مقدمة
قد يكون موضوع هذا الكتاب جديدًا، فالكتاب والمؤرخون المحدثون لم يعنوا بدراسة الحياة الفكرية والأدبية بمصر الإسلامية عنايتهم بدراسة الحياة الفكرية والأدبية في غير مصر من الأقطار الإسلامية، مع أن القدماء وجهوا إلى مصر عناية خاصة، فالواقدي وأبو إسحاق الأموي وغيرهما وضعوا كتابًا في فتوح مصر، وزار المسعودي مصر وتحدث عنها في مروج الذهب، ووضع الصولي كتابًا في «شعراء مصر»، وجعل الثعالبي في يتيمته بابًا خاصًّا لشعراء مصر، وهكذا كان القدماء أبرَّ بمصر من المحدثين، ولا أدري سبب تقصير الباحثين عن دراسة الحياة الفكرية والأدبية بمصر الإسلامية سوى وَهْمِهم أن مصر الإسلامية لم تنتج أدبًا يضارع أدب الشام أو العراق، وما ضر هؤلاء لو بحثوا عن الأدب المصري وأثبتوا ما وهموه، أما انزواؤهم عن البحث لفكرة اختمرت في أذهانهم فهو النقص بعينه، فلا شك أن مصر كانت مركزًا هامًّا من مراكز الفكر الإسلامي منذ دخلها العرب فاتحين، واستقروا بها ونشروا في مصر الدين الإسلامي واللغة العربية، وامتزج العرب بالمصريين فتأثر العرب بمصر، وتأثر المصريون بالعرب وكان نتيجة هذا المزج هو الشعب المصري الإسلامي تتمثَّل فيه خصائص العرب والمصريين، وخضع هذا الشعب لعوامل الشخصية المصرية والبيئة المصرية، وظهر ذلك واضحًا في تفكيره وفي أدبه.
وقد كان لعلماء مصر أثرٌ في غيرهم من العلماء، فقد اعتمد كل المؤرخين في حديثهم عن مصر على ابن عبد الحكم ومحمد بن زكريا الغلابي وعمار بن وسيمة المصري والكندي وابن زولاق وغيرهم من مؤرخي مصر، وأُخِذَ فقه الشافعي عن المصريين كما كان أجل أصحاب مالك وتلاميذه من أهل مصر، وعن مُحدِّثي مصر روى البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم، وعن علماء مصر أخذ علماء الأندلس والمغرب العلوم الإسلامية والعربية. فمصر إذن كانت عظيمة الحظ من الحياة العقلية وسايرتها الحياة الأدبية من شعر ونثر، ولكن الحياة الأدبية في مصر استغرقت زمنًا طويلًا حتى ازدهرت، ولا غرابة في ذلك، فانتقال مصر بعد الفتح الإسلامي وتطور الحياة فيها لم يأت دفعة واحدة، فقد كانت مصر مسيحية الدين فأصبحت إسلامية، وكانت يونانية وقبطية اللغة فأصبحت عربية، وكل هذا احتاج إلى زمن طويل حتى استقر هذا التطور وتمَّ امتزاج العرب بالمصريين، ومع ذلك فقد ظهرت بواكير الحياة الأدبية المصرية إبَّان هذا الانتقال والتطور مما بشَّر بازدهار حياة أدبية خصبة ابتداء من العصر الطولوني، وبدأ النضوج الأدبي واستمر في العصر الفاطمي وما يليه.
وهذا الكتاب بحث من أبحاثٍ أرجو أن أُوفَّق إلى إتمامها وهي البحث في الأدب المصري الإسلامي منذ دخل العرب مصر إلى الآن، فقد تحدثت في هذا الجزء عن تطور مصر في عصر الولاة؛ أي من الفتح الإسلامي إلى دخول الفاطميين، وهو عصر غامض أشد الغموض، والمصادر التي بين أيدينا قليلة والنصوص متفرقة مبعثرة، ومع ذلك فقد استطعنا استخلاص ما يمكن استخلاصه، وتحدثنا عما أمكننا الحصول عليه، أما الجزء الثاني من هذا الكتاب فسيكون عن «أدب مصر الفاطمية».
وسنرى كيف أصبحت إلى مصر الزعامةُ الأدبية والفكرية في العالم الإسلامي، وكيف استطاعت مصر أن تنهض بهذه الزعامة منذ العصر الفاطمي إلى الآن.
وهذا البحث قديم، فقد كتبته لأول مرة سنة ١٩٣٤، وتقدمت به إلى كلية الآداب بالجامعة المصرية — إذ ذاك — وحصلت به على درجة الماجستير في الآداب مع مرتبة الشرف، ولما عُهِد إليَّ بتدريس الأدب المصري بكلية الآداب قدمته للمطبعة سنة ١٩٣٩ بعد تغيير بعض فصوله وبعض آرائه، والآن أقدمه للمطبعة مرة ثانية وقد أضفت إليه بعض آراء جديدة ليست في الطبعة الأولى.
وبعد، فقد قدمت شكري في الطبعة الأولى إلى أساتذتي الأجلاء الذين أعانوني في هذا البحث منذ بدأت كتابته، وليس لي الآن إلا أن أكرِّر لهم شكري الخالص، فلا يزالون خير عون لي في أبحاثي التي أكتبها، وأخص بالشكر أستاذي الأكبر الدكتور طه حسين بك، الذي يواليني برعايته وتوجيهه ويشملني بعطفه وعنايته، فهو أول من نادى بدراسة الأدب المصري، وعمل على إنشاء كرسي الأدب المصري بكلية الآداب، وهو الذي دفعني ووجهني إلى هذه الدراسات، فالفضل كله منه وإليه، ولست أملك ما أوفِّيه حقَّه، فالله — تعالى — نسأل أن يجزيه عن تلاميذه أحسن الجزاء.