الفصل الأول

قبل الطولونيين

ظلت مصر — من الفتح الإسلامي إلى أن وَلِيَها أحمد بن طولون سنة ٢٥٤ﻫ — تحت إمرة والٍ يعينه الخليفة، ويساعد هذا الوالي في تنظيم شئون البلاد عدد غير قليل من الموظفين، وطبيعي أن تكون هناك مكاتبات بين الوالي في مصر والخليفة في عاصمة الخلافة، ولا بد أن تكون هناك مراسلات بين الوالي والموظفين الآخرين في مصر، وهذه المكاتبات لم يصلنا شيء منها، وإن كنا نقول إنها كانت أشبه شيء بأوامر ولوائح يصدرها الخليفة أو الوالي، وكان يكتب هذه الرسائل في مصر كتَّاب الولاة. يقول المقريزي: «لما كانت مصر إمارة، كان بها ديوان البريد، ويقال لمتوليه صاحب البريد، وإليه مرجع ما يرد من دار الخلافة على أيدي أصحاب البريد من الكتب، وهو الذي يطالع بأخبار مصر، كما كان لبعض أمراء كتَّاب ينشئون عنهم الكتب والرسائل.»١ ولم ينشأ في مصر بعدُ ديوان الإنشاء «ولم يكن ديوان الإنشاء بالديار المصرية في مدة الخلفاء؛ إذ كانت الخلافة يومئذٍ في غاية العز، ورفعة السلطان، ونيابة مصر بل سائر النيابات مضمحلة في جانبها، والولايات الصادرة عن النواب في نياباتهم متصاغرة متضائلة بالنسبة إلى ما يصدر من أبواب الخلافة من الولايات؛ فلذلك لم يقع مما كُتِب منها ما تتوفر الدواعي على نقله، ولا تنصرف الهمم لتدوينه، مع تطاول الأيام وتوالي الليالي.»٢
إذن نحن مضطرون إلى أن نمر بهذا العصر الطويل الذي يقدر بنحو قرنين دون أن نطيل الحديث عن هذه الرسائل التي كُتِبَت إبَّانه، فإن هذه الرسائل فُقِدَت، ولم يبق منها إلا شيء يسير جدًّا، كذِه المكاتبات التي كانت بين عمرو بن العاص وبين الخليفة عمر بن الخطاب، ولكنا مضطرون إلى أن نتحدث عن هذه الرسالة التي يزعم بعض المؤرخين أن عمرو بن العاص كتبها إلى عمر بن الخطاب، فقد قيل إن الخليفة أرسل إلى الوالي يسأله أن يصف مصر بعد أن أتمَّ فتحها، فأجاب: «ورد كتاب أمير المؤمنين — أطال الله بقاءه — يسألني عن مصر. اعلم يا أمير المؤمنين، أن مصر تربة غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجري فيه الزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر، له أوان يدر حلابه، ويكثر فيه ذبابه، تمده عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا ما اصْلَخَمَّ عجاجه، وتعظمت أمواجه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن في المخايل ورق الأصائل، فإذا تكامل في زيادته، ونكص على عقبيه، كأول ما بدأ في جريته، وطما في درته، فعند ذلك تخرج أهل ملة محقورة، وذمة مخفورة، يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، ويرجون بذلك النماء من الرب، لغيرهم ما سعوا من كدهم، فناله منهم بغير جدهم، فإذا أصدق الزرع وأشرق، سقاه الندى، وغذَّاه من تحته الثرى، فبينما مصر — يا أمير المؤمنين — لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخلاق لما يشاء! والذي يصلح هذه البلاد وينميها، ويقر قاطنيها فيها؛ ألا يُقبَل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدي خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبدأ والمال.»٣
ثم نجد المؤرخين يقولون: إنه لما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب قال: «لله درك يا ابن العاص! لقد وصفت لي خبرًا كأني أشاهده.»٤

هذا ما يقوله المؤرخون والأدباء، ولكنا نشك في نسبة هذا الخطاب إلى عمرو بن العاص؛ لأنا إذا قارنَّا بين هذه الرسالة وبين ما رواه الأدباء والمؤرخون من أحاديث عمرو، يتبين لنا أنها لم تصدر عنه، ثم هناك ناحية فنية خالصة، ذلك أن كتَّاب هذا العصر اعتادوا أن يبدءوا رسائلهم بحمد الله، أما في هذه الرسالة فشذَّ الكاتب عن هذه القاعدة، ولم يحمد الله، ثم نرى كاتب الرسالة يبدؤها بالدعاء لأمير المؤمنين، وهذا لم نره في رسائل هذا العصر أيضًا، بل جاء الدعاء للخليفة في الرسائل متأخرًا جدًّا، وقد رأينا هذه الرسالة تشتمل على فقرات قصيرة مسجوعة، يظهر فيها أثر الصنعة الفنية، التي لم يعرفها العرب في صدر الإسلام أو أيام الأمويين، بل جاءت نتيجة لتطور الحياة الفكرية عند العرب، وامتزاجهم بغيرهم من الشعوب الأخرى، فاختلفت الكتابة العربية بدخول الثقافات الأجنبية في العربية.

حقيقة عُرِف عمرو بن العاص بالفصاحة والذكاء، حتى إن عمر بن الخطاب كان إذا رأى رجلًا يتلجلج في كلامه يقول: «خالِقُ هذا وخالِقُ عمرو بن العاص واحد!»٥ ولكن هذا كله لا يجعلنا نقول إن عمرًا هو الذي كتب هذه الرسالة، ولعل أسطع دليل نستطيع أن نقدمه لتدعيم حجتنا، هو أن نورد صورة خطاب، يقول ابن عبد ربه في العقد الفريد:٦ إن عمرًا أرسله إلى الخليفة عمر بن الخطاب، وهذا نصه:

من عمرو بن العاص إلى عبد الله، أمير المؤمنين، سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنه أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه ما فشا، وإنه يعرفني قبل ذلك لا مال، وإني أُعْلِم أمير المؤمنين أني بأرضٍ السعر فيه رخيص، وإني أعالج من الحرفة والزراعة ما يعالج أهله، وفي رزق أمير المؤمنين سعة، والله لو رأيت خيانتك حلالًا ما خنتك، فأقصر أيها الرجل، فإن لنا أحسابًا هي خير من العمل لك، إن رجعنا إليها عشنا بها، ولعمري، إن عندك من لا يَذُم معيشته، ولا تُذم له، فأنَّى كان ذلك ولم يُفتَح قفلك ولم نشركك في عملك؟

من هذا الخطاب نستطيع أن نلمس الفرق بين كتابته وكتابة الخطاب الأول، مما يجعلنا نرجح أن الخطاب الوصفي لم يكتبه عمرو بن العاص.

ويزعم بعض المؤرخين أن ديوان الإنشاء والرسائل وُجِد في مصر منذ أن أُنْشِئ بها الديوان؛ أي منذ الفتح العربي، وأن هذا الديوان كان يكتب بالقبطية ثم نقل إلى العربية، ومن يدعي ذلك لم يدرك تمامًا ماهية هذا الديوان الذي أنشئ في مصر منذ الفتح، كما أنشئ في غير مصر من الأقطار الإسلامية. هناك فرق بين كتابة الدواوين وكتابة الرسائل؛ فالدواوين ما هي إلا ضرب من ضروب الحساب، وثَبَت يُكتب فيه أسماء القبائل والعشائر والبطون، وما يخص كل فرد من الفيء؛ لهذا لا نستطيع أن نتخذ هذه السجلات كتابة فنية يتعمدها الكاتب ويزينها، ويظهر فيها صنعته الفنية، فإن كتابة الديوان لا تحتاج إلى شيء من ذلك، وقُلْ عن كتَّاب الخراج وكتَّاب المقياس ما قلناه عن كتَّاب ديوان الجند.

هوامش

(١) خطط المقريزي: ج٣، ص٣٦٨.
(٢) صبح الأعشى للقلقشندي: ج١١، ص٢٨.
(٣) النجوم الزاهرة: ج١، ص٣٢.
(٤) شرحه.
(٥) النجوم الزاهرة: ج١، ص٦٤.
(٦) ج١، ص٢٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤