الفصل الخامس

قصاصة الورق

عندما أخرج برايس، في غرفته المغلَقة، قطعةَ الورق تلك من جيبه، كانت لديه قَناعة أنها تحمل دليلًا سيكشف سرَّ مغامرة الصباح. لقد ألقى عليها مجردَ نظرةٍ خاطفة عندما التقطها من حقيبة الرجل الميت، لكنه رأى ما يكفي مما هو مكتوبٌ فيها ما يجعله متأكدًا من أنها وثيقة — إذا كان من الممكن أن يُطلق على قطعة الورق الصغيرة هذه وثيقةً — ذاتُ أهمية غير عادية. ومن ثَم بسَطها ووضعها بنحوٍ مسطَّح على طاولته، ونظر فيها بعناية، وهو يسأل نفسه ما هو المعنى الحقيقي لما كان يراه.

لم يكن هناك الكثيرُ لرؤيته. من الواضح أن قصاصة الورق نفسَها كانت رُبع ورقةٍ من ورق الملاحظات السَّميك، العتيقِ الطِّراز، المصفرِّ بعض الشيء بفعلِ مرور الزمن، وتحمِل ما يدلُّ على طيِّها وإبقائها مسطحةً في حقيبة الرجل الميت بعضَ الوقت — كانت التجاعيد محددةً بشكل واضح، والحواف باليةً وملطخة قليلًا نتيجة فركِها مدةً طويلة مع الجلد. وفي وسطها بضعُ كلمات، أو، على وجه الدقة اختصارات كلمات، باللاتينية، وبعض الأرقام:
In Para. Wrycestr. juxt. tumb.
Ric. Jenk. ex cap. xxiii. xv.
اعتبرها برايس للوهلة الأولى نسخةً من نقشٍ ما، ولكن معرفته باللاتينية دلَّته، بعد لحظة، أنه بدلًا من أن يكون نقشًا، كان تحديدًا لمكانٍ ما. لقد كان كذلك على نحوٍ واضح للغاية! — وقد فكَّ شفرتَه بسهولة. في بارادايس، في رايتشستر، بجانب، أو بالقرب من، مقبرة ريتشارد جينكينز، أو، ربما، جينكينسون، من الرأس، ثلاثٌ وعِشرون بوصة، أو تحت السطح بخمسَ عشرة بوصة، على الأرجح. لم يكن هناك شكٌّ في وجود معنًى للكلمات. والآن، ما الذي يقع خلف قبر ريتشارد جينكينز، أو جينكينسون، في رايتشستر بارادايس — على الأرجح على بُعد ثلاثٍ وعشرين بوصةً من شاهدِ القبر، وخمسَ عشرةَ بوصة تحت السطح؟ كان هذا هو السؤالَ الذي قرَّر برايس على الفور إيجادَ إجابة مُرضية له، وفي الوقت نفسِه كانت هناك أسئلةٌ أخرى وضعَها بالترتيب في ذهنه. وهي كالتالي:
  • (١)

    مَن الرجل الذي أقام في فندق مايتر تحت اسم جون برادن؟

  • (٢)

    لماذا أراد مقابلةَ الدوق ساكسونستيد؟

  • (٣)

    هل هو رجلٌ كان يعرف رانسفورد في الماضي — ولم يكن رانسفورد يرغبُ في مقابلته مرةً أخرى؟

  • (٤)

    هل قابلَه رانسفورد — في الكاتدرائية؟

  • (٥)

    هل كان رانسفورد هو مَن ألقى به وكان السبب في أن يَلْقى حتْفَه أسفل سُلَّم سانت رايثا؟

  • (٦)

    هل هذا هو السببُ الحقيقيُّ للاضطراب الذي وُجد فيه دكتور رانسفورد بعد لحظاتٍ قليلة من اكتشاف الجثة؟

رأى برايس أنه كان أمامه متسَع من الوقت لإيجادِ الحلِّ المناسب لهذه الألغاز — ولحل مشكلةٍ أخرى قد يكون لها علاقةٌ بها — وهي تحديدُ الصلة الحقيقية بين رانسفورد وربيبيه. كان برايس، عند إخباره لرانسفورد في ذلك الصباح بما يقوله روَّاد حفلات الشاي في مدينة الكاتدرائية العتيقة، قد أخبرَه عن قصدٍ بنصف القصة فقط. إذ كان يعلم، وقد علم منذ شهور، أنَّ مجتمع كلوس كان يتساءل بقلقٍ كبير عما يحدُث في بيت رانسفورد. فرانسفورد رجلٌ عازب، ومحافظٌ على شبابه، ونشط، وقوي وهو بالتأكيد لم يتعدَّ منتصف العمر، لكن مظهره يبدو أصغرَ من عمره الفعلي، وقد جاء إلى رايتشستر قبل بضع سنوات فقط، ولم يُظهر قط أيَّ علامات على التخلي عن حالته كعازب. كما لم يسمعه أحدٌ من قبلُ يذكر عائلته أو أقاربَه؛ ثم فجأةً، ودون سابقِ إنذار، أحضر إلى منزله ماري بيوري، وهي فتاة جميلة في التاسعةَ عشْرة من عمرها، قيل إنها قد أنهَت دراستها لتوها، وشقيقها ريتشارد، الذي كان آنذاك فتًى في السادسة عشرة من عمره، والذي كان بالتأكيد في مدرسة ثانوية ذات سُمعة طيبة، وأُلحق بمدرسة رايتشستر الشهيرة التابعة لعميد الكاتدرائية بمجرد وصوله إلى منزله الجديد. وقد قال دكتور رانسفورد إنهما رَبيباه، دون مزيدٍ من الإيضاح؛ بينما بدأ مجتمعُ كلوس يرغب في مزيدٍ من الإيضاح. مَن هما هذان الشابَّان؟ هل كان دكتور رانسفورد عمَّهما أو ابنَ عمهما — ما هي صلته بهما؟ على أي حال، في رأي السيدات المسنَّات اللواتي يُحدِّدن توجُّهاتِ المجتمع في رايتشستر، كانت الآنسة بيوري صغيرة جدًّا، وجميلةً جدًّا، بحيث لا يمكن تركُها دون قيِّمةٍ عليها. ولكن، حتى ذلك الحين، لم يجرؤ أحد على قول الكثير من ذلك لدكتور رانسفورد — بدلًا من ذلك، كان الجميع يتحدَّثُ عن ذلك بحُرية من وراء ظهره.

لقد راقب برايس كلَّ ما له صلةٌ بالشابَّين. كان برايس قد أمضى عامًا في العمل مع رانسفورد عندما وصلا، وقد سمح له بصُحبتهما دون قيود، ومن ثَم سرعان ما اكتشف أنه أيًّا كانت الصلةُ الموجودة بينهما وبين رانسفورد، فلم يكن لديهما أيُّ صلة أخرى بأي شخصٍ آخر كانا يعرفانه. إذ لم تَصِلهما رسائلُ من أعمامهما، أو عماتهما، أو أبناء عمومتهما، أو أجدادهما، أو جَدَّاتهما. بدا أنهما ليس لديهما ذكرياتٌ عن الأقارب، ولا عن الأب أو الأم؛ كان هناك جوٌّ غريب من العزلة حولهما. كان لديهما الكثيرُ من الكلام حول ما يمكن تسميتُه حاضِرَهما؛ أيام دراستهما الأخيرة، وتجارِبَهما، وألعابَهما، ومساعيَهما الحديثة — لكن لم يكن أيٌّ منها، تحت أي ظرف من الظروف، يتحدَّث عن الماضي البعيد جدًّا. وقد اكتشفت أذُنا برايس السريعتان واليقظتان بعضَ الأشياء — على سبيل المثال كان رانسفورد سنواتٍ عديدةً ماضيةً قد اعتاد على أن يقضيَ إجازته السنوية التي مدتها شهران مع هذَين الشخصين. وسنةً بعد أخرى — على أيِّ حال منذ أن كان الفتى في الصفِّ العاشر — كان يأخذهما ويُسافرون؛ حيث سمع برايس أجزاءَ من ذكريات الجولات في فرنسا، وسويسرا، وأيرلندا، واسكتلندا — حتى في مناطقَ بعيدةٍ مثل أقصى شمال النرويج. كان من السهل إدراكُ أن كلًّا من الفتى والفتاة يُكِنَّان تبجيلًا كبيرًا لرانسفورد؛ بنفس سهولة إدراك أن رانسفورد كان يبذل الكثيرَ من الجهد لجعل الحياةِ أكثرَ من سعيدة ومريحة لكلَيهما. ومن ثَم سأل برايس، الذي كان أحدَ هؤلاء الرجال الذين يؤمنون إيمانًا راسخًا بأنه لا يوجد أيُّ شخص يفعل أيَّ شيء من أجلِ لا شيء وأنَّ المصلحة الذاتية هي المحفِّز الرئيسي للحياة، نفسَه مرارًا وتَكرارًا السؤال الذي أثار حفيظةَ سيدات كلوس: مَن هذانِ، وما الرابطُ بينهما وبين هذا النوع من الأوصياء المُلهمين الذين لا وجود لهم إلا في القصص الخيالية؟

والآن، بعد أن وضعَ برايس قصاصةَ الورق في درْجِ مكتب محكم الإغلاق، سأل نفسه سؤالًا آخر: هل لأحداث هذا الصباح علاقةٌ بالغموض الذي يكتنفُ هُوية ربيبَي دكتور رانسفورد؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن عليه بالقطع كشْفَ الأمر. يرجع هذا إلى أن برايس كان قد عقَد العزم على أنه، سواءٌ بالرضا أو الإجبار، سوف يتزوج ماري بيوري، وهو حريصٌ جدًّا أن يضع يده على أيِّ شيء من شأنه أن يُساعده في تحقيق هذا الطموح. إذا كان فقط بإمكانه وضعُ رانسفورد تحت سيطرته — إذا كان بإمكانه وضع ماري بيوري نفسها تحت سيطرته — فستصبح الأمورُ على ما يُرام. وبمجرد أن يحصل عليها، فسيُصبح جيدًا بما يكفي معها — بطريقته الخاصة.

ولأن برايس لم يكن لديه ما يفعله، فقد خرج بعد مدة وتمشَّى على مهلٍ إلى نادي رايتشستر — وهو مؤسسة خاصة، اختِيرَ أعضاؤها من الدوائر الثريَّة والمهنية والكنسية والعسكرية في المدينة العتيقة. وهناك، كما توقَّع، وجد مجموعاتٍ صغيرةً تُناقش مأساة الصباح، فانضمَّ إلى إحداها، وكان واحدًا من أفرادها هو ساكفيل بونهام، منافسه المفترض، الذي كان منشغلًا بإخبارِ ثلاثة أو أربعة شُبان آخَرين بما قاله زوج والدته، السيد فوليوت، عن الحدث.

قال ساكفيل، الذي اشتهَر في دوائرِ رايتشستر بأنه شابٌّ ثَرثار ومتهوِّر: «زوج أمي يقول، وأنا أؤكِّد لكم أنه رأى الرجل، إنه يقول إن أيًّا كان ما حدث فمن المؤكَّد أنه قد حدث بمجرد أن صعد الرجلُ العجوز إلى مقصورةِ نوافذ الإضاءة العُلوية. ركِّزوا معي! — إن الأمر هكذا. كان زوج أمي قد ذهب إلى هناك من أجل القدَّاسِ الصباحيِّ — وهو مترددٌ منتظمٌ على الكاتدرائية، كما تعلمون — ورأى هذا الغريب يصعد السُّلم. إن السيد فوليوت متأكدٌ أن الحادث وقع بعد ذلك بخمس دقائق إلى عشر دقائق. ومن ثَم إذن، دعني أسألكم: أليس هو، زوجُ أمي، على حقٍّ عندما قال إنه من المؤكَّد قد حدث في الحال — على الفور؟»

ثم أردف: «لأن ذلك الرجل، فارنر، عاملَ البناء، يقول إنه رأى الرجل يسقطُ قبل الساعة العاشرة. فما رأيكم؟»

أشار واحد من المجموعة برأسه نحو برايس.

وقال: «أعتقد أن برايس يعرف وقتَ وقوع الحادث أكثرَ من أي شخصٍ آخر.» وأردف: «إذ كنتَ، يا برايس، أولَ مَن وصل إلى المكان، أليس كذلك؟»

أجاب برايس باقتضاب: «بعد فارنر.» وتابع: «وبخصوص الوقت — يُمكنني توضيحُ الأمر بهذه الطريقة — كان عازفُ الأرغن قد بدأ للتوِّ عزْفَ مقطوعةٍ خاصة بالقداس أو شيءٍ من هذا القبيل.»

صاح ساكفيل بلهجةِ انتصار: «هذا يعني الساعةَ العاشرة — تمامًا — عندما عثر عليه!» ثم أضاف: «بالطبع، لقد سقط قبل ذلك بدقيقةٍ أو دقيقتَين — مما يُثبت أن السيد فوليوت كان على حق. والآن ماذا يُثبت ذلك؟ بالقطع أن مهاجمَ الرجل العجوز، أيًّا كان، لاحَقَه عبر المقصورة بمجردِ دخوله إليها، وأمسك به عندما وصل إلى المدخل المفتوح، وألقاه من خلاله! إن الأمر واضحٌ — مثل نور الظهيرة!»

كان أحدُ أفرادِ المجموعة، وهو رجل أكبر سنًّا بعضَ الشيء من البقية، مسندًا ظهرَه على كرسيٍّ مائل، ويداه في جيبَيه، بينما يُراقب ساكفيل بونهام وهو يبتسم، ثم هزَّ رأسه وضحك قليلًا.

وقال: «أنت تأخذ أحد الأمور، يا ساكي، يا بُني، على أنه مسلَّمٌ به!» وتابع: «إنك تتبنَّى رواية عامل البناء على أنها حقيقية. لكنني لا أُصدِّق أن الرجل المسكين قد أُلقِي عبر ذلك المدخلِ على الإطلاق — لا يُمكنني تصديق ذلك!»

التفت برايس بحدَّةٍ إلى هذا المتحدِّثِ — الشابِّ أرتشديل، وهو موظف في شركة معمارية معروفة.

وصاح متعجبًا: «أنت لا تُصدِّق؟» وتابع: «لكن فارنر يقول إنه رآه وهو يُلقى!»

أجاب أرتشديل: «إنه أمر محتملٌ جدًّا.» وأردف: «لكن كل هذا كان يحدثُ بسرعة كبيرة لدرجة أن فارنر قد يُخطئ بسهولة. أنا أتحدَّث عن شيء أعرفه. أنا أعرف كلَّ شبر في الكاتدرائية — من المفترض أن أكون كذلك، حيث إننا نفحصُه دائمًا، بحكمِ عمَلِنا. وهناك عند ذلك المدخل تحديدًا، على قمة سُلَّم سانت رايثا، أصبحَت أرضيةُ المقصورة باليةً على نحوٍ ناعم للغاية لدرجةِ أنها تُشبه قطعةً من الزجاج — كما أنها منحدرة! إنها تنحدر بزاوية شديدة الانحدار، أيضًا، نحو المدخلِ نفسِه. ومن ثَم يمكن لشخصٍ غريب يمشي هناك أن ينزلقَ بسهولة، وإذا كان البابُ مفتوحًا، مثلما كان، فسيندفعُ عبره في الهواء قبل أن يدرك ما الذي يحدُث.»

تسببَت هذه النظريةُ في لحظةِ صمت — كسرها أخيرًا ساكفيل بونهام.

قال ساكفيل في إصرار: «لقد قال فارنر إنه رأى — رأى! — يدَ رجل، يد رجلٍ نبيل.» وأضاف: «لقد رأى سوار قميص أبيض، وجزءًا من كُمِّ معطف. لن يُمكنك التغاضي عن ذلك، بالطبع. إنه متأكد من ذلك!»

أجاب أرتشديل بنحوٍ غيرِ مبالٍ: «يمكن لفارنر أن يكون على يقينٍ من ذلك كما يشاء، ومع ذلك ربما يكون مخطئًا. من المحتمل أن فارنر قد اختلطَ عليه الأمر بسببِ ما رآه. ربما تصوَّر أن سِوارَ القميص الأبيض وكمَّ المعطف الأسود لشخصٍ آخر — وربما كانا خاصَّين بالرجل الذي قُتل. إذا كان الرجل قد انزلق، كما أقترح، واندفع عبر ذلك المدخل المفتوح، فسيقوم ببعضِ الحركات العنيفة والغريبة في محاولةٍ لإنقاذ نفسه حيث تلعب فيها ذراعاه دورًا مهمًّا. على سبيل المثال، إنه سيُلقي ذراعًا بالتأكيد — ليُمسك بأيِّ شيء. هذا ما رآه فارنر على الأرجح. لا يوجد دليلٌ أيًّا كان على أن الرجل قد أُلقي عَنوةً نحو الأسفل.»

التفت برايس بعيدًا عن مجموعة المتحدِّثين للتفكير في اقتراح أرتشديل. إذا كان لهذا الاقتراح أساسٌ من الحقيقة، فقد دمَّر نظريته الخاصة بأن رانسفورد هو المسئول عن وفاة الشخص الغريب. وفي هذه الحالة، ما سبَّب اضطرابَ رانسفورد الواضح أثناء مغادرته الرِّواقَ الغربي، وانفعاله الشديد — الذي لا لبس فيه أيضًا — في العيادة؟ لكن ما قاله أرتشديل جعل ذهنَه ينشغل، وبعد أن مَنَّى نفسه — احتفالًا بحريته — بتناولِ غَداءٍ جيدٍ بنحوٍ غيرِ معتاد في النادي، ذهب إلى الكاتدرائية لإجراء مُعايَنة شخصية لمقصورة نوافذ الإضاءة العلوية.

كان هناك سُلَّم يؤدي إلى تلك المقصورة في ركنِ الجناح الجنوبي، وقد توجَّه برايس مباشرةً إليه — لكنه وجدَ شرطيًّا هناك، وقد أشار إلى لافتة على باب البرج. وقال: «إنه مغلقٌ يا دكتور — بأمرٍ من العميد والمجلس.» ثم تابع بصوتٍ منخفض: «حتى صدورِ أوامرَ أخرى. إن الحقيقة، يا سيدي، بعد انتشار الخبر، أن الكثير من الناس تزاحَموا هنا وحتى هذه المقصورة بالأعلى ممَّا دفع العميدَ إلى أن يأمر بإغلاقِ جميعِ المداخل في الحال — ولم يُسمح لأيِّ شخص بالصعود منذ وقت الظهيرة.»

سأله برايس: «أفترض أنَّك لم تسمع أيَّ شيء عن أي شخص غريبٍ شُوهد يتسلل هناك بالأعلى هذا الصباح؟»

أجابه الشرطي: «كلا، يا سيدي، لكنني تحدَّثتُ قليلًا مع بعض خُدام الكاتدرائية، وقالوا إنه أمرٌ غريب للغاية أنه لم يرَ أحدٌ منهم هذا الرجل الغريب يصعد إلى هناك، ولا حتى سمع أيَّ شجار. إنهم يقولون — خُدام الكاتدرائية — إنهم كانوا جميعًا في ذلك الوقت، يستعدُّون للقداس الصباحي، ولم يرَوا أو يسمعوا أي شيء. إنه أمرٌ غريب، يا سيدي، أليس كذلك؟»

وافقه برايس الرأي قائلًا: «إن الأمر برُمَّته غريب»، ومن ثَم غادر الكاتدرائية. وسار نحوَ البوابة الصغيرة التي تؤدي إلى هذا الجانب من بارادايس ليجدَ شرطيًّا آخرَ متمركزًا هناك. فسأله: «ماذا! هل هذه مغلقة أيضًا؟»

قال الرجل: «لبعضَ الوقت، يا سيدي.» وتابع: «لقد كانوا سيُتلِفون جميعَ الشجيرات في المكان إذا لم تصدر الأوامرُ بالإغلاق! لقد كانوا شَغوفين لرؤية المكان الذي سقط فيه الرجل — لقد جاءوا في حشودٍ في وقت الغداء.»

أومأ برايس برأسه، وكان يستدير مبتعدًا، عندما جاء ديك بيوري ملتفًّا حولَ ركنٍ يؤدي إلى مَمْشى دينري ووك، ومن الواضح أنه متحمسٌ بشدة. وكانت معه فتاةٌ في نفس عمره تقريبًا — وهي فتاة مميزة يعرفها برايس واسمها بيتي كامباني، وهي ابنة أمين مكتبة العميد والمجلس، ومن ثَم فهو القيِّم على واحدة من أشهر مكتبات الكاتدرائيات في البلاد. هي، أيضًا، كانت على ما يبدو متحمسةً للغاية، وقد عبَسَ وجهُها الجميل والحيوي عندما ابتسم الشرطي وهزَّ رأسه.

صاح ديك بيوري متعجبًا: «أوه، عجبًا، ما سبب هذا؟» وتابع: «ما سبب هذا الإغلاق؟ — يا للحماقة! — هل يمكنك أن تسمح لنا بالدخول — دقيقةً واحدة فقط؟»

أجاب الشرطي بلطف: «ستتسبَّب في طردي من الخدمة، يا سيدي!» وأضاف وهو ينظر إلى الشابَّين: «ألا ترى اللافتة؟ سيطردني العميد من العمل غدًا إذا لم أُنفِّذ الأوامر. غير مسموح بالدخول، إلى أيِّ مكان، بأيِّ حال من الأحوال! فلتصحبكما السلامة.» وأردف: «لا يوجد شيء يمكن رؤيته — لا شيء! — مثلما يمكن للدكتور برايس الواقفِ هناك أن يُخبرك.»

نظر ديك، الذي لم يكن يعرف شيئًا عن المحادثة الأخيرة بين الوصيِّ عليه والمساعد المفصول، نحو برايس باهتمام.

وسأله: «لقد كنتَ أولَ مَن حضر إلى الموقع، أليس كذلك؟ هل تعتقد أنها جريمةُ قتل بالفعل؟»

أجاب برايس: «لا أعرف ما هي بالفعل.» وأضاف: «ولم أكن أولَ من حضر إلى الموقع. كان أول مَن حضر هو فارنر، عامل البناء — وهو مَن استدعاني.» والتفت لإلقاء نظرةٍ على الفتاة، التي كانت تختلسُ النظرَ بفضولٍ عبر البوابة إلى أشجار الصنوبر والسرو. وسألها: «هل تعتقدين أنَّ والدك في المكتبة الآن؟» ثم أردف: «هل سأجده هناك؟»

أجابت بيتي كامباني: «أعتقد أنه هناك.» وتابع: «فهو عادةً ما يذهب في نحوِ هذا الوقت.» ثم استدارت وسحبَت كمَّ ديك بيوري. وقالت: «هيا نذهب إلى نوافذِ الإضاءة العلوية.» وأردفت: «يُمكننا أن نرى ذلك من هناك، على أي حال.»

قال الشرطي وهو يهزُّ رأسه: «إن المكان هناك مغلَقٌ أيضًا، يا آنسة.» وأردف: «ممنوعٌ الدخول إلى هناك، أيضًا. ممنوع منعًا باتًّا دخول الجمهور — إذا جاز التعبير. «لن أسمح بتحوُّل الكاتدرائية إلى ما يُشبه صندوقَ الدنيا!» هذا بالضبط ما سمعت العميد وهو يقوله بأذنيَّ. إذن، المكان مغلق!»

استدار الفتى والفتاة بعيدًا وذهبا إلى كلوس، ونظر إليهما الشرطيُّ بينما يبتعدان وضحك.

ثم قال: «إنهما رفيقان مفعَمان بالحيوية، يا سيدي!» وتابع: «هذا ما يسمُّونه الفضول الصحِّي، أليس كذلك؟ إن الكثيرَ منه يجتاح المدينةَ اليوم.»

استدار برايس مرةً أخرى، بعد أن كان قد استدار في اتجاه المكتبة، على الجانب الآخر من كلوس.

وقال: «هل تعلم ما إذا كان زملاؤك من رجالِ الشرطة يفعلون أيَّ شيء لتحديد هُوية القتيل؟» وأردف: «هل سمعتَ أيَّ شيء عند الظهيرة؟»

أجاب الشرطي: «لا شيءَ سِوى أنه ستُنشَر تنويهاتٌ في الصحف، يا سيدي.» وتابع: «هذه هي أضمنُ طريقة لاكتشافِ شيءٍ ما. وقد سمعتُ المفتشَ ميتشينجتون يقول إنه سيتعيَّن عليهم سؤالُ الدوق ما إذا كان يعرف أيَّ شيء عن الرجل المسكين — أفترض أنه قد قال شيئًا ما عن رغبته في الذَّهاب إلى ساكسونستيد.»

ذهب برايس في اتجاه المكتبة وهو يُفكر. الصحف؟ — أجل، لا توجد وسيلةٌ أفضل لنشر الأخبار. إذا كان للسيد جون برادن أقاربُ وأصدقاء، فسوف يعلمون بموته المؤسفِ من خلال الصحف، وسيأتون. وفي هذه الحالة، …

قال برايس وهو يتأمَّل: «ولكن لن يُفاجئني إذا كان الاسمُ المعطَى في فندق مايتر اسمًا مستعارًا. كما أتساءل عمَّا إذا كانت نظرية أرتشديل صحيحةً — ومع ذلك، سيكون هناك المزيدُ من ذلك في جلسة التحقيق التي ستُقام غدًا للبحث في أسباب الوفاة. وفي غضون ذلك — سأحاول أن أكتشفَ شيئًا عن مقبرة ريتشارد جينكينز، أو جينكينسون — أيًّا كان.»

كانت مكتبة العميد والمجلس الشهيرةُ في رايتشستر موجودةً في مبنًى جميلٍ عتيقِ الطِّراز في أحد أركان كلوس، حيث، يومًا بعد يوم، وسط مجلدات ومخطوطات لا تُقدَّر بثمن، ومطويات ضخمة وكتب ثقيلة من قطْع الربع، ومطبوعات عتيقة، وآثار مخطوطةٍ من العصور الوسطى، كان أمبروز كامباني، أمين المكتبة، دائمًا ما يكون موجودًا تقريبًا، وعلى استعداد لإظهار كنوزه للزوَّار والسياح الذين كانوا يأتون من جميع أنحاء العالم لمشاهدةِ مجموعةٍ معروفة جيدًا لعشاق الكتب. وأمبروز كامباني هو رجل ذو وجهٍ مبتهج، في منتصف العمر، محبٌّ للكتب والآثار المخطوطة، ذو شعرٍ أشعث، ونظارة زرقاء، وكان موجودًا الآن في المكتبة، يتحدَّث إلى رجل عجوز هو جار برايس في فرايري لين — واسمه سيمبسون هاركر، وهو رجل عجوز هادئ ومتأمِّل، يُعتقد أنه تاجرٌ متقاعد، وكان يُمضي وقته في التجوُّل البطيء حول المدينة. وبينما كان برايس يدخل، التقطت أذناه ما كان يقوله كامباني في ذلك الوقت.

كان كامباني يقول: «أهم شيء سمعته عن الأمر، هو ذلك الكتاب الذي وجَدوه في حقيبة سفر الرجل في فندق مايتر. وأنا لست محققًا — لكنَّ هناك دليلًا!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤