تصدير الطبعة الجديدة

ونحن الآن في مطالع القرن الحادي والعشرين، نشهد تَفَجُّرًا مَعْرِفيًّا باذخًا غير مسبوق، ونبدو على أعتاب مرحلة جديدة من التقدم العلمي، يعلو فيها دور العلوم الآلية؛ أي: علم المنطق ومناهج البحث وعلوم المعلوماتية والكمبيوتر وعلم اللغة العام. تلوح في الأفق ثورة تنتزع العرش من الفيزياء لتعتليه علوم الوراثة والبيولوجيا الجزئية لتتآزر مع العلوم الآلية في منظومة مستجدة تمامًا، تستغل الإمكانات المعرفية للتكويد والتشفير والقوة التوليدية للأنساق الاستنباطية … إلخ، لكن يظل التجريب دائمًا سلاحًا أوليًّا للبحث العلمي لا مندوحةَ عن حُسْن استغلاله وتشغيله وشَحْذه. ولا تتوانى فلسفة العلم ومناهج البحث عن القيام بدورها في هذا. ومن كل صَوْب وحَدَب سوف تعلو مؤشرات التقدم العلمي والتَّفَجُّر المعرفي قَرْنَنَا الحادي والعشرين.

وفي كل هذا يزداد إلحاح دور العلوم الإنسانية في العقل وفي الواقع. ولا تزال سيطرة العقل العلمي التجريبي على الظواهر الطبيعية والحيوية تَفُوق كثيرًا سَيْطَرَته على الظواهر الإنسانية. أجل، قَطَعَت العلوم الإنسانية خُطُوات واسعة في طريق اصطناع المنهج العلمي التجريبي، وعلى مدار القرن العشرين أَحْرَزَت إنجازات متوالية. ولكن لا تزال الحاجة مُلِحَّة إلى مزيد من سيطرة العقل العلمي على الظواهر الإنسانية، وإلى دفْع الطاقة التقدمية للعلوم الإنسانية.

ومن هنا تأتي أطروحة هذا الكتاب. إنه ينطلق من منظور مستقبلي، هادفًا أن تَبْلُغ العلوم الإخبارية بالظواهر الإنسانية، ما بَلَغَتْه العلوم بالظواهر الطبيعية من مُعَدَّلات نجاح متسارِعة في أداء وظائف العلم التجريبي من وَصْف وتفسير وتنبؤ وسيطرة تِقَانِيَّة، عَسَانَا أن نحقق عالَمًا أفضل وأكثر توازُنًا.

يقف الفصل الأول على منطق التقدم المتوالي للعلوم الطبيعية، الذي تبلور، بل تفجر بثورة العلم في القرن العشرين. ثورة النسبية والكوانتم، وهي من أعظم ثورات البشر طُرًّا، وكانت ثورة المعلوماتية والهندسة الوراثية المذكورة آنفًا إحدى نواتجها، وتظل تَحْمِل إمكانات واعدة لا حَصْر لها، يَعْنِينَا منها هنا فتح الطريق لِقَهْر صعوبات محيطة بالعلوم الإنسانية تعوق تَسَارُع معدلاتِ تَقَدُّمِها، وتُسَبِّب مُشْكِلَةَ تَخَلُّفِها النسبيِّ عن العلوم الطبيعية. ويتكرس الفصلان الثاني والثالث لفلسفة العلوم الإنسانية: عوامل نشأتها وتناميها، ثم نجاحها في التوصيف العلمي للظواهر، لكن تباطُؤ المعدلات والافتقار للتكامل حين التفسير. وفي هذا الإطار نحيط بمنطق مشكلة العلوم الإنسانية بمنتهى الدقة المستطاعة لمنطق العلم التجريبي. في الفصل الرابع نجد الخاصة المنطقية المميِّزة للعلوم التجريبية — كما تتبلور في العلوم الطبيعية — أي القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب، تفتح الطريق لحل مشكلة العلوم الإنسانية. لا سيما أن هذه الخاصة تتساوق مع نظرية المنهج التجريبي المعاصرة التي تفتح بدورها الطريق لِقَهْر عواملَ تَحُول بين العلوم الإنسانية والتجريبية، وبين تحقيق درجةٍ أعلى من النجاح في أداء وظائف العلم. وهذا يعني أن الاستيعاب الكامل لأبعاد الإبستمولوجيا العلمية — المنهجية والمنطقية — كَفِيلٌ بدفع الطاقة التقدمية للعلوم الإنسانية والإسهام في حَلِّ مشكلتها.

وكما هو معروف، كارل بوبر هو الذي صاغ هذه الخاصة المنطقية؛ أي القابلية للتكذيب كمعيار للعلوم التجريبية، وجعلها عماد معالَجَتِه الرصينة النافذة لمنطق العلوم التجريبية. وها هنا تطبيق للقابلية للاختبار التجريبي وللتكذيب، وتشغيل واسع النطاق لها، أَبْعد كثيرًا من إسهامات بوبر في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية. وربما نكون في هذه الزاوية بوبريِّين أكثر من بوبر نفسه!

على أي حال، ليس ينطوي هذا على اختزال العلوم الإنسانية أو رَدِّها إلى العلوم الطبيعية، بل فقط استغلال ما هو مشترِك في الممارَسة العلمية التجريبية — كمبدأ تنظيمي — بالاقتراب منه يتَّسِم المشروعَ العلميَّ بالإحكام. إنه لهذا تنامى اقتفاء العلوم الإنسانية لشروط القابلية للاختبار التجريبي، فعَرَفَتْ طريق التقدم العلمي. والهدف أن يزداد الطريق وضوحًا، فيزداد التقدم صعودًا. وتلك أولى مهامِّ فلسفة العلم التي هي المَعْقِل الرسمي لأصول التفكير العلمي والثقافة العلمية وأصول البحث العلمي.

إنه حديث في الفلسفة، مُوَجَّه لباحثي العلوم الإنسانية، لكن يَهُمُّ أيضًا باحثي العلوم الطبيعية، فضلًا عن المثَقَّف العادي في عصْرٍ لم تَعُد الثقافة فيه منعزِلة عن حركة العلم بحالٍ. وقبل كل هذا وبَعْدَه يظل احتياجنا القومي لجرعات مكثَّفة من أصوليات التفكير العلمي والبحث العلمي على السواء.

إن الاحتياج القومي والهَمَّ القومِيَّ لا يغيب أبدًا عن بال المثقَّفِ الجادِّ، مهما أَوْغَلَ في غياهب التخصص الدقيق. وفي هذا، فإن الطبعات السابقة من هذا الكتاب قد لاقت — بحمد الله تعالى — استقبالًا حسنًا. وأجمل ما في الأمر أنه في طبْعته الأولى المُجْمَلَة تحت عنوان «إمكانيات حل مشكلة العلوم الإنسانية على ضوء الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية وتساوقها المنهجي» عام ١٩٩٠-١٩٩١، قد حَصَلَ في هذا العام نفسه على جائزتين عربيتين، فكان عاملًا لفَوْزِي بجائزة العلماء العرب الشبان في مجال العلوم الإنسانية، من مؤسسة عبد الحميد شومان — الفلسطيني — في الأردن. حَصَلَ الكتاب أيضًا على جائزة سعاد الصباح للإبداع الفكري بين الشباب العربي، في العام نفسه. إنه عام الطوفان وكارثة الخليج المشئومة. بل إنني تسلمت الجائزة الكويتية في معرض القاهرة الدولي للكتاب أواخر يناير ١٩٩١، والحرب دائرة. ورغمًا عنها اجتمعت الجائزتان في هذا الكتاب، تأكيدًا أن البحث العلمي العربي كالإبداع العلمي العربي لن تَقِفَ في وجهه حدود سياسية، ولو كانت بضراوة الأسلاك الشائكة وحقول الألغام. ويلتقي تقدير الطرفين المتقابلين، وفي صلب الزمن العصيب، مصداقًا لثابتٍ باقٍ يعلو على الكوارث ومؤامرات الفرقة، فليست العروبة تُرَّهَات وألاعيب سياسية، بل هي وحدة ثقافية وحضارية غير قابلة للفصم أو القصم مهما كانت ضراوة الوقائع والمتغيرات. ومن ثَمَّ فإن القومية العربية أشد حقيقة من الدم في الشرايين، ومن أهوال الحروب والفُرقة بين الأشقاء.

وإذا جمع هذا الكتاب بين الجائزتَيْن العربيتين المتزامنتين والمتقابلتين، ليقف حجة دامغة في وَجْه كل مَنْ تُسَوِّل له نفسه التطاول على مفهوم العروبة، وحقيقة القومية العربية، فإن هدفه المعرفي الأساسي هو الحيلولة دون التشويه الأيديولوجي للعلوم الإنسانية!

وقَدَّمَت دار قباء طبعته الجديدة مع بدايات القرن الحادي والعشرين.١

وفقنا الله لما فيه السداد.

يُمنى طريف الخولي
منيل الروضة. مايو ٢٠٠١

هوامش

(١) ونُزْجِي الشكر الجزيل لدار رؤية، إذ تَتَفَضَّل بتقديم الطبعة الجديدة للقارئ العربي مع مَطَالع العقد الثاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤