الفصل الثاني

من قيام العباسيين إلى دخول ابن طولون

في دراسة العصر الأموي رأينا أننا لا نكاد نجد في مصر شعرًا، اللهم إلا هذه الأبيات القليلة المتناثرة في كتب الأدب والتاريخ، وشعر الشعراء الوافدين الذين كانوا يقيمون في مصر أيامًا معدودات على أن يعودوا إلى بلادهم مزوَّدين بعطايا وهِبات أمراء مصر، أما في العصر العباسي فالأمر يختلف باختلاف تطور الحياة في مصر وتطور الثقافة التي كانت بها؛ ولذلك قبل أن أتحدث عن حياة الشعر بمصر يجب أن نلمَّ إلمامًا يسيرًا بعدة أمور، أرى أن لها أثرًا بعيدًا في توجيه الحياة الأدبية في مصر في العصر العباسي، بل في انتعاش هذه الحياة الأدبية:
  • (١)

    نلاحظ أولًا أن العرب الذين وفدوا على مصر في العصر السابق قد استقروا بها وعاشوا فيها مع المصريين واختلطوا مع المصريين اختلاطًا أدَّى إلى نوع من المزج بين المصريين والعرب الوافدين، فنجد في مصر في العصر العباسي عنصرًا جديدًا من السكان؛ هم نتيجة اختلاط العرب بالمصريين أولًا، وزواج العرب من نساء مصريات ثانيًا، ودخول كثير من المصريين في الدين الإسلامي رغبة أو رهبة ثالثًا، حتى هؤلاء الذين احتفظوا بدينهم من المصريين تأثروا بالعرب كما تأثر العرب بهم، وكان نتيجة ذلك كله: أن انتشرت اللغة العربية في مصر انتشارًا عظيمًا حتى إذا كان القرن الرابع لم يجد البطريق سويرس بن المقفع من يعرف اللغة القبطية أو اليونانية، واضْطُر إلى أن يكتب كتابه «سير الآباء البطاركة» باللغة العربية، نتيجة ثانية: هي أننا نجد في العصر العباسي كثيرًا من العلماء المسلمين من أصل قبطي؛ أمثال ابن القطاس سعيد بن زياد، وكان من أهل الديانة والفضل، وكانت له حلقة في المسجد يلقي فيها دروس الفقه، وسعيد بن تليد كاتب القضاء في عهد لهيعة بن عيسى، ويحيى بن بكير الفقيه المؤرخ وأحد تلاميذ الليث بن سعد ومن أساتذة عبد الرحمن بن عبد الحكم، هؤلاء وغيرهم كانوا من أصل غير عربي ولكن حسُن بلاؤهم للعربية والإسلام.

    ونتيجة ثالثة لهذا المزج: أن الآثار الأدبية التي تركها الشعراء والأدباء ظهر فيها روح الشعب المصري مثل روح الدعابة والفكاهة، مما يدل على أن أثر البيئة المصرية كان قويًّا شديدًا على الأدباء والشعراء في هذا العصر.

  • (٢)

    نلاحظ ثانيًا أننا لا نكاد نجد في هذا العصر العباسي هجرة قبائل أو بطون عربية إلى مصر كالهجرات التي كانت في العصور السابقة، والهجرة الوحيدة التي كانت في العصر العباسي هي تلك التي كانت سنة ٢٠٠ﻫ، وهي هجرة طائفة كبيرة من الأندلسيين إلى الإسكندرية وضواحيها، وسبب هذه الهجرة هو أن أهالي قرطبة ثاروا على الحكم بن هشام؛ فأمر الخليفة بتخريب قرطبة ثم نادى في الناس بالأمان على أن يهاجروا من المدينة، فرحل منهم خمسة عشر ألفًا إلى إفريقية، أقام منهم ثمانية آلاف في المغرب، وذهب الباقون إلى مصر، وقال دوزي: إن الذين رحلوا إلى مصر كانوا خمسة عشر ألفًا خلا النساء والأطفال، فلما وصلوا الإسكندرية اعترضهم أهلها ومنعوهم من دخول المدينة، فمكثوا في سفنهم حتى أُتِيحَت لهم الفرصة فغلبوا الوالي ودخلوا المدينة، وظلُّوا بها حتى قدم عبد الله بن طاهر حوالي سنة ٢١١، فلما رأى شرَّهم حاربهم ثم اتفق معهم على الجلاء عن الإسكندرية، فرحلوا عنها إلى جزيرة كريت، وظلوا يحكمونها حتى سنة ٣١٥ﻫ/٩٦١م إذ انتزعها منهم الإمبراطور أرمانوس.

    هذه هي الهجرة الوحيدة التي ذكرها لنا المؤرخون، وقد كان لهؤلاء الأندلسيين تأثير كبير في الثورات التي حدثت في هذا السنوات القليلة التي مكثوها بالإسكندرية ولا سيما في ثورة الجروي التي سنتحدث عنها بعد ذلك، وفي هذه الثورات أنشد شعراء مصر أشعارًا كثيرة ذكروا فيها وقائعهم وحوادثهم.

  • (٣)

    ومن ناحية ثالثة: كانت مصر طوال العصر العباسي مِرْجلًا يغلي بالفتن والثوات، وكان الحكم في مصر مضطربًا اضطرابًا شديدًا، فالولاة كانوا يُعزَلون بعد عام أو بعد بضع عام، وجرى خلفاء العباسيين على سنة تغيير الولاة في مصر فلم يتمكن الولاة من إصلاح البلاد الداخلية، وانتهز بعض الولاة فرصة ولايته فارتشى في أحكامه وشدَّد الحكم على المصريين، فثار المصريون جميعًا سواء أكانوا من العرب أو من الأقباط، وكان لهذه الثورات أثر قوي في إيقاظ روح الشعر في مصر؛ فجرى الشعر على ألسن الشعراء متحدِّثين بما كان في البلاد من حوادث حتى إن أكثر ما حُفِظ لنا من شعر هذا العصر إنما كان يتحدث عن هذه الثورات.

  • (٤)

    نلاحظ بعد ذلك تطورًا عظيمًا في الدراسات التي كانت بمصر في العصر العباسي، فقد عرفنا أن أكثر الدراسات التي كانت في العصر الأموي كانت دراسات دينية من قراءات وتفسير ورواية الحديث أو دراسات تتصل بالدين كالتاريخ الذي كان يقصد منه:

    أولًا: تفسير الآيات التاريخية في القرآن، ولم نعرف طوال العصر الأموي اهتمام المصريين بالعلوم العربية الخالصة؛ كرواية الشعر وعلوم اللغة والنحو إلى غير ذلك، ولكن في العصر العباسي نجد أكثر العلماء يهتمون بالعلوم العربية الخالصة اهتمامًا كبيرًا بجانب اهتمامهم بالعلوم الدينية؛ فالليث بن سعد فقيه مصر كان يحسن القرآن والنحو ويحفظ الحديث والشعر، وابن الوزير التجيبي كان محدِّثًا فقيهًا وكان عالمًا بالشعر والأدب، وعبد الحميد بن الوليد المصري المُتوفَّى سنة ٢٢١ﻫ كان عالمًا بالأخبار والنحو، والشاعر المصري الحسين بن عبد السلام المعروف بالجمل الأكبر عُرِف عنه شدة اتصاله بالإمام الشافعي وكان أحد رواته، والشاعر سعيد بن عفير كان مؤرخًا ومحدِّثًا وشاعرًا وأديبًا وإمامًا في اللغة والنحو حتى قيل: إن مصر لم تُخْرِج أجمع مَن للعلوم منه، وكان الوالي عبد الله بن طاهر يقول عنه: «رأيت بمصر من عجائب الدنيا ثلاثة أشياء: النيل، والهرمين، وابن عفير.» ولما وفد على مصر عبد الملك بن هشام صاحب السيرة وكان إمامًا في اللغة والنحو اجتمع بالإمام الشافعي وتناشدا كثيرًا من أشعار العرب، وروى عنهما المصريون الشعر، ووفد أبو نواس على مصر فلما علم المصريون بوجوده هرعوا إليه واجتمعوا حوله فأملاهم أشعاره. من هذه الأمثلة نستطيع أن ندرك هذا التطور الذي حدث في الثقافة في مصر وكيف اهتم المصريون في هذا العصر بالدراسات الأدبية اهتمامًا كبيرًا كان له أثر واضح في رُقِي الحياة الأدبية في مصر.

وكما وفد الشعراء على أمراء مصر في العصر الأموي كذلك نجد كثيرًا من الشعراء العباسيين المعروفين يفدون على مصر؛ فأبو نواس وفد على الخصيب، ودعبل الخزاعي وإبراهيم بن العباس بن الأحنف وفدا على المطلب الخزاعي، والبطين الحمامي دخل مصر مع عبد الله بن طاهر، وقال ابن منظور: إن ديك الجن جاء مصر ووجد لأبي نواس أشعارًا تُروَى في مصر لا يعرفها أهل العراق، ووفد ابن المولى وربيعة الرقي على يزيد بن حاتم، وجاء أبو تمام إلى مصر وهو صغير وتلقَّى كثيرًا من الدراسات الأدبية فيها، وفي مصر أنشد الشعر بل ذهب بعض المؤرخين إلى أن أبا تمام أنشد أول شعره بمصر حتى ذهب الكندي وابن زولاق والسيوطي إلى أن أبا تمام مصري، وقالوا إنه شاعر مصر الأكبر.

من هذه العجالة نستطيع أن ندرك أن الحياة الأدبية في مصر في العصر العباسي كانت مزدهرة، وأن الدراسات الأدبية كانت منتشرة ومع ذلك كله لا نجد بين شعراء مصر شاعرًا بلغ إلى درجة فحول الشعراء الذين عرَفتْهم الأقطار الإسلامية الأخرى، وتعليل ذلك عندي أن الرواة ومؤرخي الآداب لم يهتموا بمصر فلم يحفظوا شعر المصريين؛ ولهذا السبب لم تصلنا قصائد كاملة من شعراء مصر في هذا العصر العباسي، وأخشى أن أقول إن المصريين تنقصهم العصبية، فقد رأيناهم لا يهتمون بإمام مصر الليث بن سعد وفضَّلوا مذهب مالك والشافعي وهما من الغرباء، فالغريب عند المصريين أكرم لديهم من إخوانهم، ومن ناحية أخرى من الطبيعي أن يتأخر الإنتاج الأدبي في مصر عن نظيره في العراق والشام، فمنذ الجاهلية كانت العراق والشام تعدان من بلاد العرب وما الغساسنة والمناذرة إلا من العرب، ومنذ الجاهلية كانت القبائل العربية تسكن بلاد الشام والعراق، أما مصر فلم تكن علاقتها بالعرب بهذه القوة، ولم تفد عليها قبائل عربية كثيرة إلا بعد الفتح، فضَعُف الإنتاج الأدبي بمصر بينما قوي الإنتاج الديني والتاريخي؛ لأن النبوغ في الثقافة الدينية أسهل من النبوغ في الأدب، ولأن الذين أسلموا من المصريين ليس من السهل عليهم أن ينبغوا في الأدب بينما من السهل أن ينبغوا في العلم، وأكثر من هذا أن التحمس الديني في هذا العصر كان أقوى من التحمس للأدب؛ لذلك كله لا نجد شاعرًا مصريًّا بلغ مرتبة الفحول.

ومهما يكن من شيء فإن الشعر الذي وصلنا في هذا العصر يعطينا صورة لِما كانت عليه الحالة في مصر السياسية والاجتماعية والأدبية، ثم تدلنا على أن الشعر المصري ابتدأ ينمو ويقوى ويتأثر بالبيئة المصرية الخالصة، ويُعبِّر عما كان بمصر من اتجاهات وخواطر مختلفة وألوان الثقافات المتعددة، وضروب الحركات السياسية وغير السياسية، وليس أدل على ذلك من هذه الأشعار التي قيلت في الاضطرابات العديدة التي كانت في مصر في ذلك العصر.

(١) أثر الفتن في الشعر

نستطيع أن نقسم الفتن التي كانت بمصر في هذا العصر إلى:

ثورات سياسية

إن صحَّ هذا التعبير، كان يقوم بها قبائل العرب ضد الولاة والأمراء؛ لجور حكَّامهم، وسوء سياستهم، من ذلك ما كان في ولاية موسى بن مصعب الخثعمي الذي ولي في أواخر سنة سبع وستين ومائة من الهجرة، فقد تشدَّد الوالي في جمع الخراج، وزاد على كل فدان ضعف ما كان أولًا، وجعل خراجًا على أهل الأسواق وعلى الدواب، وعاد إلى الرشوة في الأحكام، فأظهر الجند كراهته، ولم يستطع عماله أن يدخلوا الحوف وتحالف القيسية واليمنية على قتاله، واتفق أهل الحوف أيضًا مع جند الفسطاط على الثورة ضد هذا الوالي، فخرج موسى مع جنده لقتال الثائرين، فانهزم جند الفسطاط عنه وقُتِل الوالي سنة ثمانٍ وستين ومائة من الهجرة بعد عشرة أشهر من ولايته، هذا الحادث كان له أثر في الشعر؛ إذ أنشد الشعراء في ذلك مترنِّمين بانتصار أهل الحوف، من ذلك ما قاله سعيد بن عفير:

ألم ترهم ألوتْ بموسى سيوفهم
وكانت سيوفًا لا تدين لمترف
فما برحت به تعود وتبتدي
إلى أن تروى من حمام مدنف
فأصبح من مصر وما كان قد حوى
بمصر من الدنيا سليبًا بنفنف
ولكن أهل الحوف لله فيهم
ذخائر إن لا ينفد الدهر تعرف١

وفي ولاية الحسين بن جميل امتنع أهل الحوف من أداء الخراج سنة إحدى وتسعين ومائة من الهجرة، وخرج أبو الندى مولى «بلي» في نحو ألف رجل يقطع الطريق وأغار على بعض قرى الشام، وساعده في ذلك رجل من جذام يُقال له المنذر بن عابس وآخر يُدعَى سلام النوى، فكثر فسادهم، وأوقعوا الرعب في نفوس المصريين جميعًا، فبعث هرون الرشيد بقائده يحيى بن معاذ لقمع هذه الحركة ولإخضاع أهل الحوف، فتم ليحيى ذلك وقدم الفسطاط ومعه أبو الندى وابن عابس فمدح الشعراء القائد يحيى، فمن ذلك ما قاله أبو عثمان السكري:

يا قيس عيلان، إني ناصح لكم
أدوا الخراج وخافوا القتل والحربا
إني أحذركم يحيى وصولته
فما رأيت له تقيًا إذا غضبا

وقال أيضًا:

قد جبينا قيسًا ولم تك تجبى
فقتلنا أبا الندى وابن عابس
وتركنا لخمًا وحي جذام
لا يطيقون رفع كف تلامس
آمن الله بالمبارك يحيى
حوف مصر إلى دمشق فبالس
وأباد الخلاع من كل أرضٍ
بعدما حاد عنهم كل فارس٢
وقد يطول بنا الحديث عن هذه الثورات الكثيرة التي كان يقوم بها عرب مصر ضد الولاة والحكام، ولكن أرى أن ألُمَّ بثورة الجروي التي شغلت ولاة مصر والخلافة العباسية مدة طويلة،٣ فقد كان عبد العزيز بن الوزير الجروي صاحب الشرطة بمصر في ولاية المطلب الخزاعي سنة ثمانٍ وتسعين ومائة من الهجرة وعزل بعد قليل، وبعث على رأس الجيش لمحاربة أهل الحوف، ثم أعيد إلى الشرطة سنة تسع وتسعين ومائة في ولاية العباس بن موسى، ولكن الجند ثاروا، وأجمعوا على تولية المطلب الخزاعي مرة أخرى؛ فاضْطُر الجروي إلى الهروب إلى تنيس، فلما تم الأمر للمطلب وأطاعه وجوه أهل الحوف، أرسل إلى الجروي بعقده على تنيس وأمره بالحضور إلى الفسطاط، فامتنع الجروي فبعث المطلب بوالٍ آخر على تنيس، فلم يستطيع دخولها، وسار الجروي لمحاربة السري بن الحكم الذي أرسله الوالي لحرب الجروي، فأُسِر السري وسجن، وتوالت جيوش الوالي لحرب الجروي فكانت تُهزَم الواحدة تلو الأخرى، وجدَّ الوالي في أمر الجروي؛ فأخرج الجروي السري بن الحكم من السجن بعد أن تعاهدا على أن يخلعا الوالي ويخلفه السري، وبعد حروب طويلة أرسل الوالي في طلب الأمان من السري على أن يسلِّم إليه الأمر ويخرج عن مصر، وقد تم ذلك وخرج المطلب الخزاعي إلى مكة، وفي هذا أشار دعبل الخزاعي بقوله:
فكيف رأيت سيوف الجريش
ووقعة مولى بني ضبة٤
أحجَّتْك أسيافهم كارهًا
وما لك في الحج من رغبة

وتمَّ أمر مصر إلى السري في رمضان سنة مائتين من الهجرة، فطلب الوالي إلى الجروي أن يذهب لتأديب لخم بالإسكندرية، وكاد الجروي يفتح حصنها فخشي السري أن يملكها الجروي، فأوعز إلى أحد رجاله أن يخالف الجروي، فاضْطُر الجروي إلى أن يرجع إلى تنيس سنة إحدى ومائتين وفسد ما بينه وبين السري، وفي ذلك قال سعيد بن عفير:

ألا من مبلغ الجروي عني
مغلغلة يعاتب أو يلوم
أقمت تنازل الأبطال حتى
تميَّز ذو الحفيظة والسئوم
وصلت بهم فما وهنت قواهم
وطير الموت دائرة تحوم
ولو هجمت جموعك حين حلوا
عليهم باد جمعهم المقيم
وكيف رأيت دائرة التواني
أتتك بصحو نحس لا يقيم
أتاك وقد أمنت ونمت كيدًا
لصل لا ينام ولا يُنيم

ثم ولي سليمان بن غالب مصر في ربيع الأول سنة إحدى ومائتين، فحاربه السري بن الحكم، ولكن هُزِم السري وأسر هو وابنه ميمون وسجنا في أخميم واستقام الأمر لسليمان فقال المُعلَّى الطائي في ذلك:

إذا شن في أرض سليمان غارة
أثار بها نقعًا كثير المصائب
ألم تر مصرًا كيف داوى سقيمها
على حين دانت للعدو المناصب
حماها ولولا ما تقلد أصبحت
حبيسًا على حكم القنا والمقانب

ولكن أعيد السري مرة أخرى للولاية، وهرب سليمان إلى الجروي، وانتقم السري من كل أعدائه، فأخذ يقتلهم ويصلبهم، حتى قامت فتنة إبراهيم بن المهدي ببغداد، واتصل إبراهيم بالجند في مصر وأمرهم بخلع المأمون، والوثوب بالسري، فلبَّى دعوته جمع من المصريين منهم الحارث بن زرعة بالفسطاط والجروي بالوجه البحري وسلامة الطحاوي بالصعيد وعبد العزيز بن عبد الرحمن الأزدي، فحاربوا السري، وملك الجروي الإسكندرية، وأخرج الطحاوي عمال السري من الصعيد، وسار الجروي حتى التقى بجيش السري بشطنوف فهُزم السري سنة ثلاث ومائتين وقُتل ابنه ميمون بن السري، فرثاه مُعلَّى الطائي بقوله:

لو رد غرب منية بشجاعة
أحد لدافع ركنها ميمون
لو كان تجريد السيوف يردها
لحماه منها منصل وثمين
ما زلت أطمع في رجوعك سالمًا
ويروعني شفقًا عليك ظنون
فليفجعن غدًا بقتلك طاهر٥
وليفجعن بقتلك المأمون

وقال أبو نجاد الحارثي في ذكر هذه الحروب:

جمع رعاعك يا سري فإنها
حرب تحس سعيرها قحطان
قتلوا أبا حسن وجروا شِلْوه
كالكلب جرَّ بشِلْوه الصبيان
ولت تجيب وأسلمته جيادها
عيلان يوم تواكلت عيلان
فاستخرجوه ملبيًا فأتى به
يجري ويهرج حوله السودان
أبشر فإن أفول نجمك بعده
عرض السماء ونجمك الدبران
لا تبك فالعقبى لإخوته غدًا
أو بعده فكما تدين تُدان

وأشرف الجروي على الفسطاط وأراد أن يحرقها فخرج إليه الفقهاء وسألوه الكف عن ذلك، فانصرف عنها، ثم علم أن أهل الإسكندرية أخرجوا عامله، ودعوا للسري، فسار إليهم في رمضان سنة ثلاث ومائتين، وثار القبط بسخا فهزمهم الجروي فمدحه المُعلَّى الطائي يخاطب الخليفة المأمون:

فقل لأمير المؤمنين نصيحة
وما حاضر شيئًا كآخر غائب
لقد حاطنا عبد العزيز بسيفه
ولولاه كنا بين قتل وناهب

وسار الجروي إلى الإسكندرية، فقُتل في سنة خمس ومائتين، واستطاع السري أن يهزم سلامة الطحاوي الثائر بالصعيد، وفي ذلك قال المُعلَّى:

أراد الطحاوي التي لا شوى لها
فأوقد نارًا كان بالنار صاليا
ودب لأقطار البلاد بفتنة
فجاشت بسقم لا يجيب المداويا
وراسله من كان يحفى بفاقة
وأصبح ذا ميل إليه مماليا
جَنَتْ ما استحق القتل يا صاح كفه
وكل امرئ يجرى بما كان جانيا

وتُوفِّي السري بالفسطاط بعد قتل الجروي بثلاثة أشهر، وولي بعده ابنه أبو النصر بن السري، وكان علي بن عبد العزيز الجروي قد خلف أباه، فأرسل ابن السري جيشًا لمحاربة ابن الجروي ولكن هُزِم هذا الجيش، واكتفى ابن الجروي بذلك فلم يتبع الجيش المنهزم، وحنق بعض المصريين عليه لذلك، وظهر هذا في قول سعيد بن عفير يخاطب ابن الجروي:

ألا من مبلغ عني عليًّا
رسالة من يلوم على الركوك
علام حبست جمعك مستكفًّا
«بشط ينوف» في ضنك ضنيك
وقد سنحت لك الغفران ممن
رماك بجيشه الوهن الركيك
أمن بقيا فلا بقيا لمن لا
يراها عند فرصته عليك

وفي سنة سبع ومائتين أرسل المأمون خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني واليًا على مصر فامتنع ابن السري من تسليمها وحاربه، فانضم ابن الجروي إلى جيش خالد، واستمر القتال مدة طويلة، فملَّ الجيشان الحرب، وحدث أن ارتفع النيل في هذا الوقت فسار خالد إلى الحوف. فلما رأى ابن الجروي ذلك أراد أن يخرج خالد بن يزيد عن ملكه، فمكر به حتى أنزله «نهيا» وهناك تركه ابن الجروي في جهد وصفه المُعلَّى بقوله:

سلا خالدًا لما انجلى عنه شكه
وأسلمه في عدوة البحر خاذله
فزالت أمانيه غداة سما لنا
بعارض جيش يمطر الموت وابله

فلما انكشف النيل سار ابن السري إلى خالد وحاربه فأسر خالد، وفي ذلك قال المُعلَّى:

ألا لا أرى خيلًا أضر له الوغى
وأجبن في الهيجاء من خيل خالد
وقواده أشرار كل قبيلة
تمالوا على إسلامه في الشدائد
فما أسروا منه جبانًا معضدًا
ولكن أبا شبلين عبل السواعد
فإن يقتلوه يقتلوا منه سيدًا
شجاعًا جوادًا ماجدًا وابن ماجد
وإن كففوا عن قتله فهي منة
لآل سري في مناط القلائد

ولما رأى المأمون هذه الثورات والفتن قسم مصر بين ابن السري وابن الجروي؛ فولَّي كل واحد منهما ما في يديه، فأقبل ابن الجروي على جمع الخراج فقاومه قوم من أهل الحوف وكتبوا إلى ابن السري يستعدونه على ابن الجروي، فتقابل الجيشان في «بلقين» واستمر القتال طويلًا حتى اضْطُر ابن الجروي إلى أن يفر إلى دمياط، وفي ذلك قال المُعلَّى:

ألا هل أتى أهل العراقين وقعة
لنا بحمى بلقين شيبت الولدا
وما كان منا قتلهم عن جهالة
خطاء ولكنا قتلناهم عمدا
ولما تبيَّنت المنية في القنا
نكصْتَ تناد حين ضل الندا سعدا
فوليت عن ربع المحلة هاربًا
على أبله ما يركب الجور والقصدا
فكيف رأيت الله أنزل نصره
علينا وولاك المذلة والطردا
سنهدي إلى المأمون منا نصائحًا
نُضمِّنها طي الصحائف والبردا
بفعل علي والذي كان مجمعًا
عليه بإظهار الخلاف الذي أبدا

وسار ابن السري إلى تنيس ودمياط واضطر ابن الجروي إلى أن يهرب إلى الفرما والعريش فخاطبه سعيد بن عفير بقوله:

ألا يا علي بن عبد العزيز
إلى أين صرت تريد الفرارا
فلست بأول من كاده
عدوٌّ فكَرَّ عليه اعتكارا
وأجر مصيرك أن يسحبوا
إليك فتوحًا عظامًا كبارا
فتدرك ثأرك من أهله
وتلبس بعد الكبو الفسارا٦

فلما سمع ذلك ابن جروي أغار على الفرما سنة تسع ومائتين وهرب أصحاب ابن السري من تنيس ودمياط، وسار ابن الجروي حتى قابل جيش ابن السري بشطنوف فهُزِم ابن الجروي ولحق بالعريش فمدح المُعلَّى الطائي ابن السري بقوله:

ألم تر خيله صَبَحَتْ عليًّا
تدف على مناسجها النساعا
فولى عن عساكره وخلى
على الأسل المدائن والرباعا
ولكن فات فوق أقب نهد
كرجع الطرف لا يخشى اصطلاعا
فحسبك أن قومك من جذام
وسعد لا ترى لهم اجتماعا
دعتهم طاعة لك فاستجابوا
ومن عجبٍ لمثلك أن يُطاعا

وعاد ابن الجروي مرة أخرى سنة عشر ومائتين فملك تنيس ودمياط وهزم جيش ابن السري، ولم تهدأ هذه الفتن حتى دخل عبد الله بن طاهر مصر سنة إحدى عشرة ومائتين وأخذها من ابن السري، كما خضع له ابن الجروي.

•••

وقامت في مصر فتن أخرى من أجل السلطان بين الأمويين والعباسيين، ويحدثنا ياقوت أنه في أيام المهدي خرج دحية الأموي بمصر ودعا لنفسه واستمر في دعوته إلى أيام الهادي، وكانت الدولة ترسل إليه الجيوش فلم تستطع قهره وكانت نعم أم ولد دحية تقاتل في طليعة الجيش لا سيما في واقعة بويط، وفي هذا قال شاعرهم:

فلا ترجعي يا نعم، عن جيش ظالم
يقود جيوش الظالمين ويجنب
وكري بنا طردًا على كل سانح
إلينا منايا الكافرين تقرب
كيوم لنا، لا زلت أذكر يومنا
بفاو، ويوم في بويط عصبصب
ويوم بأعلى الدير كانت نحوسه
على فئة الفضل بن صالح تنعب٧

فهذه أشعار قيلت في حروب بين جيش الثائرين وجيوش الخليفة، ولو لم تحفظ هذه الأشعار ما كنا نعلم شيئًا عن هذه الوقائع فإن كتب التاريخ التي وصلتنا لم تذكر تفاصيل هذه الحروب بل أغفلتها ولكن الشعراء يفخرون دائمًا بما يحرزه أهلهم من نصر فيسجِّلون الوقائع في أشعارهم.

ونلاحظ أن الشاعر استعمل في الأبيات السابقة كلمة أيام التي كان يستعملها العرب منذ الجاهلية.

من ذلك كله نستطيع أن نقول إن الحوادث السياسية المصرية، والحروب الداخلية التي كانت في هذا العصر؛ قد أثرت في الأدب أثرًا كبيرًا، فقد اضْطُر الشعراء إلى أن يسجلوا هذه الحروب، وأن يدافعوا عن المتحاربين، ولكن أكثر هذا الشعر فُقِد ولو قُدِّر لهذا الشعر البقاء لكان أصدق مرآة لهذه الحوادث الكثيرة المضطربة، ولكن الذي وصلنا منه قدر يسير، يعطينا صورة مصغرة مشوَّهة لهذه الحوادث.

فتنة العصبية العربية

ولعل أصدق صورة لعصبية القبائل في مصر هي هذه الحادثة التي ظهرت فيها العادات الجاهلية القديمة بأجلى مظاهرها؛ تلك هي حادثة «فرس مراد» المعروفة «بقضية جناح والزعفران» ذلك أن عشيرة «مراد» كان لهم فرس يفخرون بها ويسمونها الزعفران، فأخرجت الفرس يوم الرهان، كما أخرجت عشيرة «يحصب» فرسًا لهم تسمى الجناح، وجعل كل فريق لصاحبه الفرس المسبوق، وجعلوا للسباق غايته، فخرج الطائفتان ومعهم عامة أهل مصر، فكان السابق فرس مراد في أول الأمر حتى كادت تدخل الغاية، فخرج كمين من يحصب وضرب وجه الزعفران فتحيَّرت الفرس، فسبقتها الجناح إلى دخول الغاية. ساء مرادًا ذلك واستلُّوا سيوفهم واقتتل الطائفتان قتالًا عنيفًا حتى اضْطُر الأمير ليث بن فضل إلى أن يخرج إليهم ويحجز بينهم وأحال أمرهم إلى القاضي عبد الرحمن العمري الذي ولي سنة ١٨٥ﻫ، وقد عُرِف هذا القاضي بحبه للمال وأخذه الرشوة، فأتت يحصب بأموال عظيمة إلى القاضي، فحكم لهم بالفرس ودفع إليهم الزعفران، ولكن استمر النزاع حتى ولي القضاء القاضي البكري الذي ولي سنة ١٩٤ﻫ، فرد الفرس إلى مراد. هذا الحادث يذكرنا بصورة لها في أيام الجاهليين هي قصة داحس والغبراء، وكما كثر شعر الجاهليين في قصتهم أنشد المصريون شعرًا في قصتهم ولا سيما أن القاضي العمري كان مكروهًا من المصريين، ونقم عليه الشعراء فأخذوا هذا الحادث وسيلة إلى هجائه، فمن ذلك قول يحيى الخولاني:٨
إن كان مَهْر أخي زَوْفٍ أَفاتَ به
ريبُ الزمان عليه جور زنديق
فكم يد لبني زوف وإخوتهم
في آل فهر تغص الشيخ بالريق
إنْ حاكمٌ عمريٌّ جار في فرس
فسوف يُرجعه عدل ابن صَدِّيق

ومن الطبيعي أن نجد شعراء آخرين دافعوا عن القاضي العمري في هذه القضية، فمن ذلك قول عبد الله بن بجيرة من ولد معاوية بن حديج يرد على الشاعر يحيى الخولاني:

طَلَبْتَ فما نلت حسن الطلب
ورمت عظيمًا ولما تصب
وعوَّلت موتًا على رميهم
بقوس الضلال ونبل الكذب
فإن كان في فرس عُتْبُكم
فعندي لكم فرس من قصب
وإلا فمهر كريم النجار
قليل العظام كثير العصب

فأجابه يحيى:

ألا أيها الشاعر المنتدب
يحامي عن العمري العطب
ورامي مراد وخولانها
بنبل من الجهل غير الصيب
لعمرك، ما أنقص العمري
من الناس إلا كريم الحسب
ملا الأرض جورًا بأحكامه
وأظهر فيها جميع الريب

ومن العصبية القبلية أيضًا فخر الحضارمة إذا ولي أحدهم، ففي سنة تسع وتسعين ومائة ولي القضاء لهيعة بن عيسى الحضرمي، فقال شاعرهم:

لقد ولي القضاء بكل أرضٍ
من الغرِّ الحضارمة الكرام
رجال ليس مثلهم رجال
من الصيد الجحاجحة الضخام٩

وقال يزيد بن مقسم الصدفي:

يا حضرموت هنيئًا ما خصصت به
من الحكومة بين العُجْم والعرب
في الجاهلية والإسلام يعرفه
أهل الرواية والتفتيش والطلب

فتن بين العرب والمصريين

ولون آخر من ألوان العصبية العربية هو سمو العرب بأنفسهم وتعاليهم على غيرهم من الشعوب، حتى على من أسلم من هذه الشعوب، فقد كوَّن العرب في مصر طبقة أرستقراطية — إن صح التعبير — لم تقبل أن يسمو إليها المصريون؛ ولذا كانت العلاقات بين العرب والمصريين سيئة في العصر العباسي وقام القبط بثورات عنيفة؛ ابتغاء طلب المساواة بالعرب، ولكن هؤلاء استطاعوا أن يخمدوا الثورات المتوالية، ونلمح من الأشعار التي وصلتنا عن هذه الاضطرابات كيف كان العرب يترفَّعون على المصريين، حتى اضطر من أسلم منهم إلى أن يتخذ لنفسه نسبًا عربيًّا حتى يتساوى بالعرب، ولكن عرب مصر رفضوا أن ينتسب غير عربي إليهم، ولعل قضية أهل الحرس تبين علاقة العرب بالمصريين؛ ذلك أن جماعة من القبط أسلموا وعُرِفوا بأهل الحرس، تحرش العرب بهؤلاء القوم وآذوهم فجمع أهل الحرس من بينهم نقودًا دفعوها إلى القاضي العمري ليثبت لهم نسبًا عربيًّا، وخرج بعضهم إلى الرشيد ببغداد يدَّعون له نسبًا، كما أتوا بجمع من أعراب الحوف الشرقي وبعض أعراب الشام ورشوهم بالمال فشهدوا أمام القاضي أن أهل الحرس من العرب وأن نسبتهم إلى بني حوتكة (من قضاعة) فقبل القاضي شهادتهم إلا شهادة حُوَيِّ بن حُوَيِّ بن معاذ العذري، وسجل لهم نسبًا بذلك؛ فثار عرب مصر، وقام الشعراء يهجون القاضي وأهل الحرس، من ذلك قول يحيى الخولاني في هجاء حُوَيٍّ:

يا ليت أم حُوَيٍّ لم تلد ذكرًا
أو ليت أن حُوَيًّا كان ذا خرس
كسا قضاعة عارًا في شهادته
لله در حوي شاهد الحرس!
شهادة رجعت لو أنها قبلت
لألحق الزور منها العير بالفرس

وقول يحيى الخولاني أيضًا:

ومن أعجب الأشياء أن عصابة
من القبط فينا أصبحوا قد تعربوا
وقالوا: أبونا حوتك، وأبوهم
من القبط علج حبله يتذبذب
وجاءوا بأجلاف من الحوف فادعوا
بأنهم منهم سفاهًا وأجلبوا
ألا لعن الرحمن من كان راضيًا
بهم رغَمًا ما دامت الشمس تغرب١٠

وقال مُعلَّى بن المُعلَّى الطائي في هجاء القاضي العمري:

كم كم تُطوِّل في قُرانِك
والجور يضحك من صلاتك
تقضي نهارك بالهوى
وتبيت بين مغنِّياتك
فاشرب على صرف الزما
نِ بما ارتشيت من الحواتك
إن كنت قد ألحقتهم
عربًا فزوجهم بناتك
وليكشفن بما أتيـ
ـت صدور قوم من مساتك
وكأنني بمنية
تسعى إليك بكف فاتك
أفقرته من ماله
بقضية أو لم يؤاتك
لا تعجلن أبا الندى
حتى تصير إلى وفاتك
إن المقامع تطلقن
من الجحيم إلى مماتك
بل لو ملكت لسان أكـ
ـثم ما وصلت إلى صفاتك١١

ونلاحظ أن الشاعر هنا كنَّى القاضي بأبي الندى، وهي كنية اللص الذي ظهر سنة إحدى وتسعين ومائة، وثم تراه قد تهكَّم بالقاضي؛ إذ دعاه أن يزوج أهل الحرس من بناته، وهو حكم وضعي سار عليه المسلمون حتى أصبح من الأحكام الفقهية؛ ذلك أن المولى لا يتزوج عربية، وبعد أن عُزِل القاضي العمري أرسل عرب مصر وفدًا إلى الخليفة الأمين فذكروا له ما فعل العمري بأهل الحرس فكتب الأمين إلى القاضي البكري يأمره أن لا يمنح أحدًا من غير العرب اللحاق بالعرب، وأن يردَّ أهل الحرس إلى ما كانوا عليه من أنسابهم، فأمر البكري أهل الحرس بإقامة البيِّنة، وجمع بعض أهل القناعة والعدالة من مصر فشهدوا أن أهل الحرس من القبط الذين أسلموا، فردَّهم القاضي إلى أصلهم ومزق سجلهم، ففرح عرب مصر بذلك، وقال مُعلَّى الطائي:

يا بني البظراء موتوا كمدًا
واسخنوا عينًا بتخريق السجل
لو أراد الله أن يجعلكم
من بني العباس طرًّا لفعل
لكن الرحمن قد صيركم
قبط مصر ومن القبط سفل
كيف يا قبط، تكونوا عربًا
ومريس أصلكم شر الجيل

وقال أبو رجب العلاء بن عاصم الخولاني:

ولقد قمعت بني الخبائث عندما
راموا العلا وتَحَوْتَكوا وتعرَّبوا
فرددتهم قبطًا إلى آبائهم
ونسبت أصلهم الذي قد غيبوا
وتركتهم مثلًا لكل ملصق
نسبًا إذا التقت المحافل يُضرَب

وقال يحيى الخولاني:

اشكروا الله على إحسانه
فله الحمد كثيرًا والرغب
رجع القبط إلى أصلهمُ
بعد خزي طوقوه وتعب
ودنانير رشوها قاضيًا
جائرًا قد كان فينا يغتصب
أخذ الأموال منهم خدعة
وتولى عنهمُ ثم هرب
أبلغ البكري عني أنه
عادل في الحكم فرَّاج الكرب١٢

كانت روح العصبية العربية ظاهرة واضحة أيام الأمويين والعباسيين؛ مما جعل القبط يثورون، وكان أشد هذه الثورات أيام المأمون؛ إذ اضطر الخليفة نفسه إلى أن يحضر إلى مصر، وأن يقمع هذه الفتن بشدة وحزم فلم يقم بعدها للمصريين قائمة، ثم إن العرب وجدوا أنفسهم في عهد المعتصم محرومين مما كان لهم من مزايا؛ فخمدت روح العصبية وصار العرب كالمصريين سواء بسواء، وبالرغم من أن بعض العلماء عطفوا على من أسلم من المصريين وعاملوهم كالعرب فولَّوا بعضهم الأعمال الهامة في الدولة، ولكن هذا لم يرض جمهور العرب فسخطوا، من ذلك ما رُوي أن بعض من أسلم من القبط وجد عطفًا من القاضي لهيعة بن عيسى، الذي ولي قضاء مصر مرتين في عهد المأمون، فقد فسَّح هذا القاضي مجلسه للمصريين، وألان جانبه لهم وألحق طائفة منهم في أعمال الدولة، فأسند كتابة القضاء إلى سعيد بن تليد — وكانت كتابة القضاء في ذلك العهد من أسمى ما يصبو إليه الفقهاء — كما اتخذ شهودًا جعلهم بطانته، منهم معاوية الأسواني وسليمان بن برد وغيرهما في نحو ثلاثين رجلًا، فتقوَّل العرب في القاضي مع علمهم بعلمه ودينه وسمو منزلته، وقد ظهر أقوال المصريين في أشعارهم من ذلك ما قاله الشاعر أبو شبيب أنيس بن دارم:

قبح الله زمانًا
راس فيه ابن تليد
بعد مقراض وخيط
وأُبَيْرات حديد
وأبو الزنباع خنا
ق غراميل العبيد
بعد سيف خشبي
وسهام من حديد
وابن تدراق الأفانيـ
ـن البليد بن البليد
وابن بكار كراكيـ
ـر وغطاس الثريد
وأبو الروس المريسي
ابن دباغ الجلود
واللقيط ابن بكير
نطفة الفدم الطريد
وابن سهم حارس الجيـ
ـزة حلوان البريد
عصبة من طينة النيـ
ـل ميامين الخدود
لبسوا بعد التبابيـ
ـن نفيسات البرود
لازموا المسجد ضلَّا
لا من الأمر الرشيد
لحوانيت بنوها
بفنا كل عمود
وتسموا وتكنوا
بعد جرح وشنود
وألاحوا بجباه
من نطاح الحصر سود
تحت أميال طوال
كبراطيل اليهود
نصبوها كالمقاعيـ
ـد على روس القرود
وتراهم للوصايا
وعدالات الشهود
في مراء وجدال
وقيام وقعود
وخشوع وابتهال
وركوع وسجود
على القسمة أضرى
من تماسيح الصعيد
وأشاروا للهدايا
بأبي عبد الحميد١٣

ومن ذلك أيضًا ما روي في قضية «ابن القطاس»، فقد كان سعيد بن زياد الملقَّب بابن القطاس ممن عُرِف بين المصريين بالعلم والفضل وكان أحد الشهود الذين قبل بعض القضاة أمثال لهيعة بن عيسى وابن المنكدر وغيرهما شهادته، كما كان أحد الذين يتولون التدريس في المسجد، فلما ولي محمد بن أبي الليث قضاء مصر رماه ابن القطاس بالبدعة، ودعا عليه، فنُقِل ذلك إلى القاضي، وأتى إلى القاضي من ذكر له أن ابن القطاس مولًى لم يجر عليه عتق، وشهد آخرون بأنه مولى رجل من الأزد يُقال له ابن الأبرش، وادَّعى ابن الأبرش رقبته، فأمر القاضي بحبس ابن القطاس خمسة أيام ونُودِي عليه في سوق الرقيق فاشتراه القاضي بدينار وأعتقه، وفي ذلك قال الجمل في مدح القاضي:

وبطشت بالقطوس بطشة قائم
بالحق غير مقصر ومبذر
ما زلت تفحص عن أمور شهوده
في السر والعلن المبين الأظهر
فربطته في رقة ومنعته
وطأ الحرائر وهو غير محرر
هذا النداء، وهذه هاد لهم
إن جاء فيه بغير فلس أقشر
يفتي وينظر في المكاتب دائبًا
والعبد غير مكاتب ومدبر١٤

ومما لا شك فيه أن المصريين أنشدوا شعرًا كثيرًا جدًّا في علاقة عرب مصر بالمصريين، ولكن هذا الشعر فُقِد ولم يبق منه إلا قدر يسير قد ذكرنا أكثره.

(٢) أثر محنة خلق القرآن

أصاب مصر من فتنة خلق القرآن ما أصاب الأقطار الإسلامية الأخرى، فقد روى الكندي أن المأمون طلب إلى أخيه أبي إسحاق المعتصم أن يكتب إلى نصر بن عبد الله كيدر نائبه على مصر أن يمتحن القضاة والشهود، فمن أقرَّ منهم أن القرآن مخلوق وكان عدلًا قُبِلت شهادته وأقر بموضعه، وكان القاضي بمصر إذ ذاك هرون بن عبد الله، فامْتُحن وأقر بأن القرآن مخلوق، وتبعه عامة الشهود وبعض الفقهاء وهرب منهم من لم يوافق، وورد كتاب المعتصم على القاضي هرون بحمل الفقهاء في المحنة، فاستعفى هرون من ذلك، فكتب ابن أبي دؤاد إلى محمد بن أبي الليث بالقيام في المحنة، وذلك قبل ولايته القضاء، فحمل البويطي وخشنام المحدث في جمع كثير غيرهما، ولما ولي الواثق سنة سبع وعشرين ومائتين أمر أن يأخذ الناس بالمحنة وورد كتابه علي ابن أبي الليث الذي ولي القضاء سنة ست وعشرين ومائتين، فلم يبق أحد من فقيه ولا محدث ولا معلم حتى أخذ بالمحنة وهرب كثير من الناس ومُلِئت السجون بمن أنكر المحنة، كان «مطر» غلام ابن أبي الليث يأخذ قلانس العلماء أمثال هرون بن سعيد الأيلي ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وغيرهما ويسوقهم بعمائمهم، وفي هذا كله أنشد شعراء مصر، فمن ذلك ما قاله الحسين بن عبد السلام المعروف بالجمل الأكبر، وكان منقطعًا إلى مدح القاضي ابن أبي الليث في ذلك العصر:

فحميت قول أبي حنيفة بالهدى
ومحمد واليوسفي الأذكر
وفتى أبي ليلى وقول فريقهم
زفر القياس أخي الحجاج الأنظر
وحطمت قول الشافعي وصحبه
ومقالة ابن علية لم تضجر
والمالكية بعد ذكر شائع
أخملتها فكأنها لم تذكر
أعطتك ألسنة أتتك ضميرها
وأتتك ألسنة بما لم تذكر
فأطفت بالأيلي١٥ ينعق صائحًا
في كل مجمع مشهد أو محضر
ومحمد الحكمي١٦ أنت أطفته
وأخوه ينعق بالصياح الأجهر
كل ينادي بالقران وخلقه
فشهرتهم بمقالة لم تشهر
لم ترض أن نطقت بها أفواههم
حتى المساجد خلقه لم تنكر١٧
لما أريتهم الردى متصورًا
زعموا بأن الله غير مصور١٨

وكان أحمد بن صالح قد هرب إلى اليمن في هذه المحنة، ولزم يوسف بن أبي طيبة منزله ولم يظهر، وحاول محمد بن سالم القطان الهرب ولكن ظفر به فحُمِل إلى العراق، وهرب ذو النون المصري ثم رأى أن يرجع فأقر بالمحنة، وإلى هذا كله أشار الجمل بقوله:

أحجرت يوسف في خزانة بيته
فطوته عنك وطالما لم يحجر
كفرت بك الأرضون حين سألتها
خبر ابن صالح الخبيث الأكفر
جحدته أقطار البلاد فما على
حركاته وسكونه من مظهر
وثوى ابن سالم خفية في بيته
ثم امتطى غلس الظلام الأستر
فأتى به كعريج أو كأبي الندى
والناس بين مهلل ومكبر١٩

وأخذ القاضي في اضطهاد الفقهاء؛ من ذلك أن الفقهاء وشيوخ مصر إذ ذاك كانوا يرتدون القلانس الطوال ويبالغون فيها، فأمرهم ابن أبي الليث بتركها، ومنعهم من لباسها وأمرهم أن يتشبهوا بزي القاضي فلم يأبهوا بأمره، فانتظر حتى أتى إليه عدد منهم وهو في مجلس حكمه فأمر غلاميه عبد الغني ومطرًا أن يضربا رءوس الشيوخ حتى ألقوا قلانسهم على الأرض، وأخذها الصبيان والرعاع يلعبون بها، وفي ذلك قال الجمل:

وأخفت أيام الطوال وأهلها
فرموا بكل طويلة لم تقصر
ما زلت تأخذهم بطرح طوالهم
والمشي نحوك بالرءوس الحسر
حتى تركتهم يرون لباسهم
بعد الجمال خطية لم تغفر
يتفزعون بكل قطعة خرقة
يجدونها من أعين ومخبر
فإذا خلا بهم المكان مشوا بها
وتأبطوها في المكان الأعمر
فلئن ذعرت طوالهم فلطالما
ذعرت، ومن مروا بها لم يذعر
لبسوا الطوال لكل يوم شهادة
ولقوا القضاة بمشية وتبختر
مالي أراهم مطرقين كأنما
دمغت رءوسهم بحمَّى خيبر٢٠
هذا بعض ما وصلنا عن محنه الفقهاء في مصر، ومن يدري لعل المصريين أنشدوا في ذلك شعرًا كثيرًا يخالفون به المعتزلة لا سيما في مسألة خلق القرآن؛ إذ كان للمعتزلة في مصر حلقة زعيمها ابن صبيح،٢١ كانت تدافع عن خلق القرآن، ولكن يُخيَّل إليَّ أن مذهب المعتزلة لم يجد مكانًا في نفوس المصريين حتى إن سيبويه المصري كان يقف في جمع كثير، وفي الحاضرين أبو عمران موسى بن رباح الفارسي المتكلم وأحد شيوخ المعتزلة بمصر، فكان سيبويه يصيح ويقول: الدار دار كفر، حسبكم أنه ما بقي في هذا البلد العظيم أحد يقول: القرآن مخلوق، إلا أنا وهذا الشيخ أبو عمران، فقام أبو عمران يعدو حافيًا خوفًا على نفسه حتى لحقه رجل بنعله.٢٢

(٣) بعض أغراض الشعر

لم تكن هذه كل أغراض الشعر المصري في هذا العصر بل نجد بجانب ذلك شعرًا قيل في المدح والهجاء والرثاء؛ أي في الأغراض التي لا تتصل إلا بالشاعر وعواطفه وميوله، وليس بعجيب أن نرى هذه الأغراض في الشعر المصري، فكل الشعر العربي في جميع عصوره لم يخل منها، ففي الجاهلية نرى الشعراء يمدحون ولكن مدحهم كان أقرب إلى الواقع، وأبعد عن المبالغة، ثم أخذ المدح يزداد مبالغة بازدياد الحضارة والركون إلى الرخاء واضطر الشعراء إلى التزلف والتملق حتى ينالوا حظوة عند الأمراء والخلفاء، وفي الشعر المصري نجد بعض الشعراء يقربون من شعراء الجاهليين في صدق مدحهم ولا يسرفون في وصف الممدوح بما ليس فيه، فشِعْر سعيد بن عفير كان قريب الشبه من شعر زهير بن أبي سلمى الجاهلي كلاهما لم يمدح بقصد النوال، وكلاهما كان يمدح خصال الرجل وخلقه أكثر من أي شيء آخر ولا لشيء، ففي مدح سعيد لهبيرة بن هشام الذي عُذِّب وكاد يقتل لأنه أجار إبراهيم الطائي الثائر على الوالي المطلب الخزاعي، ولم يقبل هبيرة أن يسلِّم إبراهيم للوالي، نرى الشاعر قد شبه هبيرة بالسموأل بن عاديا في الوفاء، ومدحه بجلده على تحمل العذاب في سبيل ذلك الوفاء:

لعمري لقد أوفى، وفاقَ وفاؤه
هبيرة في الطائي وفاء السموأل
وقاه المنايا إذ أتاه بنفسه
وقد برقت في عارض متهلل
فما انفك محبوسًا ومُطَّلب له
عليه قصيف بالوعيد المهوِّل
فما زاده الإبعاد إلا توقرًا
وصبرًا ولم يخشع ولم يتفكَّل
إلى أن تجلت عنه أبيض ماجد
كريم الثنا في المشهد المتدخل٢٣

فسعيد هنا يمدح رجلًا كريمًا وفيًّا، ليس له سلطان ولا إمرة، ولم يطمع فيما كانت تصبو إليه نفوس الشعراء الآخرين، ونجد من ناحية أخرى بين الشعراء المصريين من تكسَّب بشعره كالشاعر المُعلَّى الطائي الذي اتصل بكثير من الولاة والأمراء ومدحهم، بل كان لا يتحرج من أن يمدح أحدهم ثم يمدح عدوَّه إذا صار الأمر بيد ذلك العدو، من ذلك ما قيل: إنه اتصل بالسري وابنه ومدحهما، وكانا ثائرين على الولاة، ثم وقف بين يدي عبد الله بن طاهر تحت المنبر وقال له: أصلح الله الأمير، أنا المُعلَّى الطائي، وقد بلغ مني من جفاء وغلظ فلا يغلظن عليَّ قلبك، ولا يستخفنك الذي بلغك، أنا الذي أقول:

يا أعظم الناس عفوًا عند مقدرة
وأظلم الناس عند الجود للمال
لو أصبح النيل يجري ماؤه ذهبًا
لما أشرت إلى خزن بمثقال
تغلي بما فيه رق الحمد تملكه
وليس شيء أعاض الحمد بالغالي
تفك باليسر كف العسر في زمن
إذا استطال على قوم بإقلال
لم تخل كفك من جود لمختبط
ومرهف قاتل في رأس قتال
وما بثثتَ رعيل الخيل في بلد
إلا عصفن بأرزاق وآجال
إن كنتُ منك على بال مننتَ به
فإن شكرك من قلبي على بالي٢٤

فسُرَّ الوالي وأجزل عطاءه، فالشاعر مدحه لجوده وطمعه في صلاته، ولعل أكثر شعراء هذا العصر تكسُّبًا بالشعر هو الحسين بن عبد السلام الشهير «بالجمل الأكبر» إذ اتصل بالقاضي محمد بن أبي الليث ومدحه، ولم يأبه لصوت المصريين الذين سخطوا على القاضي لسوء معاملته — وقدَّمنا مثلًا من ذلك كله في حديثنا عن محنة خلق القرآن — ثم نراه يتصل بأحمد بن المدبر والي خراج مصر، ويطلب منه العطاء كما كان يفعل مروان بن أبي حفصة مع معن بن زائدة الشيباني، فقد قيل: إن ابن المدبر كان من عادته أنه إذا مدحه شاعر ولم يرض بشعره، أمر من يحمله إلى المسجد ويأمره أن يصلي عددًا معلومًا يفرضه عليه، فعرف الشعراء ذلك فدخل عليه الجمل الأكبر وأنشده:

قصدنا في أبي حسن مديحًا
كما بالمدح تنتجع الولاة
فقلنا: أكرم الثقلين طرًّا
ومن كفيه دجلة والفرات
فقالوا: يقبل المدحات لكن
جوائزه عليهن الصلاة
فقلت لهم: وما تغني صلاتي
عيالي، إنما تغني الزكاة
فأما إذ أبى إلا صلاتي
وعاقتني الهموم الشاغلات
فيأمر لي بكسر الصاد منها
فتصبح لي الصلاة هي الصلات
فيصلح لي على هذا حياتي
ويصلح لي على هذا الممات٢٥

وظل هذا الشاعر يتكسب بالمدح حتى ولي أحمد بن طولون فآثره بمدحه وأخذ عطاءه، فاعتبره كثير من المؤرخين شاعر ابن طولون، ولكن المنية عاجلت الشاعر في أوائل حكم الطولونيين؛ أي في سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين.

لا نكاد نجد بين أيدينا من الشعر الذي بقي لنا من هذا العصر معاني جديدة في المدح، بل اتخذ شعراء مصر نفس المعاني التي اتخذها غيرهم من شعراء العرب من وصف الممدوح بالجود والكرم والشجاعة، ولا نكاد نجد إلا أثرًا قليلًا لمصر في هذا الشعر الذي رأيناه في شعر المُعلَّى من ذكر النيل، ولعل روح الفكاهة المصرية قد أثَّرت أيضًا في شعر الشعراء كالذي نراه في الأبيات التي رويناها للجمل في مدح ابن المدبر.

كذلك نستطيع أن نقول عن الهجاء نقد، رأينا كيف كان الشعراء يهجون الولاء والقضاة في مصر، ويحصون مساوئهم، وأكثر شعراء هذا العصر هجاءً هو الشاعر يحيى الخولاني الذي وقف بالمرصاد للقاضي العمري فرماه بالرشوة، وكنَّاه أبا الندى، وهي كنية مصرية خالصة لم يعرفها شعراء العرب، ولم يذكرها إلا المصريون، وهجاه أيضًا بأنه كان يحب سماع الغناء وفي ذلك يقول الشاعر يحيى:

مر بنا راكب على فرس
يا من رأى هربذا٢٦ على فرس
فقلت: من ذا اللعين؟ قيل أبو النـ
ـدا غدا مسرعًا إلى عرس
كيما يرى قينة ذكرت بها
تشدو بصوت يخال كالجرس
أصبح في المخزيات منغمسا
وليس في غيرها بمنغمس٢٧

كذلك الشاعر يحيى بن الفضيل الذي هجا الوالي عنبسة بن إسحاق الضبي، ورماه بدين الخوارج وبالجنون؛ لأن الوالي كان يذهب إلى المسجد وهو ينادي في شهر رمضان بالسحور، فلم يعجب الشاعر ذلك وأرسل إلى الخليفة يقول:

من فتى يبلغ الإمام كتابًا
عربيًّا ويقتضيه الجوابا
بئس والله ما صنعْتَ إلينا
حين وليتنا أميرًا مصابا
خارجيًّا يدين بالسيف فينا
ويرى قتلنا جميعًا صوابا
مر يمشي إلى الصلاة نهارًا
وينادي السحور ضل وخابا٢٨

والشاعر إسحاق بن معاذ بن مجاهد هجا القاضي المفضل بن فضالة فقال:

خف الله وارقد واتئد يا مفضل
فإنك عن فصل القضاء ستسأل
وإنك موقوف به ومحاسب
فدونك، فانظر كيف في الحكم تفعل
أفي العدل أن أُقصَى وأخرج متبعًا
وتدني بفضل منك خصمي وتدخل
ويُفتَح إن يدنو له الباب جهرة
ويغلق دوني إن دنوت ويقفل
وتقبل منه في مغيبي شهوده
وبيِّنتي ليست إذا غاب تقبل
فها أنذا أصبحت خصمك في الذي
قضيت به، والحق ما ليس يجهل
فأصغ إليَّ السمع منك وأنبني
بأي وجوه الفقه أصبحت تعمل٢٩

وقول سعيد بن عفير في هجاء الوالي الحسين بن جميل سنة تسعين ومائة:

ما كنت أحسب أن الحين يجمع ما
أمسى بمصر من الأنذال في الأمر
أما الأمير فحنَّاج وصاحبه
على الخراج سوادِي من الأكر
هذا الهنائي٣٠ من الفسطاط يخلفه
والباهلي٣١ على أعماله الأخر
كل لصاحبه شكل يلائمه
فهم سواسية في اللؤم كالحمر
وما هناءة إلا ظلف ذي يمن
والباهليون مأوى اللؤم من مضر
فما يسوغ لنا عيش فينفعنا
معْ ما نرى لهم من رقة الخطر٣٢

ولم يصلنا شيء من الهجاء بين الشعراء كالذي نراه بين شعراء الأقطار الإسلامية الأخرى، والهجاء الذي وصلنا يكاد يكون ذمًّا للمهجوِّ دون تعريض بأسرته، فلم يسرفوا في الهجاء كما لم يسرفوا في المدح.

أما الرثاء، فالمعروف أن من عادة المصريين منذ القدم الإسراف في البكاء والنحيب والعويل حزنًا لوفاة قريب أو صديق، وشعراء العرب كانوا يسرفون في الرثاء ويبكون، ولكن ما وصلنا من الشعر المصري في الرثاء يختلف تمام الاختلاف عن عادة المصريين وشعراء العرب، فقد قصر شعراء مصر رثاءهم على سرد مناقب الميت، وكيف لاقى الموت بشجاعة وجلد، ويتلقى الشاعر نعي الميت بصبر، عالمًا أن هذا مصير كل حي، كقول الشاعر سعيد بن عفير:

ساقت عمير إلى مصر منيته
بإمرة لم يكن فيها بمسعود
حتى أتته المنايا وهو ملتحف
ثوبين من حبرات البأس والجود
فاذهب حميدًا، فلا تبعد، فكل فتى
يومًا، وإن كرمت أفعاله، يودي٣٣

وقول سعيد أيضًا في رثاء هبيرة بن هشام بن حديج الذي قُتل في حروبه مع السري سنة مائتين:

لَعَمْري لقد لاقى هُبَيْرَةُ حَتْفَهُ
بأفْضَل ما تُلْقى الحتوف السوارعُ
بأنْفٍ حَمِيٍّ لَمْ تخالِطهُ ذِلَّة
وعِرضٍ نقيٍّ لم تَشِنْهُ المطامع
عَشيَّةَ يَسْتكْفيه مُطَّلِبُ الذي
به ضاق ذرْعًا والمنايا كوارع
فما انفك يحميه ويجعل نفسه
له جُنَّةً حتى احتوته المصارع
فلاقى المنايا فوق أجْرَدَ سابحٍ
وفي الكف مأثورٌ من الهند قاطع
فبينا يخوض الهوْل من غمراته
وأعداؤه من حوله قد تجاشعوا
تقطَّر في أهْويَّةٍ عن جواده
فصادفه حَيْنٌ من الموت واقع
فلم أر مقتولًا أجل مصابه
على من يعادي والذين يجامع
من ابن حديج يوم أُعْلِن نعيه
وقام به في الناس راءٍ وسامع٣٤
وقد حُفِظَت قصيدة في الرثاء تكاد تكون كاملة أنشدها الشاعر المُعلَّى الطائي يرثي جارية له، قيل إنه كان يحبها لأدبها وعلمها، وكانت شاعرة، وقيل أيضًا: إن المُعلَّى باعها بأربعة آلاف دينار، فلما دخل عليها قالت له: بعتني يا مُعلَّى؟ قال: نعم. قالت: والله، لو ملكتُ منكَ مثل ما تملكُ مني ما بعتُك بالدنيا وما فيها. فاضْطُر المُعلَّى إلى أن يرد الدنانير وأن يستقيل صاحبه ويعتذر إلى صاحبته،٣٥ وتُوفِّيت هذه الجارية بعد ثمانية أيام من هذا الحادث؛ فرثاها المُعلَّى بقصيدة أرى أنها من آيات الشعر؛ لجمال معناها، وسموِّ عاطفتها، ورشاقة لفظها.

أخذ الشاعر يناجي الموت ويعاتبه كأنه شخص ماثل أمام عينيه، ويتحدث إليه كما يتحدث إلى شخصٍ يعرفه، فهو يلوم الموت؛ لأنه اقتنص جاريته التي عبَّر عنها بشق نفسه، فهو لا يستطيع أن يهنأ بالنصف فقط، وهو يلوم الموت ويستعطفه استعطافًا أملاه عليه حزنه لفقدها وحبه لها، فقال إن الموت لم يرحم شبابها، ثم يأخذ في وصف عظامها اللينة، وشعرها وعينيها ومِشيتها، ويترحم على ذلك كله وأخيرًا يعاتب الموت أخرى؛ لأنه ترك حبيبته في قبرٍ تلعب الريح بترابه، وتمتد إليه يد البلى، وأن أحدًا لا يستطيع زيارة هذا القبر؛ لأن في زيارته الهلاك ثم يناشد القبر أن يُبْقِي على محاسنها، ويحفظ برَّها وظرفها. فالشاعر في هذه القصيدة حزين حقًّا، متألم أشد الألم لفراق جاريته، ولكنه حِزْن هادئ — إن صحَّ هذا التعبير — لم يرسل الدمع، ولم ينتحب، وهو في هذا الحزن يَذْكُر أنه سيلتقي بها يوم القيامة:

يا موت، كيف سلبتني «وصفا»
قدَّمتها وتركتني خلفا
هلَّا ذهبت بنا معًا، فلقد
ظَفِرتْ يداك فسمتني خسفا٣٦
وأخذت شقَّ النفس من بدني
فقبرته وتركت لي النصفا
فعليك بالباقي بلا أجل
فالموت بعد وفاتها أعفى٣٧
يا موت، ما أبقيت لي أحدًا
لما رفعت إلي البلى «وصفا»
هلا رحمت شباب غانية
ريَّا العظام وشعرها الوَحْفا٣٨
ورحمت عيني ظبية جعلت
بين الرياض تناظر الخشْفا٣٩
تقضي إذا انتصفت مرايضة
وتظل ترعاه إذا أغفى
فإذا مشى اختلفت قوائمه
وقت الرضاع فينطوي ضعفا
متحيرًا في المشي مرتعشًا
يخطو فيضرب ظلفه الظلفا
فكأنه «وصف» إذا جعلت
نحوي تحير٤٠ محاجرًا٤١ وطفا٤٢
يا موت، أنت كذا لكل أخ
إلف يصون ببره الإلفا
خليتني فردًا وبِنْت بها
ما كنت قبلك حاملًا وكفا٤٣
فتركتها بالرغم في جَدث
للريح ينسف تربه نسْفا
دون المقطم لا يُلبِّسُها
من زينة قلبًا ولا شنْفا
أسكنتها في قعر مظلمة
بيتًا يصافح تربه السقفا
بيتًا إذا ما زاره أحدٌ
عصفت به أيدي البلى عصفا
لا نلتقي أبدًا معاينة
حتى نقوم لربنا صفا
لبست ثياب الحتف جارية
قد كنت ألبس دونها الحتْفا
فكأنها والنفس زاهقة
غصن من الريحان قد جفا
يا قبر، أبق على محاسنها
فلقد حويت البر والظرفا٤٤

فأنت ترى الشاعر عميقًا في حزنه، مستسلمًا لما رُزِئ به، ولكنه لم يذكر بكاءه كغيره من الشعراء؛ إذ لا نكاد نجد قصيدة في الرثاء بدون دمع منهمر، فالبكاء عند الشعراء مظهر من مظاهر الحزن، وهو أيضًا يدل على بساطة في الحياة وسذاجة في الشعور؛ فكما أن الطفل الصغير يبكي إذا تألم، والمرأة تبكي إذا أغضبها شيء، كذلك شعراء العرب كانوا يبكون إذا رثوا، ولا أدري لمَ لم يتبع شعراء مصر في هذا العصر سنة شعراء العرب أو طريقة المصريين في المآتم، ومن يدري لعل للمصريين في الرثاء أشعارًا كثيرة فيها هذا اللون من البكاء والنحيب ولكن الشعر فُقِد.

أما حياة اللهو والمجون ومجالس الخمر والغزل فلا أكاد أجد لها ذكرًا فيما وصَلَنا من الشعر في هذا العصر، ولا أستطيع أن أقول إنه لم يوجد في مصر شعراء لهَوْا كما لها غيرهم، وتغزَّلوا كما تغزَّل غيرهم، وحياة مصر وأعيادها كانت تدعو إلى أن يتحدث عنها الشعراء، ويكفي أن أنقل شيئًا مما ذكره المقريزي عن أعياد المصريين، فقد قال في حديثه عن عيد الشهيد: «ومما كان يُعمَل بمصر عيد الشهيد، وكان من أنزه أفراح مصر وهو الثامن من بشنس ويكون لذلك اليوم عيد ترحل إليه النصارى من جميع القرى، ويركبون فيه الخيل، ويلعبون عليها، ويخرج عامة أهل مصر على اختلاف طبقاتهم، وينصبون الخيم على شطوط النيل وفي الجزائر ولا يبقى مغنٍّ ولا مغنية، ولا صاحب لهو، ولا رب ملعوب، ولا بغي، ولا مخنث، ولا ماجن، ولا خليع، ولا فاتك، ولا فاسق؛ إلا ويخرج لهذا العيد فيجتمع عالم عظيم لا يحصيهم إلا خالقهم، وتُصرَف أموال لا تنحصر، ويتجاهر هناك بما لا يُحتَمل من المعاصي والفسوق، وتثور فتن، وتُقتَل أناس، ويباع من الخمر خاصة في ذلك اليوم، وكان اجتماع الناس لعيد الشهيد دائمًا بناحية شبرا.٤٥
وقد ظل هذا العيد بمصر إلى أن أمر بإبطاله الأمير بيبرس سنة ٧٠٢ﻫ، ومن هذه الأعياد أيضًا عيد الغطاس وفيه يشارك المسلمون النصارى، وفي هذا العيد لا يتناكرون كل ما يمكنهم إظهاره من المآكل والمشارب والملابس وآلات الذهب والفضة والجوهر والملاهي والعزف والقصف، وهي أحسن ليلة تكون بمصر، وأشملها سرورًا،٤٦ وقد شاهد المسعودي الغطاس سنة ثلاثين وثلاثمائة هجرية ووصفها، ومنع المصريون سنة سبع وستين وثلاثمائة من إظهار ما كانوا يفعلونه في الغطاس، ثم سمح لهم سنة ثمانٍ وثمانين وثلاثمائة، وكذلك عيد الصليب، وفيه كان المصريون يخرجون إلى خارج الفسطاط، ويتظاهرون بالمنكرات والمحرمات وقد أُبْطِل هذا العيد سنة اثنتين وأربعمائة أيام الحاكم الفاطمي.٤٧
من الطبيعي أنه كان بين الشعراء في هذا العصر من شارك الناس في لهوهم وعبثهم، وأنشد شعرًا في هذه الحياة الصاخبة الماجنة، ولكن هذا الشعر فُقد ولم يبق منه ما يدل عليه، فلم يروه الرواة، ولم يدونه المؤرخون، ولا أستطيع أن أعلل ذلك، وكذلك لم يصلنا شعر في وصف الخمر مع أن الكندي يحدثنا أن العلويين خرجوا بمصر أيام الوالي يزيد بن حاتم، فأرسل الوالي إلى أصحابه، فجعلوا يأتونه سكارى، فقال لهم: إن نضوحكم الليلة لكثير،٤٨ وخشي الوالي علي بن سليمان عاقبة انتشار الخمر بين المصريين؛ فأمر بمنع الملاهي والخمور في أيامه،٤٩ ومع ذلك كله لم يصلنا شعر في مجالس الخمر ولا في وصفها. وكان بمصر قيان ومغنون شأنها في ذلك شأن كل الأقطار الإسلامية، ويحدثنا الكندي أن القاضي العمري كان يشدو بأطراف الغناء على مغاني أهل المدينة، ويبرز كثيرًا في مجالسه، ولا يتحاشى أن يقول: هذا غنَّى به ابن سريح، وهذا به الدلال، وهذا من جيد غناء الغريض، ولم يكن بمصر مسمعة إلا ركب إليها، وسمع غناءها، وربما قوَّم ما انكسر من غنائها، ويرى ذلك من الدين.٥٠ وقد هجاه خصومه بذلك فقال يحيى الخولاني:
ألا قم فاندب العربا
وَبكِّ الدين والحسبا
ولا تنفك تبكي العد
ل لمَّا بان فاغتربا
لقد أحدثت — قاضي السو
ء — في فسطاطنا عجبا
يظل نهاره يقضي
بغير العدل منتصبا
ويسهر ليله لسما
عه القينات والطربا
ويشربها معتقة
عقارًا تشبه الذهبا
ويعجبه سماع العو
د والمزمار، يا عجبا!
فيا للناس من قاضٍ
يحب اللهو واللعبا٥١

نستطيع أن ندرك كيف أخذ المصريون على القاضي كَلَفه بالغناء وإعجابه بسماع العود والمزمار، وشرب الخمر، في حين أن خلفاء العباسيين في بغداد كانوا يلهون ويمجنون، ويظهرون اللهو والمجون ويشاركهم في هذه الحياة الشعراء والندماء.

(٤) الشعراء الوافدون

لم ينقطع في هذا العصر أيضًا وفود الشعراء على مصر لمدح الولاة والأمراء، بل كان بين الولاة أنفسهم من أنشد الشعر، كالوالي الفضل بن صالح المُتوفَّى سنة ١٧٢ﻫ، فقد كان شاعرًا فصيحًا أديبًا، ومن شعره:

عاش الهوى واستشهد الصبر
وعاث في الحزن والضر
وسهل التوديع يوم نوى
ما كان قد وعره الهجر٥٢
والوالي عبد الله بن طاهر الذي ولي مصر سنة إحدى عشرة ومائتين كان بارع الأدب حسن الشعر،٥٣ ومن شعره ما أرسله للخليفة المأمون وقد أمره بالزيادة في الجامع العتيق فكتب له ابن طاهر:
أخي أنت ومولاي
ومن أشكر نعماه
فما أحببت من شيء
فإني الدهر أهواه
وما تكره من شيء
فإني لست أهواه
لك الله على ذاك
لك الله، لك الله٥٤
وكان الوالي يزيد بن حاتم الذي ولي مصر سنة أربع وأربعين ومائة مَقْصَدًا للناس لكرمه، محبًّا للشعر وأهله،٥٥ قصده كثير من الشعراء منهم ربيعة بن ثابت الرقي، قيل إنه مدح يزيد، فتشاغل هذا عنه ببعض الأمور، واستبطأه ربيعة فرحل عن مصر، وقال:
أراني — ولا كفران لله — راجعًا
بخفي حنين من نوال ابن حاتم

فبلغ هذا القول يزيد، فأرسل في استدعاء الشاعر ورده إلى مصر، فلما دخل عليه قال له: أأنت القائل: «أراني، ولا كفران؟» قال: نعم. قال: هل قلت غير هذا؟ قال: لا. قال: والله، لترجعن بخفي حنين مملوءة مالًا. فأمر بخلع خفيه، وأن تملأ له مالًا، ثم قال له: أصلح ما أفسدت من قولك. فمما قاله الشاعر في مدح يزيد لمَّا عُزِل عن مصر:

بكى أهل مصر بالدموع السواجم
غداة غدا عنها الأغر ابن حاتم٥٦

ويذكر السمعاني أن المسهر التميمي الشاعر وفد أيضًا على ابن حاتم ومدحه وأجزل الأمير عطاءه، كما قصده الشاعر محمد بن عبد الله بن مسلم المعروف بابن المولى ومدحه بقصيدة طويلة منها:

وإذا تباع كريمة أو تُشترى
فسواك بائعها وأنت المشتري٥٧

ومن قوله أيضًا في مدح يزيد:

يا واحد العرب الذي
أضحى وليس له نظير
لو كان مثلك آخر
ما كان في الدنيا فقير
ويحدثنا الطبري أن البطين الحمصي الشاعر وفد على مصر بصحبة الوالي عبد الله بن ظاهر.٥٨

أبو نواس في مصر

وفي هذا العصر وفد أبو نواس على مصر، ولمكانة أبي نواس في الشعر، ولكثرة ما حُفِظ لنا من شعره في مصر رأينا أن نطيل بعض الشيء في حديثنا عن وفوده على مصر.

حدثنا جامع أخبار أبي نواس:٥٩ أن الشاعر خرج إلى مصر متنكرًا في زي الشطار مع سليمان بن أبي سهل، فلما دخل على الخصيب ازْدَراه واستخفَّ به، ثم أرسل أبو نواس كتبًا إلى الخصيب فلم يستنشده، فكان ينصرف مهمومًا، وعلم المصريون بوجود أبي نواس بينهم، فهرعوا إليه واستمعوا إلى شعره وكتبوه، فأنشد بعضهم هذا الشعر إلى الخصيب فاستحضره وأنشده قصيدته التي مطلعها:
أجارة بيتِنا أبوك غيور
وميسور ما يرجى لديك عسير
ونحن لا نستطيع أن نقبل هذه الرواية؛ إذ كيف يرفض أمير أن يستمع لأبي نواس مع مكانته في عالم الشعر إذ ذاك؟! ففي الوقت الذي كان ينشد فيه أبو نواس الخليفة في بغداد، وينادم ولي العهد؛ يرفض أمير مصر أن يستمع إليه؟ وهناك رواية أخرى ذكرها صاحب أخبار أبي نواس أيضًا تحدثنا أن الخصيب هو الذي استزار أبا نواس فشخص هذا إليه، وبينما هو في طريقه صادف قومًا من أهل الأدب لهم شرف وهيبة، فآنسهم ومضوا جميعًا حتى دخلوا معه مصر، فسار أبو نواس إلى الخصيب الذي أحسن مقابلته وسأله عن خبره في رحلته واستنشده. هذه الرواية تناقض السابقة، وهي أقرب إلى الصواب؛ لأن أبا نواس كان معروفًا في ذلك العصر في كل البلاد الإسلامية وينشد شعره الأدباء بل نرى بعضهم قد تتبع أخبار أبي نواس كالذي قيل: إن النضر بن أمية الحمصي الشاعر قال: لما خرج أبو نواس من بغداد إلى مصر، كتب الناس ببغداد إلى أهل الشام بذلك، فلم يزل القوم في الشام يرقبون قدومه حتى قدم. ويحدثنا السيوطي أن أهل الأدب بمصر لما عرفوا قدوم أبي نواس هرعوا إليه واستنشدوه، فكان يجلس في المسجد الجامع والناس حوله ينشدهم أشعاره، وهم يكتبون.٦٠ فهذا يدلنا على أن أبا نواس لم يكن بالشاعر المجهول عند المصريين وغير المصريين؛ ولذلك فإني أرجح هذه الرواية الأخيرة.
أما الخصيب الذي استقدم الشاعر فلا نكاد نعرف عنه شيئًا ولم يذكره المؤرخون بين ولاة مصر وأمرائها، ولكن جامع ديوان أبي نواس قال: هو الخصيب بن عبد الحميد العجمي ثم المرادي، أمير مصر، وهو دهقان من أهل المزار شريف الآباء، وكان رئيسًا في أرضه، فانتقل إلى بغداد وصار كاتب مهرويه الرازي، ثم انتقل إلى الإمارة.٦١ وفي حديث المقريزي عن المدن قال: منية الخصيب، هذه المدينة تُنسَب إلى الخصيب بن عبد الحميد صاحب خراج مصر،٦٢ ولكن كتب التاريخ لم تذكر الخصيب أيضًا بين ولاة خراج مصر، وإذا أمعنا في دراسة ولاة مصر وأمرائها في عصر الرشيد، نجد المؤرخين قد أهملوا ذكر صاحب الخراج في سنة ١٨٠ﻫ وسنة ١٨٣ﻫ وسنة ١٨٩ﻫ؛ أي إن الخصيب كان أميرًا على خراج مصر في إحدى هذه السنين، والذي أرجحه أنه كان في سنة ١٨٩ﻫ؛ إذ هي السنة التي وُلِّي فيها عبد الله بن محمد على مصر، وفي سنة ١٩٠ﻫ جعل على الشرطة أحمد بن حوي، وعلى الصلاة هاشم بن حديج، وقد ورد ذكر هذين الأميرين في شعر أبي نواس، وإذن فقد كان أبو نواس في مصر سنة ١٩٠ﻫ.

تكاد تجمع الروايات على أن أول قصيدة أنشدها أبو نواس في مصر هي قصيدته الرائية:

أجارة بيتنا أبوك غيور
وميسور ما يرجى لديك عسير

وفيها يقول:

تقول التي عن بيتها خف مركبي:
عزيز علينا أن نراك تسير
أما دون مصر للغنى متطلب
بلى … إن أسباب الغنى لكثير
فقلت لها، واستعجلتها بوادر
جرت فجرى في جريهن عبير
ذريني أكثر حاسديك برحلة
إلى بلد فيه الخصيب أمير٦٣

وهو في هذه القصيدة يصف رحلته من العراق، ويذكر المدن التي مرَّ بها، ثم يحدثنا عن طمعه في نوال الخصيب، بل هو في كل شعره الذي أنشده في مدح الخصيب كان يتحدث دائمًا عن أمله في العطاء الجزيل، ويمني نفسه بالمال الكثير:

يا ابنتي، أبشري بميرة مصر
وتمني وأسرفي في الأماني
أنا في ذمة الخصيب مقيم
حيث لا تعتدي صروف الزمان
قد علقنا من الخصيب حبالًا
آمنتنا طوارق الحدثان٦٤

وقوله أيضًا:

وإني جدير إذ بلغتك بالمني
وأنت بما أملت منك جدير

وفي قصيدة أخرى قال:

أنت الخصيب وهذه مصر
فتدفقا فكلاكما بحر
لا تقعدا بي عن مدى أملي
شيئًا فما لكما به عذر
ويحق لي إذ صرت بينكما
ألا يحل بساحتي فقر
النيل ينعش ماؤه مصرًا
ونداك ينعش أهله الغمر٦٥

فلولا هذا الطمع في المال ما أتى أبو نواس من بغداد إلى مصر، وقد ولد الأمل في نفسه ثقة بأن الخصيب سيغدق عليه العطاء، فإذا الشاعر صادق في مدحه للخصيب مغتبط بحضوره إلى مصر، عظيم الأمل في الثروة، والخصيب كان يعطف على الشاعر ويعطيه، حتى قال ابن منظور: إن الخصيب أعطاه أول يوم ألف دينار، وأعطاه مثلها ثاني يوم، وأعطاه أخرى ثالث يوم، وقرَّبه الخصيب إليه ونادمه.

وهذا المدح الذي أنشده أبو نواس للخصيب يشبه مدح المتنبي لكافور الإخشيدي، فكلاهما وفد على مصر بسبب النوال والغنى، وإن كان المتنبي قد طمع أكثر مما طمع فيه أبو نواس، وكانت نهاية أيام الشاعرين في مصر تكاد تكون واحدة، إذا اضْطُر أبو نواس أخيرًا إلى أن يهجو الخصيب، وأن يرميه بالبخل، وقيل إن سبب هذا الهجاء هو أن أبا نواس كان يكره شراب مصر، وكان الخصيب يخص نفسه بشراب يُحمَل إليه؛ فغضب أبو نواس وهجاه بقوله:

يخص خصيب بالشراب ويرتجى
لديه نوالًا إن ذا لعجيب
وليس خصيب بالخَصِيب لضيفه
ولكنه وعر المحل جديب
فمن كان ذا أهلٍ بمصر وثروة
فإني بها صفر اليدين غريب

وهجاه مرة أخرى بقوله:

نفس الخصيب جميعه كذب
وحديثه لجليسه كرب
تبكي الثياب عليه معولة
أن قد يجر ذيولها كلب

وقال مرة أخرى:

خبز الخصيب معلق بالكوكب
يُحمى بكل مثقف ومسطب
جعل الطعام على بنيه مُحرَّمًا
قوتًا، وحلله لمن لم يسغب
فإذا هم رأوا الرغيف تطربوا
طرب الصيام إلى أذان المغرب٦٦

وهكذا انتقل أبو نواس من مدح الخصيب إلى هجائه، ويغلب على ظني أن الخصيب لم يف بوعده لأبي نواس، أو أن أبا نواس كان يطمع في أضعاف ما ناله من الخصيب، كما كان الحال يبن كافور والمتنبي بعد ذلك بقرن ونصف تقريبًا.

ونجد في ديوان أبي نواس بعض قصائد في هجاء هاشم بن حديج الكندي، وفي كتاب أخبار أبي نواس عدة أبيات في هجاء معاوية بن حديج الفيلسوف، مما يدل على أن أبا نواس كان في صلة ببني حديج الذين كان لهم شأن كبير في تاريخ مصر الإسلامية، ومؤسس هذه الأسرة في مصر هو معاوية بن حديج التجيبي الكندي، وفد على مصر في جيش الفتح، وكان رسول عمرو بن العاص إلى الخليفة يبشره بفتح الإسكندرية، وكان رابع أربعة عينهم عمرو على خطط الفسطاط، وبعد مقتل الخليفة الثالث كان ابن حديج زعيم العثمانية بمصر؛ إذ بايعه المصريون على الطلب بدم الخليفة المقتول، فقام محمد بن أبي حذيفة ولكن ابن حديج اضْطُر إلى أن يهرب إلى دمشق، ثم عاد إلى مصر لانتزاعها من أيدي العلويين، وهو الذي قتل محمد بن أبي بكر وألقاه في جيفة حمار وأحرقه. كان هذا الرجل رأس أسرة بني حديج الذين أصبح منهم بعض الأمراء والقضاة كعبد الرحمن بن معاوية بن حديج الذي خرج ببيعة أهل مصر للوليد بن عبد الملك الأموي وعبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية الذي ولي مصر من قبل أبي جعفر المنصور سنة ١٥٢، وفي سنة ١٩٠ — وهي السنة التي فيها كان أبو نواس في مصر كما رجحت — صرف عبد الله بن محمد العباسي عن ولاية مصر، فخرج واستخلف عليها هاشم بن عبد الله بن عبد الرحمن، وهو الذي هجاه أبو نواس.

أما سبب هذا الهجاء فقد ذكر جامع ديوان أبي نواس أن الشاعر مدح هاشمًا فلم يعطه شيئًا فهجاه، ونقل عن كتاب الروضة للمبرد أن هاشمًا أراد أن يستبقي أبا نواس عنده في مصر فرفض هذا البقاء وخرج من مصر يهجو هاشمًا ويهجو المصريين:

قفوا معشر الراحلين اسمعوا
أنبئكم عن بني كنده
وردنا على هاشم مصره
فبارت تجارتنا عنده
رأيتك عند حضور الخوا
ن شديدًا على العبد والعبده٦٧

ونراه في هذا الهجاء يعيِّر بني حديج بقتل محمد بن أبي بكر الصديق:

فإن حديجًا له هجرة
ولكنها زمن الرده
وما كان إيمانكم بالرسول
سوى قتلكم صهره بعده
وما كان قاتِله في الرجال
بحمل لطهر ولا رشده٦٨

وقوله:

يا هاشم بن حديج ليس فخركمُ
بقتل صهر رسول الله بالسَّدد
أدرجتمُ في إهاب العير جثتهُ
فبئس ما قدمت أيديكم لغد

ولكن يُخيَّل إلي أن هناك سببًا آخر لهجائه بني حديج يُضاف إلى ما يذكره جامع ديوان أبي نواس، فقد كانت المنافسة التي بين أحمد بن حوي العذري وهاشم بن حديج شديدة جدًّا، وتجلت هذه المنافسة في قضية أهل الحرس التي تحدثنا عنها، وكان أبو نواس شديد الصلة بابن حوي حتى إن الشاعر هجا كل المصريين إلا ابن حوي:

دم المكارم بالفسطاط مسفوح
والجود قد ضاع فيها وهو مطروح
يا أهل مصر، لقد غبتم بأجمعكم
لما حوى قصب السبق المساميح
أموالكم جمة، والبخل عارضها
والنيل مع جوده فيه التماسيح
لولا ندى ابن حوي أحمد نطقت
مني المفاصل فيكم والجواريح٦٩

وفي قصيدته السينية التي هجا بها هاشم بن حديج قال:

ما منك سلمى ولا أطلالها الدُّرُسُ
ولا نواطق من طير ولا خرس
يا هاشم بن حديج، لو عددت أبًا
مثل القلمس لم يعلق بك الدنس
إذ أصبح الملك النعمان وافده
ومن قضاعة أسرى عنده حبس
فابتاعهم بإخاء الدهر ما عمروا
فلم ينل مثلها من مثله أنس
أو رُحت مثل حوي في مكارمه
هيهات منك حوي حين يلتمس٧٠

ومع ذلك كله فقد عاد أبو نواس إلى نفسه، وذكر نسبه في اليمنية، وأن اليمنية تجمع بينه وبين هاشم بن حديج، فعاتب نفسه واعتذر إلى هاشم عن هذا الهجاء:

أهاشم خذ مني رضاك وإن أتى
رضاك على نفسي فغير ملوم
فأقسم ما جاوزت بالشتم والدي
وعرضي وما مزقت غير أديمي
فعذت بحقوي هاشم فأجارني
كريم أراه فوق كل كريم
وإنَّ امرأ أغضى على مثل زلتي
وإن جرحت فيه لعين حليم
تطاول فوق الناس حتى كأنما
يرون به نجمًا أمام نجوم٧١

أما صلة أبي نواس بشعراء مصر، فحدثنا السيوطي أن أدباء مصر وشعراءها تسابقوا لمصاحبة أبي نواس، وكتابة شعره، وكان بينهم رجل يُعرَف بالحسن بن عمر الأجهري، كان شاعرًا ضعيف الشأن فأراد أن يُعْلِي شأنه، فهجا أبا نواس بقوله:

ألا قل للنواسي الضـ
ـعيف الحال والقدر
خبرنا منك أحوالًا
فلم نحمدك في الخير
وما إن ذعت بالمنظر
ولكن ذعت بالذكر

وكان هذا الشاعر من أوحش الناس صورة، فنظر إليه النواسي وقال: بماذا أهجوك؟ وبأي شيء أصفك؟ وقد سبقني الله تعالى إلى توحيش منظرك، وتقبيح مخبرك، وهل أكون إن قلت شيئًا إلا سارقًا من ربي، ومتكلِّفًا ما قد كفاني. فقال له بعض من معه من المصريين: اهجه على كل حال، لا يقول هذا إلا إنه أفحمك. فقال النواسي:

بما أهجوك؟ لا أدري
لساني فيك لا يجري
إذا فكرت في هجو
ك أبقيت على شعري

وحدثنا صاحب أخبار أبي نواس قصة دعابة أبي نواس ولهوه مع الفتيان الثلاثة، وهذا الشعر الذي أنشده في أصحابه هؤلاء، كل هذا يدلنا على أن أبا نواس اشترك مع الشعب المصري في لهوه ومجونه.

لأبي نواس أشعار كثيرة قيلت في مصر ولكنها لم تصل إلينا، فيقول جامع شعره: إن لأبي نواس بمصر قصائد لا يعرفها أهل العراق، ويروي ديك الجن وقد دخل مصر بعد أن تركها أبو نواس: أنه وجد للنواسي أشعارًا كثيرة منها:

إذا ذكرت بغداد لي فكأنما
تحرك في قلبي شباه سنان
وأوبة مشتاق بغير دراهم
إلى أهله من أعظم الحدثان

وروى حمزة الأصفهاني أنه وجد رسالة في شعر أبي نواس وقد سقط منها الشعر الذي قاله بالشام ومصر، مع أن المصريين يروون للنواسي أشعارًا كثيرة لم تقع إلى أهل العراق، قال: وقدم علينا رجل من حمص حافظ لشعر أبي نواس وزعم أن أباه كان قد لقي أبا نواس بحمص فكتب عنه قصائد له أنشدها في مصر.

وفي كتاب أخبار الحسن بن هانئ لابن منظور نجد روايات كثيرة تدلنا على أن أبا نواس كان صديقًا لأحمد بن يوسف المعروف بابن الداية، ولكني أعتقد أن أحمد بن يوسف هذا لم يقابل أبا نواس؛ لأن ابن الداية تُوفِّي بمصر بعد وفاة أبي نواس بنحو قرن؛ أي بعد انتهاء الدولة الطولونية. فقد وهم إذن ابن منظور حين روى عن ابن الداية أنه كان صديقًا لأبي نواس، وربما كان أحمد بن يوسف كاتب العباسيين المعروف هو صاحب أبي نواس، فوهم ابن منظور وظنه ابن الداية؛ لتشابه اسميهما.

خرج أبو نواس من مصر بعد أن مكث فيها سنة كما ذكر صاحب أخباره، وقد هجا مصر والمصريين بالأبيات التي ذكرتها سابقًا، ثم نراه يهجو النيل أيضًا:

أضمرت للنيل هجرانًا وتقلية
إذ قيل لي: إنما التمساح في النيل

وفي شعر أبي نواس في مصر، نجد أثر مصر واضحًا قويًّا، فمثلًا هو يذكر دائمًا قصة «موسى وفرعون» التي كانت في مصر، فنراه قد شبه شعره بعصا موسى تلقف ما يقول غيره من الشعراء. فقد قيل: إن أبا نواس لما دخل لأول مرة عند الخصيب رأى جماعة من الشعراء أسن منه، فطلب من الخصيب أن ينشدوا قبله، فلما أنشدوا تبسَّم أبو نواس وقال: أنشدك أيها الأمير قصيدة هي بمنزلة عصى موسى تلقف ما يأفكون، ثم أنشده قصيدته الرائية، وفيها يقول:

وأطرق حيات البلاد لحية
خصيبية التصميم حين تسور

ومدح الخصيب مرة أخرى بقوله:

حية تصرع الرجال إذا ما
صارعوا رأيه على الأذقان

وحذر المصريين من الاستمرار في الفتنة والثورة بقوله:

منحتكم يا أهل مصر نصيحتي
ألا فخذوا من ناصحٍ بنصيب
فإن يك باقٍ إفك فرعون فيكم
فإن عصى موسى بكف خصيب
رماكم أمير المؤمنين بحيةٍ
أكولٍ لحيات البلاد شروب

ولا أكاد أعرف لأبي نواس شعرًا في هذا المعنى أنشده في غير مصر، مما يدل على أن هذا المعنى من أثر مصر في شعر أبي نواس، ثم ذكر النيل مرارًا وما به من التماسيح، وهو معنى مصري لا يتأتى لشاعر لم ير النيل، وما به من التماسيح.

•••

ووفد على مصر أيضًا الشاعر الهجَّاء دعبل بن علي الخزاعي طمعًا في نوال أحد أقاربه المطلب بن عبد الله الخزاعي والي مصر، ومدحه دعبل أولًا بقصيدته التي فيها:

أبعد مصر وبعد مطلب
ترجو الغنى إن ذا من العجب
إن كاثرونا جئنا بأسرته
أو واحدونا جئنا بمطلب

فولاه المطلب إقليم أسوان فمكث به أيامًا ولعله لم يرض بما ناله فغضب، ولم ينج المطلب من هجائه؛ إذ قال فيه:

أمطلب أنت مستعذب
حميا الأفاعي ومستقبل
وعاديت قومًا فما ضرهم
وشرفت قومًا فلم ينبلوا
فاضْطُر الوالي إلى أن يعزله، وكان المطلب يقول كلما قابل دعبلًا: ما تفكرت في قولك قط: «وإن كاثرونا جئنا بأسرته.» إلا كنت أحب الناس إلي، ولا تفكرت، والله، في قولك: «وعاديت قومًا» إلا كنت أبغض الناس إلي.٧٢

وحدث أنه عُزِل المطلب عن مصر، فلم يقبل أن يسلمها لمن خلفه؛ فتحاربا، فانهزم المطلب واضْطُر إلى أن يفر إلى مكة، فقال دعبل في ذلك:

فكيف رأيت سيوف الحريش
ووقعة مولى بني ضبة
أحجَّتك أسيافهم كارهًا
وما لك في الحج من رغبة٧٣
يريد بمولى بني ضبة السري بن الحكم الوالي الذي جاء بعد المطلب، ولقد سعدت مصر سنة تسع وتسعين ومائة بوفود الإمام محمد بن إدريس الشافعي على مصر بصحبة عبد الله بن الوالي العباس بن موسى، وقيل إن الشافعي قدم مصر بعد أن أحس بالشر في بغداد، فقد اشتدت الفتنة في إظهار القول بخلق القرآن، فهرب من بغداد إلى مصر،٧٤ ومهما يكن السبب الذي جاء من أجله الشافعي إلى مصر فإنه أقام بها ناشرًا لآرائه وعلمه ملازمًا للاشتغال بجامع عمرو بزاوية الخشابية التي عرفت به.٧٥
كان الشافعي شاعرًا، ويحدثنا السيوطي أن الشافعي اجتمع بعبد الله بن هشام صاحب السيرة وتناشدا من أشعار العرب أشياء كثيرة،٧٦ ومع ذلك فالشافعي كان يهتم بالفقه أكثر من اهتمامه بالشعر، ولأنه كان يقول:
ولولا الشعر بالعلماء يزري
لكنت اليوم أشعر من لبيد٧٧

كان مجيء هؤلاء الشعراء إلى مصر من العوامل التي ساعدت روح الشاعرية المصرية وأيقظت ما كمن منها، ومن الجائز أن بعض الشعراء المصريين كانوا يحاولون تقليد الشعراء الوافدين، وقد رأينا كيف كان يجتمع المصريون في المسجد الجامع؛ لاستماع شعر أبي نواس، وكيف اهتموا به، فهذا يدل على نمو الروح الأدبية في مصر وتطورها.

(٥) شعراء مصريون راحلون

يمتاز هذا العصر أيضًا بظهور شعراء مصريين، أو ممن أخذوا بحظ من الثقافة في مصر، وقضوا فيها شطرًا من حياتهم الأولى، ثم غادروها إلى مقر الخلافة؛ حيث اتصلوا بالخليفة ورجاله، ومع أننا نستطيع أن نسمي هؤلاء الشعراء مصريين أو متمصرين — إن صح هذا التعبير — فإن شعرهم اصطبغ بصبغة البلاد التي حلوا بها فلم يعد لهم أية صلة بمصر؛ ولذلك لا يعدهم الأدباء من المصريين.

أبي تمام

فشاعر كأبي تمام مهما قيل عن أصله ومولده، فلا شك أنه جاء مصر وهو صغير، وكان يسقي الماء في المسجد الجامع، وجالس الأدباء والعلماء في مصر، وحفظ في مصر الآلاف من الأراجيز والقصائد التي ساعدته على تهيئة ملكة الاختيار من شعر العرب، وجعلته يجمع منها حماسته، وفي مصر قال أبو تمام أول شعره، وما زال في مصر حتى شاع ذكره فبلغ الخليفة العباسي المعتصم خبره فاستقدمه وأحسن إليه،٧٨ ومكث أبو تمام بالعراق وخراسان حتى آخر أيام حياته.
لم يكن أبو تمام مصري المولد ولكنه قضى شطرًا من حياته فيها كما قضى أكثر أيام حياته بعيدًا عنها، ومع ذلك فالمصريون يعتبرونه واحدًا منهم بل يغالون ويدَّعون أنه شاعرهم الأكبر، ويفخرون به حتى عده الكندي أحد فضائل مصر؛٧٩ وذلك لنبوغه وشهرته الواسعة وكثرة الشعر الذي أنشده، ولعله أول رجل تخرَّج في المدرسة المصرية تُروَى له هذا العدد الكبير من القصائد.

وحياة أبي تمام في مصر غامضة أشد الغموض فلم تصلنا أخباره ولا نعرف شيئًا عن أساتذته الذين أخذ عنهم، ويغلب على ظني أن أبا تمام قد استمع إلى هذه الدروس التي كانت تُلقَى في حلقات المسجد الجامع بالفسطاط، وكان في ذلك الوقت الشافعي وابن هشام راوي السيرة وابن عبد الحكم والليث بن سعد، ممن يلقون علومهم في هذه الحلقات، ولعل أبا تمام قد أدرك سعيد بن عفير والمُعلَّى الطائي ويحيى الخولاني والحسين بن الجمل الأكبر ويوسف السراج وغيرهم من شعراء مصر في هذه الفترة، فاستفاد مما سمعه من علوم أولئك وشِعْر هؤلاء حتى نمت ملكة الشعر عنده فأنشد هذا الشعر الذي استطاع به أن يُخْمِل شعراء عصره.

وأول ما نعرفه عن تكسبه بالشعر في مصر فهو اتصاله بعياش بن لهيعة، والتاريخ لا يذكر عياشًا إلا أنه كان صاحب الشرطة في مصر سنة ٢٠١ﻫ، وأن أباه هو القاضي لهيعة بن عيسى الحضرمي الذي ولي القضاء مرتين؛ الأولى سنة ١٩٦ﻫ إلى أن عزل سنة ١٩٨ﻫ، ثم وليها مرة أخرى في المحرم سنة ١٩٩، وظل في منصبه إلى أن تُوفِّي سنة ٢٠٤ﻫ، أما ابنه عياش فقد انقطعت أخباره ولا نعلم عنها شيئًا، ويذكر الرواة أن أبا تمام أول ما قال الشعر فهو في عياش:

تقي جمحاتي لستُ طوعَ مؤنبي
وليس جنيبي إن عذلت بمصحبي
فلم توقدي سخطًا على متنصَّلٍ
ولم تنزلي عتبًا بساحة معتب
رضيت الهوى والشوق خِدْنًا وصاحبًا
فإن أنتِ لم ترضي بذلك فاغضبي

إلى أن يقول:

تركت حطامًا منكب الدهر إذ نوى
زحامي لما أن جعلتك منكبي
وما ضيق أقطار البلاد أضافني
إليك ولكن مذهبي فيك مذهبي
وأنت بمصر غايتي وقرابتي
بها، وبنو الآباء فيها بنو أبي
ولا غرو أن وطَّأت أكناف مرتعي
لمهمل أحفاضي ورفَّهت مشربي
فقوَّمت لي ما اعوجَّ من قصد همتي
وبيَّضت لي ما اسودَّ من وجه مطلبي
فأعطاه عياش وأجزل مكافأته، وظل الشاعر متصلًا بعياش إلى أن فسد ما بينهما فنرى الشاعر حينًا يعاتبه، وأخرى يهجوه حتى مات عياش، ولا ندري سبب هذا التحول من المدح إلى الهجاء إلا ما يرويه ابن عبد ربه أن أبا تمام استسلف عياشًا مائتي مثقال فشاور فيه زوجته فقالت: «هو شاعر يمدحك اليوم ويهجوك غدًا. فاعتلَّ عليه واعتذرَ إليه ولم يقضِ حاجتَه.»٨٠ فعاتبه أبو تمام بقصيدته التي أولها:
صدفتْ لُهَيَّا قلبي المستهتر
فبقيتُ نهب صبابة وتفكُّر

والتي يقول فيها:

الفطر والأضحى قد انسلخا، ولي
أمل ببابك صائمٌ لم يُفْطِر
حَول ولم ينتج نداك، وإنما
تتوقع الحُبْلى لتسعة أشهر
جِشْ لي ببحر واحد أغرقك في
مدح أجيش له بسبعة أبحر

ويفهم من شعر أبي تمام أن بعض القوم سعوا به عند عياش، ومن يدري لعل بعض شعراء مصر حسدوا هذا الشاب على صلته بالأمير؛ فأوقعوا بينهما مما أدى الشاعر إلى أن يقول:

أظن عندك أقوامًا وأحسبهم
لم يأتلوا فيَّ ما أعدُوا وما ركضوا
يرمونني بعيون حشوها شزر
نواطق عن قلوب حشوها مرض
لولا صيانة عرضي وانتظار غد
والكظم حتى عليَّ الدهر مفترض
لما فككت رقاب الشعر عن فكري
ولا رقابهم إلا وهم حيض

ولكن العلاقة بين عياش وأبي تمام فسدت نهائيًّا، فهجاه الشاعر بعدة قصائد منها قوله:

النار والعار والمكروه والعطب
والقتل والصلب والمران والخشب
أحلى وأعذب من سيل تجود به
ولن تجود به يا كلب يا كِلبُ

ويتوعده مرة أخرى بقوله:

ولأشهرنَّ عليك شنع أوابد
يُحْسَبن أسيافًا وهن قصائد
فيها لأعناق اللئام جوامع
تبقي، وأعناق الكرام قلائد
يلزمن عرض قفاك وسم خزاية
لم يخزها بأبي عيينة خالد

وظل يهجو عياشًا إلى أن مات عياش فلم يتورع أمام الموت بل هجاه بقصيدة منها:

فكَّت أكف الموت غل قصائدي
عنه وضيغمها عليه يزير
ما زال غل الموت ثاني عطفه
حتى أتاه الموت وهو أسير
من بعد ما نزَّهْتُ في سوءاته
حسنات شعر بحرهن بخور
يا خلقة الله التي من طرزها
نشآ فكان القرد والخنزير
لم يحفظ لنا التاريخ شيئًا عن علاقة أبي تمام بشعراء مصر في هذا الوقت إلا ما رواه ابن رشيق صاحب العمدة أن أبا تمام هاجى السراج،٨١ وما جاء في الوساطة: وما عدوت في هذا الفصل قضية أبي تمام ولا خرجت عن شرطه أن يقول في يوسف السراج شاعر مصر في وقته:
فلو نبش المقابر عن زهير
لعول بالبكاء وبالنحيب
متى كانت معانيه عيالًا
على تفسير بقراط الطبيب
وكيف ولم يزل للشعر ماء
يرف عليه ريحان القلوب٨٢

ويُفهَم من هذا أنه كانت هناك منافسة فنية في الشعر بين شاعر مصر يوسف السراج وبين أبي تمام، وأن أبا تمام كان يعيب على السراج فنه وشعره، فهو يأخذ على شاعر مصر معانيه الفلسفية التي لم تُعرَف عند زهير؛ أي عند القدماء كما يأخذ عليه الغريب والتعقيد في شعره بينما الشعر في نظر أبي تمام يجري كالماء السلس الذي يرف عليه ريحان القلوب، والغريب أن أبا تمام الذي ينقد شاعر مصر على هذا النحو هو نفسه من أشد الشعراء إغراقًا في التعقيد المعنوي واللفظي، ومن أكثر الشعراء استعمالًا للغريب، فهل نستطيع أن نقول: إن فن أبي تمام هو أثر من آثار مصر؟

ونرى أبا تمام يتصل بالأمير عبد الله بن طاهر حين قدم مصر وهزم عبيد الله بن السري الثائر بمصر سنة ٢٢١ﻫ، ومدحه بقصيدة منها:

لعمري لقد كانت بمصر وقيعة
أقامت على قصد الهوى كل مائل
على الخندق الأقصى وما كان حوله
وما قد يليه من فضاء وساحل٨٣

وأنشد أبو تمام شعرًا في الحروب التي كانت بمصر في هذا العهد، من ذلك قصيدته في رثاء عمير بن الوليد الذي قُتِل يوم الثلاثاء لثلاث عشرة من ربيع الآخر عام أربعة ومائتين، وقد قُتِل في حرب بينه وبين أهل الحوف، وفي هذه قصيدة ظهر أثر حفظه للأشعار ولعادات الجاهلية من بكاء على الميت ولَطْم الخدود، وهي نفس عادات المصريين التي لم يشر إليها الشعراء المصريون وإنما تشاهد كل يوم.

أعيدي النوح مُعْوِلة أعيدي
وزيدي في بكائك ثم زيدي
وقومي في نساء حاسرات
خوامش للنحور وللخدود
هو الخطب الذي ابتدع الرزايا
وقال لأعين الثقلين جودي
ألا رزئت خراسان فتاها
غداة ثوى عمير بن الوليد
ألا رزئت بمسئول منيل
ألا رزئت بمتلاف مفيد
ألا إن الندي والجود حلَّا
بحيث حللتَ من حفر الصعيد
بنفسي أنت من مَلِك رمتْه
منيَّتُه بسهم ردى سديد

واستمر في بكائه ونحيبه ثم انتقل إلى ذكر الميت فوصفه بالشجاعة في القتال والجود والسخاء:

ويا يوم الثلاثاء اعتمدنا
بفقد فيك للسند العميد
فكم أسخنت فينا من عيون
وكم أعثرت فينا من جدود٨٤

وضاق أبو تمام ذرعًا بما هو فيه من فقر وإملاق وكان يطمع في المال الكثير:

لقد طلعت في وجه مصر بوجهة
بلا طالع سعد ولا طائر سهل
وساوس آمال ومذهب همة
مخيمة بين المطية والرجل
نأيت فلا مال حويت ولم أقم
فأمتع إذ فُجعت بالمال والأهل
لئام طغام أو كرام بزعمهم
سواسية ما أشبه الحول بالقبل٨٥

واضطر إلى أن يرحل من مصر غير آسفٍ على فراقها وإن حنَّ إليها بعد خورجه منها، فذكر إخوانه بالفسطاط:

بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا
بالرقمتين وبالفسطاط إخواني
وما أظن النوى ترضى بما صنعت
حتى تشافه بي أقصى خراسان
خلَّفت بالأفق الغربي لي سكنًا
قد كان عيشي به حلوًا بحلوان٨٦

ماني الموسوس

وهناك شاعر آخر يختلف عن أبي تمام اختلافًا تامًّا، ذلك هو محمد بن القاسم ويُكنَّى بأبي الحسين، ويعرف بماني الموسوس؛ لأنه كان بعقله شيء من الجنون، هذا الرجل مصري المولد والنشأة، لكنه خرج من مصر ولم نعرف متى خرج؛ إذ لم نعثر على شيء من أخباره غير أن أبا الفرج يحدثنا أن هذا الشاعر «قدم مدينة السلام ولقيه جماعة من شيوخنا منهم أبو العباس بن عمار وأبو الحسن الأسدي وغيرهما،٨٧ وقد وصفه أحد الأدباء لمحمد بن عبد الله بن طاهر، وقد طلب أحدًا لمنادمته فقال له: قد خطر ببالي من ليس علينا بمنادمته ثقل، قد خلا من إبرام المجالسين، وبرئ من ثقل المؤانسين، خفيف الوطأة إذا أدنيته، سريع الوثبة إذا أمرته.٨٨
لم يصلنا عن هذا الرجل سوى أخبار في جنونه، وأبيات قليلة مبعثرة في كتب الأدب تحملنا عن القول بأن الشاعر كان كلفًا بالغزل ووصف مجالس الخمر واللهو، وبرع في هذه الفنون، وقد تأثر بالقدم فوقف على الديار وبقي الأطلال، وكان يحفظ كثيرًا من الشعر ويرويه لأبي العباس بن عمار وهذا يكتب عنه، قال ابن عمار:٨٩ كان «مان» يألفني، وكان مليح الإنشاد حلوه، رقيق الشعر غزله، فكان ينشد في الشيء ثم يخالط فيقطعه، وكان يومًا جالسًا إلى جنبي فأنشدني للعريان البصري قوله:
ما أنصفتك العيون لم تكف
وقد رأيت الحبيب لم يقف

إلى آخر القصيدة، فسألته أن يمليها عليَّ ففعل، ثم قال: اكتب. فعارضه أبو الحسين المصري يعني مانا نفسه، فقال:

أقفز مغنى الديار بالنجف
وحلت عما عهدت من لطف
طويت عنها الرضا مذممة
لما انطوى غصن عيشها الأنف
حللت عن سكرة الصبابة من
خوف إلهي بمعرك قذف
سئمت ورد الصبا فقد يبست
مني بنات الخدور والخذف
سلوت عن نهد نسبن إلى
حسن قوام واللحظ في وطف

وتُوفِّي هذا الرجل سنة خمس وأربعين ومائتين.

(٦) لمحة عن أشهر الشعراء في ذلك العصر

سعيد بن عفير

هو سعيد بن كثير بن عفير بن مسلمة بن يزيد بن الأسود الأنصاري ويُكنَّى بأبي عثمان، وُلِد بمصر سنة ست وأربعين ومائة، وأتمَّ علومه الدينية بمصر، ثم رحل إلى بغداد فالمدينة؛ حيث سمع الموطأ من الإمام مالك وعاد إلى مصر فروى الحديث عن الليث بن سعد، وابن لهيعة، وصار أحد المحدثين الثقات، وعنه أخذ البخاري والنسائي، وابن عبد الحكيم وبكار بن قتيبة وغيرهم،٩٠ وأخذ بحظٍّ وافر من العلوم الأدبية فدرس علم الأنساب والتاريخ وحفظ أيام العرب ومآثرها ووقائعها، والمناقب والمثالب، وكان في ذلك كله عالمًا كبيرًا «وكان أديبًا فصيح اللسان حسن البيان، لا تمل من مجالسته، ولا ينزف علمه، ويقال إن مصر لم تُخْرِج أجمع للعلوم منه.»٩١ وكان عبد الله بن طاهر يقول: «رأيت بمصر من عجائب الدنيا ثلاثة أشياء: النيل، والهرمين، وابن عفير.»٩٢ وبجانب هذا كله كان الشاعر ذكيًّا سريع البديهة، حاضر الجواب، فقد حدثنا ابن زولاق أن المأمون لما قدم مصر سنة سبع عشرة ومائتين جلس بقبة الهواء وبحضرته سعيد بن عفير، فقال المأمون: لعن الله فرعون؛ حيث يقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ فلو رأى العراق وخصبها! فقال سعيد بن عفير: يا أمير المؤمنين، لا تقل هذا، فإن الله — عز وجل — قال: وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ فما ظنك يا أمير المؤمنين بشيء دمره الله هذا بقيته؟!٩٣
ويحدثنا السيوطي:٩٤ أن ابن عفير ولي قضاء مصر، ولكني لم أجد له ذكرًا بين القضاة في كتاب الكندي، ولا في رفع الإصر عن قضاة مصر لابن حجر العسقلاني، ولكنه كان صديقًا للقضاة، وكانوا يرجعون إليه في كثير من المسائل الفقهية، ويثقون بشهادته، كما كان أحد الذين جُعِل إليهم التحكيم في قضية أهل الحرس التي مر ذكرها، كما كان له رأي في اختيار قاضي مصر سنة اثنتي عشرة ومائتين، فقد قيل إن عبد الله بن طاهر أمر بإحضار وجوه أهل مصر، فحضر عدد كبير بينهم سعيد بن عفير، فطلب إليهم ابن طاهر أن يختاروا قاضيًا من بينهم، فرشح بعضهم أصبغ بن فرج الفقيه العالم، فعارضه سعيد بن عفير، وقال: ليس هذا الرجل كما وصفت، هذا الرجل بذيء طويل اللسان، وسجع سعيد في وصفه. فقام أصبغ فقال: إن الأمير أمر أن يحضر في مجلسه الفقهاء وأهل العلم لا الشعراء ولا الكهنة.٩٥ من هذا الحديث نستطيع أن ندرك أن ابن عفير عُرِف بين معاصريه بالشعر، وهجاه خصومه بذلك.

اتصل ابن عفير بالحوادث التي كانت في عهده، وأنشد الشعر في كل الاضطرابات التي كانت في مصر إذ ذاك، لا سيما ما كان منها بين سنة ثمانٍ وستين ومائة وسنة تسع ومائتين، وقد ظهر في شعره روح العصبية العربية، وقد ذكرنا صورًا من شعره في ذلك.

وكان ابن عفير رجلًا كريم النفس لم يتملق رئيسًا، ولم يمدح أميرًا بقصد العطاء، فلم يتكسب بشعره كغيره من الشعراء، بل بالعكس من ذلك، نراه قد هجا الوالي المطلب الخزاعي ومدح معارضه هبيرة بن هاشم، ورثا أبا بشر الأنصاري الذي قتله الوالي.٩٦
لم يصلنا كل شعر هذا الرجل وإنما هي مقطعات قصيرة صغيرة، لا نستطيع أن نعرف منها شاعريته، ولا أدري كيف قال الأستاذ «جيست»: «إن رثاء ابن عفير أرقى ما وصل إليه الشعر العربي في كتاب الكندي وأجمله»!٩٧ ولكن الأستاذ «جيست» كغيره من المستشرقين لا يستطيعون أن يتذوقوا الشعر العربي مهما بلغ علمهم وثقافتهم في العلوم العربية؛ لأن ذوقهم الفني متأثر بالبيئة التي هم فيها، وخاضع لألوان الحياة التي يحيونها، وهي تختلف تمام الاختلاف عن البيئة والحياة العربية، والذوق لا يأتي بالعلم والدرس فقط بل هو خاضع قبل كل شيء لما يحيط بالناقد من ضروب الحياة، فالمستشرق يستطيع أن يحكم على شعر أُنْشِد بلغته وقد يكون دقيقًا في حكمه، حكيمًا في نقده، ولكنه لا يستطيع أن يحكم على شعر عربي؛ لبعده من بيئة هذا الشعر، ثم إن الأستاذ جيست قد حكم على الشاعر بهذه المقطعات القصيرة الصغيرة، وهي عندي لا تكفي لأن ترينا رقة الشعر وجماله، فالناقد لا يحكم على شاعر بقصيدة قالها، وإلا كنا كالقدماء الذين كانوا يفضلون شاعرًا على آخر لبيت قاله حتى سخر منهم مروان بن أبي حفصة، فقد قيل إنه كان يروي شعرًا لزهير، وقال: زهير والله أشعر الناس، ثم أنشد للأعشى، وقال: الأعشى أشعر الناس، ثم أنشد لامرئ القيس، وقال: امرؤ القيس أشعر الناس، ثم ضحك وقال: والناس والله أشعر الناس.

ومهما يكن من شيء فإن ابن عفير لم يكن شاعرًا فحسب، فقد كان عالمًا محدِّثًا وفقيهًا، وأظن أن علم الرجل يُفْسِد في كثير من الأحيان شعرَه إذا أخضع فنه لعلمه، ويخرجه من الشعر الطبيعي إلى الشعر القريب من النظم؛ لأن الشاعر العالم يخضع لعقله أكثر مما يخضع لعواطفه وشعوره، أما إذا استطاع أن يُخْضِع علمه لفنه فهنا نستطيع أن نتذوق الشعر الفني القوي الذي لا يدانيه شعر آخر.

وتُوفِّي سعيد بن عفير كما قال الذهبي سنة ست وعشرين ومائتين.٩٨

المُعلَّى الطائي

لا نعرف عن هذا الشاعر إلا شيئًا قليلًا، ولم يتحدث عنه المؤرخون إلا بقدر لا يسمح لنا أن نعرف شخصيته، وكل ما نعرفه أنه كان معاصرًا لابن عفير، ولكنه لم يبلغ من العلم ما بلغه صاحبه، ويُخيَّل إليَّ أنه انقطع إلى الشعر والتكسب به، فقد مدح الولاة، واتصل بهم جميعًا، ودافع عن سياستهم، وهجا أعداءهم، فكان كغيره من الشعراء المادحين المتكسبين بشعرهم، فكان يمدح الوالي فإذا عُزل الوالي يمدح من يأتي بعده، وقد رأيناه يمدح المطلب الخزاعي وابن السري، ويحدثنا ابن سعيد في كتابه «المغرب في أخبار المغرب» أن المُعلَّى ممن عاصر أبا نواس،٩٩ فمن الجائز أن يكون قد اتصل بأبي نواس لمَّا وفد هذا على مصر، ولكنا لا نعلم تمامًا مدى هذا الاتصال؛ إذ لم يصلنا شيء من أخبارهما، ويروي ابن سعيد هذا الأبيات الشهيرة للمُعلَّى:
لولا بُنيَّات كزُغب القطا
جمعن من بعض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع
في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
إن هبت الريح على بعضهم
أشفقت العين من الغمض١٠٠
ولكن أبا تمام في حماسته ينسبها لحطان بن المُعلَّى،١٠١ ورواها ابن عبد ربه منسوبة إلى المُعلَّى،١٠٢ ولا أستطيع أن أجزم لمن هذا الأبيات وإن كنت أميل إلى الأخذ بقول أبي تمام؛ لأنه كان معاصرًا للمُعلَّى.

ويُخيَّل إليَّ أن المُعلَّى الطائي كان صاحب لهوٍ ومجون، ولعل هذه الأبيات القليلة التي رواها أبو الفرج في الأغاني تؤيد أن المُعلَّى كان يشرب الخمر كما كان يشربها كثير من الشعراء فهو يذكر الخمر بقوله:

باكر صبوحك صبحة النيروز
واشرب بكأس مترع وبكوز
ضحك الربيع إليك عن نواره
آس نسرين ومرماحوز١٠٣

الجمل الأكبر

اسمه الحسين بن عبد السلام، ويعد في طليعة شعراء هذا العصر فقد تمتع بشهرة فائقة في دولة الشعر، واتصل بكثير من الأمراء والقضاة، ولد سنة سبعين ومائة، وتلقى العلم بمصر حتى إذا وفد الشافعي على مصر، صحبه الجمل وأخذ عنه، ولا نعلم شيئًا عن حياة هذا الرجل أيضًا، سوى أنه كان يتكسب بشعره، فمدح الولاة وغيرهم ابتغاء الأموال والهبات، فقد مدح المأمون بمصر، كما مدح عبد الله بن طاهر، وأكثر مدائحه التي وصلتنا أنشدها في مدح القاضي محمد بن أبي الليث، وظل الشاعر يعرض شعره على الأمراء حتى كان ابن المدبر فاتصل به، ثم اتصل بأحمد بن طولون، وخُصَّ به فاتخذه شاعره ونديمه، وعُرِف عن الجمل شره في الطعام، وقذارة الثوب ودناءة النفس،١٠٤ ولست أدري كيف نعته ابن يونس بهذه الصفات، في حين أننا نجد الجمل يقول في إحدى قصائده:
إذا أظمأتك أكف اللئام
كفتك القناعة شبعًا وريا
فكن رجلًا رجله في الثرى
وهامة همته في الثريا
أبيًّا لنائل ذي ثروة
تراه بما في يديه أبيا
فإن إراقة ماء الحيا
ة دون إراقة ماء المُحيَّا١٠٥
ومن الجائز أن الجمل كان من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، وعُرِف الجمل بشيء من الظرف، وشُهِد له بذلك، فإن ابن سعيد في حديثه عن الجمل الأصغر قال: لقبه كلقب الأكبر وكذلك اسمه، وكان ينحو في الظرافة والتطايب منحاه.١٠٦

وكما عرف الجمل بالمدح فقد عرف بالهجاء، فقد روي أن الحسين بن عبد السلام بكَّر إلى سليمان بن وهب عامل الخراج بمصر، فلم يمكنه الحاجب من الدخول، وأدخل شاعرين آخرين هما ابن شعوة وحمدويه، فلم يستطع الجمل صبرًا، وأرسل إلى سليمان أبياتًا منها:

ولعمري لئن حجبنا عن الشيـ
ـخ فلا عن وجه هناك وجيه
لا، ولا عن طعامه التافه النز
ر الذي حوله لطام بنيه
بل حجبنا به عن الخسف والمسـ
ـخ وذاك التبريق والتمويه
فجزى الله حاجبًا لك فظًّا
كل خير عنا إذا يجزيه١٠٧

وقد روينا له أبياتًا كثيرة عن الحوادث التي كانت بمصر في ذلك العصر، وتُوفِّي هذا الشاعر سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين من الهجرة.

هوامش

(١) الولاة للكندي: ص١٢٧.
(٢) الكندي: ص١٤٥.
(٣) نجد ثورة الجروي في الكندي: ص١٥٥، وما بعدها.
(٤) مولى بني ضبة وهو السري بن الحكم.
(٥) هو طاهر بن حسين قائد المأمون.
(٦) الفسار: مُعرَّب كلمة فارسية (أفسر) بمعنى التاج.
(٧) معجم البلدان: ج٢، ص٣١١ طبع مطبعة السعادة سنة ١٩٠٦م.
(٨) الكندي: ص٤٠٢، وما بعدها.
(٩) الكندي: ص٤٢٦.
(١٠) الكندي: ص٣٩٩.
(١١) الكندي: ص٤٠١.
(١٢) راجع قضية أهل الحرس بكتاب الولاة والقضاة للكندي: ص٣٩٧–٣٩٩، ومن ص٤١٣–٤١٥.
(١٣) الكندي: ص٤٢٣.
(١٤) الولاة للكندي: ص٤٥٧.
(١٥) هو هرون بن سعيد الأيلي.
(١٦) هو محمد بن عبد الله بن عبد الحكم.
(١٧) أمر القاضي ابن أبي الليث أن يكتب على المساجد بالفسطاط: لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق، فالشاعر أشار في هذا البيت إلى ذلك.
(١٨) الكندي: ص٥٤٢–٤٥٣.
(١٩) شرحه.
(٢٠) الكندي: ص٤٦١.
(٢١) القضاة للكندي: ص٤٥٢.
(٢٢) أخبار سيبويه المصري لابن زولاق، نسخة خطية بدار الكتب المصرية.
(٢٣) الكندي: ١٥٢-١٥٣.
(٢٤) زهر الآداب: ج٢، ص١٨١ (المطبعة الرحمانية).
(٢٥) زهر الآداب: ج٢، ص١٨١ (المطبعة الرحمانية)، وتحفة المجالس للسيوطي: ص٣٥٥.
(٢٦) هِرْبِذ: كزبرج مفرد هرابذة، قومة بيت النار للهند وخدم نار المجوس.
(٢٧) الولاة والقضاة: ص٤٠٠.
(٢٨) الكندي: ص٢٠١.
(٢٩) الكندي: ص٣٨٠-٣٨١.
(٣٠) الهنائي: هو كامل الهنائي الذي ولي الشرطة في ذلك الوقت.
(٣١) الباهلي: هو معاوية بن صرد الذي ولي الشرطة بعد الهنائي.
(٣٢) الكندي: ص١٤٢-١٤٣.
(٣٣) الكندي: ص١٨٧.
(٣٤) الكندي: ص١٦٠.
(٣٥) العقد الفريد: ج٢، ص١٧٩.
(٣٦) الخسف: الذل والهوان.
(٣٧) أعفاه من الأمر: برأه.
(٣٨) الوحف: الشعر الكثيف الأسود.
(٣٩) الخشف مثلثة: ولد الظبي أول ما يولد.
(٤٠) حار يحار ويحتار واستحار: نظر إلى الشيء.
(٤١) محاجر لجمع محجر: ما دار بالعين.
(٤٢) الوطف: كثرة شعر الحاجبين والعينين.
(٤٣) الوكف: الإثم.
(٤٤) العقد الفريد: ج٢، ص١٧٩.
(٤٥) المقريزي: ج١، ص١١٠.
(٤٦) المقريزي: ج٢، ص٢٦.
(٤٧) المقريزي: ج٢، ص٢٩.
(٤٨) الكندي: ص١١٣.
(٤٩) الكندي: ص١١٣.
(٥٠) الكندي: ص٣٣٩.
(٥١) شرحه: ص٤٠٠.
(٥٢) النجوم الزاهرة: ج٢، ص٦١.
(٥٣) شرحه: ج٢، ص١٩٢.
(٥٤) شرحه، وقد وردت هذه الأبيات في كتاب الولاة للكندي: ص١٨١ مع اختلاف يسير، ولكن الكندي روى أن ابن طاهر أرسل هذه الأبيات مع طلب الأمان لعبد الله بن السري الذي تحدثنا عنه.
(٥٥) النجوم الزاهرة: ج٢، ص٢.
(٥٦) العقد الفريد: ج١، ص١٥٦، والنجوم الزاهرة: ج٢، ص٢.
(٥٧) النجوم: ج٢، ص٢.
(٥٨) تاريخ الطبري وحوادث سنة ٢١٠ﻫ.
(٥٩) أخبار أبي نواس نسخة خطية بدار الكتب المصرية.
(٦٠) تحفة المجالس للسيوطي: ص٣٣٧.
(٦١) ديوان أبي نواس: ص٧٧، طبع مصر سنة ١٣٢٢.
(٦٢) خطط المقريزي: ج١، ص٢٣١.
(٦٣) ديوان أبي نواس: ص٨٠، وأخبار أبي نواس لابن منظور: ص٢٣٧.
(٦٤) ديوان أبي نواس: ص٧٨.
(٦٥) شرحه: ص٨٠.
(٦٦) الديوان: ص١٨٢.
(٦٧) ديوان أبي نواس: ص١٣٨.
(٦٨) شرحه: ص١٣٩.
(٦٩) ديوان أبي نواس: ص١٢٧-١٢٨.
(٧٠) ديوان أبي نواس: ص١٣٩.
(٧١) شرحه: ص١٢٦.
(٧٢) تراجع أخبار دعبل بمصر: ج١٨، ص٤٨ من كتاب الأغاني.
(٧٣) الولاة والقضاة للكندي: ص١٦١.
(٧٤) ثمرات الأوراق مطبوع على هامش محاضرة الأدباء: ص٤٤.
(٧٥) الانتصار لواسطة عقد الأمصار لابن دقماق: ج٤، ص١٤٠.
(٧٦) حسن المحاضرة: ج١، ص٣٠٦.
(٧٧) راجع ما كتبناه آنفًا عن الشافعي.
(٧٨) حسن المحاضرة للسيوطي: ج١، ص٣٢٢.
(٧٩) فضائل مصر للكندي نسخة خطية بدار الكتب المصرية، رقم ٤٢٢ تاريخ.
(٨٠) العقد الفريد: ج١، ص١٤٤.
(٨١) العمدة: ص٦٩، ج١.
(٨٢) الوساطة: ص٢٥.
(٨٣) الولاة للكندي: ص١٨١.
(٨٤) الكندي: ص١٨٦، وديوان أبي تمام (طبعة محمد جمال ترخيص نظارة المعارف نمرة ٤١٣) والجزء الخامس من نهاية الأرب: ص٢٠٤.
(٨٥) ديوان أبي تمام: ص٤٢١.
(٨٦) شرحه: ص٣٢٣.
(٨٧) الأغاني: ج٢٠، ص٨٤.
(٨٨) ذيل ابن خلكان: ج٢، ص٢٩٢.
(٨٩) الأغاني: ج٢٠، ص٨٤.
(٩٠) حسن المحاضرة في مواضع متفرقة، ومسالك الأبصار للعمري في باب المحدثين (نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية).
(٩١) تهذيب التهذيب: ج٤، ص٧٤.
(٩٢) البلدان للهمداني: ص٦٨.
(٩٣) فضائل مصر وأخبارها لابن زولاق (نسخة خطية بمكتبة الأزهر رقم ٦٦٩).
(٩٤) حسن المحاضرة: ج١، ص١٦٨.
(٩٥) القضاة للكندي: ص٤٣٤.
(٩٦) الكندي: ص١٥٦.
(٩٧) الكندي: ص٤٣.
(٩٨) تاريخ الإسلام للذهبي نسخة خطية بدار الكتب المصرية.
(٩٩) المغرب: ص١٠١.
(١٠٠) شرحه.
(١٠١) ديوان الحماسة: ص١٠١ مطبعة السعادة سنة ١٩١٣.
(١٠٢) العقد الفريد: ج١، ص٣٦٤.
(١٠٣) الأغاني: ج١٧، ص١٢٧.
(١٠٤) معجم الأدباء لياقوت: ج٤، ص٢٦.
(١٠٥) شرحه.
(١٠٦) المغرب: ص١٠٢.
(١٠٧) العقد الفريد: ج١، ص٤١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤