مقدمة في المصطلح

حضارة العرب هي حضارة اللغة والفصاحة والبلاغة وفن القول، فالشِّعر فنها الأول وديوانها الأكبر، وتَتِيه على الحضارات طُرًّا بأنها تتحدث اللغة ذات العدد الأكبر من المفردات التي تُعَدُّ بالملايين، بينما لا تتجاوز مفردات اللغة الإنجليزية — مثلًا — سبع مئات من الألوف. ومع هذا فإنَّ أَخْبَثَ مَوَاطِن الداء في الثقافة العربية هي عدم الحِرص على دقة المصطلح، حتى إن مُعْظم المصطلحات المهمة والخطيرة فضفاضة تتسم بالهلامية، قد تُسْتَخْدَم للدلالة على مدلولات شتى متداخِلة أو متقارِبة أو متباعِدة أو حتى متضارِبة … على الإجمال قد يَدُلُّ المصطلح على أشياء كثيرة فلا يدل على أي شيء مُحَدَّد، ونَعْجِز في معظم الأحايين عن ربط الاسم بمسماه، ومن ثَمَّ عن الإتيان بالقول المُحْكَم الدقيق، وكأننا نُعَانِي فقرًا لغويًّا مُدْقِعًا!

على ذلك يبدو هذا التمهيد مهمًّا لتحديد مصطلَحات عنوان الكتاب أو موضوعه، ما دام بحثًا في منطق «العلم»، ومجرد هذا المصطلح: العلم Science مصطلح حديث. ولم تتم صياغة مصطلح العالِم Scientist إلا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، حين اشْتُقَّ — آنذاك — من الفعل اللاتيني Sciere أن يعرف؛ ليدل فقط وبتميُّز شديد على المنشَغِل بذلك النسق المعرفي النامي والمتعملق حديثًا — وعلى وجه الخصوص — الطبيعة والكيمياء بمنهجهما الصارم، وطابعهما المُحْكَم، ثم توالى اجتياح العلم لمجالات شتَّى، أتت كلها Science وفقًا لهذا المصطلح المدقق. ولكن لم يُوضَعْ له مُقَابِل في اللغة العربية إلا مصطلح «علم» العريق جدًّا والمترامي النطاق في ثقافتنا؛ حيث يدل على أي نشاط مَعْرِفِيٍّ وأي دَرْس عقلي على وجه الإطلاق. ولعله لم يظفر بتحديدٍ ما إلا على يد بعض الفقهاء — كابن تيمية وابن حنبل — الذين أصروا على أن «العلم» يقتصر على أصول الدين وتفسير القرآن والشريعة والسنة … بل وذهبوا إلى أن أي استعمال آخر له هو من قبيل التجديف والكفر. وبطبيعة الحال نهض المستنيرون من الفقهاء والفلاسفة والعلماء، وأيضًا من المتكلمين ذوي المنزع العقلاني، نخص منهم بالذكر أبا الحسن العامري (متوفى ٣٨١ﻫ)، لتأكيد أن «العلم» — هذا النشاط الشريف المُعَلَّى — يتطرق إلى مجالات أخرى كالرياضيات والنظر العقلي في شتى المواضيع والأمور. وفي كل حال كان مصطلَح «العلم» في ثقافتنا العربية — ولا يزال — مصطلَحًا شديد العمومية، يشير — وعلى أحسن الفروض — إلى أي بناء عقلي نظامي وأي دراسة منهجية، في مقابل مصطلَح Science الدقيق والمحدَّد الذي سوف نستعمله في هذا الكتاب.

إذَنْ فمصطلح «العلم» يَرِدُ في هذا الكتاب بذلك المفهوم الدقيق المحدَّد ليدل فقط على: «أنساق تفيد مضمونًا إخباريًّا، ومحتوًى مَعْرِفيًّا، وتوصيفات دقيقة، وقوة شارحة، وقدرة تفسيرية، وطاقة تنبؤية، مُنْصَبَّة على ظواهر العالم التجريبي والواقعي الواحد والوحيد الذي نحيا فيه»، معنى هذا أن مصطلح «العلوم الإنسانية» يشير إلى الدراسات التي تستهدف الإحاطة المنهجية الوصفية والتفسيرية بالظواهر الإنسانية، كعلوم الاجتماع والاقتصاد والنفس والأنثروبولوجيا والجغرافيا … إلخ، بفروعها العديدة. ولا يَنْطَبِق على الدراسات الإنسانية الأخرى المعيارية والتنظيمية من قبيل فقه اللغة، والقانون، والشريعة، والنقد الأدبي، وأنظمة المحاسبة والإدارة … إلخ؛ أي أنها تَخْرج عن مجال بحْثنا، وعن مجال فلسفة العلوم التجريبية. ولا ينفي هذا بطبيعة الحال خطورتها، وأهميتها الحضارية الكبيرة. بل إن التطور الكبير للسانيات واللغويات في القرن العشرين قد توغَّلَ كثيرًا داخل حدود العلم، ومجرد أصول له قد انعكست على مسار العلوم الإنسانية فيما يُعْرَف بالاتجاه البِنْيَوِيِّ، وما تلا هذا من تطورات مَعْرِفية مهمة حَدَثَتْ بفعل الحاسب الآلي (الكمبيوتر). ولكننا مُلْزَمُون بالتحديد المنطقي التجريبي الذي يَحُول بيننا وبين التعرض للدراسات الإنسانية المعيارية والتنظيمية.

ولما كان علم الاجتماع وعلم النفس هما القطبان اللذان يَحْصُران كل موضوعات أو فروع العلوم الإنسانية التجريبية في تردداتها بين الجَمْعِيِّ العامِّ والفرْدِيِّ الخاصِّ، فإننا سنُصَوِّب عليهما الأنظار ونُولِيهِما عناية خاصة.

ولا يمنع هذا بطبيعة الحال من التعرض للفروع الأخرى حسبما يقتضي السياق. غير أننا آثرنا الابتعاد عن «التاريخ»؛ لأننا لو اعتبرناه علمًا فلا بد أن يكون ذا طبيعة خاصة جدًّا.

ولا يفوتنا التوقف لتوضيح ضرورة استخدام مصطلح العلوم الإنسانية Human Science، فالكثيرون وعلى رأسهم كلود ليفي شتراوس يطابقون بين مصطلَحَيْ Human Sciences وSciences Social، ولكن مصطلح Human Sc. الذي بدأ يسود في السنوات الأخيرة يبدو أصوب؛ لأن الإنسان — وإن كان لا يتواجد إلا في صورة جمعية — فإنه الموضوع المحوري، والوحدة النهائية التي ترتد إليها الدراسة في كل حال. على أن التقاليد الأنجلوسكسونية وبجذور تعود لعصر النهضة وما قُبَيْله، تضع مصطلح الإنسانيات Humanties ليدل على الآداب والفنون والمسائل المعيارية والقيمية واتجاهات لتفسير النصوص … إلخ، وكلها مسائل مفارقة للعلم، ولا ينبغي أن تختلط به. وهذا جعلهم يفضلون مصطلح Social Sciences للدلالة على مجمل العلوم الإنسانية. وساعدهم في هذا وجود اشتقاق آخر هو Sociological ليدل فقط على ما ينتمي لعلم الاجتماع بالذات.
ورُحْنَا نحن ننقل هذا بغير مراعاة للشائع من اشتقاقات لغتنا، فنستخدم الترجمة الحرفية لمصطلح Social Sciences أي «العلوم الاجتماعية» للدلالة على مجمل العلوم الإنسانية، ونستخدم أيضًا مصطلح «العلوم الاجتماعية» للدلالة على ما ينتمي لعلم الاجتماع؛ أي كترجمة للمصطلح Sociological في خَلْط ينبغي تجنُّبه عن طريق استخدام مصطلح «العلوم الإنسانية»، وقصر مصطلح «العلوم الاجتماعية» على علم الاجتماع وفروعه. وعلى ذلك الْتَزَمَ هذا الكتاب بمصطلح «العلوم الإنسانية» الأصوب، حتى حين ترجمة الاقتباسات من مصادر اسْتَخْدَمَتْ مصطلح Social Sciences، بل وحين الاستفادة من مصادر عربية استخدمت مصطلح «العلوم الاجتماعية» للدلالة على مُجْمَل العلوم الإنسانية.
وأخيرًا فضَّلْنا مصطلح مُشْكِلة Problem؛ لأنه يفيد تحديدًا منطقيًّا، ما يجعله أفضل من المصطلح المسْتَحْدَث الذي ذاع استخدامه؛ أي إشكالية Problematic؛ لأنه يعني مشْكِلة تتوالد عنها مشْكِلات، ما يوحي بالهلامية التي لا يناسبها، ولا يجدي معها منطق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤