الفصل العاشر

(١) سَفَرٌ شاقٌّ

واسْتَغْرَقَتْ رِحْلَةُ «الشَّقْراءِ» سِتَّةَ أَشْهُرٍ كامِلَةً كَما حَدَّثَتْها السُّلَحْفاةُ، قَضَتْ مِنْها ثَلاثَةَ الْأَشْهُرِ الْأُولَى فِي اجْتِيازِ الْغابَةِ، وَثَلاثَةَ الْأَشْهُرِ الْأُخْرَى خارِجَها؛ حَيْثُ وَجَدَتْ نَفْسَها فِي سَهْلٍ مُجْدِبٍ قاسٍ؛ اجْتازَتْهُ فِي سِتَّةِ أَسابِيعَ.

ثُمَّ انْتَهَتْ إلَى قَصْرٍ أَشْبَهَ شَيْءٍ بِقَصْرِ غِزْلانِ الْغابَةِ، فَجَعَلَتْ تُسائِلُ نَفْسَها مُتَعَجِّبَةً: «أَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ هَذا قَصْرَ غِزْلانِ الْغابَةِ؟ أَيُمْكِنُ أَلَّا يَكُونَهُ؟»

وَلَكِنَّها اعْتَصَمَتْ بِالسُّكاتِ، وَلَمْ تَجْرُؤْ عَلَى سُؤالِ السُّلَحْفاةِ.

وَدَأَبَتِ السُّلَحْفاةُ فِي سَيْرِها دُونَ أَنْ تُسائِلَها «الشَّقْراءُ» أَوْ تَعْتَرِضَها.

وَكَأَنَّما كانَتِ السُّلَحْفاةُ تَتَباطَأُ فِي سَيْرِها — مُتَعَمِّدَةً — لِتَمْتَحِنَ بِذَلِكَ صَبْرَ «الشَّقْراءِ». فَقَضَتْ — فِي اجْتِيازِ مَسافَةٍ لا تَحْتاجُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ ساعاتٍ — خَمْسَةَ عَشَرَ يَومًا كامِلاتٍ، مَرَّتْ عَلَى الشَّقْراءِ كَأَنَّها خَمْسَةَ عَشَرَ قَرْنًا.

فَلَمَّا بَلَغَتْ بابَ الْقَصْرِ، لَمْ تَأْذَنْ لـِ«الشَّقْراءِ» أَنْ تَنْزِلَ، بَعْدَ أَنْ وَقَفَتْ عَنِ السَّيْرِ عامِدَةً، دُونَ أَنْ تَتَقَدَّمَ خُطْوَةً واحِدَةً. فَظَلَّتِ الْمِسْكِينَةُ ناظِرَةً إلَى الْقَصْرِ، شاخِصَةً إلَى بابِهِ.

(٢) جَزاءُ الصَّبْرِ

فالْتَفَتَتِ السُّلَحْفاةُ إلَى صاحِبَتِها قائِلَةً: «الآنَ تَنْزِلِينَ يا «شَقْراءُ». والآنَ يُؤْذَنُ لَكِ بِالْكَلامِ، بَعْدَ أَنْ كَسَبْتِ — بِشَجاعَتِكِ وَصَبْرِكِ وَطاعَتِكِ — ما وَعَدْتُكِ بِهِ مَنْ مُكافَأَةٍ جَزِيلَةٍ، وَسَعادَةٍ طَويلَةٍ. فادْخُلِي مِنْ هَذا الْبابِ الصَّغِيرِ الَّذِي تَرَيْنَهُ أَمَامَكِ، واسْأَلِي أَوَّلَ مَنْ تُقابِلِين، لِيُرْشِدَكِ إلَى مَكانِ سَيِّدَةِ الْعَصْرِ، وَحارِسَةِ الْقَصْرِ، الْجِنِّيَّةِ «أُمِّ نَصْرٍ». وَعِنْدَها تَجِدِينَ ما تُحِبِّينَ، وَتَسْمَعِينَ جَوابَ ما تَسْأَلِينَ، وَتَظْفَرِينَ مِنْها.»

فَقَفَزَتِ «الشَّقْراءُ» إلَى الْأَرْضِ فَرْحانَةً مُبْتَهِجَةً. وَكانَ أَخْوَفَ ما تَخافُهُ، وَأَخْشَى ما تَخْشاهُ، أَنْ تَكُونَ ساقاها قَدْ عَجَزَتا عَنِ الْسَّيْرِ، بَعْدَ أَنْ تَوَقَّفَتا عَنِ الْحَرَكَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ كامِلَةً. وَلَكِنَّها سُرْعانَ ما عاوَدَتْها الطُّمَأْنِينَةُ والثِّقَةُ، حيِنَ رَأَتْ أَنَّها أَنْشَطُ لِلسَّيْرِ، وَأَقْدَرُ عَلَى الْحَرَكَةِ، مِمَّا كانَتْ مِنْ قَبْلُ فِي عَهْدِها الْأَوَّلِ.

وَلَمْ تَطْمَئِنَّ إلَى هَذِهِ الْخاتِمَةِ السَّارَّةِ حَتَّى شَكَرَتِ السُّلَحْفاةَ أَصْدَقَ الشُّكْرِ عَلَى ما أَسْدَتْ إلَيْها مِنْ صَنِيعٍ. ثُمَّ أَسْرَعَت إلَى بابِ الْقَصْرِ.

(٣) حارِسَةُ الْقَصْرِ

وَلَمْ تَجْتَزِ الْوَصِيدَ (الْعَتَبَةَ) حَتَّى أَبْصَرَتْ أَمامَها غادَةً جَمِيلَةً تَرْتَدِي ثَوْبًا أَبْيَضَ ناصِعَ الْبَياضِ.

وَلَمْ تُبْصِرِ الْفَتاةُ «الشَّقْراءَ» حَتَّى سَأَلَتْها بِصَوْتٍ عَذْبٍ عَمَّنْ تُرِيدُ.

فَقالَتْ لَها: «أُرِيدُ أَنْ أَرَى سَيِّدَةَ الْعَصْرِ، وَحارِسَةَ الْقَصْرِ، الْجِنِّيَّةَ «أُمَّ نَصْرٍ». فَهَلْ تَتَفَضَّلِينَ بإخْبارِها أَنَّ بِبابِ الْقَصْرِ فَتاةً اسْمُها: «الشَّقْراءُ» تُرِيدُ أَنْ تَسْعَدَ بِلِقائِها؟»

فَقالَتْ لَها الْفَتاةُ: «هَلُمِّي فاتْبَعِينِي، يا أَمِيرَةُ، فَأَنْتِ بِكُلِّ خَيْرٍ جَدِيرَةٌ.»

فَتَبِعَتْها «الشَّقْراءُ» وَهِيَ تَرْتَجِفُ مِنْ شِدَّةِ الشَّوْقِ. وَمَرَّتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْقاعاتِ البَدِيعَةِ، وَلَقِيَتْ كَثِيراتٍ مِنَ الْأَوانِسِ الْجَمِيلاتِ، مُرْتَدِياتٍ أَبْدَعَ الْثِيابِ الْفاتِناتِ، حالِياتٍ بِأَثْمَنِ الْيَواقيتِ الْباهِراتِ، وَقَدْ أَقْبَلْنَ عَلَيْها باسِماتٍ.

وَدَهِشَتْ مِنْ حَفاوَتِهِنَّ، وَخُيِّلَ إلَيْها أَنَّها تَعْرِفُهُنَّ مِنْ قَبْلُ كَما يَعْرِفْنَها، وَتَأْلَفُهُنَّ كَما يأْلَفْنَها. ثُمَّ انْتَهَتِ «الشَّقْراءُ» إلَى بَهْوٍ فَسِيحٍ، ما أَشْبَهَهُ بِما رَأَتْهُ فِي قَصْرِ أَمِيرَةِ الْغِزْلانِ، إنْ لَمْ يَكُنْهُ. وَقَدْ أَثَّرَ فِي نَفْسِها ما رَأَتْهُ تَأْثِيرًا شَدِيدًا، واشْتَدَّ بِها الشَّوْقُ، واسْتَبَدَّ بِها الْأَلَمُ، وَطَغَى عَلَيْها الْحُزْنُ، حِينَ اسْتَعادَتْ تِلْكَ الذِّكْرَياتِ الْماضِيَةَ السَّعِيدَةَ. فَنَسِيَتْ كُلَّ ما عَداها، وَلَمْ تَفْطُنْ إلَى انْصِرافِ الآنسَةِ الَّتِي كانَتْ مَعَها، وَذَهابِها لاِسْتِدْعاءِ الْجِنِّيَّةِ «أُمِّ نَصْرٍ».

وَلَمْ تَرَ «الشَّقْراءُ» شَيْئًا جَدِيدًا فِي هَذا الْبَهْوِ يَخْتَلِفُ عَمَّا كانَ فِي الْقَصْرِ الْقَدِيمِ إلَّا صِوانًا كَبِيرًا مِنَ الذَّهَبِ الْخالِصِ، مُرَصَّعًا بِالْعاجِ الْبَدِيعِ الصُّنْعِ، وَكانَ قَدْ أُغْلِقَ بابُهُ. فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُحَوِّلَ بَصَرَها عَنْهُ، وَشَعَرَتْ بِانْعِطافٍ إلَيْهِ، وَجاذِبِيَّةٍ وَشَوْقٍ شَدِيدَيْنِ إلَى رُؤْيَةِ ما يَحْوِيهِ.

وَإنَّها لَغارِقَةٌ فِي التَّأَمُّلِ، مُستَسْلِمَةٌ لِلتَّفْكِيرِ، إذِ انْفَتَحَ أَحَدُ أَبْوابِ الْقاعَةِ فَجْأَةً، وَدَخَلَتْ مِنْهُ سَيِّدَةٌ شابَّةٌ فِي ثَوْبٍ رائِعٍ. فَلَمَّا اقْتَرَبَتْ مِنَ «الشَّقْراءِ» قالَتْ لَها بِصَوْتٍ لَطِيفٍ عَذْب: «ماذا تُرِيدِينَ مِنِّي، يا بُنَيَّتِي؟»

فَقالَتْ لَها «الشَّقْراءُ» مُتَذَلِّلَةً ضارِعَةً: «لَقَدْ سَمِعْتُ — يا سَيِّدَتِي الْجَلِيلَةَ — أَنَّ لَدَيْكِ الْخَبَرَ الْيَقِينَ عَنْ صَدِيقَيَّ الْعَزِيزَيْنِ: أَمِيرَةِ الْغِزْلانِ وَوَلَدِها «أَبِي خَداشٍ». وَما أَظُنُّكِ إلَّا عارِفَةً بِما أَسْلَفْتُ مِنْ خَطَإٍ لا يُغْتَفَرُ حِينَ أَهْمَلْتُ طاعَتَهُما، وَأَبَيْتُ إلَّا أَنْ أُخالِفَهُما، وَأَعْصِيَ أَمْرَهُما. وَقَدْ عُوقِبْتُ عَلَى ذَلِكِ بِفَقْدِهِما، وَحِرْمانِي مَعُونَتَهُما. وَقَدْ طالَ بُكائِي واشْتَدَّ أَلَمَي لِفَقْدِهِما، وَزَادَ نَدَمِي عَلَى مُخالَفَتِهِما، وَطالَ شَوْقِي إلَى لِقائِهِما. وَقَدْ كِدْتُ أَهْلِكُ غَمًّا؛ وأَمُوتُ أَسَفًا وَهَمًّا، لَوْلا أَنَّ السُّلَحْفاةَ قَدْ بَعَثَتِ الْأَمَلَ فِي نَفْسِي مِنْ جَدِيدٍ، وَيَسَّرَتْ لِي سَبِيلَ الرَّجاءِ، فَحَمَلَتْنِي إلَى هَذا الْقَصْرِ، وأَخْبَرَتْنِي أَنَّ مِفْتاحَ سَعادَتِي فِي يَدَيْكِ. فَبِماذا تُشِيرِينَ عَلَيَّ؟»

(٤) بَعْدَ فَتْحِ الصِّوانِ

فَقالَتِ الْجِنِّيَّةُ «أُمُّ نَصْرٍ» مَحْزُونَةً مُتَأَلِّمَةً: «سَتَعْلَمِينَ، يا «شَقْراءُ» — بَعْدَ قَلِيلٍ — ما آلَ إلَيْهِ أَمْرُ صَدِيقَيْكِ الْعَزِيزَيْنِ، إذا احْتَفَظْتِ بِما مَيَّزَكِ اللهُ بِهِ مِنْ شَجاعَةٍ وأَمَلٍ، فَحَذارِ أَنْ تَفْقِدِي إحْدَى هاتَيْنِ الْمِيزَتَيْنِ أَوْ كِلْتَيْهِما، مَهْما تُبْصِرِي مِنْ مُفاجَآتٍ. أَقادِرَةٌ أَنْتِ عَلَى إنْجازِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، وَتَحْقِيقِ هَذَيْنِ الْمَطْلَبَيْنِ؟» فَقالَتِ «الشَّقْراءُ» وَهِيَ تَرْتَجِفُ: «لَكِ ما تَشائِينَ.»

فَقالَت لَها الْجِنِّيَّةُ: «هاكِ مِفْتاحَ الصِّوانِ الَّذِي طالَ وُقُوفُكِ أَمامَهُ. فافْتَحِيهِ؛ وَحَذارِ أَنْ تَفْقِدِي شَجاعَتَكِ وأَمَلَكِ.»

فَتَقَدَّمَتِ «الشَّقْراءُ» إلَى الصِّوانِ، وَفَتَحَتْ بابَهُ بِيَدٍ رَعِشَةٍ.

فَماذا أَبْصَرَتْ؟ وأَيَّ هَوْلٍ نَظَرَتْ؟ وَبِأَيِّ مُفاجَأةٍ رُوِّعَتْ؟

لَقَدْ ظَهَرَتْ أَمامَها — فِي الْحالِ — أَمِيرَةُ الْغِزْلانِ وَوَلَدُها الْأَمِيرُ «أَبُو خَداشٍ»، وَكِلاهُما مُعَلَّقٌ، مَشْدُودٌ مِنْ شَعْرِهِ فِي أَعْلَى الصِّوانِ، مُثَبَّتَةٌ يَداهُ وَرِجْلاهُ بِمَسامِيرَ مَتِينَةٍ مِنَ الْماسِ.

وَمَا أَبْصَرَتْهُما حَتَّى انْبَعَثَتْ مِنْها صَرْخَةُ أَلَمٍ عالِيَةٌ، كادَ يَتَمَزَّقُ مِنْها قَلْبُها. ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْها، فَسَقَطَتْ بَيْنَ ذِراعَيِ الْجِنِّيَّةِ «أٌمِّ نَصْرٍ» الَّتِي أَكْبَرَتْ وَفاءَها، وأَسْرَعَتْ إلَى نَجْدَتِها.

ثُمَّ فُتِحَ الْبابُ مَرَّةً أُخْرَى، وَدَخَلَ أَمِيرٌ بَهِيُّ الطَّلْعَةِ، صَبِيحُ الْوَجْهِ، فَأَسْرَعَ إلَى السَّيِّدَةِ قائِلًا: «شَدَّ ما قَسَوْتِ — يا أُمِّي — عَلَى عَزِيزَتِنا «الشَّقْراءِ» فِي هَذِهَ التَّجْرِبَةِ الْعَنِيفَةِ.»

فَقالَتْ لَهُ مُعْتَذِرَةً: «لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِاخْتِيارِي، يا بُنَيَّ — كَما يَعْلَمُ اللهُ — وَإنْ كانَ قَلْبِي لَيَكادُ يَتَقَطَّرُ دَمًا، مِنْ جَرَّاءِ ما لَقِيَتِ «الشَّقْراءُ» مِنَ الشَّدائِدِ، واحْتَمَلَتْ مِنَ النَّكَباتِ. وَإنَّكَ لَتَعْرِفُ أَنَّ هَذا الْعِقابَ الْاَخِيرَ لَمْ يَكُنْ لَنا مَنْدُوحةٌ عَنْهُ لِتَخْلِيصِها مِنْ أَسْرِ ساحِرِ الْغابَةِ الْعَنِيدِ.»

وَلَمْ تُتِمَّ السَّيِّدَةُ هَذِهِ الْكَلِماتِ حَتَّى لَمَسَتِ «الشَّقْراءَ» بِيَدِها. فَأَعادَتْ إلَيْها الْيَقَظَةَ والاِنْتِباهَ. فَكانَ أَوَّلَ ما فاهَتْ بِهِ قَوْلُها: «كَلَّا. لا خَيْرَ فِي الْحَياةِ بَعْدَ ما رَأَيْتُ، وَلا عَزاءَ لِي بَعْدَ هَذا الْيَوْمِ، إلَّا إذا لَحِقْتُ بِهِما، وَهَلَكْتُ فِي أَثَرِهِما.»

فَضَمَّتْها السَّيِّدَةُ بَيْنَ ذِراعَيْها، مُعْجَبَةً بِوَفائِها وإخْلاصِها وَعِرْفانِها لِلْجَمِيلِ.

(٥) أَيَّامُ السَّعادَةِ

ثُمَّ قالَتْ لَها باسِمَةً: «شَقْراءُ. لا تَجْزَعِي يا شَقْراءُ. إنَّ صَدِيقَيْكِ لا يَزالانِ عَلَى قَيْدِ الْحَياةِ، وَهُما لا يَعْدِلانِ بِحُبِّكِ شَيْئًا. أَنْعِمِي النَّظَرَ فِي وَجْهِي، فَأَنا «أُمُّ عَزَّةَ»، وَهَذا وَلَدِيَ الْأَمِيِرُ «أَبُو خَداشٍ.»

ثُمَّ سَكَتَتْ أَمِيرَةُ الْغِزْلانِ لَحْظَةً قَصِيرَةً، واسْتَأْنَفَتْ حَدِيِثَها قائِلَةً: «لَقَدِ انْتَهَزَ ساحِرُ الْغابَةِ فُرْصَةً مُواتِيَةً، فَغافَلَنِي وَسَحَرَنِي وَوَلَدِي وَعِلَةً وَقِطًّا، وَحَوَّلَ جَوارِينَا وَخَدَمَنا جَمِيعًا غِزْلانًا. وَلَمْ يَكُنْ لَنا وَسِيلَةٌ لاِسْتِرْدادِ شَكْلِنا الآدَمِيِّ إلَّا إذا قَطَفْتِ الْوَرْدَةَ. وَلَكِنَّ قَطْفَها سَيُكَلِّفُكِ أَهْوالًا، لا قِبَلَ لَكِ بِاحْتِمالِها. وَلَمَّا كُنْتُ عارِفَةً بِما تَتَعَرَّضِينَ لَهُ مِنْ شَقاءٍ إذا حاوَلْتِ أَنْ تُخْرِجِي ساكِنَةَ الْوَرْدَةِ مِنْ سِجْنِها، لَمْ أَشَأْ أَنْ أُخْبِرَكِ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ حَتَّى لا تُكابِدِي مِنَ الشَّقاءِ ما كابَدْتِهِ. عَلَى أَنَّكِ لَوْ لَمْ تَفْعَلِي ذَلِكِ لَبَقِيتُ أَنا وَوَلَدِي مَسحُورَيْنِ غَزالَةً وَقِطًّا، وَلَمْ نَسْتَرِدَّ صُورَتَنا مَدَى الْحَياةِ. وَلَوْ تُرِكَ لَنا الْأَمْرُ لآثَرْنا أَنْ نَبْقَى كَما كُنَّا مَسْحُورَيْنِ، لا يُفَكُّ سِحْرُنا أَبَدًا. وَلَكِنْ ما حِيلَتُنا وَقَدْ غافَلَتْنا الْبَبَّغاءُ، وتَمَكَّنَتْ مِنْ لِقائِكِ والتَّحَدُّثِ إلَيْكِ؟ وَما أَدْرِي: كَيْفَ تَيَسَّرَ لَها ذَلِكِ بِرَغْمِ ما أَقَمْناهُ فِي سَبِيلِ تَعْوِيقِها مِنَ الْحَواجِزِ؟ وقَدْ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكِ ما لا تَجْهَلِينَ مِنَ الْأَحْداثِ والْمَصائِبِ. وما أَظُنُّنِي بِحاجَةٍ إلَى تِبْيانِ ما لَقِيناهُ مِنَ الحُزْنِ فِي أَثْناءِ تَعَرُّضِكِ لِهَذِهِ الْمِحْنَةِ الَّتِي قاسَيْتِها، أَيَّتُها الْعَزِيزَةُ.»

وَلا تَسَلْ — أَيُّها الْقارِئُ — عَنْ فَرَحِ «الشَّقْراءِ» بهَذِهِ الْخاتِمَةِ الْسَّارَّةِ، وَكَيْفَ انْهالَتْ عَلَى أَمِيرَةِ الْغِزْلانِ تُعانِقُها وَتُقَبِّلُها وَتَشْكُرُها، وَتُثْنِي عَلَى وَلَدِها الْأَمِيرِ النَّبِيلِ. وَلَمْ يَسْتَقِرَّ بِهِمُ الْمَقامُ حَتَّى سأَلَتِ «الشَّقْراءُ» أَمِيرَةَ الْغِزْلانِ عَمَّا آلَ إلَيْهِ أَمْرُ غِزْلانِ الْغابَةِ الَّتِي كانَتْ تَقُومُ عَلَى خِدْمَتِها.

فَقالَتْ لَها «أُمُّ عَزَّةَ»: «لَقَدْ رَأَيْتِهِنَّ، يا عَزِيزَتِي الآنَ. إنَّهُنَّ الْأَوانِسُ اللَّواتِي رافَقْنَكِ إلَى هَذا الْمَكانِ. حَوَّلَهُنَّ السَّاحِرُ — كَما قُلْتُ لَكِ — غَزَالاتٍ. فَلَمَّا انْطَلَقَ الْجِنِّيُّ، زالَ سِحْرُهُ عَنْهُنَّ، فَعُدْنَ — كَما كُنَّ مِنْ قَبْلُ — آنِساتٍ.»

فَقالَتِ «الْشَّقْراءُ»: «وكَيْفَ حالُ «أُمِّ جَوْذَرٍ» تِلْك الْبَقَرَةِ الْكَرِيمَةِ الْخَيِّرَةِ؟»

فَقالَتْ: «لَقَدْ رَجَوْنا مَلِكَةَ الْجِنِّيَّاتِ أَنْ تُرْسِلَها إلَيْكِ لِتُخَفِّفَ مِنْ قَسْوَةِ التَّجْرِبَةِ عَلَيْكِ. كَما رَجَوْناها أَنْ تُرْسِلَ إلَيْكِ الْغُرابَ «أَبا حاتِمٍ» لِيَبْعَثَ حَدِيثُهُ فِي نَفْسِكِ الصَّبْرَ والْأَمَلَ.»

فَقالَتِ «الشَّقْراءُ»: فَأَنْتِ — إذَنْ — الَّتِي أَرْسَلَتْ السُّلَحْفاةَ إلَيَّ؟»

فَقالَتْ: «نَعَمْ — يا شَقْراءُ — فَقَدِ اشْتَدَّ حُزْنِي لِما تَحَمَّلْتِ مِنْ آلامٍ مُبَرِّحَةٍ. وَقَدْ عاوَنَتْنِي مَلِكَةُ الْجِنِّيَّاتِ عَلَى تَخْلِيصِكِ مِنْ ساحِرِ الْغابَةِ، عَلَى شَرِيطَةِ أَنْ تَسْتَوْثِقَ مِنْ طاعَتِكِ وَصَبْرِكِ وَشَجاعَتِكِ. فَمَشَتْ بِكِ تِلْكَ الْمَرْحَلَةَ الطَّوِيلَةَ الْمُتْعِبَةَ، وَخَيَّلَتْ إلَيْكِ — فِيما خَيَّلَتْ — أَنَنِي وَوَلَدِي قَدْ أَصْبَحْنا فِي عِدادِ الْأَمْواتِ، لِتَخْتَبِرَ مِقْدارَ وَفائِكِ لَنا، وَمَدَى عِرْفانِكِ لِصَنِيعِنا. وَقَدْ رَجَوْتُها — جُهْدِي — أَنْ تُعْفِيَكِ مِنْ هَذِهِ التَّجْرِبَةِ الْقاسِيَةِ، فَلَمْ تُجِبْ رَجائِي. وَقَدْ حَبَسْنا السَّاحِرَ الآنَ، وَأَنْقَذْنا الْعالَمَ مِنْ شَرِّهِ وأَذاهُ.»

وَلا تَسَلْ عَنْ فَرَحِ «الشَّقْراءِ» بِلِقاءِ «أُمِّ عَزَّةَ» وَوَلَدِها، وابْتِهاجِها بِرؤْيَتِهِما، بَعْدَ أَنْ يَئِسَتْ مِنْ لِقائِهِما. فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِما تَبُثُّهُما شَجْوَها وَشَوْقَها إلَيْهِما، وَشُكْرَها إيَّاهُما.

(٦) اللِّقاءُ بَعْدَ الْيَأسِ

ثُمَّ مَرَّتْ بِخاطِرِها ذِكْرَى والِدِها الْمَلِكِ «حَبِّ الرُّمانِ».

وَسُرْعانَ ما فَطَنَ الْأَمِير «أَبُو خَداش» إلَى ما حَدَّثَتْ نَفْسَها بِهِ، وَعَرَفَ ما دارَ بِخاطِرِها، فَقالَ لَها: «تَأَهَّبِي — يا عَزِيزَتِيَ «الشَّقْراءَ» — لِلِقاءِ والِدِكِ. فَقَدْ أَبْلَغْتُةُ نَبَأَ عَوْدَتِكِ مُنْذُ زَمَنٍ يَسِيرٍ، وَهُوَ الآنَ يَنْتَظِرُكِ بِفارِغِ الصَّبْرِ.»

وَلَمْ يُتِمَّ كَلامَهُ حَتَّى رَكِبَتِ «الشَّقْراءُ» عَرَبَةً مِنَ اللُّؤْلُؤِ والذَّهَبِ، وَإلَى يَمِينِها «أَمِيرَةُ الْغِزْلانِ»، وَعِنْدَ قَدَمَيْها الْأَمِيرُ الْوَفِيُّ «أَبُو خَداشٍ». وَشُدَّتْ إلَى الْعَرَبَةِ بَطَّاتٌ بِيضٌ أَرْبَعٌ، فَطارَتْ بِها فِي مِثْلِ سُرْعَةِ الْبَرْقِ الْخاطِفِ، حَتَّى بَلَغَتْ قَصْرَ الْمَلِكِ بَعْدَ لَحَظاتٍ.

وَكانَ الْمَلِكُ — وَحاشِيَتُهُ مِنْ حَوْلِهِ — يَتَرَقَّبُونَ وُصُولَ «الشَّقْراءِ».

وَما رَأَوُا الْعَرَبَةَ حَتَّى دَوَّتْ أَصْواتُ الفَرَحِ، فَأَصَمَّتِ الآذانَ.

وَقَدْ خُيلَ إلَى الْبَطَّاتِ حِينَ سَمِعْنَ تِلْكَ الصَّيْحاتِ أَنَّهُنَّ أَخْطَأْنَ الطَّرِيقَ، وَلَكِنَّ الْأَمِيرَ أَسْرَعَ إلَى تَنْبيهِهِنَّ إلَى خَطَئِهِنَّ، فَهَبَطَتِ الْعَرَبَةُ أَمامَ بابِ الْقَصْرِ. وَانْدَفَعَ الْمَلِكُ إلَى بِنْتِهِ فَارْتَمَتْ بَيْنَ ذِراعَيْهِ، وَطالَ عِناقُهُما، وَبَكَى الْحاضِرُونَ جَمِيعًا مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ.

وَلَمَّا سَكَنَ تأَثُّرُ الْمَلِكِ انْحَنَى عَلَى يَدِ الْجِنِّيَّةِ يُقَبِّلُها، شاكِرًا ما بَذَلَتْهُ فِي سَبِيلِ بِنْتِهِ «الشَّقْراءِ» مِنْ عِنايَةٍ وَرِعايَةٍ، قادِرًا لَها مَعُونَتَها وَمُرُوءَتَها فِي الْقِيامِ عَلَى تَرْبِيَتِها وَتَثْقِيفِها وَحِمايَتِها. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى وَلَدِها الْأَمِيرِ الْوَدِيعِ الْكَرِيمِ، شاكِرًا لَهُ أَصْدَقَ الشُّكْرِ. وَأُقِيمَتْ حَفَلاتُ الاِبْتِهاجِ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ.

وَلَمَّا اسْتَأْذَنَتْ أَمِيرَةُ الْغِزْلانِ فِي أَنْ تَعُودَ إلَى قَصْرِها، شَعَرَتِ «الشَّقْراءُ» والْأَمِيرُ بِحُزْنٍ شَدِيدٍ، وَبَكَيَا بُكاءً حارًّا مِنْ أَلَمِ الْفِراقِ. فَرَجاها الْمَلِكُ أَنْ تَبْقَى هِيَ وَوَلَدُها مَعًا فِي قَصْرِهِ.

(٧) خاتِمَةُ الْقِصَّةِ

وَلَمْ تَمْضِ أَيَّامٌ قَلِيلَةٌ حَتَّى تَزَوَّجَ الْمَلِكُ أَمِيرَةَ الْغِزْلانِ، وَتَزَوَّجَتِ «الشَّقْراءُ» وَلَدَ الْأَمِيرَةِ.

أمَّا «السَّمْراءُ» فَقَدْ أَصْبَحَتْ خَلْقًا آخَرَ، وَصَارَتْ — بِفَضْلِ ما تَحَلَّى بِهِ زَوْجُها مِنْ حَزْمٍ وَكِياسَةٍ — مِثالًا لِلُّطْفِ والْوَداعَةِ والْأَمانَةِ.

أَمَّا «الشَّقْراءُ» فَقَدْ أَنْساها ما ظَفِرَتْ بِهِ مِنَ السَّعادَةِ كُلَّ ما لَقِيَتْهُ مِنْ تَعَبٍ وَعَناءٍ، فِي أَيَّامِ الْبُؤْسِ والشَّقاءِ.

وَعاشُوا جَمِيعًا فِي هَناءٍ وَسُرُورٍ، تُرَفْرِفُ عَلَيْهِمْ أَعْلامُ السَّعادَةِ، والْهَناءَة والرَّغادَةِ، وَعاشُوا فِي ثَباتٍ وَنَباتٍ، وَخَلَّفُوا الْبَنِينَ والْبَناتِ.

يُجابُ مِمَّا فِي هَذِهِ الْحِكايَةِ عَنِ الْأَسْئِلَةِ الْآتِيَةِ:

الفصل الأول

(س١) ماذا لقيت «الشقراء» من أبيها، بعد وفاة أمها؟
(س٢) من التي اختارها الوزير زوجة للملك؟ وماذا خدعه منها؟
(س٣) لماذا ترك الملك بنته فِي كفالة مرضعتها ومربيتها؟
(س٤) ماذا ورثت «السمراء» عن أمها «سمية»؟

الفصل الثاني

(س١) لماذا سمي «شرهان» بهذا الاسم؟ ولماذا تجنب الناس «غابة الزنبق»؟
(س٢) ماذا اشترطت «سمية» على «شرهان» ليظفر بما يطمع فيه؟
(س٣) لماذا رغبت الفتاة فِي دخول «غابة الزنبق»؟ وبماذا عوقب «شرهان»؟

الفصل الثالث

(س١) ماذا شغل «الشقراء» وهي فِي الغابة؟ وماذا خشيت؟

الفصل الرابع

(س١) ماذا لقيت «الشقراء» حين استيقظت؟ وماذا طلبت من «أبي خداش»؟
(س٢) لماذا اطمأنت الفتاة وهي تتبع «أبا خداش»؟ وأين انتهى بها السير؟

الفصل الخامس

(س١) ماذا دار بين أميرة الغزلان والفتاة؟ ولمن الأمر فِي الغابة؟

الفصل السادس

(س١) كيف أصبحت صورة الفتاة؟ وكم أمضت نائمة؟ وماذا استفادت؟
(س٢) ماذا طلبت «الشقراء»؟ وبم حدثتها المرآة؟ وكيف حلم بها أبوها؟
(س٣) بماذا صورت المرآة مصير «سمية» وابنتها؟ لماذا منعت الفتاة من دخول الغابة؟

الفصل السابع

(س١) ما المدة التي حددتْها أميرة الغزلان لترى الفتاة أباها؟ وبماذا نصحتها؟
(س٢) ماذا دار بين الببغاء والفتاة؟ وكيف صورة حقيقة أميرة الغزلان وابنها؟
(س٣) ما المراد بالطلسم؟ وكيف الظفر به؟ وما الزهرة المنهي عن ذكرها؟
(س٤) ماذا فعلت الفتاة بالقط؟ ولماذا شكرت كل من الوردة والببغاء الفتاة؟

الفصل الثامن

(س١) كيف رأت الفتاة مصير القصر؟ وعلام ندمت؟ وبماذا حدثها الغراب؟
(س٢) بماذا أفادت الضفدع الفتاة؟ وبم ارتوت؟ وكيف أقامت خصًّا للمبيت؟

الفصل التاسع

(س١) ماذا تحدثت السلحفاة عن سطوة الببغاء: الساحر، والوردة: الساحرة؟
(س٢) بماذا شرطت السلحفاة لكي تخبر الفتاة بما تطمح إليه من أخبار؟

الفصل العاشر

(س١) ما غرض السلحفاة من طول المدة التي قضتها على ظهرها؟
(س٢) ما حقيقة أميرة الغزلان وابنها؟ وكيف صنع بهما ساحر الغابة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤