الفصل الرابع

الصراع بين اللغات: اليونانية – القبطية – العربية

انتشرت اللغة اليونانية في مصر منذ أيام البطالسة، فكانت الدروس تُلقَى بها في المدارس،١ ولكن الشعب المصري كان منصرفًا بعض الشيء عن هذه الدروس اليونانية، وأحجم كثير من المصريين ولا سيما سكان الوجه القبلي عن تلقي هذه اللغة الأجنبية، فلم تنتشر اليونانية في الصعيد أو في القرى المصرية بمقدار انتشارها في الوجه البحري أو المدن الكبرى. وفي عهد الرومان استمرت اللغة اليونانية اللغة الرسمية في مصر، وقد ذكرنا كيف كان الوالي الروماني يُصدر نشرات للمصريين باللغة اليونانية يصف فيها حكمه للبلاد، وكيف كان الولاة يُفخَّمون ويعظمون بلقب يوناني يضاف إلى أسمائهم،٢ فكانت اللغة اليونانية هي لغة الثقافة والحكم، بينما احتفظت اللغة المصرية بمنزلتها بين الشعب فلم تتغلب اليونانية عليها حتى إن القس أورجانوس Origen قال: «إذا أراد يوناني أن يعلم المصريين شيئًا من القانون، فخير له أن يتعلم لغة المصريين حتى يستطيع أن يتفاهم معهم، أما إذا خاطبهم باليونانية فلا فائدة من حديثه.» مما يدل على أن اللغة اليونانية لم تكن منتشرة بين جميع المصريين. فبينما كان القديس بولس يُجِيد اللغتين اليونانية والمصرية كان القديس أنطونيوس لا يعرف غير اللغة المصرية وبها كتب كل أبحاثه الدينية، ولما وفد أفرام (فم الذهب) إلى مصر لزيارة الأنبا بشوا Anba Bishoi لم يستطع الرجلان أن يتفاهما إلا بمساعدة مترجم؛ لأن كلًّا منهما لم يعرف إلا لغة بلاده.٣

ونجد اللغتين اليونانية والمصرية منقوشتين على بعض الأحجار، ومكتوبتين على أوراق البردي، ويرجع تاريخ هذه الأحجار وتلك الأوراق إلى العصر الروماني مما يثبت أن اللغة اليونانية كانت تسير مع اللغة المصرية، ومما يؤيد ذلك أيضًا أن التعاليم الدينية التي كانت تُلقَى في الكنائس أو تنشر بين الناس كانت تُقرَأ أولًا باللغة اليونانية ثم تشرح باللغة المصرية، وأهل الصعيد أنفسهم الذين كانوا بعيدين عن مصدر اللغة اليونانية كانوا يرتلون صلواتهم باللغة اليونانية بينما كانوا يتحدثون المصرية.

من ذلك كله نستطيع أن نقول إن اللغة اليونانية كان لها أثرها في مصر، ونلمح أثر هذه اللغة في اللغة المصرية نفسها التي تعرف باللغة القبطية، فالحروف القبطية هي نفس الحروف اليونانية تقريبًا، ونجد كثيرًا من الألفاظ اليونانية دخيلة في اللغة القبطية.

أما اللغة القبطية فلم تكن لهجة واحدة، بل اختلفت لهجاتها باختلاف الأقاليم المصرية. نقل كاترمير عن اثناس بطريق قوص: «تعلم أن اللغة القبطية مقسومة إلى ثلاثة أقلام؛ منها القبطي المصري الذي هو الصعيدي، ومنها القبطي البحيري المعروف بالبحيرة، والقبطي الأشموني المستعمل ببلاد الأشمونيين — كما تعلم — وإنما المستعمل الآن القبطي البحيري والقبطي الصعيدي والأصل فيها لغة واحدة.»٤

نلمح من هذه الجملة أن اللهجة الصعيدية هي أقل اللهجات القبطية تأثرًا باللغة اليونانية؛ لبعدها عن مراكز اللغة اليونانية وأنها أقرب اللهجات إلى اللغة المصرية القديمة حتى عبر عنها بالقبطي المصري، أما اللهجة البحيرية فهي لهجة الوجه البحري وهي أكثر اللهجات تأثرًا باليونانية؛ لقربها من بلاد اليونان ومن الإسكندرية؛ حيث الجامعة ومقر الحكم ولا ندري شيئًا عن اللهجة الأشمونية.

ولما شعر المصريون بالاضطهاد الديني اشتد كره المصريين لكل ما هو أجنبي، ونظروا إلى الأجانب نظرتهم إلى عنصر من عناصر الوثنية؛ فمنع المصريون اللغة اليونانية من الكنائس واستبدلوها باللغة القبطية،٥ وكان ذلك في القرن السادس الميلادي، ولكن اللغة اليونانية ظلت مستعملة متداولة في الكنيسة الملكانية، أما الكنيسة اليعقوبية المصرية فقد أمرت بتحريم اللغة اليونانية بعض الشيء.

وبينما كانت الكنيسة اليعقوبية في خصام عنيف مع الكنيسة الملكانية تغيَّر نظام العالم السياسي فجأة، وأصاب مصر ما أصاب كثيرًا من البلدان الأخرى، فقد خرج العرب من بلادهم لغزو فارس والشام ومصر، فوقفت الطائفة اليعقوبية تساعد المسلمين وتؤازرهم ضد الرومان، وقد أراد المصريون بمساعدة العرب أن يتخلصوا من أعدائهم الرومانيين، وأن يمحوا من البلاد الكنيسة الرومانية، فهدم المصريون كنائس خصومهم، وحاولوا منع استعمال اللغة اليونانية بمصر، ولكنهم لم يبلغوا مرادهم.

شعر المصريون في أوائل الحكم العربي بشيء من الحرية التي طالما تمنوها وعملوا من أجلها، وظهرت هذه الحرية في استخدامهم في الأعمال الحكومية التي كانوا بعيدين عنها.

وهنا أرى أن أشير إلى موضوع تحدَّث عنه مؤرخو العرب القدماء والمحدثون، تلك هي مسألة نقل الدواوين من اللغات الأجنبية إلى العربية، فجميع من تحدثوا عن هذا الموضوع ذكروا أن الدواوين كانت تكتب في مصر باللغة القبطية وفي الشام باليونانية، من ذلك ما قاله الكندي: «حتى إذا كانت ولاية عبد الله بن عبد الملك بن مروان، فأمر بالدواوين فنسخت بالعربية وكانت قبل ذلك تكتب بالقبطية، وصرف عبد الله أشناس عن الدواوين، وجعل عليها ابن يربوع الفزاري من أهل حمص، وذلك في سنة سبع وثمانين هجرية.»٦ فالنص صريح هنا أن اللغة القبطية كانت لغة الدواوين، وهذا يخالف ما ذكرناه سابقًا من أن اللغة اليونانية كانت اللغة الرسمية، ثم إن المؤرخين قد اتفقوا على أن لغة الدواوين في الشام كانت اليونانية، ومصر والشام كانتا من أملاك الإمبراطورية البيزنطية، فكيف تكون اللغة الرسمية في الشام تختلف عن اللغة الرسمية في مصر؟ وقد حُفِظَت لنا أوراق من البردي يرجع تاريخها إلى عهد الوليد بن عبد الملك كُتِبَت باليونانية والعربية وهي وثائق صدرت من الوالي نفسه، ونجد بعض الوثائق المحفوظة بدار الكتب المصرية قد كُتِبَت باللغة اليونانية فقط، ولا نجد بينها وثائق كتبت باللغة العربية والقبطية أو القبطية فقط،٧ مما يدل على أن لغة الدواوين في مصر والشام كانت اليونانية وليست القبطية كما وهم مؤرخو العرب، وقد يكون منشأ هذا الوهم أن بعض موظفي الدواوين كان من الأقباط فظنَّ المؤرخون أن اللغة القبطية كانت اللغة الرسمية في البلاد.
ومهما يكن من شيء فإن اللغة القبطية كانت لغة تؤلف بها الكتب، فالمؤرخ يوحنا النيقوسي كتب تاريخه في أيام ولاية عبد العزيز بن مروان؛ بعضه باللغة اليونانية وبعضه الآخر بالقبطية.٨
بعد الفتح العربي كانت اللغة العربية في أول الأمر في حيز محدود في مصر يتكلمها العرب ومن جاورهم من المصريين الذين اضْطُروا بحكم الجوار إلى أن يختلطوا بالفاتحين وأن يعرفوا لغتهم، ثم أُدْخلَت بعض الاصطلاحات العربية في الدواوين، فاضطر المصريون إلى أن يعرفوا لغة العرب؛ تقرُّبًا إليهم وتحقيقًا لمصالحهم، فنرى القسيس بنيامين قد أجاد اللغة العربية حتى إنه شرح الإنجيل بالعربية للأصبغ بن عبد العزيز بن مروان،٩ كما كان لانتشار الدين الإسلامي في مصر أثر كبير في نشر اللغة العربية بين المصريين؛ إذ اضْطُر من أسلم منهم إلى أن يتعلم اللغة العربية حتى يستطيع أن يقرأ القرآن الكريم وأحاديث الرسول وإلى أن يفهم دروس الفقه.
وقد ذكرنا أن العرب كانوا يخرجون من رباطهم في الربيع ويتصلون بالمصريين في الريف؛ فكان ذلك من أسباب انتشار اللغة العربية بين الشعب، حتى جاء الوقت الذي ترك فيه المصريون اللغة القبطية وأهملوا شأنها حتى في مسائلهم الشخصية، واتبعوا المسلمين في كل شيء، وها هي أوراق البردي التي حُفظَت في دار الكتب المصرية وغيرها من المكتبات والمتاحف تؤيد ذلك، فمثلًا نجد — في القطعة رقم ١١ التي ذكرها الأستاذ جروهمان في كتابه — عَقْدَ بيع بين مصرية ومسلم كُتِب باللغة العربية ووُجِد فيه ثلاثة أسطر باللغة القبطية هي شهادة بعض المصريين على هذا العقد؛ أن الكاتب استعمل بعض اصطلاحات مصرية خالصة، فالمصريون هم الذين يحدون الجهات بالبحري والقبلي١٠ مما يدل على تأثر اللغة العربية بالاصطلاحات المصرية، ثم مما يدلنا على ضعف اللغة القبطية وسيرها في طريق الاضمحلال أن القديس شنودة كتب مؤلفاته باللغة القبطية واللهجة الصعيدية، ثم اضْطُر إلى أن يكتبها مرة أخرى باللغة العربية حتى يتسنَّى للأقباط أن يقرءوها، وبعد أن كانت مراسيم الكنيسة تُقرَأ باليونانية وتشرح بالقبطية صارت تقرأ بالقبطية وتشرح بالعربية، وفي القرن العاشر الميلادي كان المصري المثقف يفخر بأنه يعرف اللغة القبطية،١١ وحدث أنه في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين ظهر نشاط غريب بين الأقباط؛ إذ أرادوا أن يعتزوا بقوميتهم ويحافظوا على لغتهم فجمعوا الكتب القبطية في دير مكاريوس St. Macarius ولكن حركتهم هذه فشلت في القرن الحادي عشر؛ لأن اللغة القبطية كانت تتقهقر أمام اللغة العربية، وازداد إلحاح الناس على ترجمة الكتب الدينية من اللغة القبطية إلى اللغة العربية.١٢ وبعد القرن العاشر الميلادي كان رجال الدين المسيحي يقرءون صلواتهم باللغة القبطية بينما كانت كتبهم الدينية باللغة العربية، وفي زيارة المسعودي لمصر سأل كثيرًا من المصريين عن معنى كلمة فرعون في لغتهم، فلم يظفر بجواب، ومع ذلك كله فإنا نجد اللغة القبطية كانت معروفة في مصر إلى عهد قريب، فالمقريزي ذكر في خططه: «ودرنكة أهلها من النصارى يعرفون اللغة القبطية فيتحدث صغيرهم وكبيرهم بها ويفسرونها بالعربية.»١٣ وقال في موضع آخر: «ودير مواس خارج أسيوط من قبليها بُنِي على اسم توما الرسول، والأغلب على نصارى هذه الأديرة معرفة القبطية البحيرية، ونساء نصارى الصعيد وأولادهم لا يكادون يتكلمون إلا بالقبطية الصعيدية.»١٤
ونستطيع أن نقول إن كثيرًا من العرب عرفوا اللغة القبطية وتخاطبوا بها، فقد قيل إن البطريق يوسف عندما حُوكِم سنة ٨٥٠م خاطب رعيته باللغة القبطية بحضور عدد كبير من العرب، وفهم العرب كل ما قاله وحدَّثوا به القاضي.١٥ وذكر ابن حجر في أخبار القاضي خير بن نعيم: «وكان يسمع كلام القبط بلغتهم ويخاطبهم بها وكذلك شهادة الشهود منهم ويحكم بشهادتهم.»١٦ وقال الكندي في خبر خروج العلويين بالفسطاط سنة ١٤٥ﻫ: إن ابن حديج وقف على الباب الذي ناحية بيت المال فكلم خالد بن سعيد وهو فوق ظهر المسجد كلمة قبطية.١٧ فهذا كله يدلنا على أن بعض العرب بمصر تعلموا اللغة القبطية وتخاطبوا بها.
والآن إذا فحصنا اللغة التي يتحدث بها المصريون فإنا نجد بها كثيرًا من الألفاظ القبطية، فلفظ «كان ماني» و«شونة» و«أرض شراقي» و«أردب» وغيرها، هذه كلها ليست عربية بل هي مصرية، وكان القدماء يستعملون كلمة «القباطي» وهو نوع من النسيج كان يُرسَل من مصر إلى بلاد العرب، واستعمل الكندي كلمة مواحيز بمعنى أماكن، فقال: «كانت مواحيز مصر يعمرها أهل الديوان.»١٨ واستعمل ابن الداية لفظ «تليس» بمعنى الحقيبة الكبيرة،١٩ ولا يزال المصريون يستعملون هذه الكلمة بنفس المعنى القديم، واستعمل المؤرخون العرب كلمة برابي، ويسمي المصريون، إلى الآن، الرياح الجنوبية بريح المريس و«إم ريس» بالقبطية معناها جهة الجنوب، وكلمة طوبة بمعنى الحجارة أصلها قبطي، وشجرة اللبخ … إلى غير ذلك.
ونجد اختلافًا في اللهجات المصرية؛ فلهجة الصعيد تختلف عن لهجة أهل القاهرة، ولهجة أهل مديرية الشرقية غير لهجة أهل رشيد أو أهل الإسكندرية، وقد علل الدكتور جورجي بك صبحي ذلك بأن اختلاف اللهجات الآن في جهات مصر المختلفة كان بتأثر هذه الجهات باللهجة المصرية القديمة،٢٠ وقد يكون هذا السبب صحيحًا، وأُضِيفُ إلى ذلك أسبابًا أخرى منها اختلاف اللهجات العربية التي أتى بها العرب، ثم تأثر المصريين في عصورهم المختلفة بالأمم الأوروبية الأمر الذي جعل لهجات البلاد تختلف اختلافًا واضحًا.

هوامش

(١) Quatremère: Recherches sur la Langue et Litterature de l’Egypte. P. 5.
(٢) تاريخ الأمة القبطية: ص١٢٤.
(٣) Butler: The Ancient Coptic Churches of Egypt. V. 2. P. 251.
(٤) Quatremère: P. 20.
(٥) تاريخ الأمة القبطية: ج٢، ص٨٨.
(٦) الولاة للكندي: ص٥٨.
(٧) أوراق البردي للأستاذ جروهمان، طبع دار الكتب المصرية في مواضع متفرقة.
(٨) تاريخ الأمة القبطية: ج٢، ص١٦٧.
(٩) Quatremère: P. 23.
(١٠) يقول المقريزي في خططه (ج١، ص٢٣): إلا أن أهل مصر يستعملون في تحديدهم بدلًا من الجهة الجنوبية لفظة القبلية، فيقولون الحد القبلي ينتهي إلى كذا، ولا يقولون الجنوبي، وكذلك يقولون الحد البحري، ويريدون بالحد البحري الحد الشمالي.
(١١) Quatremère: P. 39.
(١٢) Hugh: The Monasteries of Wadi’n Natrun (New Yourk). V. I. P. 26.
(١٣) المقريزي: ج٤، ص٤٣٦.
(١٤) المقريزي: ج٤، ص٤١٧.
(١٥) كاترمير: ص٣٤، وبتلر في كتابه تاريخ الكنيسة القبطية: ص٢٥١.
(١٦) رفع الإصر عن قضاة مصر، نسخة خطية بدار الكتب المصرية.
(١٧) الولاة والقضاة: ص١١٣.
(١٨) الولاة والقضاة: ص٤١٨.
(١٩) المكافأة لابن الداية: ص٨٢.
(٢٠) محاضرة الدكتور جورجي بك صبحي عن الثقافة القبطية بقاعة يورت في ديسمبر سنة ١٩٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤