الفصل الرابع

إسلامه

كان إسلام خالد ضربًا من التسليم …

كان ضربًا من التسليم بمعناه «العسكري» المصطلح عليه في عُرف القادة ورجال الكفاح …

لأنه أسلم أو سلم تسليم القائد البصير بحركة القتال بين المد والجزر والنصر والهزيمة، الخبير بموضع الإقدام وموضع الإحجام، المقاتل والقتال شجاعة، المسالم والسلم ضرورة لا محيص عنها.

ولم يكن تسليمه تسليم العاجز الوكل، ولا الجازع المنخذل، بل لعله بلغ من نفسه غاية الثقة بالقدرة وحُمَادَى اليقين بالخبرة، يوم أسلم وسلم إلى معسكر الدين الجديد. كأنه آمن بالله؛ لأنه علم من ذات نفسه أنه لن يغلبه إلا الله، وكأنه كان يقول في قرارة ضميره: أيهزمني أحد وليس له مدد من النبوة؟ أيعلو سيف على سيفي وليس له سر من السماء؟

فبلغ نهاية الإيمان بنفسه يوم بلغ بداية الإيمان بالله.

وقد كان على ذويه في بني مخزوم أن يحاربوا حربهم إلى نهايتها؛ لأن الصراع بين الجاهلية والإسلام لم يكن إلا صراعًا لهم قبل كل جاهلي وكل قرشي وكل عربي على التعميم.

وكان معسكرهم أوْلى المعسكرات أن يصمد إلى موقف الحسم من النضال بين الفريقين؛ لأن بلاءه بإدبار الجاهلية أكبر من كل بلاء، وموقفه أمام الإسلام موقف من ينافح عن عزته وعزة بيته وعزة آبائه وأجداده، وعزة «النظام» الاجتماعي كله كما قررته الجاهلية أحقابًا بعد أحقاب؛ لأنه النظام الذي به يقومون وبهم يقوم.

وقد أبلى أبوه في هذا الصراع قصارى ما في وُسعه من بلاء، وهو شرح يطول، وتفصيل تضيق به الفصول، ولكن إشارة واحدة فيه تغني عن بيان طويل، وصفحة موجزة من صفحاته تغني عن الإطناب في القال والقيل.

وحسبنا من تفصيل مكائده وجهوده كلها في حرب الإسلام أن نقول: إنه قد هان عليه في هذا السبيل أن يبذل العزيزين؛ الولد والمال.

ففي بداية الدعوة المحمدية، سعى وقومه إلى عم النبي أبي طالب؛ ليسلمهم محمدًا أو يتخلى عنه، وله بديلًا منه عمارة بن الوليد … وقد وصفوه بأنه أنهد الفتيان وأشعرهم وأجملهم في قريش.

وبعد استفاضة الدعوة المحمدية يسعى إلى النّبي فيمن سعى إليه من سراة قريش ليشاطروه أموالهم ويسكت عن أربابهم وعباداتهم، وفي ذلك يقول القرآن الكريم في سورة الأحزاب آية (١): وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.

وبمقياس هذا البذل السخي في سبيل الدين تقاس كراهة الرجل للدين الجديد، وهي كراهة الهرم التي تبقى إلى الموت؛ لأنه فوجئ بالإسلام وهو يقارب الثمانين وظل على الكيد له حتى مات بُعَيْدَ الهجرة وقد نَيَّفَ على الخامسة والتسعين.

•••

وكان خالد فتى ناشئًا يوم ظهر النبي بالدعوة الجديدة، فنفر منها كما نفر قومه أجمعون، وزاد على النفرة لهبًا من حمية صباه، وتحفزًا فتيًّا يسبق به أباه.

فما هو إلا أن بلغ مبلغ الزعامة في القتال حتى تجرد لها بعزيمة الفتوة وشجاعة البطولة، ولم تنقضِ سنتان على موت أبيه حتى كان قائد الميمنة في وقعة أحد المشهورة، وتولى الهجمة التي مالت بكفة النصر من جانب المسلمين إلى جانب المشركين.

وذلك أنَّ النبي — عليه السلام — أقام الرماة من وراء جيشه وقال لهم: «قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا، فإن رأيتمونا قد انتصرنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا.» فلما ولَّى المشركون منهزمين وتبعهم المسلمون مغتنمين، خالفت كثرة الرماة وصاية النبي وتصايحوا بينهم: «ما مقامنا هاهنا وقد انهزم المشركون»، فكانت هي الغرة التي اهتبلها خالد، ولم تذهله عنها الهزيمة المطبقة بقومه، فكر بالخيل وتبعه عكرمة بن أبي جهل صاحب الميسرة وداروا من وراء جيش المسلمين، فحملوا على من بقي من الرماة، فقتلوهم وقتلوا أميرهم عبد الله بن جبير، وانتقضت صفوف المسلمين، واستدارت رحاهم، واختلطوا، فصاروا يقتتلون على غير شعار ويضرب بعضهم بعضًا من العجلة والدهش، وشاع أنَّ النبي — عليه السلام — قتل في المعركة، وقتل فيها حمزة وسبعون من الأنصار، وأرجف المرجفون بكبار الصحابة حتى ظن أبو سفيان أنَّ أبا بكر وعمر من القتلى، وصاح بين الصفوف: «يوم بيوم بدر والحرب سجال.»

•••

واشترك خالد في وقعة أخرى هي وقعة الأحزاب، أو الخندق، فكانت هي أيضًا من أهول الغزوات على المسلمين وأوشكت أن تحيق بهم دوائرها، لولا يقظة علي ابن أبي طالب ووقيعة بعض الدهاة بين أحزاب قريش وهبوب الريح التي عصفت ببيوتهم وقدورهم وزادتهم يأسًا من اقتحام الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة، وفي هذه الغزوة يقول القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (الأحزاب: ٩–١١).

وقد كان خالد في هذه الغزوة يطوف بخيله حول الخندق يلتمس مضيقًا يقحم منه الخيل، فأعياه، وفشل عمرو بن ود حين حاول العبور من إحدى نواحيه. فلما حبطت حملة عمرو وقتله علي بن أبي طالب. بات المشركون ليلتهم يقسمون كتائبهم لكل فريق من المسلمين كتيبة تدهمه مع الصباح، فكان خالد هو الموكل بالنبي — عليه السلام — في كتيبة غليظة من خيل قريش والأحزاب، فاندفع يقاتل سحابة النهار وهويًّا من الليل، إلى أن تحاجز الفريقان ورجع المشركون وانصرف المسلمون إلى قبة النبي، فارتد خالد بعد هنيهة يطلب الغرة، وكاد أن يظفر بها لولا حرس من المسلمين بقيادة أسيد بن حضير تنبه له وفوت عليه غرضه. ثم انقطع القتال وهو لا يزال على الطلب والطواف، وكان آخر من ترك الحومة بعد يأس الأحزاب من عبور الخندق ودخول المدينة، فلبث هو وعمرو بن العاص على ساقة الجيش في مائتي فارس ردءًا للجيش كله، مخافة أن يتعقبه المسلمون.

•••

وتصدَّى خالد مرة أخرى للنبي — عليه السلام — في سنة الحديبية وهو في طريقه إلى مكة، وكان النبي قد خرج إليها معتمرًا في نحو ألف وخمسمائة من المسلمين لا يحملون سلاحًا غير السيوف في القرب، فأوجس المشركون خيفة أن يكون قدومه إلى البيت الحرام للقتال لا للعمرة، وندبوا خالدًا في مائتي فارس للقائه قبل بلوغ مكة. فدنا خالد حتى نظر إلى أصحاب رسول الله، وأمر رسول الله عباد ابن بشر فتقدم في خيله وأقام بإزائه وصف من ورائهم رجاله، ثم حانت صلاة الظهر فصلى رسول الله بأصحابه صلاة الخوف، وهمَّ خالد أن يُغِير عليه لولا نخوة من الفروسية أبت له العدوان على المسالم وقمعت فيه طمع الرئيس المغيظ على مكانته وعروض دنياه، فعَلَتْ هنا كفة الفارس النبيل على كفة الرئيس الموتور، وقال خالد يصف ذلك بعد إسلامه: «هممنا أن نُغِير عليه ثم لم يعزم لنا، وكان فيه خيرة، فاطلع على ما في أنفسنا من الهجوم به فصلى بأصحابه العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك مني موقعًا، وقلت الرجل ممنوع.»

إلا أنه مع هذا بقي على لدده في خصومة الإسلام ومعاندة نفسه دون الإصغاء له والنظر إليه. فلما صالح النبي قريشًا ودخل مكة في عمرة القضية كره خالد أن يشهد دخوله، وتغيب من جوار البيت ريثما يعتمر المسلمون ويرجعون من حيث أتوا، وهو معفي النظر من رؤية شيء لا يستحبه ولا يخلي بينه وبين حربه.

كذلك كانت كراهة خالد للإسلام بعد كراهة أبيه.

ومن وثباته هذه، ولجاجه ذاك، يغلب على الظن أنَّ كراهته كانت من نوع تلك الكراهة التي هي أقرب إلى المبارزة والمناجزة منها إلى المقت والضغينة؛ لأنها لا تُعَنِّي صاحبها بالبعد من موضوعها كما تُعَنِّيه بالاشتغال به والعكوف عليه، كأنه زميل المبارزة اللازم لإتمام الصراع وإذكاء حرارته وامتحان قدرة النفس عليه.

وهذه الحرارة حركة جياشة في النفس وليست كذلك الموات الذي تنقبض عليه النفس في الشيخوخة الفانية، وكذلك الضغن الذي يتغذى بقبحه المخزون في طبيعة منغولة معدومة الخير والنجدة.

مثل هذه الحركة الجياشة في النفس الحية الفتية كالسيل المتدفع الآتي في واديه المحيط بجانبيه، يظل متدفعًا آتيًا ما بقي في الوادي وما انهمر عليه الغيث من ضِفَّتيه، ولكنه إلى أمد لا محالة؛ لأنه سينتهي إلى مفترق الوادي فلا يجيش ولا يتدفع، وسيقصر عنه الغيث فلا يربو ولا يترع، وسيكون طريقه مع الوادي المفترق غير طريقه مع الوادي المحصور.

والوادي هنا قد افترق في مجراه شعبة بعد شعبة منذ عهد قريب وإن لم ينتهِ بعدُ إلى غاية المفترق في الأرض البراح.

افترق الوادي قليلًا حين انقسم بيت المغيرة بين معسكر الجاهلية ومعسكر الإسلام، وأصبح في معسكر الإسلام أخوان حبيبان إلى خالد، وهما الوليد وهشام.

وافترق قليلًا يوم أصغى أبوه إلى القرآن، فحدث آل بيته عنه ذلك الحديث الذي أرابهم وأشجاهم، فحسبوه قد صبأ عن دينه وسألوه عن نبأ محمد فأوشك أن يقع في قلبه أنه وحي السماء لو لم ينطق لسانه بأنه السحر الذي يفرق بين الرجل وزوجه والولد وبنيه والسيد ومولاه.

وافترق قليلًا يوم شهد خالد سكينة المسلمين في طريق الحديبية وهم قائمون للصلاة، وهجس في خاطره أن يُغِير عليهم فصدته عنهم رهبة الصلاة ونخوة الفارس المحجم عن الغدر والغيلة، وسرى في روعه أنَّ لمحمد لسرًّا وأنَّ الرجل لممنوع.

وكان لتلك الحركة الجياشة مدد من تحريك الكتائب وتجريد الطلائع وإقامة الأرصاد والتقاء الجموع واتفاق الكلمة بين المشركين على الحرب والعداء، فإذا هم يتبلبلون مختلفين بعد صلح الحديبية، وإذا بصلح الحديبية يُلقي السلاح من الأيدي سنين طوالًا لا لقاء فيها ولا نزال، ولا سورة من غضب ولا جذوة من غيظ مثار.

ومات الشيوخ الذين كانوا يخيمون بوقارهم وجمودهم على العقول، وتهيأ الجو للسؤال: فيم هذا العداء والنضال؟ أمن أجل الكعبة ومحمد يرعاها ويحترم جوارها ويحج إليها؟ أم من أجل العصبية القومية وشرف محمد شرف العرب أجمعين؟ أم من أجل الكرامة ومحمد يصون للعزيز كرامته ويعرف للحسيب قدره؟

ومن أين لمحمد ذلك النصر المبين بعد النصر المبين؟

ومن له تلك المهابة التي ترد عنه الأعين والأيدي من قريب؟

ومن أين له ذلك العون الذي يدركه وقد أحاطت به الهزيمة من كل فجٍّ، فإذا هو ناصِلٌ منها وإذا هو الطارد الظافر وقد خُيِّلَ إليهم أنه الطريد المخذول؟

ومن أين للمسلمين ذلك الأدب وذلك الخشوع؟ ومن أين للنبي بينهم ذلك السلطان الصادع والصوت المسموع؟

لقد رآهم ورآه سيد أهل الطائف عروة بن مسعود، فعاد إلى قومه يقول: «والله يا معشر قريش … جئت كسرى في ملكه، وقيصر في عظمته فما رأيت ملكًا في قومه مثل محمد بين أصحابه، ولقد رأيت قومًا لا يسلمونه بشيء أبدًا، فانظروا رأيكم فإنه عرض عليكم رشدًا، فاقبلوا ما عرض عليكم فإني لكم ناصح، مع أني أخاف ألا تنصروا عليه.»

ولقد رأوه بعد ذلك في عمرة القضية لا يتوضأ إلا كاد المسلمون يقتتلون عليه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدون النظر إليه، ورأوهم في نظامهم ومودتهم وصدق إيمانهم وخالص نياتهم، فأكبروهم وعز عليهم أن يصغروهم أو يتمادوا في الزراية بهم والإعراض عنهم، وانقلبوا إلى أنفسهم فإذا هم مرتابون في الغد متدابرون في المقصد، منهزمون وهم الأكثرون، محجمون وهم المتربصون، فحانت الساعة لوزن الأمور ومراجعة الحاضر والمصير، وفرضت هذه المراجعة فرضًا على كل ذي بصر بالقيادة في معارك النضال أين تفشل وأين يتسع لها المجال، فإذا بالرجلين المفطورين على توجيه الوجوه قد انتهيا إلى رأي في مصير المعركة بين الجاهلية والإسلام في ساعة واحدة، وعلما أين يقف الدِّينانِ المتناجزان من حق النصر وعوارض الهزيمة، وهما عبقريا قريش في أصول القيادة على تباين السن والمذهب والمزاج: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص.

وفي تلك الآونة التي يشتد فيها الجذب والدفع بين الإنسان وقرارة ضميره، وتجب فيها الموازنة وجوبًا على كل ضليع يها قادر عليها، لم يترك خالد لنفسه ولم يلبث أن جاءته الدعوة التي تنصره على عناده وتخرجه من تردده، وتستدعي منه البث العاجل بجوابه، وتمسح الغضاضة التي لعلها كانت تثنيه عن تلبية ضميره.

وتلك رسالة من أخيه له من كلام محمد ولا غنى فيها عن جواب.

قال أخوه الوليد: «… أما بعد … فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك، ومثل الإسلام يجهله أحد؟!»

ثم مضى يقول: «سألني رسول الله فقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به. فقال: ما مثل خالد يجهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وحده مع المسلمين على المشركين لكان خيرًا له، ولقدمناه على غيره. فاستدرك يا أخي ما فاتك منه، فقد فاتتك مواطن صالحة.»

تلك كانت هي الدعوة التي جاءت في أوانها.

وكان إسلام خالد هو الجواب.

فهي مراحله الطبيعية التي لا بد له من عبورها بين الجاهلية والإسلام؛ لم يكن طبيعيًّا أن يلبي أول دعوة وهو هو في قريش صاحب معقلها المنيع.

ولم يكن طبيعيًّا أن يلبي الدعوة في وطيس الحرب ومحتدم العداء.

ولم يكن طبيعيًّا أن يسكن هنيهة إلى الموازنة وقد انقسم بيته، ثم انقسمت نفسه، ثم جاءته الدعوة الكريمة في حينها فلا يكون الإسلام جوابه المنظور.

فهو قد انتقل من الإصرار إلى القتال، إلى الموادعة، إلى الموازنة، إلى الترجيح، إلى الإجابة، ولو عجل بواحدة من هذه الخطوات لكانت هذه العجلة هي مكان العجب وهي الأمر المخالف لطبائع الأمور.

وقد أسلفنا أنَّ الإسلام كان في أمر خالد ضربًا من التسليم، فنعيد هنا أنه تسليم القائد في معركة نفسية وليس بتسليم القائد في معركة حسية وكفى، ولهذا عناه أن يستغفر له النبي ربه عن ماضيه، ولم يكن قصاراه أن يرحب به النبي ويسلكه بين صحابته ومريديه، فقال: «يا رسول الله … قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معاندًا عن الحق، فادع الله يغفرها لي.»

فأجابه النبي عليه السلام: أنَّ الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله.

فعاد خالد يؤكد رجاءه ويقول: يا رسول الله، وعلى ذلك!

فدعا النبي ربه: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صد عن سبيلك.

فرضي خالد واستراح …

ولا يكون هذا إلا تسليم القلب نفض عنه الكفر، وليس تسليم اليد رمت منها السلاح.

وأحرى بنا أن نرجع إلى كلام خالد؛ لبيان تاريخ إسلامه وسبب اهتدائه وتلخيص الأحاديث التي كاشف بها خلصاءه قبل لحاقه بالنبي في المدينة ليسلم على يديه، فإنه أجمل ذلك كله إجمالًا يفصح عن تلك الأطوار النفسية التي ساورته وإن لم يقصد إلى الإفصاح عنها، ولعل صدورها منه على البديهة أبين لها، وأقرب إلى توكيدها من الشرح المقصود.

قال: «لما أراد الله بي من الخير ما أراد، قذف في قلبي حب الإسلام وحضرني رشدي وقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد، فليس موطن أشهده إلا وأنصرف وإني أرى في نفسي أني موضع في غير شيء وأنَّ محمدًا سيظهر، فلما خرج رسول الله إلى الحديبية خرجت في خيل المشركين فلقيت رسول الله في أصحابه بعسفان، فقمت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر إمامًا، فهممنا أن نُغِير عليه ثم لم يعزم لنا. وكان فيه خيرة. فاطلع على ما في أنفسنا من الهجوم به فصلى بأصحابه العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك مني موقعًا وقلت: الرجل ممنوع، وافترقنا وعدل على سنن خيلنا، فأخذ ذات اليمين، فلما صالح قريشًا بالحديبية ودافعته قريش بالراح قلت في نفسي: أي شيء بقي؟ أين المذهب؟ أإلى النجاشي؟ فقد اتبع محمدًا وأصحابه آمنون عنده، فأخرج إلى هرقل؟ فأخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية؟ أفأقيم في عجم؟ أو أقيم في داري فيمن بقي؟»

«وبينما أنا كذلك إذ دخل رسول الله في عمرة القضية، وتغيبت فلم أشهد دخوله، وكان أخي الوليد قد دخل مع النبي في تلك العمرة، فطلبني فلم يجدني. فكتب إليَّ كتابًا فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك، ومثل الإسلام يجهله أحد؟! وقد سألني رسول الله فقال: أين خالد؟ فقلت يأتي الله به، فقال: ما مثل خالد يجهل الإسلام؟ ولو كان جعل نكايته وحده مع المسلمين على المشركين لكان خيرًا له، ولقدمناه على غيره، فاستدرك يا أخي ما فاتك منه، فقد فاتتك مواطن صالحة».»

«فلما جاءني كتابه نشطت للخروج وزادني رغبة في الإسلام، وسرتني مقالة رسول الله ، ورأيت في النوم كأني في بلاد ضيقة جدبة، فخرجت إلى بلد أخضر واسع، فقلت: إنَّ هذه الرؤيا حق! فلما قدمت المدينة قلت لأَذْكُرَنَّها لأبي بكر، فذكرتها فقال: هو مخرجك الذي هداك للإسلام، والضيق الذي كنت فيه الشرك. فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله قلت: من أصاحب إلى محمد؟ فلقيت صفوان بن أمية، فقلت: أما ترى يا أبا وهب؟ أما ترى ما نحن فيه؟ إنما نحن أكلة رأس، وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قدمنا عليه فاتبعناه؟ فإن شرف محمد شرف لنا. فأبى عليَّ أشد الإباء، وقال: لو لم يبق غيري من قريش ما تبعته أبدًا، فافترقنا، وقلت: هذا رجل موتور يطلب وترًا، قُتل أبوه وأخوه ببدر. ولقيت عكرمة بن أبي جهل، فقلت له مثل ما قلت لصفوان، فقال لي مثل ما قال صفوان … فقلت له: فاطو ما ذكرت لك … وخرجت إلى منزلي، فأمرت براحلتي تُخرَجُ إليَّ، إلى أن ألقى عثمان بن أبي طلحة، وهو صديق لي أذكر له ما أريد. ثم تذكرت من قُتِل من آبائه فكرهت أن أذكره، ثم قلت: وما عليَّ وأنا راحل من ساعتي؟ فذكرت له ما صار الأمر إليه، وقلت: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر لو صب عليه ذنوب من ماء خرج، وقلت له نحوًا مما قلته لصاحبيه، فأسرع الإجابة … وأدلجنا بسحرة فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج — على ثمانية أميال من مكة — فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة، فوجدنا عمرو بن العاص بها فقال: مرحبًا بالقوم. قلنا: وبك. فقال: أين سيركم؟ قلنا: ما أخرجك؟ قال: فما الذي أخرجكم؟ قلنا: الدخول في الإسلام واتباع محمد قال: وذاك الذي أقدمني. فاصطحبنا جميعًا حتى قدمنا المدينة، فأنخنا بظاهر الحرة ركائبنا، وأُخْبِر بنا رسول الله فسُرَّ بنا. فلبست من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله فلقيني أخي فقال: أسرع فإن رسول الله أخبر بقدومك فسر بقدومك وهو ينتظركم، فأسرعت المشي، فطلعت فما زال يبتسم إليَّ حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة، فرد عليَّ السلام بوجه طلق فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: الحمد لله الذي هداك، وقد كنت أرى لك عقلًا ورجوت ألاَّ يسلمك إلا لخير.»

إلى أن قال: «وتقدم عمرو وعثمان فبايعا رسول الله ، وكان قدومنا في شهر صفر من سنة ثمان، فوالله ما كان رسول الله يوم أسلمت يعدل بي أحدًا من أصحابه فيما حزبه.»

فهذا السرد البسيط قد يحوم بنا حول الخالجة الأولى التي حركت قلب خالد إلى الإيمان بالدين الجديد، ونحسب أنها قد خالجته يوم التقائه بالمسلمين في طريقهم إلى مكة قبيل صلح الحديبية … يوم ردته سكينة الصلاة عن جموع المسلمين وهم مسالمون قانتون إلى جوار البيت الحرام، ويوم بدا له أنَّ هذا البيت العتيق غير خاسر شيئًا بدعوة محمد وغلبة أصحابه على البلد الأمين، ويوم تراءى العنت من قريش أن يذودوا ابن عبد المطلب عن كعبة آبائه وأجداده، ويفسحوا طريقها للوافدين من حمير، كما قال الحليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش …

فمنذ تلك الساعة تباعد ما بين خالد وبين الشرك وتقارب ما بينه وبين الإسلام، وطفق يتباعد من هناك ويتقارب من هنا حتى كانت مبايعته النبي على ما تقدم قبل فتح مكة بشهور.

وفي تحقيق هذا التاريخ — تاريخ إسلامه — خلاف غير قليل، ولكن التاريخ الذي جاء في سرده المنسوب إليه أرجح التواريخ جميعًا لأسباب كثيرة، ليس بأهونها ولا أوهنها السبب النفساني الذي يقترن بغيره. فإن الوقت المشار إليه آنفًا لهو أشبه الأوقات أن يتفق فيه قائد الحرب وقائد السياسة على انتهاء الجولة بين قريش والإسلام، ولن نجد وقتًا هو أولى باتفاق القائدين على اختياره للتسليم من ذلك الوقت الذي تواردت فيه الخواطر بين خالد بن الوليد وعمرو بن العاص. وبعده قُضِيَ الأمر ولم يبق لمكة إلا أن تفتح أبوابها طائعة لمن هجرته وهجرها تلك السنوات الثماني.

وقد علم النبي — عليه السلام — جلية الأمر منذ قدم إليه الرفاق الثلاثة، فقال لصحبه: رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها، وحق للمسلمين أن يحسبوا منذ تلك الساعة أنَّ أولئك الرفاق الأفذاذ قد جاءوهم بمقاليد الكعبة ومسالك البلد الأمين.

فالواقع أنَّ مكة قد أذنت بالفتح منذ فارقها خالد وعمرو وعثمان بن أبي طلحة، فأصبحت «المدينة المفتوحة» التي نعرفها في اصطلاح هذه الأيام، وأصبحت قضية مغلقيها في وجه الدين الجديد قضية عبث وحبوط.

ويخطئ الكاتبون الذين يزعمون أنها فتحت بعد شهور لأنها أُخِذت على غرة وزحف عليها جيش المسلمين في عشرة آلاف وأهلها معجلون عن الأهبة والدفاع.

فإن النبي — عليه السلام — إنما زحف عليها؛ لأن قريشًا غدرت بعهدها وسطت على حلفائه من خزاعة، ثم أشفقت من القصاص فأوفدت أبا سفيان إلى النبي يستأمنه ويسأله مد العهد الذي أبرم بينهم في صلح الحديبية، فأبى النبي ولم يجبه، وأحس المشركون منذ اللحظة الأولى أنَّ المسلمين زاحفون عليهم لا محالة، فلو أنَّ قضية الشرك بقيت لها بقية من عزم لاستعدوا قبل السطو بخزاعة أو بعده على الأثر وأراحوا أنفسهم من الوساطة في التأجيل والمراوغة، ولكنه التسليم الذي بدأ بإسلام خالد وصاحبيه قد تراخى به الوقت إلى أجله المعلوم.

•••

فلما جاءها المسلمون دخلوها آمنين على كثرة من بها من المشركين، وتقدم النبي صلوات الله عليه في كتيبته الخضراء، وتقدم سعد بن عبادة والزبير بن العوام وخالد بن الوليد إلى أبوابها فدخلوها كل من الباب الذي وكل إليه، ونهى النبي أصحابه عن القتال فيها، فلم يحدث قط قتال إلا من صوب خالد بن الوليد؛ لأن صفوان بن أمية وسهيل بن عمر وعكرمة بن أبي جهل رصدوا للباب الذي وصل منه وجمعوا له جمعهم فمنعوه ورموه بالنبل وشهروا عليه السلاح، فبطش بهم وقتل منهم قرابة ثلاثين أكثرهم من قريش وأقلهم من هذيل، وولى السادة والأتباع بعد ذلك في هزيمة نكراء.

أهو تدبير أم مصادفة أحكم من التدبير؟

خالد دون غيره تصادفه جنود رفقائه بالأمس في جيوش المشركين فيرمونه ويرميهم، وقد كانوا معًا يرمون المسلمين عن قوس واحدة.

إنه حارب في صفوف الإسلام عرب الجزيرة وعرب العراق والشام، وحارب في صفوف الإسلام جيوش الفرس والروم، وحارب في صفوف الإسلام كل من برز لتلك الصفوف، فما بال الجاهلية القرشية وحدها ينصرها على المسلمين ولا ينصر المسلمين عليها؟ وأين يلتقي بها إن فاته لقاؤها في ذلك اليوم؟ لقد لقيها إذن في ساعتها التي لا ساعة بعدها وقال النبي حين سمع بضربته: ألم أنه عن القتال؟ قالوا: إنه خالد قوتل فقاتل فقال: «قضاء الله خير»، ثم قال: «لا تُغْزَى قريش بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة …»

وغرائب الاتفاق هكذا تكون حيث تكون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤