، وتصد العدوان عنها.
    ومصر بلد الأمان، فلا حياة دون أمان، ولا استقرار دون أمن وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ، كان يوسف في مصر آمنًا، ودخل أبواه مصر آمنَين. ولا يعني الأمن في مصر إنشاء أجهزة الأمن للقضاء على أمن المواطنين بل أن يشعر أنه يعيش في بلد آمن، آمن على نفسه، وآمن على أهله، آمن على عمله ومستقبله، آمن على قوله وفعله، آمن على فكره ورأيه؛ فالأمن ليس فقط هو الأمن الغذائي بل الأمن الفكري والأمن السياسي.
    ومصر بلد الكرم والسخاء، يجد فيها الغريب موطنًا له ومستقرًّا، مواطنًا لشعبها، ابنًا لأُسَرها: وَقَالَ الذي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا، ليست مصر إذن بلد الدخلاء عليها الذين يأتون لنهب ثرواتها والاستيلاء على أرضها وخيراتها، وتهريب أموالها، واستهلاك دخلها، والاستحواذ على مدخراتها، لا يعني الكرم بيع ماء النيل، ورهن قناة السويس، وإهداء قطعة من الساحل الشمالي؛ فالعطية من نتاج مصر وعرق مصر وليس من أرض مصر وثروات مصر وأصول مصر.
    ومصر بلد الزرع والنماء، ومصدر الخير والرخاء، لما ضاق ببني إسرائيل العيش، وملوا الطعام الواحد سألوا موسى البقول والقثاء والفول والعدس والبصل فقال موسى: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ، فما زالت مصر بوفرة محصولها مطمع من تضيق بهم الأرض، ومن تعز لديهم مصادر المياه، مصر هي ريفها وقراها، وشعبها هم فلاحوها ومزارعوها، فكيف يعلمها «المهاجر» الآتي من الشمال الزراعة؟ وكيف تطلب مصر معونة الأعداء وعونهم لتوسيع الرقعة الزراعية؟ وكيف تعتمد مصر على ٧٠٪ من غذائها من الخارج، تأكل مما لا تنتج يداها؟٩
  • (١٠)
    إن الصبر في مصر مشهود، تزخر به الأمثال العامية، وهو من مقامات الصوفية التي ازدهرت طرقها في العصر العثماني، وهو من القيم الدينية الموروثة والتي تجد أصولها في القرآن والسنة على نحوٍ إيجابي، جمعًا بين الصبر والمصابرة، بين الصبر والاستعداد؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يصبر على النار دون أن يصرخ من الاحتراق فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ قبل أن يستقرَّ على معناها السلبي في الثقافة الشعبية، ولكن الانتفاضة الشعبية في مصر مشهورة أيضًا للفلاحين والعمال والطلبة والجنود الوطنيين، فمصر في جدلٍ دائمٍ بين القبول والرفض، الطاعة والعصيان، الرضا وعدم الرضا، السلام والجهاد.

    تاريخها المعاصر مصداق لهاتين الموجتين، الارتفاع ثم الانخفاض؛ فمنذ فجر النهضة العربية في القرن الماضي ومصر تقود نهضة العرب من بر الشام ومن ساحل المغرب. وانتهت هذه النهضة بالاحتلال البريطاني لمصر بعد هزيمة العرابيين، ثم نهضت مرةً أخرى بعد ثورة ١٩١٩ واستمرت في نضالها الوطني من أجل الدستور والجلاء التام ووحدة وادي النيل حتى اقتطف الضباط الأحرار الثمرة وقامت ثورة ١٩٥٢ تتويجًا لهذا النضال وتحقيقًا لمطالبه، وبلغت ذروة الثورة المصرية في تأميم القناة في ١٩٥٦ والتمصير في ١٩٥٧ والوحدة مع سوريا ١٩٥٨–١٩٦١، وقوانين يوليو الاشتراكية ١٩٦٢-١٩٦٣، ومقاومة الحلف الإسلامي في ١٩٦٥، ثم جاءت هزيمة يونيو ١٩٦٧ كي تجهض حلم الستينيات، ثم قامت حرب أكتوبر ١٩٧٣ ترد إلى الوطن كرامته ثم انهارت إرادة المقاومة وتم الصلح مع العدو قبل إزالة آثار العدوان واسترداد حقوق شعب فلسطين، فانهزمت إرادة الصمود وعدم التفريط في الحقوق التاريخية للشعوب. وربما تعلَّمت مصر الآن، وهي تحاول العودة إلى موجة جديدة من النهضة في الداخل، إعادة بناء البنية التحتية، وفي الخارج، إعادة قيام مصر بدورها التقليدي كمركزٍ في محيطها العربي الإسلامي، فربما الصعود قادم، والموجة آتية والمد وشيك بعد أن طال السقوط والموجة الهابطة والجزر والانحسار.

    إن مصر جزءٌ من حركة التاريخ ومساره، تاريخها الخاص ومسارها الذاتي، ودون الاتحادية فإنها قد تسير في مسارٍ خططه لها غيرها. إن مهمة السياسة الداخلية هي رؤية مصر لذاتها أولًا ولمسارها التاريخي وإمكانياتها ومحيطها ترتيبًا للبيت من الداخل قبل الانطلاق إلى الخارج، وهذا لا يتأتَّى إلا بمعرفة روح مصر في التاريخ، وأن صياغة سياسة مصر الداخلية لا تتمُّ إلا عن طريق حساب إمكانيات مصر ومعرفة السمات الرئيسية في الشخصية المصرية التي حاول إدراكها المؤرخون والجغرافيون والسياسيون والمفكرون والأدباء والشعراء والبسطاء الذين يعبِّرون عن حكمة الشعوب في الأمثال العامية والنكات الشعبية.

    إن علم السياسة لا يعني بالضرورة النظريات السياسية والجداول الإحصائية والتحليلات الكمية والتواريخ للحوادث والمعاهدات والمواثيق والقوانين والقرارات. هناك السياسة الشعبية، الإحساس بالسياسة عند المواطنين والتعبير عنها بلغة البسطاء، وكثيرًا ما كان كبار القادة والقواد العظام من الفلاحين البسطاء قبل أن ينظر علم السياسة حركاتهم السياسية وممارساتهم التاريخية.

    عندما تتحدَّث مصر عن نفسها فإن ذلك لا يعني شعر السياسة وأدبها، وهو السهل الممتنع الذي يعزُّ على علماء السياسة وأدبائها بل يعني تحويل السياسة إلى تجربة معاشة للأفراد والجماعات يمكنه وصفها وعلى أساسها يمكن تأسيس القرار السياسي والنظريات السياسية، حينئذٍ يصبح علم السياسة ليس علمًا مجردًا منقولًا عامًّا، ينطبق على كل التجمعات السياسية، نموذجًا رياضيًّا قادرًا على تفسير كل الظواهر السياسية بل علمًا خاصًّا يغوص في الحركية السياسية لمجتمع معاش، لا فرق فيه بين العالم والمواطن، والمنظِّر والممارس. ولحظة صدق في الخطاب السياسي قد تكون أبقى من نسق علمي مهني بأكمله.

١  مجلة الديمقراطية، السنة الأولى، العدد ١، يناير ٢٠٠١.
٢  قاسم أمين، مصر؛ وأيضًا كتابنا «جمال الدين الأفغاني»، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨.
٣  المعية Synchronism، التوالي Diachronism.
٤  انظر دراستنا بهذا العنوان في: الدين والثورة في مصر، ١٩٥٢–١٩٨١، ج٢، والدين والتحرر الثقافي، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٩، ص٩٩–١١٨.
٥  انظر دراستنا بهذا العنوان في: الدين والثورة في مصر (١٩٥٢–١٩٨١)، ج٨، اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٩، ص١٨٩–٢١٤.
٦  انظر دراستنا: «الإسلام للوطن، قراءة مصرية لعلال الفاسي»، «مفهوم الحرية عند علال الفاسي»، «نقد النقد الذاتي، قراءة مصرية لعلال الفاسي في ذكراه العشرين»، هموم الفكر والوطن، ج٢، الفكر العربي المعاصر، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨، ص٢٧١–٣٠٠، وأيضًا «العروبة والإسلام في فكر ميشيل عفلق»، السابق، ص٣٠١–٣٣٤؛ وأيضًا كتابنا: جمال الدين الأفغاني، المانوية الأولى (١٨٩٧–١٩٩٧)، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨.
٧  ومعظم دراسات حسين فوزي، وجمال حمدان، وأنور عبد الملك، ونعمات أحمد فؤاد، وميلاد حنا تصبُّ في هذا التيار.
٨  الطهطاوي: مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، مطبعة الرغائب، القاهرة، ١٩١٢، ص١٠–٢٣.
٩  «مصر بين الأمان والطغيان» في «الدين والثورة في مصر (١٩٥٢–١٩٨١)»، ج٧، اليمين واليسار في الفكر الديني، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٩، ص١٦٨–١٧٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤