الفصل الأول

شأن الأفكار في حياة الأمم

بعد أن بَيَّنَّا أن الأخلاق النفسية للعروق ذات ثبات عظيم، وأن تاريخ الأمم يُشتق من هذه الأخلاق، وأوضحنا كيف يمكن العناصر النفسية أن تتحول مع الزمن بتراكمات وراثية بطيئة كما تتحول العناصر التشريحية للأنواع، وعلى مثل هذه التحولات يَتَوقف تطور الحضارات إلى أبعد حَدٍّ.

والعوامل التي تؤدِّي إلى إحداث تغيرات نفسيةٍ متنوعةٌ، فترى للاحتياجات وللمنافسة الحيوية ولبعض البيئات ولتقدم العلوم والفنون وللتربية وللمعتقدات وغيرها عملها، وقد خصصنا مجلدًا واحدًا١ لدراسة شأن كل واحد من هذه العوامل فلا نرى تفصيلها هنا، وإذا ما عدنا إليها في هذا الفصل وفي الفصول الآتية فلكي نثبت وجه عملها باختيارنا بعض العوامل الجوهرية.

وتثبت دراسة مختلف الحضارات التي تعاقبت منذ بدء العالم أن هذه الحضارات مسيَّرة في نشوئها بعدد قليل من المبادئ الأساسية، ولو رُدَّ تاريخ الأمم إلى مبادئ هذه الأمم ما بدا طويلًا أبدًا، وإذا ما وُفِّقَت الحضارة في قرن واحد لإحداث مبدأين أو ثلاثة مبادئ أساسية موجهة في ميدان الفنون أو العلوم أو الآداب أو الفلسفة أمكن عدها ذات نضارة استثنائية.

ولا تكون المبادئ ذات عمل حقيقي في روح الأمم إلا إذا هبطت بنضج بطيء جدًّا من مناطق الفكر المتحولة إلى المِنْطقة الثابتة اللاتَنبُّهية للمشاعر حيث تنضج عوامل سيرنا، وهنالك تغدو تلك المبادئ عناصر أخلاق فتقدر على التأثير في السير، والأخلاق تتكون من بعض الوجوه من تنضُّد المبادئ اللاشاعرة.

وإذا ما نضجت المبادئ نضجًا بطيئًا عظم سلطانها لما لا يبقى للعقل من سيطرة عليها، ولا يؤثر في المؤمن، الذي يستحوذ عليه مبدأ ديني أو غير ديني، أيُّ معقول مهما كان الذكاء الذي يُفترض له، وكل ما يمكن أن يحاوله هذا المؤمن، وهو لا يحاوله في الغالب، هو أن يُدخل بحيل فكرية وبتشويهات كبيرة في الغالب المبدأَ الذي يعارَض به إلى منطقة المبادئ المسيطرة عليه.

وإذا ثبت أن المبادئ لا تكون مؤثرة إلا بعد هبوطها من دوائر الشعور إلى دوائر اللاشعور أدركنا السبب في أنها لا تتحول إلا ببطء كبير، وفي أن المبادئ المُوَجِّهة للحضارة قليلة العدد إلى الغاية، وفي أنها تتطور في زمن طويل، ولنا أن نهنِّئ أنفسنا بأن الأمر كذلك، وإلا لم تسطِع الحضارات أن تكون ذات ثبات، ومن حسن الحظ أيضًا أن المبادئ الجديدة تُنتحل مع الوقت، ولو كانت المبادئ القديمة ثابتة ثباتًا مطلقًا لم تُحقِّق الحضارات أي تقدم كان، ولِمَا عليه تحولاتنا النفسية من بطوء وجب انقضاء عدة أجيال ليتم الفوز للمبادئ الجديدة، ووجب انقضاء عدة أجيال أيضًا حتى تزول هذه المبادئ. وأشد الأمم تمدنًا هي الأمم التي تَجَلَّتْ فيها الأفكار الناظمة على مقياس واحد من التحول والثبات، والتاريخ حافل ببقايا الأمم التي لم تقدر على حفظ هذا التوازن.

وليست كثرة المبادئ وجدَّتها هما اللتان تقفان النظر عند البحث في تطور الأمم، بل الذي يقف النظر هو قلة تلك المبادئ المتناهية وبطء تحولاتها والسلطان الذي تزاوله، وتنشأ الحضارات عن بعض المبادئ الأساسية، وإذا ما أقبلت هذه المبادئ على التغير غدت الحضارات مقضيًّا عليها بالتحول، وقد قامت القرون الوسطى على مبدأين رئيسين: المبدأ الديني والمبدأ الإقطاعي، وعن هذين المبدأين صدرت فنون تلك القرون وآدابها وطراز نظرها إلى الحياة كلها، ثم حلَّ عصر النهضة فطرأ على ذينك المبدأين بعض التغيير؛ فقد فرض المثل الأعلى للعالم الإغريقي اللاتيني سلطانَه على أوربة، فلم تُعتِّم أن صرت تبصر تحولًا في وجه النظر إلى الحياة، وتحولًا في الفنون والفلسفة والآداب، ثم تزعزع سلطان التقاليد فقامت الحقائق العلمية مقامَ الحقيقة المنزلة بالتدريج، فأخذت الحضارة تتحول مجددًا. واليوم يظهر أن المبادئ الدينية القديمة فقدت شيئًا من سلطانها فصارت تلوح بوادر انهيار النظم الاجتماعية التي تستند إليها.

ولا يمكن أن يتجلى تاريخ تكوين المبادئ وسلطانها واضمحلالها وتحولاتها وزوالها إلا إذا استند إلى عدة أمثلة، وإذا ما دخلنا دائرة الجزئيات ثبت لنا أن كل عنصر من عناصر الحضارة — من فلسفة ومعتقدات وفنون وآداب إلخ — خاضع لعدد قليل من المبادئ الناظمة التي تتحول ببطء شديد على العموم، ولا تشذ العلوم نفسها عن هذه القاعدة، واليوم يُشتق جميع علم الفيزياء من مبدأ عدم فناء الطاقة، ويُشتق جميع علم الحياة من مبدأ تحول الأنواع، ويُشتق علم الطب من مبدأ أصغر ما يكون، ويُثبت تاريخ هذه المبادئ أنها لم تستقر إلا مقدارًا فمقدارًا وبصعوبة مع أنها لم توجَّه إلى غير ذوي البصائر، ولا يتطلب استقرار مبدأ علمي أساسي أقل من خمس وعشرين سنة في هذا العصر الذي يسير فيه كل شيء بسرعة، وذلك في نطاق من المباحث التي لا تؤثر فيها الشهوات والمآرب، ولم يقتضِ زمنًا أصغر من هذا استقرارُ أوضحِ المبادئ العلمية وأسهلها إثباتًا وأقلها احتياجًا إلى الجدل كمبدأ الدورة الدموية.

ويتمُّ انتشار جميع المبادئ على نمط واحد في كل وقت سواء أكان المبدأ علميًّا أم فنيًّا أم فلسفيًّا أم دينيًّا أم أي مبدأ آخر، ويجب اعتناق المبدأ في بدء الأمر من قِبَل عدد قليل من الرسل الذين ينالون نفوذًا كبيرًا بشدة إيمانهم أو منزلتهم. ويؤثِّر الرسل؛ إذ ذاك، بالتلقين أكثر مما بالبرهان، ولا يجب أن يُبْحَثَ في قيمة البرهان عن عناصر الإقناع الجوهرية، والمتكلم يفرض أفكاره بنفوذه الشخصي أو بمخاطبته الأهواء، والمتكلم لا يمارس أي نفوذ بمخاطبته العقل وحده، والجماعات لا تقنع بالأدلة أبدًا، بل بضروب التوكيد، ويتوقف سلطان هذا التوكيد على نفوذ الشخص الذي يَصْدُرُ عنه.

وإذا ما وفِّق الرسل لإقناع عدد قليل من الأشياع فكثر عددهم بذلك أخذ المبدأ يدخل مِنْطَقَةَ الجَدَلِ، فيثير المبدأ في بدء الأمر اعتراضًا عامًّا لما يَصْدِمُه من أمور كثيرة قديمة مقرَّرة بحكم الضرورة، ومن الطبيعي أن يثير هذا الاعتراض مَن يدافع عن المبدأ من الرسل فلا يُسفر عن غير اقتناع هؤلاء الرسل بأفضليتهم على بقية الناس، فيناضلون عن المبدأ الجديد بحماسة؛ لا لأن هذا المبدأ صواب، وهم في الغالب لا يعرفون عنه شيئًا، بل لأنهم اعتنقوه فقط، وهنالك يغدو المبدأ الجديد موضع مناظرة مشتدة؛ أي إنه يُنتحل بالحقيقة جملة واحدة من قِبَل فريق، ويُرفض جملة واحدة من قبل فريق آخر، وكلا الفريقين يتبادل النفي والتوكيد، وهما قلما يتبادلان البراهين؛ وذلك لأن أسباب قبول المبدأ الواحد أو رفضه ترجع لدى معظم الناس إلى المشاعر، والمشاعر لا يؤثَّر فيها بالمعقول أبدًا.

وينمو المبدأ رويدًا رويدًا بفعل تلك المجادلات المحتدِمة على الدوام، وتميل الناشئة الجديدة التي تجده مناقَشًا فيه إلى اعتناقه؛ لأنه نوقش فيه، والناشئة، وهي ولُوع بالاستقلال في كل وقت، تتصف اتصافًا كليًّا بمعارضتها دفعة واحدة للمبادئ التي سار الناس عليها.

والمبدأ يداوم، إذن، على النمو، والمبدأ لا يُعتِّم أن يستغني عن أية دعامة كانت، والمبدأ ينتشر إذ ذاك بفعل التقليد من طريق العدوى، والتقليد هو المَلَكة التي يتصف بها الناس إلى أبعد درجة على العموم كما تتصف بها القردة الكبيرة التي يذهب العلم الحديث إلى أنها أجداد الناس.

وإذا ما تناول المبدأَ عاملُ العدوى فأخذ ينتشر دَخَلَ الدورَ المؤدي إلى النجاح بحكم الضرورة، ولَسُرْعَان ما يقبله الرأي العام، وهنالك يكتسب قوةً نفَّاذةً دقيقة ينتشر بها في جميع الأدمغة بالتدريج محدِثًا جوًّا خاصًّا، وإن شئت فقل نمطًا عامًّا للتفكير، وهو ينساب في جميع مدارك العصر وجميع إنتاجاته كالغبار الدقيق الذي ينفذ من الطرق في كل مكان، وهنالك يكون المبدأ ونتائجه جزءًا من الموروثات الكثيفة العادية التي تفرضها التربية علينا، وبذلك يتم النصر للمبدأ ويدخل في مِنْطَقة المشاعر فيكون في مأمن من كل اعتداء زمنًا طويلًا.

وترى من مختلف المبادئ التي تسيِّر إحدى الحضارات ما هو خاص بالفنون والفلسفة مثلًا فيظل ملازمًا لطبقات الشعب العليا، ومن تلك المبادئ ما هو خاص بالأفكار الدينية والسياسية على الخصوص فيهبط إلى أعماق الجماعات، وهو يصل إلى هنالك مشوهًا إلى الغاية، غير أن ما يمارسه إذ ذاك من سلطان على النفوس الساذجة العاجزة عن المناظرة عظيم، ويمثل المبدأ أمورًا لا تقاوم، وتنتشر نتائجه بقوة السيل الذي لا سبيل إلى رده بسد، ومن السهل أن تجد في الأمة، دائمًا، مئة ألف رجل مستعدين للتضحية بأنفسهم دفاعًا عن مبدأ إذا ما تمكَّن هذا المبدأ منهم، وتظهر عندئذ تلك الحوادث العظيمة التي تقلب التاريخ والتي لا يقدر على إنجازها غير الجماعات، ولم تقُمْ بالمثقفين والمتفننين والفلاسفة تلك الديانات التي سادت العالم، ولا تلك الإمبراطوريات الواسعة التي امتدت من أقصى الدنيا إلى أقصاها، ولا تلك الثورات الدينية والسياسية التي قلبت أوربة رأسًا على عقب، بل قامت بأُمِّيِّين استحوذ عليهم أحد المبادئ فاستعدوا للتضحية بأنفسهم في سبيل نشره، وبتلك البضاعة المُزْجَاةِ نظريًّا والقوية عمليًّا استطاع بدويو صحاري جزيرة العرب أن يفتحوا قسمًا من العالم اليوناني الروماني القديم، وأن يَشِيدوا إمبراطورية من أعظم الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ. وبمثل تلك البضاعة الأدبية، وهي هيمنة أحد المبادئ، استطاع جنود العهد الشجعان أن يقفوا في وجه أوربة المُدَجَّجَةِ بالسلاح.

وتبلغ العقيدة القوية من المَنَعَةِ ما لا تستطيع أن تكافحها معه كفاحَ المنتصرِ غيرُ عقيدةٍ مماثلة، وليس للإيمان عدو يخشاه سوى الإيمان، ولا بد من انتصار الإيمان عندما تكون القوة المادية التي تُصَوَّبُ إليه مُؤَيِّدَةً لمشاعرَ ضعيفةٍ ومعتقداتٍ متداعيةٍ، بيد أن ذلك الإيمان إذا ما قابله إيمان قوي مثلُه اشتد الصراع وصار الفوز رهين أحوال ثانوية، أدبية في الغالب، كروح النظام والتفوق في التنظيم، ونحن إذا ما درسنا تاريخ العرب عن كَثَب، وقد ألمعنا إليه آنفًا، وجدنا العرب في فتوحهم الأولى — والفتوح الأولى هي أصعب الفتوح وأهمها على الدوام — قد لاقوا أعداء ضعفاء إلى الغاية من الناحية الأدبية مع ما كان عليه هؤلاء الأعداء من تنظيم عسكري مُحْكَمٍ، ولم يجد العرب في سورية، التي كانت أول بلد حملوا إليه سلاحهم، غير جيوش بزنطية مؤلفة من مرتزقة قليلي الاستعداد للتضحية بأنفسهم في سبيل قضية ما، فشتَّتوا — لما كان يغلي في صدورهم من إيمان تزيد به قوتُهم عشرةَ أمثالها — شمل تلك الكتائب العاطلة من مثل عالٍ، وذلك بسهولة كالتي شتَّت بها فيما مضى لفيفٌ من الأغارقة الذين كان يُمسكهم حبُّ المدينةِ جنودَ سَرْخَس الكثيرين إلى الغاية، وكان الصراع ينتهي بغير ذلك لو اصطدم العرب بكتائب رومة قبل ذلك ببضعة قرون.

وإذا كانت القُوَى الأدبية المتقابلة متماثلة في الشدة كان الفوز لأحسنها تنظيمًا، فمما لا ريب فيه أنه كان لأهل ڨاندِه إيمان حار واعتقاد متين، غير أنه كان لدى جنود العهد أيضًا اعتقاد قوي إلى الغاية، وجنود العهد هؤلاء إذ كانوا أحسن انتظامًا كُتب النصر لهم.

وفي الدين، كما في السياسة، يكون النصر، دائمًا، للمؤمنين لا للملحدين، واليوم إذا بدا المستقبل للاشتراكيين مع ما في مبادئهم من فساد فلأنك لا ترى في الميدان مؤمنين حقيقيين سواهم، واليومَ خَسِرَت الطبقات القابضة على زمام الأمور إيمانها بأي شيء كان، وهي عادت لا تعتقد أمرًا، وهي لا تعتقد إمكان الدفاع تجاه طوفان البرابرة المُتَوَعِّد الذي يحيط بها من كل جانب.

وإذا ما اكتسب المبدأ شكلًا نهائيًّا بعد دور طويل من التَّحَسُّسِ والتعديل والتشويه والمناقشة والدِّعاية فدخل روح الجماعات، غدا عقيدةً؛ أي إحدى تلك الحقائق المطلقة التي لا تحتمل الجدل، ويكون المبدأ إذ ذاك قسمًا من تلك المعتقدات العامة التي يقوم عليها كيان الأمم، وما يكتسبه المبدأ من صفة الشمول يوجب تمثيله دورًا مهمًّا، ولم تكن أدوار التاريخ الكبرى، كعصر أغسطس وعصر لويس الرابع عشر، إلا تلك الأدوار التي تستقر فيها المبادئ وتهيمن فيها على أفكار الناس بعد خروجها من أدوار التحسس والجدل، وهنالك تتألف من تلك المبادئ مناورُ ساطعةٌ، فيصطبغ كلُّ شيء تُنيره بصِبغة متماثلة.

وإذا ما تمَّ النصر للمبدأ الجديد طَبَع أدقَّ عناصر الحضارة بطابعه، ولا بد للمبدأ الجديد، لكي يُعْطِيَ جميعَ نتائجه، من أن يَنْفُذَ روحَ الجماعات، ويهبط المبدأ من الذُّرَى الذهينة التي نبت فيها إلى الطبقة التي تليها فإلى التي ما بعدها، مشوَّهًا مُعَدَّلًا بلا انقطاع، إلى أن يكتسب شكلًا يلائم الروح الشعبية التي ستَنْصُره، وهنالك يبدو المبدأ متجمعًا في كلمات قليلة، وفي كلمة واحدة أحيانًا، مثيرًا صُوَرًا قوية مُغْرِية أو هائلة، ومن ثمَّ مؤثرةً على الدوام، ومن تلك الكلمات: الجنة والنار في القرون الوسطى، ذانك المقطعان القصيران المحتويان قدرة سحرية على الإجابة عن كل شيء، وعلى تفسير كل شيء عند ذوي النفوس الساذجة. ومن تلك الكلمات: كلمة الاشتراكية، التي تمثل عند العامل المعاصر إحدى تلك الصِّيغِ الساحرة الجامعة القادرة على قهر النفوس، وكلمة الاشتراكية هذه تثير بحسب الجماعات التي تَنْفُذ فيها صُوَرًا متنوعة قوية على ما تنطوي عليه من تذبذب وعدم استقرار.

وتُثِيرُ كلمة الاشتراكية في الفرنسي النظري صورةَ جَنَّة يصبح الناس متساوين فيها، فينعمون بسعادة مثالية تحت إشراف الدولة المتصل؛ وتثير كلمة الاشتراكية في العامل الألماني صورة حانةٍ دَخِنة تُقَدِّم فيها الحكومةُ لكل قادم أهرامًا عظيمة من الأمعاء المحشوة لحمًا، ومن الكرنب المخمَّر، ومما لا يحصيه عدٌّ من دِنان الجعة مجانًا. ومن المعلوم أن حالم الكرنب هذا أو حالم المساواة ذلك لم يشغل ذهنه بمعرفة المقدار الحقيقي للأشياء التي تتقسم ولا بعدد المقتسمين، فمن خواص المبدأ أن يُفرض على النفوس بقوة مطلقة لا يؤثر فيها أي اعتراض كان.

وإذا ما تحول المبدأ إلى مشاعر وغدا عقيدةً دام فوزه زمنًا طويلًا، وذهب كل عمل يأتيه العقل في سبيل زعزعته أدراجَ الرياح. ومما لا مراء فيه أن المبدأ الجديد يعاني أيضًا ما عاناه المبدأ الذي حل محله، فيَهْرَم ويميل إلى الزوال، غير أنه لا بد من أن يعاني قبل اندثاره التامِّ أدوارًا من المَسْخِ والتحريف في عِدَّةِ أجيال، ولكبير وقت يظل المبدأ قبل أن يموت بأسره جزءًا من المبادئ الموروثة المُسِنَّةِ التي نَصِفها بالأوهام، ولكن مع الاحترام، وعلى ما لا يعود به المبدأ القديم غير كلمة أو صوت أو سراب تراه حائزًا لقدرة سحرية يستمر بها على إخضاعنا لحكمه.

وهكذا يبقى تراث ما نرضاه بتقوى من مبادئ قديمة وآراء وعهود، ولا يقف أمام أي برهان إذا ما أردنا الجدال فيه مدة ثانية. ولكن ما عدد الرجال القادرين على الجدال في آرائهم الخاصة؟ ما أقلَّ تلك الآراء التي تظل قائمة بعد بحث سطحي!

والخير في عدم الإقدام على ذلك البحث المخيف، ومن حسن الحظ أن كنا غير معرَّضين له، وإذا كانت روح النقد ملكة عالية نادرة إلى الغاية، وكانت روح التقليد ملكة منتشرة جدًّا يقبل معظم الأدمغة غير مجادِل جميعَ ما يسفر عنه الرأي وما تنقله التربية من المبادئ المقررة.

وهكذا ترى للناس في كل جيل وعرق طائفة من الأفكار المتوسطة التي يتشابهون بها تشابهًا عجيبًا بفعل الوِراثة والتربية والبيئة والعَدْوَى والرأي، تشابهًا تعرف به الدور الذي عاشوا فيه بإنتاجهم الفني والفلسفي والأدبي بعد أن تثقل وطأة القرون عليهم. أجل، لا يمكننا أن نقول إن بعضهم كان ينقل من بعض نقلًا مطلقًا، ولكن الذي كان مشتركًا بينهم هو تماثلهم في طُرُز الإحساس والتفكير تماثلًا يؤدي إلى إنتاجات متقاربة إلى الغاية بحكم الضرورة.

ولنا أن نفرح بذلك؛ وذلك لأن روح الأمة تتألف من شبكة التقاليد والمبادئ والمشاعر والمعتقدات وطُرُز التفكير، وقد أبصرنا أن متانة هذه الروح تكون بنسبة قوة تلك الشبكة، وتلك الشبكة وحدها بالحقيقة، ووحدها فقط، هي التي تُمسك الأمم، وتلك الشبكة لا تنفك من غير أن يؤدي ذلك إلى انحلال هذه الأمم في الحال، وتلك الشبكة هي قوة الأمة الحقيقية وهي مولاها الحقيقي، ومما يُعرض في بعض الأحيان كون الملوك الآسيويين طُغَاةً أدِلَّاؤهم أهواؤهم، وهذه الأهواء في الشرق هي بالعكس محصورة ضمن حدود ضيقة ضِيقًا عجيبًا؛ ففي الشرق ترى شبكة التقاليد أقوى مما في أي بلد آخر، وفي الشرق تُبصر أن المعتقدات الدينية المزعزعة كثيرًا عندنا محافظةٌ على سلطانها، وفي الشرق تجد أشد المستبدين جبروتًا لا يصدم التقاليد والرأي لما يعرفة فيهما من قوة أشد من قوته.

ويجد الرجل المتمدن العصري الحديث نفسه في دور من أدوار التاريخ النادرة الخطرة التي يخسر فيها سلطانه ما هو أصلُ حضارته من المبادئ القديمة، وذلك من غير أن تتكون فيه مبادئ جديدة، فيُباح الجدل فيه لهذا السبب، ولا بد من رجوع الباحث إلى أدوار الحضارات القديمة، أو الرجوع إلى الوراء قرنين أو ثلاثة قرون ليتبين ماذا كان نِيرُ العادة والرأي، وليُعرف الثمنُ الذي كان على المبدع الجريء أن يؤديه إذا ما هاجم هاتين القوتين. وكان الأغارقة، الذين يعدهم بعضُ الجهلاء المُتَفَيْهِقِين من الأحرار، خاضعين لنير الرأي والعادة خضوعًا وثيقًا، وكان كل إغريقي محاطًا بسور من المعتقدات التي لا تُمَسُّ أبدًا، وكان كل إغريقي لا يفكر في الجدل حول الأفكار المقرَّرة معانيًا إياها غير ثائر، ولم يعرف العالَم الإغريقي الحرية الدينية ولا حرية الحياة الخاصة، ولا أي نوع من أنواع الحرية، حتى إن القانون الأَثَنِيَّ لم يكن ليسمح للمواطن بأن يعيش بعيدًا من المجالس، أو بألا يحتفل بأي عيد قومي احتفالًا دينيًّا، وما كانت حرية العالم القديم المزعومة إلا وجهًا تامًّا غير شعوري لانقياد المواطن لمبادئ المدينة، وما كان لمجتمع يتمتع أفراده بحرية الفكر والسَّيْر أن يدوم يومًا واحدًا في حال نزاع عامة كالتي كانت تعيش فيها تلك الأمم، وتُبصر في كل زمن أن ابتداء عصر انحطاط الآلهة والنُّظم والعقائد هو اليوم الذي تحتمل الجدال فيه.

وفي الحضارات الحديثة، حيث تجد المبادئ القديمة التي كانت أساسًا للعادة والرأي قد تهدَّمت تقريبًا، تُبصر سلطانها على النفوس قد أصبح ضعيفًا إلى الغاية، وهذه المبادئ انتهت إلى دور من البِلَى ما تغدو به من الأوهام، وتظل الفوضى سائدة للنفوس ما لم يحلَّ مبدأ جديد محلَّ تلك المبادئ، ولهذه الفوضى وحدها يُسمح بالجدل، وما على الكُتَّاب والمفكرين والفلاسفة إلا أن يشكروا للدور الحاضر، وأن يسرعوا إلى الاستفادة منه؛ لأنهم لن يروا عودته ثانية. نعم، إنه دور انحطاط على ما يحتمل، ولكنه من أزمنة التاريخ النادرة التي يكون التعبير عن الأفكار حرًّا فيها، ولا يدوم هذا الدور طويلًا؛ فأحوال الحضارة الحديثة تسوق الأمم الأوربية إلى حال اجتماعية لا تحتمل الجدل ولا الحرية، والحق أن العقائد الجديدة التي يلوح ظهورُها لا تستقر إلا بعدم قبولها أي نوع من أنواع الجدل، وببلوغها من عدم التسامح ما بلغته العقائد التي سبقتها.

ولا يزال الرجل المعاصر يبحث عن المبادئ التي تَصلُح أساسًا للحالة الاجتماعية القادمة، وهنالك الخطر الذي يحيق بها، وبيان الأمر أن تحولات المبادئ الأساسية هي العناصر المهمة في تاريخ الأمم والقادرة على تغيير مصيرها، لا الثورات والحروب التي يَمَّحي ما تؤدي إليه من تخريب بسرعة، وتلك التحولات لا تتم من غير أن يؤدي ذلك إلى تحوُّل جميع عناصر الحضارة دفعة واحدة، فالثورات الحقيقية، وهي أخطر الثورات على حياة الأمة، هي التي تَحدُث في أفكارها.

وليس انتحال أمة لمبدأ حديث خطرًا بذاته، بل الخطر فيما تقوم به الأمة من تجربة لمبادئ متعاقبة قبل أن تجد منها ما تستطيع أن تقيم عليه بناءً اجتماعيًّا جديدًا يقوم مقام البناء الاجتماعي القديم، وليس خطأ المبدأ هو الذي يجعله خَطِرًا، وقد رأينا أن المبادئ الدينية التي عشنا عليها حتى الآن خاطئة إلى الغاية، بل لأنه لا بد من القيام بتجارب تُكرَّر لطويلِ زمنٍ حتى تعرف ملاءمة المبادئ الحديثة لاحتياجات المجتمعات التي تعتنقها، ولا يُقَدَّرُ مدى نفع هذه المبادئ للجماعات إلا بالتجربة. نعم، لا احتياج إلى أن يكون الباحث عالمًا نفسيًّا كبيرًا أو عالمًا اقتصاديًّا عظيمًا حتى يخبرنا بأن تطبيق المبادئ الاشتراكية الحاضرة يسوق الأمم التي تقول بها إلى انحطاط حقير واستبداد مرير، ولكن كيف تُمْنَعُ الجماعات التي تستهويها تلك المبادئ من اعتناق الإنجيل الجديد الذي بُشِّرَتْ به؟

ويدلنا التاريخ كثيرًا على ما تُكَلِّفُه من ثمنٍ تجربةُ المبادئ غير الملائمة لدور ما، ولكن الإنسان لا يستنبط دروسه من التاريخ، ومن العبث أن حاول شارلمان تجديد الإمبراطورية الرومانية؛ فقد كان تحقيق مبدأ الوحدة متعذرًا في ذلك الحين، فمات عمله بموته كما مات عمل ناپليون، ومن العبث أن استنفد فليپ الثاني عبقريته وسلطان إسپانية ذات الصَّوْلَةِ إذ ذاك في مكافحة روح البحث الحر التي كانت تنتشر في أوربة باسم الپروتستانية، ولم تُسْفِرْ مساعيه كلها في مناهضة المبدأ الجديد عن سوى إلقاء إسپانية في حال من الخراب والانحطاط لم تَنْهَضْ منها قطُّ، وفي فرنسة أدت مبادئ متهوسٍ متوَّج مُشبَع من شعور أمته الدولي المصنوع الفاسد المستعصي إلى تسهيل الوَحدة الألمانية والوَحدة الإيطالية، فكلَّفنا ذلك ولايتين كما كلَّفنا السلم إلى أمد طويل، وفي أوربة أوجب المبدأ القائل: إن القوة في العدد، سَتْرَها بجنود مدججين بالسلاح وسَوْقَها إلى إفلاس محتوم، وستأتي مبادئ الاشتراكيين في العمل ورأس المال وجَعْل المُلْك الخاص مُلكًا للدولة إلخ، على الأمم التي كانت تحفظها الجيوش الضرورية الدائمة.

ويمكن ذكرُ مبدأ القوميات أيضًا بين المبادئ الموجِّهة التي يجب الخضوع لنفوذها الخطر، وسوف يسوق تحقيقُه أوربةَ إلى أشد الحروب ضررًا، وسوف يجر بالتتابع كثيرًا من الدول الحديثة إلى الخراب والفوضى.

ولكن لم يُعطَ الرجال قدرة على وقف سَيْر المبادئ إذا ما نفذت في النفوس، وهنالك يجب أن يتم تطورها، ويبدو المدافعون عنها في الغالب أولئك الذين يكونون ضحاياها الأولى، وليست الغَنَمُ وحدها هي التي تتبع دليلها طائعة إلى المسلخ، فلنرْكعْ أمام سلطان المبدأ، والمبدأ إذا ما بلغ دورًا من تطوره لم يوجَد برهان ولا بيان يتغلب عليه، والأمم لكي تتخلص من ربقة أحد المبادئ تستلزم قرونًا كثيرة أو ثورات عنيفة، أو كليهما في بعض الأحيان، ولا شيء أكثر من الأوهام التي ابتدعتها البشريةُ فذهبت ضحيتَها بالتتابع.

هوامش

(١) انظر إلى الجزء الثاني من كتاب «الإنسان والمجتمعات وأصولهما وتاريخهما»، وقد خصصنا ذلك الجزء الثاني للبحث في تطور المجتمعات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤