الفصل الثالث

سُلم سانت رايثا

وقف الطبيب المساعد الذي فُصل بنحوٍ فوري، والذي تُرك بمفردِه، يفكِّر للحظةٍ بعمق واضح قبل أن يتحركَ نحو مكتب رانسفورد ويأخذ الشيك. ونظر فيه بتمعُّن، وطواه بدقة، ووضعه في محفظته، وبعد ذلك شرَع في جمع متعلقاته القليلة، وأدواته، وكُتبه من أدراجٍ ورفوفٍ مختلفة. وبينما كان يضع هذه الأشياءَ في حقيبة يدٍ صغيرة، سمع طرقًا خفيفًا على الباب الذي يدخل منه المرضى إلى العيادة.

صاح: «ادخل!»

لم يكن هناك رد، رغم أن الباب قد فُتح قليلًا؛ بدلًا من ذلك، تكرَّر الطرق، وعند ذلك سار برايس عبر الغرفة وفتح الباب.

وقف رجلٌ في الخارج — وهو رجل مسن، نحيفُ الجسم، هادئ المظهر، وكان ينظر إلى برايس بطريقةٍ تنمُّ عن بعض الانزعاج والعصبية، وهي طريقةٌ تشي بأنه رجلٌ خجول ومن الواضح أنه يخشى أن يبدوَ وكأنه يتطفَّل. عاينَته عينا برايس السريعةُ والملاحِظة في لمحة، ولاحظَت وجهًا مرهقًا ومتغضنًا، وشعرًا رماديًّا خفيفًا وعينَين متعبتين؛ فقال لنفسه: إن هذا رجل قد عانى الكثيرَ من المتاعب. ومع ذلك، فهو ليس رجلًا فقيرًا، إذا كان مظهره العامُّ هو ما يجب أن يُقرر من خلاله؛ فقد كان يرتدي ملابسَ جيدة، بل وحتى باهظة الثمن، بأسلوبٍ يتميز به عمومًا رجالُ المدينة والتجَّار الميسورو الحال؛ إذ كانت ملابسه عصرية، وقبعته الحريرية جديدةً، وملابسه وحذاؤه لا غبارَ عليهما، وكان يوجد دبوسٌ ماسي رائع يلمع في ربطة عنقه المربوطة بعناية. لماذا، إذن، هذه الطريقة المتخفِّية وشبه المرتعبة التي لا لبس فيها — والتي بدأَت تخفُّ حدَّتها بعض الشيء عند رؤية برايس؟

سأل الرجل الغريب: «هل هذا … هل دكتور رانسفورد بالداخل؟» وتابع: «قيل لي إنَّ هذا منزله.»

أجاب برايس: «إن دكتور رانسفورد غيرُ موجود.» وأضاف: «لقد خرج للتوِّ — منذ أقلَّ من خمس دقائق. هذه هي عيادته. هل يُمكنني مساعدتك؟»

تردَّد الرجل، ونظر إلى ما وراءَ برايس داخل الغرفة.

ثم قال في النهاية: «كلا، شكرًا لك.» وتابع: «أنا، لا، أنا لا أريد خدماتٍ طبِّية؛ لقد حضرتُ فقط لمقابلة دكتور رانسفورد؛ أنا — في الحقيقة — أنا عرَفتُ يومًا رجلًا بهذا الاسم. لا يهمُّ هذا في الوقت الحاضر.»

خطا برايس إلى الخارج وأشار عبر كلوس.

وقال: «لقد ذهب دكتور رانسفورد إلى هناك — أظن أنه ذهب إلى مقرِّ عميد الكاتدرائية — فهو لديه حالةٌ هناك. إذا ذهبتَ عبر بارادايس، فمن المحتمل جدًّا أن تُقابله وهو عائد، إن مقر العميد هو المنزل الكبير الذي في الركنِ البعيد هناك.»

نظر الغريبُ في الاتجاه الممدود فيه إصبعُ برايس.

وقال متسائلًا: «بارادايس؟» وتابع: «ما هو بارادايس؟»

أشار برايس إلى امتدادٍ طويل من الجدار الرمادي، يمتدُّ من الجدار الجنوبي للكاتدرائية إلى كلوس.

وقال: «إنه فِناءٌ مسيَّج — بين الرِّواق الجنوبي والجَناح.» وأضاف: «إنه مليءٌ بالمقابر والأشجار العتيقة — وهو مكان مهجور — ولا أعرف لماذا سُمي بارادايس. هناك طريقٌ مختصر عبْرَه يؤدي إلى مقرِّ العميد وذلك الجزء من كلوس من خلال ذلك الممرِّ المقنطر الذي تراه هناك. إذا ذهبتَ عبره، فمن المؤكد أنك ستُقابل دكتور رانسفورد.»

قال الغريب: «أنا ممتنٌّ لك كثيرًا.» وأردف: «شكرا لك.»

ومن ثَم استدار مبتعدًا في الاتجاه الذي أشار إليه برايس، بينما عاد برايس للداخل فقط ليُعاود الخروجَ مرة أخرى ويُناديَ عليه.

سأله: «إذا لم تُقابله، فهل أخبره أنك ستعود لزيارته مرة أخرى؟»

وأردف: «ما اسمك؟»

هزَّ الغريب رأسه.

وأجاب: «لا يُهم.» وتابع: «سأراه — في مكانٍ ما — أو لاحقًا. شكرًا جزيلًا لك.»

ثم ذهب في طريقه نحو بارادايس، وعاد برايس إلى العيادة وأكمل استعداداتِه للمغادرة. وفي غضون ذلك، نظر أكثرَ من مرة عبر النافذة إلى الحديقة ورأى ماري بيوري وهي لا تزال تسير وتتحدَّثُ مع الشاب ساكفيل بونهام.

فتمتمَ محدِّثًا نفسَه: «كلا.» وتابع: «لن أذهب لتوديع أحدٍ — ليس بسبب تلميح رانسفورد، ولكن لأنه لا توجد ضرورةٌ لذلك. إذا اعتقد رانسفورد أنه سيجبرني على الخروج من رايتشستر قبل أن أختار أنا الذَّهاب، فهو مخطئٌ بشدة — سيكون هناك وقتٌ كافٍ لأقول وداعًا عندما أُغادر — لكنه لم يَحِن بعد. والآن تُرى مَن كان ذلك الرجل العجوز؟ لقد كان يعرف يومًا رجلًا باسم رانسفورد، أليس كذلك؟ من المحتمل أن يكون هو رانسفورد نفسه — وفي هذه الحالة فهو يعرف الكثيرَ عن رانسفورد أكثر ممَّا يعرفه أيُّ شخص في رايتشستر — لأنه لا أحد في رايتشستر يعرف أيَّ شيء عنه سوى منذ سنواتٍ قليلة مضَت. كلا يا دكتور رانسفورد! لا وداعَ لأيِّ شخص! مجرد رحيل إلى أن أعود مرة أخرى.»

لكن برايس لم يكن ليبتعدَ عن البيت القديم من دون شيء فيه ما يُشبه الوداع. فبينما هو يخرج من العيادة عبر المدخل الجانبي، ظهرت ماري بيوري، التي ودَّعَت لتوها الشابَّ بونهام في الحديقة وكانت على وشك زيارةِ كِلابها في ساحة الإسطبل: فالتقَت هي وبرايس وجهًا لوجه. ومن ثَم احمرَّ وجه الفتاة، ليس من الإحراج بقدرِ ما هو من الغضب، ولم يُظهر برايس، الباردُ كالعادة، أيَّ علامة على الإحراج. لكنه بدلًا من ذلك، ضحك، ونقر على حقيبة اليد التي كان يحملها تحت إحدى ذراعَيه.

ثم قال: «لقد طُردتُ دون إخطار — كما لو كنت أسرق الملاعق.» وأضاف: «وها أنا ذا أُغادر، أنا ومتعلَّقاتي الصغيرة. هذه هي جائزتي الأولى — على الإخلاص.»

ردَّت ماري، وهي تتحرك مبتعدةً عنه موجِّهةً إليه نظرةً غاضبة للغاية: «ليس لديَّ ما أقوله لك.» وأردفَت: «سوى أنك جلبتَه على نفسك.»

قال برايس ملاحظًا: «ردٌّ أنثوي للغاية!» وتابع: «لكن لا يوجد فيه أيُّ حقد، أليس كذلك؟ لن يستمر غضبُكِ أكثرَ من … هل نقول يومًا؟»

أجابت: «يُمكنك أن تقول ما يُعجبك.» وتابعَت: «فكما قلتُ للتو، ليس لديَّ ما أقوله — الآن أو في أي وقتٍ آخر.»

قال برايس: «لا يزال يتعيَّن إثباتُ ذلك.» وأردف: «فالعبارة واحدةٌ من العبارات الفضفاضة للغاية. لكن في الوقت الحاضر عليَّ أن أذهب!»

ومِن ثَم خرج مبتعدًا نحو كلوس، ودون أن ينظر خلفه سار عبر المَرْج الأخضر في الاتجاه الذي أرسل إليه الرجلَ الغريب قبل عشرِ دقائق. لقد كانت لديه شقةٌ في حارة هادئة على الجانب الآخَر من نطاق الكاتدرائية، وكان ينتوي حاليًّا الذَّهابَ إليها لتركِ حقيبته وإجراء بعضِ الترتيبات الإضافية. إذ لم يكن لديه أيُّ نيةٍ لمغادرة رايتشستر — فهو يعرف طبيبًا آخر في المدينة كان في حاجةٍ ماسة إلى مساعد؛ لذا كان سيذهب إليه وسيُخبره، إذا لزم الأمر، لماذا ترك رانسفورد. كان لديه العديدُ من المخطَّطات والأفكار في رأسه، وبدأ يُفكر في بعضها بينما كان يخرج من كلوس ويدخل الفِناء العتيق الذي يعرفه جميعُ أهل رايتشستر باسمه الموقَّر بارادايس. كان هذا بالفعل فِناءً خارجيًّا للأدْيرة العتيقة؛ جُدرانه العالية، شِبه المتهدِّمة، والمغطَّاة بالكامل تقريبًا باللبلاب، تُحيط بمساحة من العشب، المغطاة بكثافة بشجيرات الصنوبر والسرو، والممتلئة بالمقابر وشواهد القبور. في أحدِ أركانه، توجد شجرةُ دردار عملاقة، وفي ركنٍ آخر، سُلَّم حجري مكسور يؤدي إلى مدخل مرتفع في جدران الصحن، وعبر الفِناء نفسِه يوجد مسارٌ يؤدي إلى المنازل في الزاوية الجنوبية الشرقية من كلوس. إنه بقعة غريبة، وكئيبة، يتردَّد عليها القليلُ من الأشخاص الذين يمرُّون عبْرَها بدلًا من اتباع المسارات المفروشة بالحصى خارجَه، ولم يكن هناك أحدٌ من المارة عندما خَطا برايس إليها. ولكن بينما هو يسير عبر الممر المقنطر رأى رانسفورد. كان رانسفورد يخرج مسرعًا من بابٍ خلفي في الرِّواق الغربي — مسرعًا بشدة لدرجة أن برايس خفضَ من سرعة مِشيته كي ينظرَ إليه. وعلى الرغم من أن المسافة بينهما كانت عشرين ياردة، فقد رأى برايس أن وجه رانسفورد كان شاحبًا جدًّا، وأبيضَ للغاية كما لو قد فرَّت منه الدماءُ، وأنه كان مضطربًا بشكلٍ لا لبسَ فيه. وعلى الفور ربط هذا الاضطرابَ بالرجل الذي قد جاء لزيارته في العيادة.

قال برايس متأملًا، وقد توقَّف، وهو يُحدق في هيئة رانسفورد الذي كان يبتعدُ عن المكان: «لقد تقابَلا!» وتابع: «والآن ما الذي أزعج رانسفورد لمجرد رؤية ذلك الرجل؟ إنه يبدو وكأنه قد تعرَّض لصدمةٍ شديدة وغير متوقَّعة — صدمة صعبة!»

وهكذا ظل برايس واقفًا في الممر، يُحدق في هيئة رانسفورد وهو يبتعد، حتى اختفى داخلَ حديقته الخاصة، ثم وهو لا يزال يتساءل ويخمِّن، ليس حول شئونه الخاصة، سار في النهاية عبر بارادايس وشقَّ طريقه نحو شقتِه. كانت هناك بوابةٌ صغيرة مثبَّتة على الجدار الذي تسلَّقَته شجيراتُ اللبلاب، وعندما فتحها برايس، خرج من بين الشجيرات رجلٌ يجري، وهو يرتدي ملابسَ عاملِ بناء بالحجر، ميَّزه على أنه أحد العمال التابعين لرئيس عمال البناء بالحجر. وكان وجهُه، هو أيضًا، شاحبًا للغاية، وعيناه جاحظتَين من الانفعال. وحينما تعرَّف على برايس، توقَّف، وهو يلهث.

سأله برايس بهدوء: «ما الأمر، يا فارنر؟» وتابع: «هل حدث شيء؟»

مرَّر الرجل يدَه على جبهته كما لو كان في حالةِ ذهول، ثم حرَّك إبهامه المرتعش فوق كتفه.

وقال وهو يلهث: «هناك رجل!» وتابع: «أسفل سُلم سانت رايثا هناك، يا دكتور. إنه ميت — أو إذا لم يكن ميتًا، فقد شارفَ على الموت. لقد رأيته!»

قبَض برايس على ذراع فارنر وهزها.

ثم قال بحدَّة: «ماذا رأيت؟»

قال فارنر وهو يلهث: «رأيتُه يسقط. أو على وجه الدقة، يُلقى من أعلى!» وأردف: «شخصٌ ما — لم أستطِع رؤيته، على الإطلاق — ألقاه من أعلى مباشرةً عبر ذلك المدخل، هناك. لقد سقطَ مباشرة على درجات السُّلم — واصطدم بعنف!» نظر برايس إلى قِمَم شجيرات الصنوبر والسرو من نوافذ الإضاءة العلوية عند المدخل الذي أشار إليه فارنر — وهو ممر مقنطر منخفض، مفتوح يُصعَد إليه عبر سُلَّم شبهِ متهدَّم. إنه يرتفع لمسافة أربعين قدمًا على الأقل عن الأرض.

ثم صاح متعجبًا: «هل رأيتَه وهو يُلقى؟!» وأردف: «وهو يُلقى من أعلى إلى الأسفل هناك؟ مستحيل، يا رجل!»

أكَّد فارنر بإصرار: «أؤكد لك أنني رأيتُ ذلك!» وتابع: «لقد كنتُ أتفحَّص واحدةً من تلك المقابر العتيقة هناك — حيث يريد شخصٌ ما إجراء بعض الإصلاحات — وأحدثت الغربان ضجةً بالقرب من السقف فنظرتُ نحوها لأعلى. فرأيت هذا الرجلَ يُلقى من خلال ذلك الباب — لقد أُلقي عبرَه من أعلى! يا إلهي! هل تظن أنني يُمكن أن أُكذِّب عينَيَّ؟»

سأله برايس: «هل رأيتَ مَن ألقاه؟»

أجاب فارنر: «كلا؛ لقد رأيتُ يدًا — لثانية واحدة فقط، على ما يبدو — على حافة المدخل.» وأردف: «لقد استرعى الرجلُ الآخَرُ انتباهي أكثر! إذ ترنَّح نوعًا ما لثانيةٍ على درجة السُّلم التي توجد خارج الباب، وانقلب وصرخ — يُمكنني سَماع صرخته الآن! — واصطدمَ بأحجار الرصف في الأسفل.»

قال برايس بحدة: «منذ متى؟»

قال فارنر: «خمس أو ستِّ دقائق.» وتابع: «لقد هُرِعت إليه وحاولتُ أن أفعل ما بوسعي. لكنني أدركتُ أن ذلك لن يُفيد، لذلك كنت أركض لإحضار المساعدة …»

دفعه برايس نحو الشجيرات التي كانا يقفان بجوارها.

وقال: «خذني إليه.» وأضاف: «هيا!»

استدار فارنر إلى الوراء، وشقَّ طريقه عبر أشجار السرو. وقاد برايس إلى أسفلِ السور الكبير للصحن. وهناك في الركن الذي تشكَّل بزاويةِ صَحن الكاتدرائية والجناح، على رصيفٍ عريض من أحجار الرصف، كان يرقد جسدُ رجل متكوِّم في وضعٍ ملتوٍ بنحوٍ غريب. وبنظرة واحدة، حتى قبل أن يصل إليه، عرَف برايس لمن كانت تلك الجثةُ — إنها جثة الرجل الذي جاء، بخجلٍ وتخفَّى، لزيارة رانسفورد.

صاح فارنر متعجبًا، وهو يُشير إلى الرجل على نحوٍ مفاجئ: «انظر!» وتابع: «إنه يتحرَّك!»

رأى برايس، الذي ثبتَ نظره على الجثة الملتوية، حركةً طفيفة وقد توقفَت فجأةً كما حدثَت فجأةً. ثم توقفَت الجثة عن الحركة تمامًا. فغمغمَ قائلًا: «إنها النهاية!» وتابع، بينما كان يصلُ إلى الجثة ويجلس على ركبةٍ واحدة بجوارها: «لقد مات الرجل! أنا واثقٌ من ذلك قبل أن أضعَ يدي عليه. إنه ميت بالفعل!» ثم أضاف: «إن رقبته مكسورة.»

فانحنى عامل البناء ونظَر، ببعضٍ من الفضول والخوف، إلى الرجل الميت. ثم نظر إلى الأعلى — إلى الباب المفتوح بالأعلى فوقهما في الجدران.

وقال: «إنها سقطةٌ مخيفة، يا سيدي.» وتابع: «وقد هبط بعنفٍ شديد. هل أنت متأكِّد من أنه لا جدوى من محاولة إسعافه؟»

أجاب برايس: «لقد مات بمجرد وصولنا.» وأضاف: «تلك الحركة التي رأيناها كانت المحاولةَ الأخيرة — وهي لا إرادية، بالطبع. انظر هنا يا فارنر! سيكون عليك إحضارُ مَن يُساعدنا. من الأفضل إحضارُ بعض أهل الكاتدرائية؛ بعض من خُدامها. لا!» كان هذا ما قاله قبل أن يتوقَّف فجأةً عن الكلام، عندما بدأَت النغمات المنخفضة لأرغن تأتي من داخل المبنى الكبير. ثم تابع: «لقد بدَءوا القدَّاس الصباحي للتو — بالطبع، إنها الساعة العاشرة. لا عليك منهم؛ اذهب مباشرة إلى الشرطة. أحضِرهم معك، وأنا سأبقى هنا.»

انطلق عامل البناء باتجاهِ بوابة كلوس، وبينما كانت ترتفعُ نغمات الأرغن، انحنى برايس على جثة الرجلِ الميت، وأخذ يتساءل في نفسه عمَّا حدث بالفعل. هل أُلقي الرجلُ من بابٍ مفتوح في نوافذ الإضاءة العُلوية فوق سُلَّم سانت رايثا؟ … إن هذا الأمر كان يبدو شبهَ مستحيل! لكن فجأةً طرأت على ذهنه فكرة: افترض أنَّ رجلَين، يرغبان في التحدُّث على انفرادٍ دون أن يُلاحظهما أحد، قد صعدا إلى داخل مقصورة الكاتدرائية — حيث يُمكنهما ذلك بسهولة، عبر أكثرَ من باب، وأكثر من سُلم — وافترض أنهما قد تشاجرا، فألقى أحدُهما بالآخر أو دفَعه عبر الباب بالأعلى — ماذا بعد ذلك؟ وفي أعقاب هذا الفكرة، تواتَرَت أخرى — إن هذا الرجل، الذي يرقد ميتًا الآن، جاء إلى العيادة، باحثًا عن رانسفورد، وفي أعقاب ذلك ذهب، على الأرجح بحثًا عنه، وبرايس نفسُه قد رأى رانسفورد للتو، وكان من الواضح أنه منزعجٌ وشاحب الوجه، أثناء مغادرته للرواق الغربي؛ ماذا يعني كلُّ هذا؟ وما الاستنتاج الواضح على ما يبدو الذي يمكن استخلاصه؟ فهنا يرقد الغريب ميتًا — وفارنر مستعدٌّ للقسَم أنه رآه يُلقى، يُقذَف بعنف، من خلال الباب الذي على ارتفاع أربعين قَدمًا. إن هذه جريمةُ قتل! إذن، فمن هو القاتل؟

نظر برايس حوله بحذرٍ ودقة. فالآن بعد أن ذهب فارنر، لم يكن هناك أيُّ إنسان على مرمى البصر، ولا في أيِّ مكان قريب، على حد علمه. وعلى أحدِ جانبَيه هو والرجل الميت توجد الجدران الرمادية للصحن والجناح، وعلى الجانب الآخر، توجد أشجار السرو والصنوبر التي تقف بين القبور والآثار القديمة. وهكذا بعدما تأكَّد من عدم وجود أحدٍ بالقرب منه، أو عينٍ تُراقبه، وضع يده في الجيب الداخلي العلوي للمعطف الصباحي الأنيق الذي كان يرتديه الرجلُ الميت. مثلُ هذا الرجل يجب أن يحمل أوراقًا — والأوراق ستكشف شيئًا. وأراد برايس أن يعرف أيَّ شيء — أي شيء من شأنه أن يُطلِعَه على معلوماتٍ ويكشفَ له عن أيِّ سرٍّ قد يكون موجودًا بين هذا الغريب السيِّئ الحظ ورانسفورد.

لكن جيب المعطف العلوي كان فارغًا؛ لم تكن به محفظة، ولم تكن هناك أيُّ أوراق. ولم تكن هناك أيُّ أوراق في الجيوب الأخرى التي فتَّشَها على عجَل: لم تكن هناك حتى بطاقة عليها اسم. لكنه عثر على حقيبةٍ صغيرة ممتلئة بالنقود — الأوراق النقدية والعملات الذهبية والفضية — وفي أحد أجزائها قصاصة من الورق مطويةٌ على نحوٍ غريب، على غرار الرسائل المطوية على شكل القبعات المردودة التي تعود إلى عصرٍ سابق حيث لم تكن الأظرفُ قد اختُرِعت بعدُ. فتح برايس الورقةَ على عجَل، وبعد نظرة واحدة على محتواها، سارع إلى وضعها في جيبه. وما إن فعل هذا وأعاد الحقيبة إلى وضعها السابق حتى سمع صوتَ فارنر، وبعد ثانيةٍ صوتَ المفتش ميتشينجتون، وهو رجل شرطة معروف. عندئذٍ، نهض برايس ووقف على قدمَيه، وعندما خرج عامل البناء ورفاقه من بين الشجيرات، كان هو واقفًا ينظر بتمعُّن في الرجل الميت. ثم التفت إلى ميتشينجتون وهو يهز رأسه.

وقال بصوتٍ خافت: «إنه ميت!» وتابع: «مات بمجرد أن وصلنا إليه. لقد كُسِرت عظامه — في رأيي — وخاصة الرقبة والعمود الفِقري. أعتقد أن فارنر قد أخبرك بما رآه.»

أومأ ميتشينجتون برأسِه موافقًا، وهو رجل دقيق الملاحظة، داكن البشرة، سريعُ الحركة، وبعد نظرةٍ واحدة على الجثة، نظر إلى الباب المفتوح فوقهم بالأعلى.

وسأل، وهو يلتفتُ إلى فارنر: «هل هذا هو الباب؟» وتابع: «وهل كان مفتوحًا؟»

أجاب فارنر: «إنه مفتوحٌ دائمًا.» ثم أردف: «على الأقل، لقد كان مفتوحًا، هكذا، طوالَ هذا الربيع، على حد علمي.»

سأل ميتشينجتون: «ما الذي يوجد خلفه؟»

أجاب فارنر: «مقصورةٌ من نوعٍ ما، تُحيط بالصحن كلِّه.» وتابع: «إنها مقصورةُ نوافذِ الإضاءة العلوية. يمكن للناس الصعودُ إلى هناك والتجوُّلُ فيها — الكثير منهم يفعلون — وخاصة السيَّاح، كما تعلم. هناك طريقان أو ثلاثة للوصول إليها — عبر سلالمَ في الأبراج.»

التفتَ ميتشينجتون إلى أحد الشرطيَّين اللذَين تبعاه.

وقال: «دَعْ فارنر يُرِكَ الطريقَ إلى الأعلى.» وأضاف: «اذهب بهدوء — ولا تُثِر أيَّ ضجة — لقد بدأ القداس الصباحي للتو. لا تقُل شيئًا لأيِّ شخص — فقط ألقِ نظرةً هادئة حول المكان، عبر تلك المقصورة، وخاصة بالقرب من ذلك الباب هناك — وعُد إلى هنا.» ثم نظر إلى الرجل الميت مرةً أخرى عندما ذهب عامل البناء والشرطي. وقال: «إنه غريب، على ما أعتقد، يا دكتور — سائحٌ، على الأرجح. لكنه قد أُلقي من أعلى! إن هذا الرجل الذي يُدعى فارنر مُحق. إن الأمر يبدو وكأنه حادث مدبَّر.»

قال برايس مؤكدًا: «أوه، ليس هناك شكٌّ في ذلك!» وأردف: «سيتعيَّن عليك التحقيقُ في الأمر بعمق. لكن الكاتدرائية من الداخل متشعِّبة مثل جُحْر أرنب، وأيًّا كان مَن ألقى الرجل من هذا المدخل لا شك أنه يعرف كيف يهرب من دون أن يُلاحظه أحد. والآن، سيتعيَّن عليك نقلُ الجثة إلى المشرحة، بالطبع — لكن دعني أُحضر دكتور رانسفورد أولًا. أود أن يفحصَها طبيبٌ آخرُ غيري قبل نقلِها — سأحضره هنا في غضون خمس دقائق.»

ومِن ثَم استدار مبتعدًا عبر الشجيرات وعندما وصل إلى كلوس أخذ يركض عبر المروج في اتجاهِ المنزل الذي غادره قبل أقلَّ من عشرين دقيقة. وقد سيطرَت على ذهنه فكرةٌ واحدة أثناء الجري — أراد أن يرى رانسفورد وجهًا لوجه مع الرجل الميت — أراد أن يُراقبه، ويُلاحظه، ويرى كيف سيبدو، وكيف سيتصرف. وعندئذٍ سيعرف شيئًا.

لكن كان عليه أن يعرفَ شيئًا قبل ذلك. ففتح باب العيادة فجأةً ولكن بهدوئه المعتاد غيرِ المحسوس. وتوقَّف على العتبة. ووجد رانسفورد واقفًا بالداخل، تبدو على هيئته أماراتُ اليأس الشديد، ووجهُه متشنِّج، وقد أخذ يضرب بقبضةِ يده راحةَ اليد الأخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤