الفصل الأول

البادية والحرب

كان قتيبة بن مسلم من نوابغ القادة المعدودين الذين أنجبتهم الأمة العربية في صدر الإسلام.

وكان يلي خراسان لملوك الدولة الأموية، فخرجت بها خارجة أهمته، فقيل له: «ما يهمك منهم؟ … وجه إليهم وكيع بن أبي مسعود فإنه يكفيكهم.» فأبَى، وقال: «لا … إنَّ وكيعًا رجل به كبر يحتقر أعداءه، ومن كان هكذا قلت مبالاته بعدوه فلم يحترس منه، فيجد عدوه منه غِرَّة …»

وهذه كلمة من كلمات القائد العربي تنبئ عن كثير؛ تنبئ عن ملكة القيادة فيه، وتنبئ عن ملكة السيادة في الأمة التي نشأ منها، واستطاعت بها أن تسوس الأمم في الحرب والسلم سياسة للنجاح وللبقاء …

فالحق أنَّ شروط القيادة على وفرتها وعظم التَّبِعة فيها جميعًا، ليس يوجد بينها ما هو ألزم للقائد من القدرة على سَبْر قوته وسَبْر قوة خصمه. وكل ما عدا ذلك فإنما هو ترتيب لما يصنعه بقوته، وما يتوقع من القوة التي ينازلها أن تصنعه، أو هو تنظيم للأُهْبة والحيطة بين الفريقين في المكان الذي يتلاقيان فيه …

وقد كانت لهزيمة الدول أمام العرب أسباب كثيرة: منها ضعف العقيدة واختلال النظام ونقص القيادة، وانحلال الترف وتفرق الآراء، ولكنَّ البلاء الأكبر إنما حاق بتلك الدول من آفة الغرور الباطل والاستخفاف بالخصم المقاتل. فانتصر العرب؛ لأنهم ظنوهم لا ينتصرون ولا يعتزمون الانتصار، وكان الاستخفاف والإهمال شرًّا على تلك الدول المتصلفة من الاستهوال والفزع؛ بل كان الاستخفاف والإهمال سببًا لانقلابهم آخر الأمر إلى استهوال يخذل المفاصل وفزع يفُتُّ في الأعضاد، فاجتمعت عليهم البليَّتان من سوء التقدير، ولم تنفعهم قلة المبالاة بالعدو ولا فرط المبالاة به بعد الأوان …

كانت دولة الفرس لا تنظر إلى البادية العربية إلا نظرة السيد المبجل إلى الغوغاء المهازيل، الذين يحتاجون إمَّا إلى العطاء وإمَّا إلى التأديب، وبلغ من طغيان كسرى حين جاءته الدعوة المحمدية أن بعث إلى النبي العربي بشِرْذِمة من الجند تأتيه به في الأصفاد! … وبلغ من طغيان جنده عامة، وخاصة أنهم كانوا يأنفون أن يَقرُنهم أحد بالعرب في معرض من المعارض أو غرض من الأغراض ولو للحيلة والمكيدة. فاتفق في بعض وقعات العراق أنَّ زعيمًا عربيًّا من جيرة الفرس أقبل على القائد الفارسي مهران بن بهرام؛ ليمدَّه بأبناء قبيلته ويعينه على خالد بن الوليد وجنده. فقال له: «إنَّ العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالدًا» فجاراه القائد الفارسي مجاملة وخدعة؛ ليستخلص منه أقصى العون والنجدة، وقال له: «صدقت لعَمْرِي! لأنتم أعلم بقتال العرب وأنتم مثلنا في قتال العجم …» فغضب أتباعه لمجاملته هؤلاء القوم الذين يعينونهم ويقاتلون في صفوفهم، وسألوه «كيف تقول ما قلت لهذا الكلب؟» فلم يهدءوا عنه حتى اعتذر لهم بأنه يخدع القوم ويغرر بهم، وقال لهم: «دعوني، فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر لهم … فإن كانت لهم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم يبلغوكم — أي المسلمون — حتى يهنوا، فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم مضعفون …»

وسخفوا في طلائع وقعة «أليس» فلم يحفِلوا بجيش خالد الزاحف إليهم، وتنادوا إلى طعامهم الذي هيئوه، ولم يكلِّفوا أنفسهم قبل ذلك مشقة استطلاع الطريق … ليأمنوا البغتة قبل تهيئة الطعام.

أما الروم، فكان لهم غرور كهذا الغرور في مواجهة البادية العربية، وكان قَصارى ما حذروه في أول الأمر أن يُغِير العرب على تخومهم لينهَبوا ويسلبوا، ثم يفروا بسلبهم إلى الصحراء … فإنْ أوغلوا في بلاد الدولة الرومانية، فهم مأخوذون بالهبات والوعود أو مأخوذون بالكثرة المستعدة، لا يقوم لها جند قليل يوشك أن يتجرد من السلاح بالقياس إليهم، فلما جدَّ الجِدُّ، وعرفت الدولة الرومانية من تقاتل من أولئك الجند العزل على زعمها، إذا هي تنقلب من الغفلة الشديدة إلى الفزع الشديد …

ويبدو لنا أنَّ المؤرخين المحدثين لم يبرءوا كل البرء من هذا الخطأ القديم.

فلا يزال الأكثرون منهم يستعظمون على العرب أن يغلبوا الفرس والروم، ويحسبون هذه الغلبة شيئًا قد حصل وكان ينبغي ألاَّ يحصل، لولا أنها فلتة لا يقاس عليها ومصادفة لا تقبل التكرار …

وبعضهم يلتمس العلة، فيقول: «إنما هي وهن الدولتين ومصابهما بالخور والانحلال»، أو يلتمس العلة، فيقول: «إنها عقيدة المسلمين القوية وافتقار الفرس والروم إلى مثل هذه العقيدة.»

وكل أولئك تعليل ناقص من كل نواحيه …

فالمصادفة لا محل لها في حوادث الوجود، ولا تطَّرِد في قتال بعد قتال، من جوف الصحراء إلى عمران العراق والشام ومصر ومشارق الأرض ومغاربها بين إفريقية والصين.

وانحلال دولة من الدول قد يفنيها ويعجزها عن النصر، ولكنه لا يقيم دولة أخرى لم تتجمع لها أسباب النهوض والتمكين.

والعقيدة قوة لا غناء عنها بقوة أخرى لمن يفقدها، ولكنها هي وحدها لا تغني عن الخبرة والاستعداد، ولا تفسر لنا اختلاف النجاح باختلاف الخطط والقواد. وقد كان المسلمون على عقيدتهم الراسخة يوم لقائهم هوازن وشيعتها بوادي حنين، فأوشكوا أن ينهزموا؛ لاعتدادهم بكثرتهم وقلة مبالاتهم بعدوهم، وأوشكت عاقبة الاستخفاف هنا أن تصيب المسلمين كما أصابت الفرس والروم، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (التوبة ٢٥).

فمهما يهرب هؤلاء المؤرخون من الحقيقة، فلا محيص لهم من الرجوع إليها لفهم الغلبة الإسلامية، أو فهم الهزيمة الفارسية والرومانية. وهذه الحقيقة هي أنَّ المسلمين كانوا أيضًا أخبر بالفنون العسكرية من أهل فارس والروم، وكانوا أقدر على تنفيذ الخطط العسكرية التي تنفعهم من قواد تَيْنِك الدولتين، وإنَّ البادية العربية سواء في عصور الجاهلية أو صدر الإسلام لم تكن من الجهل بفن الحرب بتلك الحالة التي توهمها المؤرخون الأوربيون؛ بل معظم المؤرخين عامة ولا نحاشي١ منهم العرب والمسلمين …

•••

فالصورة الشائعة في خيال أكثر القارئين عن البادية أنَّ حروب الصحراء لم تكن إلا مشاجرات بالسيوف والرماح أو بالقسى والمقاليع، لا ترجع إلى نظام ولا تنهج على خطة، ولا يخلص منها فن يتعلمه المتعلم، ويتلقاه اللاحق عن السابق، وقِوام أمرها شراذم من السطاة٢ والمغيرين سرعان ما تقبل حتى تدبر، وقصارى ما تعرفه من أساليب القتال أن تفر بعد الكَرِّ أو تكُر بعد الفرار.

وهذه صورة مضللة لمن يسترشد بها في اختبار قدرة البادية على الحروب الكبيرة والمناوشات الصغيرة.

فمن الخطأ «أولًا» أن تستخف بالرياضة التي يراض عليها الجيل بعد الجيل حيث تتعاقب الأجيال على أمثال هذه المناوشات، أو على ما نسميه اليوم حرب العصابات، حتى لو صح أنها كانت هي كل ما يعرفه أهل الصحراء من فنون القتال.

فالذي لا ريب فيه أنَّ الصحراء قد تعاقبت فيها الأجيال على حروب العصابات التي تشترك فيها القبائل أبدًا بين عادية ومعدوٍّ عليها، وأنَّ البدوي قد عاش زمنًا كما جاء في التوراة «يده على كل إنسان ويد كل إنسان عليه». فحصل من ذلك على ملكة مطبوعة يصح أن تسمى «حاسة الحرب»، أو أُهْبة الميدان الخالد التي لا تفارقه في ليل ولا نهار. فلا يزال حياته في حيطة المدافع واستعداد المهاجم ويقظة القلب للنضال، الذي يتعرض له بين مضطر مغتصب أو طائع مختار.

وهذه ملكة لا تحصل لأبناء المدن الذين يُندبون للقتال بين آونة وأخرى، ويتدربون عليه كأنه عمل يؤدي في مكان العمل، ثم يطرح عن العاتق في سائر الأوقات.

ومن الرياضة التي يراض عليها الجيل بعد الجيل حيث تتعاقب حروب العصابات أنهم يتعودون الصبر على الفرار ويملكون الجأش عند الإدبار؛ لأن الفرار عندهم حركة من الحركات المألوفة في كل وقعة يخوضون غمارها، وليست هزيمة تطيش باللب وتخلع الفؤاد وتوقع في روع صاحبها أنه ضيع الأمل، ولم يبق له من أطوار القتال غير التسليم. فهو في حالة صالحة لاستئناف القتال إن أقبل وإن أدبر، وسواء طمع في النصر أو لاذ بالنجاة، وكأنه يتأخر ليتقدم في حينها أو بعد حين، ويتحول إلى الوراء كما يتحول إلى الشمال أو اليمين؛ طوعًا لأمر مقصود وجريًا في عنان ممدود، ومن هنا تيسر لقواد العرب في الغزوات الكبيرة أن يلموا شمل الجيش المنهزم في سويعات معدودات، وأن يتداركوا الخذلان من حيث يعسر على الجيوش المنظمة أن تتداركه قبل زمن طويل.

ولن تخلوا العصابات المغيرة — مع طول المرانة — من علم بأصول الاستطلاع والمباغتة والتبييت والمخاتلة وحسبان الحساب للرجعة والإفلات، وهي على بساطتها أصول لا نُدْحة عنها في أكبر الميادين وأصغرها على السواء.

هذا إن صح أنَّ حروب العصابات هي كل ما حذقه عرب البادية من فنون القتال في تاريخهم القديم.

وذلك غير صحيح …

فالعرب قد عرفوا في حروبهم التي وقعت بينهم تسيير الجيوش بعشرات الألوف على اختلاف الأسلحة والأقسام، وقيل: إنَّ جيش الغساسنة الذي حارب المنذر بن ماء السماء لم يكن يقل عن أربعين ألفًا بين راجل وفارس، وكان في الجيش معًا راكبو الخيل، وراكبو الإبل، وحاملو السيوف، وحاملو الرماح، والضاربون بالسهام والنبال، والضاربون بالحراب والحجارة.

•••

ولقد كان الغساسنة والمناذرة أصحاب ملك قائم لا يعسُر عليهم تسيير هذه الألوف المؤلفة إلى الميادين القريبة، ولكن القبائل التي لم تكن على شيء من هذا الملك كانت تسوق الألوف للقاء أمثالها، وتستعد لها بالجيوش التي تساوي في عددها بعض جيوش القتال في عصرنا الحديث، فاستعدت مذحج لقتال تميم يوم الكلاب الثاني بثمانية آلاف، وجرى بين الفريقين من حيل الاستطلاع والمراوغة والهجوم والمطاردة ما هو محتوٍ لكل عناصر الكفاح الأولي في كل زمان.

على أنَّ البادية لم يفُتْها قطُّ علم الحرب، كما علِمَتْه دول الحضارة في عصور الجاهلية العربية، فكانت غسان على مقربة من الروم تدخل معهم في الفرق المتطوعة على حالي الدفاع والهجوم، وكان ملوك الحيرة على مقربة من الفرس يخدمهم أحيانًا كتيبتان من الجيش الفارسي، هما الشهباء والدوسر أو «الدوشير» بمعنى الأسدين شعار الدولة الفارسية. وكان جند الشهباء من أبناء فارس وجند الدوسر من أبناء القبائل العربية، وليس يحتاج العربي إلى أكثر من هذه المقاربة وهذه القدوة؛ لالتقاط الفنون التي يحتاج إليها في تعبئة الجيوش وللفطنة إلى المخاوف التي يتقيها في مواجهة التعبئة النظامية من جانب دول الحضارة.

وقد تبين هذا فعلًا في وقعة ذي قار التي تغلب فيها العرب على الدولة الفارسية، فإن العرب كانوا في تلك الواقعة أبرع قيادة وأخبر بفنون الزحف والتعبئة من قادة الجيوش النظامية، لم يغفلوا قط عن حيطة واجبة أو حيلة نافعة قبل اشتباكهم بالجيوش الفارسية؛ بعثوا الطلائع وبثوا العيون وقسموا جموعهم إلى ميمنة تولاها بنو عجل، وميسرة تولاها بنو شيبان وقلب تولته بطون من بكر عليهم رئيسهم القدير هانئ بن مسعود، وأنفذوا إلى قبائل العرب الذين في جيش الفرس رسلًا يثيرون نخوتهم ويغرونهم بالتخلي عن أصحابهم حين يجد الجد ويلتحم الجيشان، فوافقتهم إياد وبرَّت بوعدها فولَّت من الميدان في أحرج الأوقات …

•••

ولما أصبح يوم الوقعة الحاسمة أقبل الفرس ومعهم الأفيال والفرق المدرعة، فلم يرع قادة العرب ما شاهدوا من ذلك الجيش الزاخر وتلك العدة الوافية؛ بل تشاوروا في أمرهم وعقدوا بينهم ما يشبه «مجلس الحرب» في اصطلاح هذه الأيام. فقال ربيعة بن غزالة السكوني: «لا تستهدفوا لهذه الأعاجم فتهلككم بنُشَّابها، ولكن تكردسوا كراديس، فإذا أقبلوا على كردوس شد الآخر». وقال حنطة بن ثعلبة: «إنَّ النشاب الذي مع الأعاجم يفرقكم، فإذا أرسلوه لم يخطئكم، فعاجلوهم اللقاء، وابدءوهم بالشدة». وقال يزيد بن حمار: «أكمنوا لهم كمينًا»، ففعلوا وأكمنوه في موضع يقال له الخبيء، وأوصوه أن يظهر حين يشتد القتال بين العسكرين، وتفر قبيلة إياد من صفوف الأعاجم، فيكون فرار أنصارهم وإقبال المدد إلى خصومهم مع احتدام القتال ضربتين متداركتين، لا يقوون بعدهما على الثبات.

ولم يغفلوا عن حمية الجند والفرسان يلهبونها للمجازفة بالحياة والأنفة من طلب النجاة، وهو ما نسميه اليوم بالروح المعنوية، فعمد حنطة بن ثعلبة إلى وضين راحلة امرأته — أي حزامها — فقطعه، وتتبع رواحل النساء فقطع وضنها جميعًا فسقطت على الأرض، وصاح بقومه: «ليقاتل كل رجل منكم عن حليلته …» وراح السيَّافون يقطعون أقبيتهم من مناكبها لتخف أيديهم لضرب السيوف، وتسابق الخطباء والشعراء في التذمير والتحريض فذهبوا جميعًا يرددون قول قائلهم: «المنية ولا الدنية، واستقبال الموت خير من استدباره.»

وتبارز بعض الفرسان من العسكرين، ثم التحم الفريقان وحمي الوطيس، وظهر الكمين في أوانه وولت إياد، فتبعها فريق ممن كسرت قلوبهم هذه الصدمة التي فوجئوا بها على غير رقبة، وأطبق الكمين على قلب الجيش ومعه كوكب الجيش العربي كله فحقت الهزيمة العاجلة على أقوى الجيشين، وكتب النصر لأولى الفريقين به في ميزان الفن العسكري الذي يشمل جميع المرجحات، ما عدا المرجح المادي دون غيره، وهو العدد والسلاح.

إذ الحقيقة أنَّ غلبة العرب في يوم ذي قار إنما كانت غلبة لليقظة على الغفلة، وللكفاية على العجز، وللخفة على الفخامة، وللفن الحربي الصحيح على النظم التقليدية التي لا تصرف فيها، وللعزة المشكورة على الكبرياء المذمومة، وكان العرب خلقاء أن ينتصروا بكل وسيلة من وسائل النصر في الحروب القديمة والحروب الحديثة، إلا تفوق الفرس في بعض العدد التي لم ينفعهم تفوقهم فيها عند التحام الصفوف.

وليس في وسع عالم من علماء الحرب في زماننا هذا أن يأخذ عليهم خللًا في خطتهم لم يلتفتوا إليه، أو يُحصي عليهم وجهًا من وجوه التدبير قصروا فيه؛ لأن وجوه التدبير كلها فضول بعد أن تستقيم للمقاتل: (١) أهبة الاستطلاع. (٢) رسم الخطة. (٣) تنظيم الجيش في مواقفه. (٤) تنظيم الجيش في حركاته. (٥) إذكاء العزيمة في نفوسه. (٦) إضعاف العزيمة في نفوس خصومه … وهذه كلها هي صفوة لباب الحرب في العصر الحاضر وفي العصور الغابرة، وفي جميع العصور إلى آخر الزمان.

ويبدو لنا أنَّ مزية الفرس والروم في أنواع الأسلحة والعدد كانت مزية مبالغًا فيها على الأقل في ميادين الاشتباك والالتحام، إذا صح أنَّ لها الرجحان في مواقف الحصار ومواقف الحرب من بعيد؛ لأننا عرفنا من أخبار الحروب الماضية أنَّ بعض الفرسان البواسل كانوا يترجلون ليحكموا الضرب والحركة، وكانوا يخلعون عنهم شكتهم تبرمًا بها وتخففًا من ثقلها ولا سيما في أيام القيظ أو في المواضع الوعرة التي تصعب فيها حركة المدرعين في الشكة السابغة، وكان بعض الضباط من النبلاء يستصحبون خدمًا لهم؛ ليحملوا لهم شكتهم إلى حين الحاجة إليها، وجاء في كتاب فيجتيوس Végétius إنجيل الحرب عند الرومان الأقدمين أنَّ الجنود كانوا يضيقون ذرعًا بالدروع المعدنية ويستثقلونها ويودون لو يطرحونها ويتاح لهم العمل بغيرها، ولم تكن لهم حاجة بها إلا حين يرادون على الاقتراب من مواقع السهام والنبال والحراب الطويلة، لأداء عمل من الأعمال.

وعندنا أنَّ العرب قد كسبوا الطريقتين معًا بنشأتهم في البادية واقترابهم من دول الحضارة، ونعني بهما طريقة العصابات وطريقة الجيوش في إدارة الحروب.

فهم قد برعوا في حرب العصابات بالمرانة الطويلة، ثم اقتبسوا ما لزمهم أن يقتبسوه من فنون الحرب عند الدول الكبرى على أيامهم، فلم يخسروا بذلك إحدى الطريقتين بل جمعوا بينهما واستفادوا بما تفيده كل منهما في موضعها، فأضافوا سرعة العمل في طريقة العصابات على إحكام التنظيم في طريقة الجيوش … وكانوا يقاتلون بفنَّيْنِ متساندين، يأخذون منهما ما يأخذون ويدعون منهما ما يدعون، حيث كان الفرس أو الروم يتقيدون بفنٍّ واحد على التراث المحفوظ الذي لا يحسنون التجديد فيه …

ومن المحقق أنَّ قبائل العرب التي أقامت في الحواضر كانت على الزمن تتلقى النصيب الأوفى من كلتا الطريقتين، إما بالقدوة والتلقين أو بالتعليم المقصود، ولا سيما قبائل قريش التي كانت تقيم في عاصمة العواصم العربية من الوجهة الأدبية والثقافية، وكانت تجمع كل ما تفرق بين أبناء الجزيرة من المزايا والمعارف والصفات؛ لأنها أخذت نفسها بآداب الرئاسة المدنية والبدوية التي يدين بها جميع هؤلاء.

فالتاريخ الصادق يتقاضانا أن نعرف هذه الحقيقة؛ لنعرف موقع العدل والإنصاف من حكم الزمن بين الأمم الكبيرة التي تنازعت السيادة بعد ظهور النهضة العربية.

•••

فالنهضة العربية لم يكتب لها النصر؛ لأن الفرس والروم كانوا يستحقون الهزيمة وكفى، بل هي قد انتصرت؛ لأنها كانت تستحق النصر بأسبابه التي لا مصادفة فيها ولا محاباة، ولا محل لفلتة نادرة لا تقبل التكرار …

وإنما كانت أسباب النصر عند العرب ناقصة، فتمت في أوانها فغلبوا بوسائل الغلبة جميعها.

كانوا متفرقين بغير باعث إلى الوحدة والنهوض، فجاءتهم الدعوة الإسلامية تجمع شتاتهم وتبعث كرامتهم وتنطلق بهم في سبيلهم. فتم لهم ما نقص وتهيأت لهم ذرائع النصر في شرعة الأرض والسماء، وعلم النبيُّ — عليه السلام — بِيَوْم «ذي قار» وهو يدعو العرب إلى دين التوحيد، فرأى فيه بوادر نصر العرب على العجم، وأيقن أنه يوم تتلوه أيام، وأنه مسمع بدعوته الأمم جميعًا عمَّا قريب.

١  نحاشي أي نستثني.
٢  السطاة: الذين يرتكبون السطو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤