الختام

ليست الفلسفة مَلِكة العلوم والمعارف، ولا هي خادمة اللاهوت أو سواه، وقد ماهَت الفوارق الطبقية منذ انهيار عصر الإقطاع، والآن في طريقها إلى الزوال والأفول التام، وأصبح تقسيم ماركس الحادُّ للمجتمع المنْتِج إلى برجوازية مستغِلَّة وبروليتاريا مطحونة، مِدعاة للسخرية، ولا يطابق الواقع بحال. إننا في عصر التعاون والتآزر والعمل الجمعي؛ حيث تتناسب قيمة العمل سواء في الفكر أو في الواقع — أيِّ فِكْر كان وأيِّ واقع كان — تناسُبًا طرديًّا مع تعدُّد العناصر الفعالة فيه، وأصالة تكاتفها، وعمق تآزرها.

ومِن ثَمَّ ليست فلسفة العلوم مَلِكة آمرة أو مرشدًا هاديًا حاديًا يرسم للعلماء خطوات المنهج الاستقرائي: (١) ملاحظة. (٢) فرض. (٣) اختبار … إلخ، كما تَصَوَّر فلاسفة العلم الكلاسيكي منذ فرنسيس بيكون حتى جون ستيورات مل، ليسير العلماء وفقًا لها على الصراط المستقيم، حتى يصلوا حتمًا إلى الغنيمة الموعودة: كَشْف علمي هو قانون يقيني، حقيقة نهائية من حقائق الكون الميكانيكي! كلا بالطبع، ولا هي — أي فلسفة العلوم — مَحْض خادمة تابعة تتلقط سواقط الفيزياء، أو فتات سواها من موائد العلوم لتنْكَبَّ على تحليلها كما بدا للوضعيين المناطقة.

كل ما في الأمر أن فلسفة العلوم تتسلح بشفيعها: المنطق حصن الفلسفة الحصين، والمعامل الموضوعي المشترك بين الجميع، سواء في حلبة الفلسفة، أو في حلبة العلم، أو في البَيْن بَيْن، وذلك لكي تجرد الأطر الصورية للعلم، مما يعين على وضع النقاط على الحروف، ويُمَكِّن مِن اسْتِكْنَاه الأسس التأصيلية الجذرية، بغية استبصار الآفاق المستقبلية.

وعلى هذا لم تكن محاولتُنا السابقة إنشاء خطة عمل مستحْدَث، أو برنامج بحث مستجدٌّ لباحثي العلوم الإنسانية، فقد مضى زمان الدعاوى الهوجاء منذ أن انقضى عصر الأبنية الميتافيزيقية الشوامخ، بل كانت محاولتنا مجرد خروج من واقع العلم الراهن بالأسس التأصيلية متجهًا صوْب الإمكانيات الاستشرافية؛ لكي تتلاقى شعاب التوجهات الواعدة في العلوم الإنسانية على مِحَكٍّ موضوعي مُعْتَمَد، توسلًا للأمل المفتقَد إلى حدٍّ ما في العلوم الإنسانية، والذي نراه متحققًا بأجلى صوره في العلوم الطبيعية، أي الاتفاق على معيار مشترك يصون أهداف العلم، ويرسم نحوها حدودًا واضحة، يتلاقى داخلَها الرأيُ والرأي الآخر؛ لأن الاتفاق بين العلماء هو السبيل إلى الإحاطة بالظواهر الإنسانية، وصفًا وتفسيرًا، ومن ثَمَّ تنبؤًا وتحكُّمًا وسيطرة.

إذن تبرير محاولتنا هذه وتسويغها إنما هو في حقيقة الأمر تنامي اقتفاء العلوم الإنسانية لمنطق العلم، وتَدَفُّق أبحاثهم وفْق الفروض القادرة على الخضوع لإجراءات منهجية دقيقة، فيها يتردد كثيرًا مصطلح الاختبار والقابلية للاختبار، ولولا هذا الواقع الواعد وحصائله المتنامية كمًّا وكيفًا لما كان ثمة معنًى، ولا جدوى لتوضيح سبل التقنين المنطق الأدق.

فنحن بإزاء منطق العلم، وليس منطق الفن، والمنطق ما هو لبناء أيس من ليس، ولا هو لِيَشُقَّ — وهادًا — في الأحراش والأدغال أو نهاجًا في البلقع والفلاة … إنه — كما أَشَرْنا وكما هو معروف — مجرَّد تجريد للقوالب الصورية المتضمنة لتدفقات الواقع الحي المضطرم، وذلك لوضع النقاط على الحروف، فيزداد الطريق وَضَحًا، ويزداد التقدم صعودًا.

تلك هي مهمة منطق العلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤