الفصل الخامس

التساوق المنهجي للخاصة المنطقية

والآن تتلاقى خطوط البحث عند عامِل مشترِك أو نقطة ارتكاز، ألا وهي الاستنباط Deduction، فهدفنا بالنسبة للعلوم الإنسانية مرحلة تفسيرية أكثر تقنينًا وكفاءة، وقد أشَرْنا إلى أن التفسير في العلوم الطبيعية والإنسانية على السواء — كما أكد كارل همبل وأوبنهايم وطبعًا بوبر وسواهم من كبار فلاسفة العلم — إنما يتَّسِم بسمة استنباطية أكيدة، إما استنباطًا رياضيًّا يسود العلوم الطبيعية، وإما استنباطًا منطقيًّا فقط يسود العلوم الحيوية والإنسانية. المهم أن الاستنباط هو الشكل الأساسي للتفسير العلمي، فهو يتَكَوَّن من شقين: تقريرات جزئية بشأن الظاهرة المراد تفسيرها هي شروطها، ثم العبارات الكلية المطروحة، وهي القوانين العامة، على هذا يتضمن التفسير فئتين فرعيتين مفسرتين، ومنهما معًا نستنبط الظاهرة المفسرة، وبغير إمكانية هذا الاستنباط لا يُعَدُّ التفسير صالحًا، ولا بد أن تحتوي المقدمات المُفَسِّرة على قوانين عامة هي ضرورية للاستنباط، ولا بد أن تكون متسقة مع ذاتها، وتتبع مبدأ البساطة عن طريق قانون «الاقتصاد في التفكير»، فتكون في أقل عدد ممكن من المتغيرات، على أن أهم ما في الأمر، وما يميز التفسير الفعلي في العلوم الإخبارية، هو أن يكون للقوانين العامة في المقدمات التفسيرية محتوًى تجريبي، أي تكون قابلة للاختبار عن طريق الملاحظة والتجربة.١

هكذا نعود إلى القابلية للاختبار والتكذيب التجريبي، وقد رأيناها هي الأخرى تتسم بسمة استنباطية، إنها معدل للكشف عن علمية الفروض أو النظريات أو القوانين، فلن تثير العبارات الجزئية مشاكل حقيقية بشأن خاصيتها، لكن الطبيعة الكلية للفروض العلمية تعني استحالة مواجهتها بالواقع التجريبي؛ لأنها عامة تتحدث عن أفق لا نهائي، يستحيل حصره في زمان ومكان معيَّنَيْن يمكن إخضاع ما يَضُمَّانِه لنطاق اختبار تجريبي، وكما أوضحنا الكشف عن كونها قابلة للتكذيب، أو غير قابلة له، يتم عن طريق استنباط عبارات جزئية من الفرض، يسهل مواجهتها بالواقع، وقد رأينا أن كل المعالم الأساسية لمنطق التكذيب في تناول للنظرية العلمية كالحكم بالتكذيب أو التعزيز، ودرجته، ومقاييس المحتوى التجريبي، والمحتوى المنطقي، المطلق والنسبي، ومحتوى الصدق، محتوى الكذب … إلخ، كلها تعتمد على استنباط، لقد تكرر مصطلح «الاستنباط» في الفصل السابق من الكتاب أكثر من أي مصطلح منطقي آخر.

هذه السمة الاستنباطية للقابلية للاختبار والتكذيب توضح هي الأخرى مدى استيعاب تطورات العلم التجريبي والإبستمولوجيا العلمية المعاصرة، من حيث إنه لا استقراء البتة، فنحن لا نبدأ من معطيات تجريبية، ثم نصعد منها، وفور تعميمها إلى الفروض والنظريات — كما يتصور العلماء الكلاسيكيون — بل العكس تمامًا هو الصحيح، نحن نبدأ من الفروض، ومنها نهبط إلى التجريب ووقائع الملاحظة المستنبَطة منها، لتكون مِحَكَّ الحكم على تلك الفروض، بل وبصفة مباشرة كان رفض الاستقراء نقطة انطلق منها بوبر صوب القابلية للتكذيب كخاصة منطقية تحدد معيارًا للعلم، إن فلسفة بوبر تدور حول محور تصر عليه إصرارًا هو أن الاستقراء خرافة، والبدء بالملاحظة لا يفضي إلى شيء، ومستحيل منطقيًّا، ولا توجد أي قضية علمية — ولا حتى لا علمية — يمكن أن تكون محض تعميم لوقائع مستقرأة، وكان يظن في العهد النيوتيني الكلاسيكي أن البدء بالملاحظة معيار ما هو علمي، فالقضية إن كانت محض تعميم لوقائع مستقرأة من العالم التجريبي، فلا بد أن تكون إخبارًا عنه، ومن هنا قال بوبر: «إيجاد معيار مقبول للتمييز يجب أن يكون المهمة الحاسمة لكل إبستمولوجي لا يقبل المنطق الاستقرائي.»٢ فكان أن تَكَفَّل بهذه المهمة، وتوصَّل إلى القابلية للاختبار والتكذيب التي هي خاصة منطقية للنظرية العلمية، رأينا كيف تستشرف استمرارية التقدم العلمي، من حيث تتمثل تطورات العلم والإبستمولوجيا المعاصرة.
ذلك أن الافتراق الفاصل بين الإبستمولوجيا العلمية الكلاسيكية والإبستمولوجيا العلمية المعاصرة كما يتبلور في منطق العلم، يتبلور أيضًا في منهجه التجريبي:
  • الإبستمولوجيا الكلاسيكية: يساوقها منهج الاستقراء Induction الذي يبدأ من وقائع الملاحظة، ومنها يصعد إلى القانون.
    وطبعًا الممثل الرسمي لهذه النظرية هو إيزاك نيوتن بقوله الشهير: «أنا لا أفترض الفروض Hypotheses non fingo» هذه النظرية تخدم الملاحظة.
  • الإبستمولوجيا المعاصرة: يساوقها المنهج الفرضي الاستنباطي Hypothetic Deductive Method، الذي يبدأ بفرضٍ ما، ومنه يهبط إلى الوقائع الملاحَظة لتُحَدِّد مسير ومصير الفرض، وطبعًا الممثل الرسمي لهذه النظرة ألبرت أينشتين، الذي يرى أن منهج البحث يتلخص في أن يتخذ الباحث لنفسه مسَلَّمات عامة، أو مبادئ يستنبط منها النتائج، فينقسم عمله إلى جزءين: يجب عليه أولًا أن يهتدي إلى المبادئ التي يستند إليها، ثم يتبع ذلك بأن يَسْتَنْبِط من هذه المبادئ النتائج التي تترتب عليها.٣ ويؤكد أينشتين تأكيدًا حاسمًا أن الوقائع التجريبية بمفردها تظل عديمة النفع للباحث ما لم يَهْتَدِ إلى قاعدة لاستنباطاته.٤ هذه النظرة تستخدم الملاحظة.

إن المنهج الاستقرائي يساوق التفسير الميكانيكي للكون ومبدأه الحتمي، وأيضًا يماثله من حيث كونه افتراضًا ساد مرحلة مَرَّ بها العقل العلمي، كانت مهمةً وضروريةً في أوانها، ولكن به وبها المزالق والأخطاء والقصورات المعرفية التي تتكشف للعقل العلمي أثناء سيره، أو تَقَدُّمه المطَّرِد، فوجب أن يتجاوزها بعد أن أَدَّتْ دورها، واستنفدت مقتضياتها، ودواعيها، وارتفع التقدم العلمي الذي هو ثوري، إلى مرحلة أعلى مختلفة عن سابقتها، الحق أن استيعاب الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة يرتهن بالرفض المنطقي لمنهاج الاستقراء، وليس هذا أمرًا يسيرًا؛ لأن الاستقراء أكد حركة العلم الحديث وتأكد بها.

•••

فقد انبثق العلم الحديث في مرحلة حضارية ومعرفية تأتَّتْ في أعقاب العصور الوسطى، وكانت عصورًا دينية حدَّدَتْ معالمها كتبٌ سماوية منزلة، تنطوي على حقائق مُسَلَّم بصحتها ويقينها، فيمكن أن نقتصر على استنباط ما يلزم عنها، فكان منهج البحث المهيمن على هذا العصر هو القياس الأرسطي: منهج استنباط القضايا الجزئية التي تلزم عن المقدمات الكلية المطروحة والمتضمنة فيها، ولا جديد، ولا مساس بآفاق المجهول في الواقع الحي.

واقترن إغلاق أبواب العصور الوسطى، وإشراقة العصر الحديث بالضيق البالغ منتهاه من منطق أرسطو (الأورجانون: أداة الفكر)، والبحث عن منهج جديد يلائم روح العصر الجديد، والمنهج الغالب على العصور الوسطى كان استنباطًا، أي أنه استدلال هابط من كليات إلى جزئيات، ولكنه كان استنباطًا يتطرف في التنظير والعزوف عن التجريب، فتَمَخَّض في العصر الحديث عن رَدِّ فِعْل معاكِس في الاتجاه، ومساوٍ في المقدار ألا وهو الاستقراء: الضد المنهجي الصريح للاستنباط، الاستقراء معاكس في الاتجاه؛ لأنه تجريب خالص واستدلال صاعد يبدأ من جزئيات، ويصعد منها إلى نتيجة أوسع: قانون عامٍّ ينطبق على ما لُوحِظ وما لم يُلَاحَظ من جزئيات مماثلة في أي زمان ومكان.

وهو مساوٍ في المقدار من حيث إن تَطَرُّف العصور الوسطى في التنظير والعزوف عن التجريب يساويه تطرُّف العصر الحديث في الاتجاه المضاد: التجريب الخالص والاعتماد على معطَيات الحواس، والعزوف عن تنظيرات العقل التي أثبتَت العصور الوسطى عُقْمَها حين دارت في مَتَاهَاتها المنبتة الصلة بالواقع الحي، هكذا بدا للعقلية الناهضة آنذاك أنَّ شَقَّ الطريق الحديث للعلم الحديث إنما يعتمد على نَبْذ القياس الأرسطي والاستنباطات العقلية طُرًّا وسَلْك الطريق العكسي وهو الاستقراء، أي البدء بالملاحظة، ثم تعميمها. فيقول برتراند راسل: «لم يكن الصراع بين جاليليو ومحاكم التفتيش صراعًا بين الفكر الحر والتعصب، أو بين العلم والدين، بل كان صراعًا بين الاستنباط والاستقراء.»٥
هنا لا بد من العروج على العوامل الخارجية لنشأة العلم التي دَفَعَتْ مرحلتُه السابقة إلى فرضية الاستقراء الزائفة، فحين كان العلم الحديث يشُقُّ أولى خطواته الغضة في القرنين السادس عشر والسابع عشر لم يكن يتفتح كالزهر، بل كان ينبجس كالدم، تفاصيل الصراع الدامي بينه وبين السلطة المعرفية التي كانت آنذاك لا تزال في يد رجال الكنيسة معروفة جيدًا، رجال الدين استمدوا سلطانهم هذا، لا لأنهم مبدعون أو يفترضون فروضًا جريئة، بل العكس تمامًا؛ لأنهم فقط أقدر البشر طُرًّا على قراءة الكتاب المقدس، ولكي يستطيع رجال العلم احتلال مواقع معرفية والاستقلال بنشاطهم، بدا من الحمق الصراح والخسران المبين إقحام فكرة الفرض صنيعة العقل الإنساني الخطَّاء القاصر في المواجهة مع رجال الدين المتوسلين بالكتاب المقدس والحقائق الإلهية، فأصر العلماء على أنهم هم الآخرون أَقْدَر البشر طُرًّا على قراءة كتاب آخر لا يَقِلُّ عن الأناجيل عظمة، ولا دلالة على قدرة الرب، وبديع صُنْعه، إنه كتاب الطبيعة المجيد، وأصبح تعبير «قراءة كتاب الطبيعة المجيد»٦ ومنذ أن استعمله جاليليو قائلًا إنه مكتوب بلغة الرياضيات، تعبير شائع في تلك المرحلة للدلالة على نشاط العلماء، إنه محض قراءة مصوغة باللغة الرياضية، مَحْض مشاهَدة لوقائع التجريب، ثم تعميمها، فلا إبداع ولا فروض، بل وفي تجسيد وتجريد الفلسفة لروح الموضوع وعصره، عمل فرانسيس بيكون على تحذير العلماء من مغبة الفروض، وأسماها «استباق الطبيعة» موضحًا طرق تجنبها، هكذا لم ينحصر الاستقراء في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ العلم الحديث في البدء بالملاحظة، بل وأيضًا في الاقتصار عليها.
ومع انتهاء الصراع مع سلطة رجال الدين واستقلال حركة العلم الطبيعي، ثم تحررها التام بفضل قوتها المنطقية المتنامية، شهد القرن الثامن عشر فكرة الفرض العلمي تتقدم على استحياء خصوصًا على يد عالم الكهرباء الفرنسي أمبير، ثم تعاظَمَ شأنُها وأثبتَتْ ذاتها في القرن التاسع عشر خصوصًا بفضل العالم الفرنسي المتوقد الذهن كلود برنار C. Bernard (١٨٠٣–١٨٧٨) الذي أَكَّد وأثبت أن عماد البحث العلمي شقان: الفرض والملاحظة،٧ ولكن ظل الفرض أيضًا استقرائيًّا؛ أي متصَوَّرًا أنه آتٍ من الملاحظة وتالٍ لها — إن لم يكن مجرَّدَ نتيجة لها — ليتم اختباره، وإن اجتاز الاختبار يصاغ في قانون.
هكذا عدنا إلى موقعنا، إلى قلب حركة العلم وعواملها الداخلية لنجد أن المنهج الاستقرائي يتساوق مع إبستمولوجيا العلم الحديث زمانيًّا وتاريخيًّا، وهو هكذا لأنه على تمام التساوق والاتساق المنطقي مع تفسيرها الميكانيكي للكون ومبدئها الحتمي، وإذا كانت فرضية الاستقراء كمنهج قد مكَّنَت رجال العلم من خَوْض صراعهم مع رجال الدين والانتصار عليهم، فإن الحتمية الميكانيكية قد مَكَّنَت لفرضية الاستقراء من التربع جاثمة على صدر حركة العلم الحديث «الكلاسيكي». وأولًا وقبل كل شيء عملية التعميم الاستقرائي لِمَا شُوهِد ولُوحِظ على ما لم يُلَاحَظ تَسْتَنِد منطقيًّا إلى مبدأ العلية Causality، كتبرير للتعاقب المشاهَد «مثلًا رفع درجة الحرارة، ثم تمدد القضيب ١، ٢، ٣، ن … من الحديد» وتبرير لشموليته، فلما كانت العلية كونية فهي تحكم بمثل هذا التعاقب في كل زمانٍ ومكان، فيمكن تعميم ما لوحظ في قانون علمي «في مثالنا: الحديد يتمدد بالحرارة». وكما هو معروف، العلية هي الوجه الآخر للحتمية.

وكل وجوه أو عناصر الحتمية الميكانيكية هي الأخرى تتساوق وتتسق مع الاستقراء كمنهج، فإذا كانت الحتمية تعني — كما ذكرنا — ضرورية قوانين الطبيعة المطردة دائمًا وثبوتها ويقينها فلا تخلف، ولا مصادفة، ولا احتمال موضوعيًّا. فسوف يكون الجزء شاهدًا على الكل، وتكفي ملاحظة بسيطة، وقائع تجريبية محدودة، ثم تعميمها، لا سيما أن العلم الكلاسيكي تعامل مع ظواهر كُبْرى، جميعها واقعة في خبرة الحواس، فتبدو موضوعًا قابلًا للملاحَظة المباشِرة، بموضوعية مطلقة، بلا أدنى تدخل من الذات العارفة، ويكاد يقتصر عملها على تعميم وقائع الملاحظة المحدودة في قوانين كلية، وسنصل في النهاية إلى الصورة الكاملة لكون ميكانيكي: آلة ضخمة مُغْلَقَة على ذاتها من مادة واحدة متجانسة، وبواسطة عللها الداخلية، وتبعًا لقوانينها الخاصة تسير تلقائيًّا في مسارها المحتوم.

فكانت كل خطوة ناجحة يحرزها العلم الكلاسيكي في إطار مشروعه الحتمي الميكانيكي، تؤكد الاستقراء ويتأكد بها. ومنذ الوهلة الأولى بَدَا للعيان أن هذا النجاح المنقطِع النظير الذي أحرزه العلم دونًا عن كل محاولات المعرفية التي بذلها الإنسان من قبل لا بد أنه يدور وجودًا وعدمًا مع العنصر المُسْتَحْدَث في هذا النسق المعرفي الجديد — العلم — العنصر المستحدث هو التجربة: الاعتماد النظامي على معطيات الحواس، فبدأ العلم تجريبيًّا متطرفًا — لردة الفعل العكسية للاستنباط الأرسطي — ثم جَعَلَهُ نجاحُه يَتَطَرَّف أكثر وأكثر في تَجْرِيبِيَّتِه، إن الاستقراء الذي يبدأ بالملاحظة التجريبية، ليتقهقر دور العقل والإبداع الإنساني — إن لم يَلْغِ — هو طبعًا صورة من صوَر التجريبية المتطرفة.

وأتى جون ستيوارت ميل J. S Mill (١٨٠٦–١٨٧٣) أكثر التجريبيين تطرفًا في نهايات المرحلة الكلاسيكية ليضع الصياغة النهائية والمنتهية لإبستمولوجيتها، وراح يؤكد (في نسق المنطق) أن الاستقراء هو الطريق الأوحد الذي لا طريق سواه لأي معرفة، فكل المبادئ والمفاهيم والأفكار والمعلومات … باختصارٍ، كل مكونات الذهن ومحتوياته مجرد تعميمات استقرائية لا يُسْتَثْنَى من ذلك، حتى قوانين الرياضة مثل (٢ + ٢ = ٤) والمنطق الصوري مثل (أ هي أ) كلها ليست إلا تعميمات استقرائية لكثرة ما لاحَظَتْه حواسُّنا من أن اقتران ٢ و٢ ينتج دائمًا ٤، أو نلاحظ دائمًا أن أ هي أ، فالاستقراء هو منهج العلم، هو ذاته منطق الفكر والعمل والحياة.٨
هكذا كان العلم الكلاسيكي منتشيًا بتجريبِيَّتِه المتطرفة — أي الاستقراء — وحريصًا على تأكيدها، والتطرف بها أكثر، ولكن في قلب تلك الأجواء ومن قِبَل جون ستيوارت ميل بقرن من الزمان نهض شكاك سكوتلندا ديفيد هيوم D. Hume (١٧١١–١٧٧٦) لِيَلْفِت الأنظار إلى أن التعميم الاستقرائي ينطوي على مغالطة هي قفزة غير مبررة، فلا يوجد مبَرِّر لتعميم الحكم على وقائع لم تُلَاحَظ، ولا توجد بينه على سَنَد هذا التعميم؛ أي على العلية.
والمسألة أننا نلاحظ تعاقبًا أو اقترانًا بين حَدَثَيْن، ثم نُقْحِم عليهما عاملًا ثالثًا هو العلية التي لم يلاحظها أحد لتربط بينهما، هذا فيما يُعْرَف بمشكلة الاستقراء الشهيرة، وحين أثارها هيوم إنما كان يعطي تمثيلًا عينيًّا لمدى ثقوب النظر الفلسفي، كما هو معروف لم يُلْقِ أحد مبررًا منطقيًّا لهذه القفزة التعميمية حتى قال وايتهد: إن مشكلة الاستقراء هي يأس الفلسفة Despai Of Philosophy، بينما أطلق عليها برود C. D. Broad اسم فضيحة الفلسفة Scandal Of Philosophy.٩ فقد بدا أنها وَصَلَتْ بالإبستمولوجيا وفلسفة المنهج إلى طريق مسدود.
والواقع أنها كانت إيذانًا بالطريق المسدود الذي ستصل إليه الفيزياء الكلاسيكية ذاتها، وضرورة الانقلاب على مُسَلَّماتها كما فعلت النسبية والكوانتم، ومشكلة الاستقراء التي أثيرت قبل أزمة الفيزياء الكلاسيكية بمائة عام ونيف ليست يأس الفلسفة أو فضيحتها، بل هي تأكيد قدرة الفلسفة على استشراف الآفاق المستقبلية، واستعصاؤها على الحل وفقًا لمُسَلَّمات العلم الكلاسيكي (حتمية، ميكانيكية، علية، اطراد، الطبيعة، يقين …) لم يكن يعني عقم فلسفة المنهج، وضرورة وأدها، بل كان يعني عُقْم فَرْض الاستقراء ذاته، وضرورة الانقلاب عليه من أجل الوقوف على الكنه الحقيقي للنشاط العلمي، بعبارة أخرى لم يكشف عن مثلب في الفلسفة، بل عن مثلب، أو عن مثالب منطقية في فرضية الاستقراء والبدء بالملاحظة. وهذه المثالب كالآتي:
  • (١)

    استحالة تبرير القفزة التعميمية (مشكلة الاستقراء المذكورة).

  • (٢)

    لو كان القانون القانون العلمي مَحْض تعميم لوقائع مستقرأة، فكيف يتسلل إليه الخطأ، هو طبعًا أَمْر واقع في العلم؟

  • (٣)

    إذا عجزنا عن تبرير الخطأ، ومن ثَمَّ تبرير التصحيحات، فكيف يتأتى التقدم العلمي؟

  • (٤)

    الاستقراء يحدد الطريق إلى الفرض أو القانون، وكل من يسلكه؛ أي يتبع خطوات الاستقراء يصل إلى قانون، وكل قانون اكتشاف لحقيقة، حتى أكد بيكون أن البحث العلمي متاح لذوي العقول المتوسطة، إذن فالعلم نشاط آلي، وليس البتة فعالية إنسانية نامية باستمرار.

  • (٥)

    إذا كان العلم اكتشافًا آليًّا للحقائق، ولا حاجة لفروض من خَلْق وإبداع الذكاء الإنساني، فما هو تبرير التفاوت في قدرات العلماء وإنجازاتهم؟

  • (٦)

    والأهم: ما تبرير بقاء مشاكل علمية «مثلًا السرطان» بغير حل مع توافُر كَمٍّ هائل من المعطيات التجريبية بشأنها يمكن ملاحظتها، ثم تعميمها؟

والآن يمكن التقدم خطوة منطقية أبعد وأجرأ ونقول: فكرة «الاستقراء» بوصفه المنهج التجريبي ليس به مثالب وأغاليط منطقية فحسب، بل به استحالة منطقية أصلًا، بعبارة موجزة البدء بالملاحظة يستحيل أن يفضي إلى شيء، والمسألة كما طرحها جاستون باشلار أن الواقع هو نقطة نهاية التفكير العلمي لا نقطة بدايته. وهذه فكرة انطلق فيها فلاسفة العلم المعاصرون، وأمعنوا في الانطلاق، فقد أَصْبَحَ من الممكن بعد كل هذا الشوط من التقدم العلمي والإحاطة الوصفية بالوقائع أن يناقش بول فيير آبند فكرة علم طبيعي بغير خبرة تجريبية، بغير عناصر حسية.

وعلى أي حال كان بوبر أول وأهم من اعتَنَوْا بتوضيح وإثبات أن البدء بالملاحظة الخالصة فقط، ثم تعميمها فَنَصِل إلى قانون أو نظرية علمية، وبغير أن يكون في الذهن أي شيء من صميم طبيعة النظرية هذه فكرة مستحيلة خلف مُحَال، وقد مثل لهذه بأقصوصة عن رجل كرَّس حياته للعلم، فأخذ يسجل كل ما استطاع أن يلاحظه، ثم أوصى بأن تُوَرَّث هذه المجموعة من الملاحظات التي لا تساوي شيئًا إلى الجمعية الملكية للعلوم بإنجلترا لكي تُسْتَعْمل كدليل استقرائي! وهي طبعًا لن تفيد العلم في شيء، ولن تفضي إلى شيء، وقد حاول بوبر أن يؤكد هذا أكثر، فبدأ إحدى محاضراته في فيينا بأن قال لطلاب الفيزياء: «أمسك بالقلم والورقة، لاحظ بعناية ودقة، سجل ما تلاحظه!» بالطبع تساءل الطلاب عما يريدهم بوبر أن يلاحظوه، ومِنْ هنا أوضح لهم كيف أنَّ «لَاحِظْ» فحسب لا تعني شيئًا، فهي خلف مُحَال، العالم لا يلاحظ فحسب، الملاحظة دائمًا منتقاة توجهها مشكلة مختارة من موضوع ما، ومهمة محددة، واهتمام معين، ووجهة من النظر نريد من الملاحظة أن تختبرها. المشكلة هي ما يبدأ به العالم وليس الملاحظة الخالصة كما يَدَّعي الاستقرائيون، فماذا عساه أن يُلَاحِظ ويُسَجِّل، بائع جرائد ينادي وآخر يصيح، وناقوس يدق … أم يلاحظ أن كل هذا يُعَرْقِل بَحْثه، إن العالم يحتاج مسبقًا لنظرية يلاحِظ على أساسها. فهو يبدأ من الحصيلة المعرفية السابقة لتُحَدِّد له موقِف المشكلة، وتعين على فهمها فيقدح عبقريته العلمية للتوصل إلى الفرض الذي يستطيع حلها، ها هنا يلجأ إلى الملاحظة ليختبر فرضه تجريبيًّا عن طريق النتائج المستنبطة.١٠ تلك هي الصورة العامة لمسار البحث التجريبي، إنه المنهج الفرضي الاستنباطي.

والواقع إنه لا كوبرنيقوس، ولا جاليليو، ولا نيوتن، ولا أي رائد من الرواد الذين شيدوا صَرْح العلم الحديث، ولا أي من العلماء الأقل حجمًا، ولا من العلماء طُرًّا، تَوَصَّل إلى إنجازاته عن طريق الاستقراء، بل جميعهم يبدأ بفرض يستنبط نتائجه، ثم يقوم باختبارها تجريبيًّا، ولكن بفعل العوامل الداخلية والخارجية لحركة العلم الحديث ران الوهم الاستقرائي على العقول، من حيث ران الوهم الحتمي الميكانيكي.

•••

وقد تبددت هذه الأوهام في ضوء النسبية والكمومية، ثورة العلم في القرن العشرين (راجع الفصل الأول)، وأصبح يتعامل مع كيانات غير قابلة للملاحظة أصلًا، مثلًا لا نستطيع ملاحظة مسارات الإلكترون داخل الذرَّة، بيد أن الشعاع الصادر من الذرة خلال التفريغ Discharge يمكن من استنباط ترددات Frequencies.١١ فيقول هيزنبرج — صاحب مبدأ اللَّاتَعَيُّن Indeterminacy الخطير — إننا لا نستطيع التعويل على الملاحظات بوصفها تشير إلى الأشياء في ذاتها Dinge an Scih أو الموضوعات.١٢ نحن لا نلاحظ الكيانات موضوع الحث أصلًا، نلاحظ فقط آثارها على الأجهزة المعملية، فتُمَكِّنَّا من وضع الأصبع على حقيقة المنهج التجريبي: لا بد مِنْ فَرْض يفترضه العقل، يخلقه خلقًا ويبدعه إبداعًا، ثم يستنبط نتائجه، وهنا ينزل إلى الملاحظة التجريبية، بل أحيانًا كثيرة يصعب إجراء التجربة لأسباب فنية، أو لأنها باهظة التكاليف فيحتكم العلماء إلى «التجارب العقلية»؛ أي تخيُّل التجربة، وافتراض نتائجها المتوقَّعة، والعلماء الذرِّيون مُغْرَمُون «بالتجارب العقلية» هذه.

وفي كل حال «العلم تجريبي» كما أن (أ هي أ)، ولكن في ضوء المنهج الفرضي الاستنباطي ليست الملاحظة التجريبية مصدرًا للفرض العلمي، بل مِحَكٌّ له، فهو لا يحدد الطريق إلى الفرض. هذا الطريق لا يمكن أن يكون تحديده مسألة منطق أو قواعد منهجية؛ لأنه يعتمد على عنصر العبقرية والإبداع والذكاء الإنساني، فيمكن أن يُتْرَك مثلًا للدراسة السيكولوجية للإبداع العلمي، معنى هذا ببساطة أن العلم صنيعة الإنسان، وليس البتة نشاطًا آليًّا، وبغير حاجة لتفصيلات واستطرادات يمكن إدراك كيف أن كل المثالب المنطقية المحيقة بالاستقراء تنداح كما تنداح دوائر في لُجَّة ماء أُلْقِيَ فيه بالحجر، مع رؤية المنهج الفرضي الاستنباطي.

إن العلم صنيعة الإنسان، أي فعالية نامية باستمرار، كل خطوة قابلة للتجاوز، للتقدم؛ لذلك يجعل المنهج الفرضي الاستنباطي كلَّ قانون مُجَرَّد فرْض ناجح، في حين أن المنهج الاستقرائي يجعل كل فَرْض ناجح قانونًا، اكتشافًا لحقيقة، إن الاستقراء — منهج البدء بالملاحظة الصلبة — هو منهج لتأسيس العبارات العلمية على أساس مَكِين هو الوقائع التجريبية، في حين أن العلم التجريبي بناءٌ صميم طبيعته الصيرورة والتقدم المستمر، وها هنا نجد المنهج الفرضي الاستنباطي نظرية في الإبداع والتقدم المستمر، في أسلوب هذه الصيرورة، بهذا لا يتساوق منهج العلم ومنطقه فحسب، بل وأيضًا يتطابقان.

ارتهنت كل هذه الإحرازات المنطقية بالاستنباط، وهذا الاستنباط١٣ التجريبي أو المقترن بالتجربة مُثْمِر خصيب، مِدْعاة للتجديد والتعديل والإضافة، الفرض هو عين الإضافة، إنه بداهة منهاج لا يعود إلى قياس أرسطو العقيم، بل ولا علاقة له أصلًا بأرسطو؛ حيث إن مَنْطِقه هو منطق العلاقات، المنطق الرياضي أو الرمزي الحديث، وبتأمل هذا لاحَظْنَا أننا بإزاء جدلية واضحة:
  • (أ)

    في المرحلة الوسيطة ساد الاستنباط الأرسطي: القضية.

  • (ب)

    في المرحلة الحديثة ساد الاستقراء التجريبي: سلب القضية أو نقيضها.

  • (جـ)

    في المرحلة المعاصرة المنهج الفرضي الاستنباطي: مُرَكَّب جَدَلِيٌّ يَجْمع خير ما فيهما ويتجاوزهما للأفضل.

ويَبْرز التساؤل: منهج العلم «وحدة أم تَنَوُّع»؟١٤ والإجابة أنه واحد، وهو متنوع.

فقد أصبح علم مناهج البحث من أخص خصائص الفلسفة، وهو مركب جدلي من الوصفية والمعيارية، فالفلسفة هي الوعي بموضوعها، الوعي المتميز عن الفهم التفصيلي التفتيتي، بأنه أشمل نظرة لما هو كائن، تأصيلًا له، واستشرافًا لما ينبغي أن يكون: استشراف الطبائع العامة المميزة للبحث العلمي في أُطُرها المنطقية الصورية والثبوتية اللزومية، علم مناهج البحث حين يتعرض للمنهج التجريبي بهذه النظرة الجذرية التأصلية والشمولية الاستشرافية، يحاول الاهتداء إلى سمات البنية والقسمات الجوهرية، فيكون المنهج الفرضي الاستنباطي — كما كان المنهج الاستقرائي — هو التصور الفلسفي المنطقي للهيكل العام الذي يحدِّد أسلوب التعامل العلمي مع الواقع؛ لذلك فهو واحد.

ولكن الواقع العلمي متنوع، فالعلم التجريبي للبكتيريا غير العلم التجريبي للفلك، غير العلم التجريبي للنفس … وبطبيعة الحال لا بد أن تختلف طرائق البحث وأساليبه الإجرائية وتقاناته الأمبيريقية مِنْ عِلْم إلى علم، بل إنها تختلف داخل العلم الواحد أولًا تبعًا لدرجة تَقَدُّمه، وثانيًا تبعًا لزوايا ومستوياتِ تناوُله لموضوعه، وعلى هذه الاختلافات الإجرائية ينصَبُّ اهتمام العلماء المتخصصِين كلٍّ يسخِّره لخدمة موضوعه، وبما يتلاءم مع الطبيعة النوعية لمادة بحثه بكل تميزها وخصوصيتها عن مواد العلوم الأخرى، بهذا المنظور التخصصي تظهر علوم لمناهج البحث مُلْحقة بفروع العلوم المختلفة لتعالج الأساليب التقانية والوسائل الاختصاصية المتكيفة مع موضوع البحث، ومادَّته التي تختلف مِنْ عِلْم لآخر، فنجد مثلًا «مناهج البحث في علم الاجتماع» و«مناهج البحث في علم الفلك» و«مناهج البحث في الهندسة الوراثية» و«مناهج البحث في علم النفس»، وكل فرع قد ينقسم بدوره إلى فروع، فنجد «مناهج البحث في علم النفس الاجتماعي» و«مناهج البحث في علم نفس الشخصية» و«مناهج البحث في علم النفس الإكلينيكي» … إلخ، هذه المسائل المتعلقة بنوعيات الأمبيريقيات، وأساليب الممارسة الإجرائية، مسألة تخصصية يعالجها كل علم وفقًا لطبيعة مادته، والعلماء المنشغلون بها هم الأخبَر … فهي تخرج إذن عن مجالنا.

إن الفلسفة هي دائمًا النظرة الكلية الباحثة عن المبادئ العمومية الكامنة في الأعماق البعيدة، وبهذا المنظور نجد الميثودولوجي — علم مناهج البحث الذي يَدْخُل في ذات الهوية مع فلسفة العلوم — يبحث من وراء هذا الاختلاف عن الأسس العامة التي يمكن تجريدها من المواقف العلمية المختلفة؛ لنجدها أُسُسًا منطبقة لا على الفلك دون الاجتماع أو النفس دون الكيمياء، بل هي منطبقة على كل بحْث علمي من حيث هو علمي، معنى هذا أن المنهج الفرضي الاستنباطي هو المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية على السواء.

نعود إذن إلى العلوم الإنسانية، وبعد أن أحرزت كل ما أحرزته من نشأة ناضجة ونماء متواصل، وتقدم لا يُسْتَهان به، سوف يَظَلُّ التسليم بالمنهج الاستقرائي هو الكفيل بِجَعْل مشكلتها إشكالية، بل مَأْزَمَة لا مَخْرَج منها، فقد أوضَحْنا أن الطبيعة النوعية التي تختص بها ظواهر العلوم الإنسانية شديدة التعقيد كثيرة المتغيرات، واستلقاط وقائع للملاحَظة وسط كَثْرة مُتَكَثِّرة من المتغيرات، يجعل مَحْض التعميم الآلي لها مشوبًا بالقصورات والتحيزات، إن لم يكن مستحيلًا أصلًا تأسيسًا على ما عرضناه من استحالة البدء بالملاحظة، إن الاستقراء منهج آلي يرسم طريقًا للفرض — أي فرض — بغير مراعاة للطبائع النوعية المتغيرة لموضوعات البحوث.

أما التسليم بالمنهج الفرضي الاستنباطي فيفتح الباب على مصراعيه لإمكانية مراعاة الطبائع النوعية المتباينة، ما دام منهجًا لا يرسم طريقًا للفرض، طريقًا ربما يَصْلح للفروض بشأن ظاهرة ولا يَصْلح لأخرى.

لقد ارتدت حيثيات مشكلة العلوم الإنسانية إلى عامِلَيْن هما العلاقة بين الباحث وبَحْثه، وطبيعة موضوع البحث، وبديهي أن الطبيعة النوعية لموضوع البحث بكل خصائصها وتميزاتها وتعقداتها، لا بد طبعًا أن تنعكس في الفروض المصوغة بشأن الظاهرة، والمنهج الفرضي الاستنباطي يُطْلق العنان لطاقات العلماء الإبداعية لتنطلق فروض جريئة تلائم الطبائع المعقَّدة لظواهر العلوم الإنسانية، وتتعامل معها بنجاح. وكلما كانت الفروض أكثر جرأة، كانت مَحَلَّ ترحيب أكبر، وكانت أقدر على الإحاطة بالظواهر، ولا خوف البتة من جنوحات الجرأة ما دامت الفروض المصوغة — ومهما كانت جريئة — منهجيًّا سوف تَخْضع النتائج المستنبَطة منها للاختبار التجريبي، ومنطقيًّا لمعيار القابلية للتكذيب، هكذا يحمل التساوق المنهجي (الفرضي الاستنباطي) إمكانات درء العامل الثاني، لا سيما في حالة الاستعانة بالخاصة المنطقية — معيار القابلية للتكذيب — الكفيلة بدرء العامل الأول، وقبل أن نعالِج درء العامل الأول بشيءٍ من التفصيل لا بد من الإشارة إلى أن مواجهة الطبيعة النوعية للظواهر الإنسانية لا تقتصر على إطلاق جرأة الفروض، بل إن الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة تعني خروجًا منهجيًّا — أي على مستوى المنهج أو من زاويته — من مشكلة العلوم الإنسانية، ودخولًا منهجيًّا إلى إمكانات تقدمِيَّة كالمتاحة للعلوم الطبيعية، وهذا هو موضوع الفصل التالي من الكتاب.

هوامش

(١) د. علا مصطفى أنور، التفسير في العلوم الاجتماعية، ص٨٣. وطبعًا بوبر وكثيرون معه يَرَوْن المرحلة الوصفية أيضًا ذات خاصية استنباطية، فالعلم التجريبي بأسره هكذا، ولكننا يهمنا الآن التفسير. انظر في استنباطية التفسير العلمي:
C. Hempel & P. Oppenheim, The Logic Of Explaination, In: H Feigle & M. Brodbeck (Eds.) Reading In The Philosophy Of Science, New York, 1952.
(٢) K. Popper, The Logic Of Scientific Discovery, P. 35.
(٣) ألبرت أينشتين، أفكار وآراء، ترجمة د. رمسيس شحاتة. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، سنة ١٩٨٦. ص٥.
(٤) السابق، ص٦.
(٥) Bertrand Russell, The Scientific Outlook, Op. Cit, p. 33.
(٦) إننا مُلْزَمُون بتصويب الانتباه فقط على التقابل بين الاستنباط الأرسطي والاستقراء العلمي، ولا يَسْمَح لنا سياق الكتاب ولا موضوعه بالاستطراد أكثر في العوامل الخارجية لحركة العلم، ولكن ينبغي الإقرار بأن «قراءة كتاب الطبيعة المجيد» لم تكن مَحْض لافتة ظاهرة مصطَنَعة لمواجهة رجال الدين، بل استندت إلى إيمان ديني قوي، إن نجاح حركة العلم الطبيعي بَلَغَ ذروته في إنجلترا التي اكتمل فيها نسق الفيزياء الكلاسيكية، حيث يلقب مؤرخو العلم القرن ١٧ بعصر انفجار العبقرية الإنجليزية، ولم يكن غريبًا أن نجاح الإصلاح الديني، واكتمال البروتستانتية كان أيضًا في إنجلترا، وعوامل نجاح الحركتين تشترك في الثورة على رجال الدين والسلطة الدينية، وليس على الدين نفسه، بل مِنْ أَجْل الدين، وكما أشار ف. بآومر: اعتَقَدَ بيكون مع جهابدة الجمعية الملكية أنهم يدرسون توراة الطبيعة، وأن للعلم روافد دينية جياشة تَكْشِف قدرة الله التي تتجسم في خلائقه، غير أن هذا الاعتقاد لم يَحُل دون قيام بيكون بحماية العلم من تَدَخُّل اللاهوت «تاريخ الفكر الأوربي الحديث، ج١ ص٧٨» بهذا نفهم كيف أن جون راي وهو في طليعة الفيزيوكميائيين في تلك المرحلة، قد أخرج في نهاياتها (١٦٩١) كتابًا جعل عنوانًا: (حكمة الرب كما تتجلى في أفعال الخلق The Wisdom Of God As Manifested In The Work Of Creation)، فقد ظلت العقيدة الدينية الحارة للعلماء تدفع حركة العلم في القرن السابع عشر خصوصًا أن هذه المرحلة المبكرة قد سادتها فكرة أن القانون مفروض على الطبيعة من لَدُن الرب، ولم يبدأ العلم في المساس بالإيمان الديني لعلماء الطبيعة إلا في القرن التاسع عشر، ولعل هذا كله تراجع في قَرْنِنا ليلزم كل من العلم والدين مكانه في العقول والصدور.
(٧) كلود برنار، مقدمة لدراسة الطب التجريبي، ترجمة د. يوسف مراد وحمد الله سلطان، المطبعة الأميرية، القاهرة سنة ١٩٤٤. ص٢٣، وما بعدها.
(٨) J. S. Mill System Of Logic, Book: I, ed. By J. M. Robson Routledge & Kegan Paul, London, 1973. PP. 284–287.
(٩) Jerold Katz, Problem Of Induction And Its Soclutions. The University Of Chicago Press, 1962. P. 17.
(١٠) K. Popper, Conjectures And Refutatuions P. 47. And: The Logic Of Scientific Discovery, P. 100.
ولمزيد من التفاصيل والإحاطة انظر فصل «الاستقراء خرافة» من كتابنا المذكور «فلسفة كارل بوبر» ص١٣٥-١٣٦.
(١١) Werner Heisenberg, Physics And Beyond: Memories Of Life In Science, Trans By: A. G. Pomerans, George Allan & Un-win, London, 1971. P. 63.
(١٢) Ibid, P. 123.
(١٣) صَدَرَت دراسة اجتمع عليها أعظم فلاسفة العلم حول إمكاناته وحدوده، وكيف أنه يؤدي إلى تفسير أكفأ لمنهج العلم: See: A. Grunbaum & W. Salman, The Limits Of Deductivism, University Of California Press.
(١٤) د. أسامة أمين الخولي، في مناهج البحث العلمي: وحدة أم تنوع؟ عالم الفكر، العدد الأول: المجلد العشرون، يونيو ١٩٨٩، الكويت ص٣–٢١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤