الفصل الأول

هارِبٌ مِنَ الْمُطارَدَةِ

(١) زائِرُ اللَّيْلِ

كانَ مِنْ بَيْنِ جِيرانِنا الْمُتَّصِلِينَ بِنا، جارٌ ﭐسْمُهُ: «أَبُو عامِرٍ». اِشْتَهَرَ بِالنَّشاطِ بَيْنَ التُّجَّارِ، وَكَثُرَتْ مِنْهُ فِى الْبِلادِ الْأَسْفارُ. أَصْبَحَ الْيَوْمَ بفَضْلِ ما تَوافَرَ لَهُ مِنَ الْأَمْوالِ، مَيْسُورَ الْحالِ. اِكْتَسَب مِنِ ﭐتِّجارِهِ، فِى أَسْفارِهِ، دِرايَةً واسِعَةً، وَخِبْرَةً جامِعَةً. ظَلَّ وَقْتًا طَوِيلًا، وَهُوَ يَنْأَى بِنَفْسِهِ عَمَّا يَشِينُ التَّاجِرَ الْأَمِينَ. لٰكِنَّهُ تَأَثَّرَ — أَخِيرًا — بِما لِبَعْضِ التُّجَّارِ مِنْ حِيَلٍ وَأَسالِيبَ.

فُوجِئْتُ بِهِ، ذاتَ لَيْلَةٍ، يَطْرُقُ بابِى، عَلَى غَيْرِ عادَتِهِ. قالَ لِى: «مَعْذِرَةً إِلَيْكَ، إِذْ طَرَقْتُ بابَكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ اللَّيْلُ. ضاقَ صَدْرِى بِما أَنا فِيهِ، فَجِئْتُ أُفْضِى إِلَيْكَ بِما أُعانِيهِ.» دَهِشْتُ حِينَ تَبَيَّنْتُ حالَ جارِى، عَلَى خِلافِ عَهْدِى بِهِ.

حاوَلْتُ أَنْ أُهَدِّئَ مِنْ رَوْعِهِ، وَأَنْ أُسَرِّىَ الْهَمَّ عَنْهُ. قُلْتُ لَهُ: «طِبْ نَفْسًا، وَلا تَسْتَسْلِمْ لِما يَضِيقُ بِهِ صَدْرُكَ. ما مِنْ مُشْكِلَةٍ إِلَّا وَلا بُدَّ لَها مِنْ حَلٍّ، أَوْ مِنْ حُلُولٍ اِحْكِ لِى كُلَّ ما سَبَّبَ لَكَ الْقَلَقَ. لا تَكْتُمْ عَنِّى شَيْئًا.»

(٢) حِيلَةُ «رأْسِ الْوَزَّةِ»

قالَ «أَبُو عامِرٍ»: «أَتَذْكُرُ يا «جُحا»، مَنِ ﭐسْمُهُ: «أَبُو إِسْحٰقَ»؟»

قُلْتُ: «أَتَعْنِى صاحِبَنا الَّذِى كانَ لَقَبُهُ: «رَأْسَ الْوَزَّةِ»؟»

قالَ: «ما أَذْكاكَ! أَنا ما عَنَيْتُ — يا «جُحا» — سِواهُ.»

قُلْتُ: «لَيْسَ فِى بَلَدِنا مَنْ عَرَفَ «رَأْسَ الْوَزَّةِ»، ثُمَّ يَنْساهُ. لَقَدْ أَسِفْنا لَهُ أَشَدَّ الْأَسَفِ، وَسَألْنا اللهَ أَنْ يَلْطُفَ بِحالِهِ.»

قالَ «أَبُو عامِرٍ»: «لَعَلَّكَ تَقْصِدُ ما ذاعَ مِنْ أَنَّهُ أُصِيبَ بِجُنُونٍ. هٰذِهِ — فِى ظاهِرِ الْأَمْرِ — شائِعَةٌ، مَلَأَتِ الْأَسْماعَ، وَعَمَّتِ الْبِقاعَ. مِثْلُكَ لا يُصَدِّقُ فِى شَأْنِ «رَأْسِ الْوَزَّةِ»، أَنْ يَخْتَلِطَ عَقْلُهُ. أَمَّا أَنَّهُ تَظاهَرَ بالْجُنُونِ، أَمامَ النَّاسِ، فَهٰذا ما حَدَثَ مِنْهُ. إِنَّهُ لَجَأَ إِلَى ﭐدِّعاءِ الْجُنُونِ، لِكَىْ يَقْضِىَ فِى نَفْسِهِ حاجَةً! سِرُّ ذٰلِكَ أَنَّ ظُرُوفًا دَعَتْهُ إِلَى ﭐقْتِراضِ الْأَمْوالِ مِنْ عارِفِيهِ. أَصابَتْهُ أَحْداثٌ لَمْ يَسْتَطِعْ مَعَها أَنْ يَرُدَّ مِنَ الدُيُونِ ما عَلَيْهِ. لَم يَرَ بُدًّا، لِلْهَرَبِ مِنْ مُلاحَقَةِ الدَّائِنيِنَ، مِنِ ﭐدِّعاءِ الْجُنُونِ. كانَ بارِعًا، كُلَّ الْبَراعَةِ، فِى الْتِزامِ التَّصَرُّفِ الدَّالِّ عَلَى خَبالِهِ. لَمْ يَكُنْ هٰذا بِمُسْتَكْثَرٍ عَلَى «رَأْسِ الْوَزَّةِ» فِى ذَكائِهِ. لَمْ تَلْبَثْ حِيلَتُهُ أَنْ جازَتْ عَلَى كُلِّ مَنِ اتَّصَلَ بِهِ.»

(٣) مُحاصَرَةُ الدَّائِنِينَ

سَأَلْتُ «أَبا عامِرٍ» صاحِبِى، وَقَدْ بَدا تَطَلُّعِى لِما سَيَحْكِيهِ: «أُصارِحُكَ — يا «أَبا عامِرٍ» — بِما يَدُورُ فِى نَفْسِىَ الْآنَ. إِنَّ ما أَخْبَرْتَنِى بِهِ فِى شَأْنِ «رَأْسِ الْوَزَّةِ»: حَدِيثٌ مُجْمَلٌ. لاشَكَّ أَنَّ وَراءَكَ — مِنْ خَبَرِ هٰذا الرَّجُلِ — ما وَراءَكَ. إِذا لَمْ يَكُنْ لَدَيْكَ مانِعٌ، فَلا تُخْفِ عَنِّى أَىَّ شَىْءٍ.»

قالَ «أَبُو عامِرٍ»: «أَنْتَ بِخِبْرَتِكَ وَفِطْنَتِكَ تَسْتَشِفُّ ما يَخْفَى. سَأُفَصِّلُ لَكَ — الْآنَ — ما سَبَقَ أَنْ أَجْمَلْتُهُ مِنْ حَدِيثٍ. لَمَّا أَثْقَلَتِ الدُّيُونُ «رَأْسَ الْوَزَّةِ»، عَزَّتْ عَلَيْهِ مُواجَهَةُ دائِنِيهِ. كانَ يَشْعُرُ بِأَشَدِّ الْخَجَلِ والْحَياءِ، كُلَّما لَقِىَ أَحَدَ مُطالِبِيهِ. اِتَّخَذَ وَسائِلَ مُخْتَلِفَةً، لِكَىْ يَتَجَنَّبَ رُؤْيَتَهُ لَهُمْ، وَتَعَقُّبَهُمْ لَهُ. مِمَّا حَرَصَ عَلَيْهِ، أَنَّهُ لا يُغادِرُ بَيْتَهُ إِلَّا فِى جُنْحِ اللَّيْلِ. اِكْتَشَفَ الدَّائِنُونَ حِيلَتَهُ، فَكانُوا يَسْهَرُونَ لِمُلاقاتِهِ، وَيَتَرَصَّدُونَ لَهُ. أَتَعْرِفُ — يا «جُحا» — ماذا ﭐتَّخَذَ أَخِيرًا، إِزاءَ ذٰلِكَ، مِنْ وَسِيلَةٍ؟ آثَرَ أَنْ يَخْتَبِىءَ عَنِ الْعُيُونِ فِى دارِهِ، وَيُغْلِقَ بابَهُ عَلَيْهِ.»

(٤) عَهْدٌ واتِّفاقٌ

قُلْتُ لَهُ: «فِيمَ ﭐهْتِمامُكَ ﺑ«رَأْسِ الْوَزَّةِ»، عَلَى هٰذا الْوَجْهِ؟ لا رَيْبَ فِى أَنَّ لَكَ صِلَةً شَخْصِيَّةً بِهٰذا الَّذِى تَحْكِيهِ!»

قالَ «أَبُو عامِر»: «لَمْ يَنْتَهِ حَدِيثِى مَعَكَ. سَأُواصِلُ الْقِصَّةَ. كُنْتُ بَيْنَ أُولٰئِكَ الَّذِينَ قَصَدَهُمْ «رَأْسُ الْوَزَّةِ»، لِيُقْرِضُوهُ. أَرَدْتُ تَفْرِيجَ كُرْبَتِهِ، فَلَمْ أَتَرَدَّدْ فِى تَسْلِيفِهِ مِائَةَ دِينارٍ. لَمَّا رَأَيْتُ إِمْعانَهُ فِى ﭐحْتِجابِهِ، شَكَكْتُ فِى حَقِيقَةِ غِيابِهِ. دَعانِى هٰذا الشَّكُّ إِلَى أَنْ أُتابِعَ أَمْرَهُ، حَتَّى كَشَفْتُ سِرَّهُ. لَمَّا رَآنِى، عَبَسَ فِى وَجْهِى، وَظَهَرَتِ الْحَيْرَةُ عَلَى وَجْهِهِ. ما زِلْتُ أُونِسُهُ بِالْكَلامِ، حَتَّى زالَتْ وَحْشَتُهُ واطْمَأَنَّ قَلْبُهُ. تَحَدَّثْتُ مَعَهُ فِى شَأْنِ دائِنِيهِ، وَماذا هُوَ صانِعٌ الْآنَ فِيهِ؟ عَرَضْتُ عَلَيْهِ فِكْرَةً، تُتِيحُ لَهُ الْفَكاكَ مِنْ كُلِّ مُضايِقِيهِ. اِشْتَرَطْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ لِى دَيْنِى، إِذا نَجَحَتْ مَعَهُ فِكْرَتِى. تَهَلَّلَ وَجْهُهُ، وَراجَعَهُ أُنْسُهُ، وَقالَ، وَهُوَ يَهُزُّ كَتِفِى بِيَدَيْهِ: قَسَمًا، لَوْ نَجَحَتْ فِكْرَتُكَ، لَرَدَدْتُ عَلَيْكَ ضِعْفَ دَيْنِكَ عَلَىَّ!»

(٥) اِقْتِراحٌ خَبِيثٌ

قُلْتُ: «ما فِكْرَتُكَ الَّتِى أَرَدَتْ بِها أَكْلَ الْأَمْوالِ بِالْباطِلِ؟»

تَجَهَّمَ وَجْهُ «أَبِى عامِرٍ»، وَقالَ: «أَنا أَقُصُّ عَلَيْكَ، والرَّأْىُ لَكَ. جَعَلْتُ أَشْرَحُ لِـ«رَأْسِ الْوَزَّةِ» بِالتَّفْصِيلِ: ما هُوَ صانِعٌ؟ قُلْتُ لَهُ: «ما يُصْبِحُ الصَّباحُ، حَتَّى تَرْتَدِىَ أَثْمَنَ ثِيابِكَ. عَلَيْكَ أَنْ تَفْتَحَ بابَ دارِكَ، وَتُهَيِّئَ الْمَجْلِسَ لاِسْتِقْبالِ زُوَّارِكَ. خُذْ مَكانَكَ فِى صَدْرِ مَجْلِسِكَ، مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَةٍ خاصَّةٍ بِكَ. تَكَلَّفِ الْوَقارَ فِيما يَبْدُو عَلَيْكَ، والْجِدَّ فِيما يَظْهَرُ مِنْكَ. إِذا قَدِمَ أَحَدُ النَّاسِ، فَلا تَعْبَأَ بِهِ، وَلا تُلْقِ بالًا إِلَيْهِ. إِذا حَيَّاكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ بِتَحِيَّةٍ، فَإيَّاكَ أَنْ تُجِيبَ بِغَيْرِ النُّباحِ. إِذا أَظْهَرَ لَكَ الْقادِمُ دَهْشَتَهُ، فَكَرِّرْ نُباحَكَ ثانِيَةً وثالِثَةً. إِذا تَمادَى لَكَ فِى الْإِلْحاحِ، تَمادَيْتَ لَهُ فِى الصِّياحِ. اِتَّخِذْ هٰذا النُّباحَ — مُنْذُ الْغَدِ — شِعارًا لَكَ، وَعَلامَةً عَلَيْكَ. لِيَكُنْ عَمَلُكَ — مُنْذُ الْآنَ إِلَى الْغَدِ — التَّفَرُّغَ لِتَدْرِيبِ صَوْتِكَ. حاوِلْ، ما ﭐسْتَطَعْتَ سَبِيلًا، أَنْ تُقَلِّدَ نَبَراتِ مَنْ يَنْبَحُ. قُلْ: «هَوْ. هَوْ» — يا «أَبا إِسْحٰقَ» — وَلا تَتْرُكِ الْعُواءَ. أَجِبْ بِهٰذا النُّباحِ كُلَّ قادِمٍ عَلَيْكَ، دائِنٍ أَوْ غَيْرِ دائِنٍ».»

(٦) اَلتَّمادِى فِى النُّباحِ

قُلْتُ لَهُ: «أَيَظَلُّ «رَأْسُ الْوَزَّةِ» نابِحًا مَعَ كُلِّ إِنْسانٍ؟!»

قاَلَ «أَبُو عامِرٍ»: «شَرَطْتُ عَلَيْهِ أَلَّا يَرْتَفِعَ بِغَيْرِ النُّباحِ صَوْتُهُ: يَنْبَحُ مَنْ يُلاقِيهِ، مِنْ أَخْلَصِ عارِفِيهِ، وَأَصْدَقِ مُحِبِّيهِ، وَكُلِّ دائِنِيهِ. قُلْتُ لَهُ: «لَنْ يَلْبَثَ الدَّائِنُونَ أَنْ يَضْجَرُوا بِكَ، وَيَيْأَسُوا مِنْكِ. سَيَرْفَعُونَ شَكْواهُمْ — فِى آخِرِ الْأَمْرِ — إِلَى والِى الْمَدِينَةِ. لا تَتَخَلَّ — بِحَالٍ — عَمَّا رَسَمْتُهُ لَكَ، وَشَرَطْتُهُ عَلَيْكَ. إِذا مَثَلْتَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَلَيْكَ الِاعْتِصامُ بِالصَّمْتِ، بادِئَ بَدْءٍ. حَذارِ — يا «رَأْسَ الْوَزَّةِ» — أَنْ يَلْفِظَ لِسانُكَ أَمامَهُ مِنْ قَوْلٍ. إِذا أَنْتَ بَدَأَكَ الْوالِى بِسُؤَالِكَ، فَلا تَرُدَّ عَلَيْهِ بِجَوابِكَ. سَيَرْتابُ فِكْرُهُ فِى حَقِيقَةِ شَأْنِكَ: أَمُعانِدٌ أَنْتَ، أَمْ أَخْرَسُ؟ إِذا ﭐسْتَمَرَّ فِى سُؤالِكَ، أَطْلَقْتَ لَهُ نُباحَكَ، وَتَمادَيْتَ فِيهِ. إِصْرارُكَ عَلَى النُّباحِ سَيَدُلُّ الْوالِىَ عَلَى أَنَّكَ فِيهِ غَيْرُ مُتَصَنِّعٍ. سَيَكُفُّ عَنْ حِوارِكَ، وَسَيَقْتَنِعُ بِأَنَّكَ قَدْ أَصابَكَ الْجُنوُنُ. سَيَضْطَرُّهُ ذٰلِك إِلَى إِعْفائِكَ مِنْ دَيْنِكَ، وَإِطْلاقِ سَراحِكَ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤