الفصل الخامس

مع النبيِّ

أحاط بالنبي — عليه السلام — نخبة من كبار الرجال مختلفون في الأعمار والأقدار، مختلفون في البيئات والأحساب، مختلفون في الأمزجة والأخلاق، مختلفون في ملكات العقول وضروب الكفايات، مختلفون في فهم الدين وبواعث الإسلام، فكان اختلافهم هذا آية من أصدق الآيات على رحابة الأفق وتعدد الجوانب في نفس ذلك الإنسان العظيم، وكان علمنا بكل رجل من أولئك الرجال مزيدًا من العلم بعظمة هاديهم وسيدهم وموجه كل منهم في وجهته التي هو أصلح لها وأقدر عليها، وهم يلتقون أول الأمر وآخره في ذلك الينبوع الفياض من تلك الفطرة العلوية التي فطرها الله لهداية الأمم وقيادة الرجال، بل لقادة القواد الذين يروضون الأمم والرجال.

وما من عظيم من هؤلاء العظماء إلا كان تقدير النبي إياه بقدره الصحيح آية على عرفانه الشامل بخصائص النفوس وسبرة العميق لأغوار الطبائع والأفكار، ولكن تقديره لخالد بن الوليد على التخصيص كان آية الآيات في هذا الباب؛ لأنه عليه السلام لم يكبره إكبار السياسي الذي يستجمع القوة حواليه وينزل كل زعيم منزلة قومه من الوفرة والجاه والعتاد، وإنما أكبره؛ لأنه عرف أقصى مستطاعه قبل أن يظهر من مستطاعه كثير، وسماه «سيف الله» وبينه وبين الوقائع التي استحق بها ذلك اللقب الجليل بضع سنوات، بل سماه سيف الله وهو قافل من معركة يتلقى المسلمون من عادوا منها بالنكير والتشهير، ويَحثون في وجوههم التراب ويصيحون بهم أينما وجدوهم: يا فرار. يا فرار. فررتم من سبيل الله.

لم يكبر النبي خالدًا كما أكبر أبا سفيان تألفًا له ورعيًا لمكانه في قومه، ولكنه أكبره للصفة التي سيوصف بها في تاريخ الإسلام بعد اهتدائه إليه ببضع سنوات.

أكبره؛ لأنه «سيف من سيوف الله»، والناس لا يرون إلا الهزيمة والارتداد، ولم يكن النبي موليه القيادة في المعركة التي ارتد منها بجيش المسلمين، فيقول قائل إنه ينصر المسئول عن اختياره، وهو من ثَمَّ المسئول عن ارتداده أو فراره. ولكنه ولى آخرين وترك اختياره بعدهم لمشيئة إخوانه في الجيش، فاختاروه بعد ذلك مجمعين.

كثير من رؤساء الأمم يعرفون موضع الإكليل من رءوس القادة وهم منتصرون ظافرون، ولكنه موضع يخفى جد الخفاء على أنظار هؤلاء الكثيرين إذا لم يدلهم عليه ضياء النصر والظفر ويبقى للعين الملهمة وحدها أن تراه في ظلام المحنة والبلاء.

وقد صحب خالد النبي ثلاث سنوات، وعهد إليه النبي في كثير من الأعمال الصغيرة وأشركه في بعض الأعمال الكبيرة؛ ومنها غزوة مؤتة، وغزوة حنين، وسرية بني جذيمة، فما من هذه الأعمال الكبيرة عمل واحد لم يتسع فيه المقال للشانئ والحاسد ولم ينظر إليه الناظر من وجهين متعادلين تارة إلى جانب العذر وتارة إلى جانب الملام، ولو أنه — رضي الله عنه — قضى نحبه في السنة العاشرة للهجرة أو بعد ذلك بقليل لعجب المؤرخون كيف سمي «سيف الله» وفيم استحق هذا اللقب الذي لا يعلوه لقب في الإسلام، ولكن النبي وحده قد عرف قبل الحادية عشرة للهجرة أنه حقيق بذلك اللقب على أوفى مداه، سماه به قبل أن يهزم المرتدين، وقبل أن يهزم الفرس والروم، وقبل أن يصون للإسلام جزيرة العرب ويضم إليها العراق والشام، وهي الأعمال الجسام التي من أجلها يُدعى اليوم سيف الإسلام.

وإنما هو البصر العلوي الذي يلمح هذه القدرة في معدنها حيث ينظر الناس فيرون خالدًا مرتدًّا من غزوة مؤتة، أو مأخوذًا مع الخيل وهي تُوَلِّي في أول المعركة من ميدان حنين، أو صانعًا في سرية بني جذيمة ما يبرأ منه النبي عليه السلام.

ولهذا ينبغي أن توزن هذه الأعمال بميزانها الصحيح؛ لإقامة خالد نفسه في مقامه الصحيح، فهي — ولا ريب — من المعدن الذي نجمت منه حروب الردة وفتوح العراق والشام.

(١) سرية مؤتة

وأول هذه الأعمال قد اشترك فيه متطوعًا بعد إسلامه بشهرين أو ثلاثة أشهر، وهو سرية مؤتة التي سيرت إلى البلقاء.

وكان سبب هذه الغزوة أنَّ النبي — عليه السلام — أرسل وفدًا إلى ذات الطلح بمقربة من الشام؛ ليدعوهم إلى الإسلام، فقتلوا جميعًا وعدتهم خمسة عشر إلا رئيسهم نجا من القتل وحده، ولعلهم أبقوا عليه عمدًا؛ ليخبر بما رآه، على ديدن المنكلين في إبلاغ مثلاتهم إلى من يهددونه بالتمثيل والتنكيل.

وأرسل عليه السلام الحارث بن عمير الأزدي رسولًا إلى هرقل، فقتله شرحبيل ابن عمرو الغساني وهو في الطريق.

فأشفق عليه السلام من عقبى السكوت على كلتا الفعلتين وهو غير مأمون … وعلم أنَّ قبائل الجزيرة العربية نفسها قد أذعنت للدعوة الجديدة ومنها المتربص للغدر متى قدر عليه، والموهون الإيمان الذي لا يصبر على الإغراء والاستثارة، فإذا استضعف الغسانيون وجيران الغسانيين شأن النبي وأفلتوا من جرائر فعلة كتلك الفعلة اللئيمة جرأهم ذلك عاجلًا على اقتحام الصحراء للنقمة من المسلمين، فتهب القبائل لنصرتهم في طريقهم وتمدهم الدولة الرومانية بالمال والسلاح تقريرًا لهيبتها في عيون أولئك البدو الذين جهلوا بأسها ووهموا أنهم قادرون عليها؛ إذ لا مطمع للدولة الرومانية في مقاتلة المسلمين وإخضاع الجزيرة بغير هذه الوسيلة، ولا سبيل إلى تسيير الجنود الرومانيين بنظامهم المعروف ومعاهداتهم الكثيرة لمنازلة المسلمين في عقر دارهم من وراء المفاوز والنجود، وتسييرهم بحرًا إلى شواطئ الحجاز لا يغنيهم عن الاستعانة بأناس من العرب وأهل البادية، وهم أولى أن يستعينوا على هذا المطلب بأتباعهم الأقدمين في تخوم الشام.

فلم يجد عليه السلام مناصًا من الثأر لأصحابه المقتولين، وجرد لتأديب المعتدين جيشًا صغيرًا لا تتجاوز عدته ثلاثة آلاف، وكان في ذلك الجيش خالد بن الوليد ونخبة من أقدم الصحابة عهدًا بالإسلام، فلم يتول خالد قيادته؛ لأنه كان على الأرجح أحدثهم عهدًا بالدخول فيه، وتولاها زيد بن حارثة «فإن أصيب فالرئيس جعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليرتض المسلمون بينهم رجلًا فليجعلوه عليهم.»

وأمرهم عليه السلام أن يذهبوا إلى حيث قتل الرسول فيدعوا القوم إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا فالقتال، وأوصاهم: «ألا تغدروا ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدًا ولا امرأة ولا كبيرًا ولا فانيًا ولا معتزلًا بصومعة، ولا تقربوا نخلًا ولا تقطعوا شجرًا ولا تهدموا بناءً.»

ولا شك أنَّ هذا الجيش إنما كان بالوصف العصري «حملة تأديبية وبعثة استطلاع» يقاد على هذا الاعتبار ومن أجل هذه الغاية، ولا يراد به بداهة أن يحطم قوة الدولة الرومانية أو يفتح البلاد التي كانت يومئذ في يديها …

فمضى لهذه الوجهة حتى نزل معانًّا وأقام بها ليلتين، وسمع المسلمون هناك أنَّ هرقل قد عسكر بمآب في مائة ألف من الروم، ومائة ألف من قبائل لخم وجذام والقين وبهراء وبلى على أهبة اللقاء.

وقد يقع في الخاطر أنَّ الروم علموا بمسير جيش المسلمين فأعدوا هذه الجحافل الجرارة ثم سيروها إلى تخوم الدولة في مدى الأيام التي مضت من خروج جيش المسلمين إلى بلوغهم أرض معان، وهو خاطر بعيد جد البعد لما هو معلوم من صعوبة جمع الجيوش وتسييرها في مثل هذه السرعة، ولما يبدو من ضخامة هذه الجحافل بالقياس إلى القوة الإسلامية التي مهدوا للقائها، ولم يكن ليفوتهم أن يعلموا بحقيقتها لو أنهم تلقوا الخبر بخروجها ممن رآها …

والأرجح أنَّ هرقل إنما كان في جموعه هنالك في زيارة الشكر التي نذر لله أن يؤديها إذا هو ظفر بالفرس ورد منهم صليب الكنيسة الكبرى الذي حملوه معهم يوم فتحوا بيت المقدس، وربما كان هرقل قد بارح بيت المقدس في ذلك الحين، وتخلفت جيوش ركابه لأدار هذه الفريضة معه، أو للقيام بمراسم الحفاوة في تلك الزيارة التاريخية.

ورأى المسلمون أنَّ مدد الروم حاضر على مقربة منهم، وأنَّ الحرب بين عسكرين على هذا التفاوت البعيد عمل غير مجد، ولم يكن منظورًا ولا مقصودًا عند مسير الجيش من المدينة، فرجع بعضهم وتمهل الأكثرون منهم؛ ليستأذنوا النبي فيما يصنعون، وغلبت حماسة الشاعر وحمية الشهيد على عبد الله بن رواحة فانتهر المترددين والمثبطين وقال لهم: «يا قوم! والله إنَّ التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة!»

فاستمعوا إليه ولم يشاءوا بأية حال أن يرجعوا قبل الانتهاء إلى مقصدهم الذي خرجوا من أجله، وهو إبلاغ الدعوة إلى قاتلي الرسول النبوي وإبراء الذمة إليهم قبل القصاص، إن وجب قصاص.

فتقدموا من معان إلى مؤتة على مسيرة نحو ليلتين، وفيها حصن للغسانيين يقيم به أمير منهم في خدمة الرومان.

واحتمى الأمير الغساني منهم بحصنه ثلاثة أيام، لعله كان ينتظر فيها مددًا أو أمرًا من رؤسائه، ثم التقى الفريقان على مزرعة في جوار البلدة، فاستمات من بقى من جيش المسلمين، وحاربوا على ما يظهر وهم مفاجأون؛ لأننا لم نسمع في أخبار الوقعة بتوجيه الدعوة أو الإجابة عليها؛ ولأن قائدًا منهم أعجل عن طعامه ولم يذق القوت ساعات، فلما فوجئوا بالقتال لم تدع لهم المفاجأة من خطة غير خطة الصمود للخطر والثبات في وجهه مخافة المصاب الأكبر في هذه الحالة؛ وهو مصاب الذعر والدهشة والملاحقة بلا هوادة.

وكأنما استحى القادة الثلاثة أن يُرشَّحوا للموت ويرجعوا دونه ابتغاء النجاة، فقاتل زيد بن حارثة حتى قتل، وأحاط القوم بجعفر بن أبي طالب وهو يحمل اللواء ويثير من حوله نخوة المسلمين، فأنحوا عليه بالضرب الدراك حتى قطعت يمينه، ثم قطعت شماله، ثم ضم اللواء إلى عضديه، ولبث يناضل عنه إلى أن مات.

ودُعي ابن رواحة إلى الرئاسة، فجاءه ابن عم له بعرق من لحم، وقال له: شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهش منه نهشة، ثم سمع الحطمة في ناحية المعترك فألقاه من يده، وجرد سيفه وهو ينشد:

يا نفس إلا تقتلي تموتي
هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت
إن تفعلي فعلهما هديت

فطفق يصول بين الصفوف ويهدر بالشعر حتى قتل والمعركة في أشدها.

فما هي إلا لحظة حتى دبر المسلمون أمر الرئاسة بوحي البديهة ونور العقيدة وهداية الفداء التي تهدي إلى المصلحة الكبرى وتغفل كل مصلحة دونها. وإذا باللواء يأخذه في تلك اللحظة ثابت بن أقرم من بني العجلان، وينادي في أصحابه: «يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم». قالوا: «أنت»، قال: «لا ما أنا بفاعل»، فاتفقت الكلمة على خالد بن الوليد، فإذا هو يتولى القيادة في حينها ويصنع لساعته خير ما يصنع في ذلك الحين.

وخير ما يصنع في ذلك الحين هو الارتداد المأمون …

وهو أصعب من النصر في بعض المآزق؛ لأن النصر ميسور مع اجتماع العدة له واحتمال الشدة فيه، ولكن الارتداد المأمون غير ميسور لكل من يريده وهو في أضعف الموقفين … إلا أن تكون له خبرة بالقيادة تكافئ الرجحان في قوة العدو الذي يرتد بين يديه.

وأول شيء ينبغي أن يحتاط به لارتداده هو أن يوقع في روع عدوه أنه لا ينوي الارتداد بل ينوي الهجوم أو يقصد إلى الحيلة.

فصمد في الميدان حتى المساء.

ثم بدل مواقف الجيش تحت الليل فنقل الميمنة إلى الميسرة، ونقل الميسرة إلى الميمنة، وجعل الساقة في موضع المقدمة، والمقدمة في موضع الساقة، ورصد من خلف الجيش طائفة يثيرون الغبار ويكثرون الجلبة عند طلوع الصباح. فلما طلع الصباح على الفريقين، إذا بكل طائفة من طوائف الغسانيين والروم ترى قبالتها وجوهًا غير الوجوه وأعلامًا غير الأعلام، وإذا بالجلبة مع هذا الاختلاف في الوجوه والأعلام توهم القوم أنَّ مددًا جديدًا أقبل على جيش المسلمين، وكانوا قد ذاقوا منهم أمرَّ المذاق بغير مدد وهم مفاجأون، فلما ذهب خالد يدافع القوم ويخاشي بجيشه لم يتبعوه حذرًا من الكمين وتوقعًا للإحاطة بهم من ورائهم، وأبلى خالد في هذه المدافعة والمخاشاة بلاء لم يبله قط في غزواته الكبرى على كثرتها. فاندقت في يده تسعة سيوف ولم تصبر معه إلا صفيحة يمانية، وكان هذا التراجع المحمي بشجاعة المستميت غطاءً صالحًا للجيش الصغير في مواجهة الجيش الكبير. فقفل إلى المدينة بسلام، وعرف خالد منذ ذلك اليوم بلقبه الذي أضفاه عليه النبي وهو سيف الله، وعاد الناس يقولون مع النبي إنهم الكرار بإذن الله وليسوا بالفرار …

وقد سمعنا في عصورنا هذه بالألقاب الكبار تضفى على القادة لأنهم نجحوا في خطة ارتداد لا محيص منها. فتلك هي السنة النبوية تسبق النظم العصرية إلى تقدير القائد البارع بقيمة النجاح في ارتداده كما تقدره بقيمة النجاح في تقدمه وانتصاره. ولو أنَّ خالدًا ملكته فطرة المجازفة ولم تملكه فطرة القيادة البصيرة لساءت العقبى أيما سوء وتعرضت الدعوة الإسلامية لمحنة لا نعرف مداها الآن. ولربما تعرضت لهذه المحنة من جانب الجزيرة العربية قبل أن تتعرض لها من جانب الروم والغسانيين؛ لأن الجيش قد خرج من المدينة تأديبًا لأناس متصلفين قتلوا رسولًا واحدًا أو قتلوا وفدًا لا تجاوز عدته خمسة عشر. فإذا تورط هذا الجيش في الزحف حتى اصطلم١ كله ولم يعد منه أحد، فكيف يكون وقع هذا التأديب المعكوس في نفوس البادية المتحفزة أو في نفوس أهل مكة ولما تسلم مفاتيحها للمسلمين؟ إنه ليبعث السخرية والاستهانة من حيث أريدت له الهيبة والمنعة، وإنه ليثير من الفتن ومساوئ الظنون ما يصعب استدراكه في سنين.

ولكن الجيش قد عاد وأبلى في أعدائه، وتسامعت الجزيرة بعدد الجحافل الهرقلية التي حسبتها مرصدة له ولم تقدر على تمزيقه ولا أصابت منه غير اثنى عشر قتيلًا منهم القادة الثلاثة الذين ندبوا للشهادة قبل خروجه، فالسرية إذن قد نهضت بأمانتها، ووقع في نفوس المسلمين من فرط الثقة ببأسهم أنها كانت قادرة على جهاد أعظم من جهادها وثبات أطول من ثباتها، وهي مغالاة في القوة والبأس خير من المغالاة في الضعف والخور، ولا ضرر منها ما شفعتها تلك البصيرة العلوية التي تضع الأمور في نصابها، وتصف النجاح بصفاته ولو بدا للناس في ثياب الإخفاق.

(٢) بنو جذيمة

وقد أثنى النبي على خالد في مهمة لم يندبه لها، ولم يرشحه لها مرشح غير كفاءته واتفاق رأي المسلمين فيها.

ولكنه لامه وبرئ من عمله حين أخطأ في مهمة ندبه لها بعد فتح مكة، وهي السرية التي قادها إلى بني جذيمة ليكشف عن طويتهم ويدعوهم إلى الإسلام.

فبعد فتح مكة، توجهت عنايته عليه السلام إلى تطهير البوادي المحيطة بها من عبادة الأصنام فأرسل السرايا إلى قبائلها: لدعوتها والاستيثاق من نياتها، ومنها سرية خالد إلى بني جذيمة في نحو ثلاثمائة وخمسين من المهاجرين والأنصار وبني سليم … أرسلهم دعاة ولم يأمرهم بقتال.

وكان بنو جذيمة «شرّ حيّ في الجاهلية يسمون لعقة الدم، ومن قتلاهم الفاكه ابن المغيرة وأخوه عما خالد بن الوليد، ووالد عبد الرحمن بن عوف، ومالك بن الشريد وإخوته الثلاثة من بني سليم في موطن واحد» وغير هؤلاء من قبائل شتَّى.

فلما أقبل عليهم خالد وعلموا أن بني سليم معه لبسوا السلاح وركبوا للحرب وأبوا النزول، فسألهم: أمسلمون أنتم؟ فقيل إنَّ بعضهم أجابه: نعم! وبعضهم أجابه: صبأنا! صبأنا! أي تركنا عبادة الأصنام، ثم سألهم: فما بال السلاح عليكم؟ قالوا: إنَّ بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوهم فأخذنا السلاح، فناداهم: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا، فصاح بهم رجل منهم يقال له جحدم: ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبدًا. فما زالوا به حتى نزع سلاحه فيمن نزع وتفرق الآخرون. فأمر خالد بهم فكتفوا وعرضهم على السيف، فأطاعه في قتلهم بنو سليم ومن معه من الأعراب، وأنكر عليه الأنصار والمهاجرون أن يقتل أحدًا غير مأمور من النبي بالقتال، ثم انتهى الخبر إلى النبي فرفع يديه إلى السماء وقال ثلاثًا: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد»، وبعث بعلي بن أبي طالب إلى بني جذيمة فودَى دماءهم وما أصيب من أموالهم … قيل إنه «كان يدي حتى ميلغة الكلب» ويسألهم: أبقي دم أو مال لم يود لكم؟ فلما اكتفوا ورضوا فرق بينهم بقية المال «احتياطًا لرسول الله» وقد سأل رسول الله فتًى من جذيمة انفلت إليه لينبئه نبأ خالد مع آله وذويه: هل أنكر عليه أحد؟! قال: نعم، قد أنكر عليه رجل أصفر ربعة، ورجل طويل أحمر، فاشتدت مراجعتهما. وكان عمر بن الخطاب بمجلس رسول الله، فقال: أما الأول يا رسول الله فابنى عبد الله، وأما الآخر فسالم … مولى بني حذيفة …

ويُعزى إلى خالد أنه استند في قتالهم إلى قول عبد الله بن حذافة: «إنَّ رسول الله قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم عن الإسلام.»

وقد عم النكير على الحادث بين أجلاء الصحابة، من حضر منهم السرية ومن لم يحضرها، واشتد عبد الرحمن بن عوف حتى رمى خالدًا بقتل القوم عمدًا ليدرك ثأر عميه اللذين قتلهما بنو جذيمة مع عوف أبي عبد الرحمن ورجل من بني أمية … وقصة مقتلهم أنهم كانوا قد خرجوا تجارًا إلى اليمن، ثم عادوا ومعهم مال رجل من بني جذيمة قضى نحبه هناك يحملونه إلى ورثته وأهله. فاعترضهم جذمي في رهط من قبيلته يُدْعى خالد بن هشام وزعم أنه وارث المال وأحق به من غيره، فمنعوه ينظرونه أن يصلوا بالمال إلى أهل الميت. فغضب وقاتلهم بالرهط الذين معه فقتل عوفًا والفاكه بن المغيرة ثم عمد عبد الرحمن إلى خالد بن هشام هذا فقتله بثأر أبيه. وهمَّت قريش بغزو بني جذيمة لولا أن مشي بعض العقلاء بينهم بالصلح فتصالحوا على الدية والمال.

ومن الإسراف أن يظن بخالد بن الوليد أنه تعمَّد قتل أناس وهو يعلم أنَّ دمهم حرام ويتخذ من مهمة النبي ذريعة إلى شفاء ترة قديمة، فأدنى من ذلك إلى القصد في فهم الحقيقة أن نبحث عن دواعي اللبس ودوافع الطبع التي تدفع خالدًا خاصة إلى مثل هذا التصرف، فإن كانت هذه الدواعي وهذه الدوافع قائمة مفهومة فهي تفسير لما حدث وفيها الكفاية، وإن لم تكن قائمة ولا مفهومة فهناك ينفسح مجال الظنون والفروض لمن يشاء.

وقد كانت دواعي اللبس ودوافع الطبع قائمة مفهومة في مقتلة بني جذيمة. فإن البوادي كلها حول مكة كانت تزخر بالشر وتتحفز للوقيعة في تلك الآونة بعد تسليم مكة، فلم تمض أيام على سرية خالد حتى كانت بطون هوازن وثقيف وجشم وغيرها متجمعة في العدة الكاملة والعديد الوافر لمباغتة النبي وجمعه، فإذا ارتاب خالد في نيات طائفة من أهل البادية مشهورين بالشراسة والغدر وهم يلقونه بالسلاح فله في ارتيابه وجه لا يخفى، وإذا أضيف إلى ذلك تلجلج القوم في إعلان إسلامهم والإفضاء بنياتهم فليس اللبس هنا بعازب عن بال المتوجس في أشباه ذلك المقام.

وقد يغني الشعر والقصص في الكشف عن شعور القوم هنا ما ليس يغنيه التاريخ وتسلسل الرواية، فمن كلام أحد الوهبيين في خطاب بني جذيمة بن عامر يسوغ لنا أن نفهم أنهم لم يكونوا متفقين على الإسلام والمسالمة، وذلك إذ يقول:

دعونا إلى الإسلام والحق عامرا
فما ذنبنا في عامر إذ تولت
وما ذنبنا في عامر لا أبا لهم
لئن سفهت أحلامهم ثم ضلت

وقال أحد الجذميين:

فلا قومنا ينهون عنا غواتهم
ولا الداء من يوم العميصاء ذاهب

وفي قصة رواها محمد بن إسحاق بن يسار — وهو من الثقات — شواهد على إصرار بني جذيمة وعنادهم إلى ما بعد الإسار والإنذار، وفحوى هذه القصة كما أثبتها صاحب كتاب الأغاني حيث نقلت ببعض التصرف: «أنَّ خالد بن الوليد كان جالسًا عند النبي فسئل عن غزوته بني جذيمة، فقال: إن أذن رسول الله تحدثت، فقال: تحدث، فقال: لقيناهم بالعميصاء عند وجه الصبح. فقاتلناهم، حتى كاد وجه الشمس يغيب، فمنحنا الله أكتافهم فتبعناهم نطلبهم، وإذا بغلام له ذوائب على فرس ذنوب في أخريات القوم، فبوأت له الرمح فوضعته بين كتفيه، فقال: لا إله … فقبضت عنه الرمح، فقال: إلا اللات … أحسنت أو أساءت. فهمسته همسة أذريته وقيذا — أي مشرفًا على الموت — ثم أخذته أسيرًا فشددته وثاقًا، ثم كلمته فلم يكلمني واستخبرته فلم يخبرني، فلما كان ببعض الطريق رأى نسوة من بني جذيمة يسوق بهن المسلمون. فقال: أيا خالد! قلت: ما تشاء؟ قال: هل أنت واقفي على هؤلاء النسوة، فأتيت على أصحابي ففعلت وفيهن جارية تدعى حبيشة، فقال لها ناوليني يدك، فناولته يدها في ثوبها. فقال: أسلمي حبيش قبل نفاد العيش، فقالت: وأنت حييت عشرًا أو تسعًا وترًا، وثمانيًا تترى.»

قال: «وتناشدا الأشعار حتى قتل، وأقبلت الجارية ووضعت رأسه في حجرها وجعلت ترشفه وتبكي …» إلى آخر القصة في الجزء السابع من الأغاني وهي على ظهور الاختراع في بعضها لا تخلو من دلالة على موقف بني جذيمة من سرية خالد.

فإذا صح مع هذا أنَّ خالدًا تلقى من عبد الله بن حذافة السهمي أمرًا بقتال بني جذيمة نقلًا عن النبي فهو خليق أن يعتمد على الفتوى من أمثاله لحداثة إسلامه وقلة علمه بفقه الدين وأحكامه، وهي على أية حال رواية لا تغفل كل الإغفال في صدد البحث عن أخبار هذه السرية …

والجو كله بعد هذا وذاك — سواء في البادية أو في مكة — هو جو الحرب والريبة وجو التربص والنفور، فلا عجب أن تختلف فيه النوازع والآراء وأن تستطار فيه دواعي الشر والنقمة، وأن يتطرق إليه اللبس وتتعذر فيه استبانة الوجه الصراح.

وعند خالد دوافع الطبع إلى جانب دواعي اللبس واختلاط الآراء وهي الدوافع التي قد نعد منها حداثة السن في ذلك الحين، ومنها أنه تناول الموقف كما يتناوله القائد المطبوع على القتال في الصحراء، ويحدث للقائد في هذا الموقف كثيرًا أن يفرق بين ضربين من التسليم هما: تسليم المراوغة والختل، وتسليم الإذعان والنصيحة، ولا سيما تسليم العدو المتهم المتردد الذي يحيد عن الصراحة يفند أناس منه مقال أناس آخرين.

ومن دوافع الطبع عند خالد، تلك الصرامة التي ينشأ عليها كل من نشأ في مثل بيئته من الجاهلية، وتلك الشدة التي تثيره إليها أعصابه، ويومئ إليها تفزعه في نومه ومشاركة إخوته في عوارضها الموروثة على نحو من الأنحاء، وهي ولا ريب تلك الشدة التي عناها عمر بن الخطاب حين قال: «إنَّ سيف خالد لرهقًا» وهو من أعرف الناس به وأقربهم إليه، وهي التي توقعها جحدم أخو بني جذيمة حين صاح بقومه محذرًا إياهم من إلقاء السلاح: ويلكم يا بني جذيمة. إنه خالد! كأنها خليقة معهودة منه لا تحتاج إلى تأويل بعيد.

وندرت في تاريخ الحروب القديمة والحديثة حرب تدور على العقيدة الدينية أو الحمية الوطنية لا تُحصى عليها فلتة من أشباه هذه الفلتات ولا يقع فيها نذير السيف حيث ينبغي أن يقع بشير السلام.

ولا يبعد أن يكون خالد قد ورث من عمومته جفوة لبني جذيمة؛ فجنح به شعوره إلى سوء الظن بهم وقلة الطمأنينة إليهم من حيث لا يقصد الترة ولا يتعمد الانتقام.

فكل هذا أقرب إلى تعليل بطشته بالقوم من اتهامه بحمل أمانة النبي على دَخَلٍ وسوء نية، وهو الرجل الذي حارب أصدقاءه وأقرب الناس إليه على أبواب مكة، وله ندحة عن حربهم لو تعمد اجتنابها أو كان قصاراه أن يتعلل باللسان ولا يرجع إلى صدق النية في إطاعة النبي — عليه السلام …

ومهما يَلُم اللائمون أو يعذر العاذرون في هذه الزلة، فمقطع القول فيها بين المنصفين أنها خطأ وأنَّ الإبقاء على خالد بعدها صواب؛ لأن صواب الإبقاء على خدمته بعد غزوة بني جذيمة قد ظهر أيما ظهور في حروب الردة وحروب الفرس والروم.

وذلك مثل من تربية النبي — عليه السلام — لأفذاذ الرجال.

ويتجلى تمام هذا المثل بإعطاء الرجال فرص المراجعة والإصلاح في أمر يشبه الأمر الذي أخطأوا فيه، وموقف قريب من الموقف الذي عرضهم للملامة وهذا الذي توخاه عليه السلام حين أرسل خالدًا دون غيره إلى بني المصطلق — وهم من بني جذيمة — ليستخبر له خبرهم ويتبين الحق فيما بلغه عن ارتدادهم، وكان الوليد بن عقبة قد أخبره أنهم ارتدوا عن الإسلام، فندب عليه السلام خالدًا «وأمره أن يثبت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلًا فبعث عيونه، فلما جاءوه أخبروه أنهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى ما يعجبه، فرجع على النبي فأخبره».

وهو مثل ينبئ عن كثير، وقد ينبئ فيما ينبئ عنه أنَّ خالدًا لم يتعسف كل التعسف في شكه الأول ببني جذيمة على اختلاف بيوتهم؛ لأن الشك فيهم ما زال يتكرر بعد ذلك بشهور، وما زال يدعو إلى تلقي الإشاعة عنهم وإيفاد الوفود إليهم مرتين للتمحيص والاستخبار.

(٣) غزوة حنين

ولم تمض أيام معدودات على مقتلة بني جذيمة حتى لمس خالد موضع الثقة من نفس النبي في حادث من أكبر حوادث الإسلام وهو غزوة حنين.

لمس هذه الثقة في غزوة حنين مرتين؛ مرة في إسناد قيادة الخيل إليه على طليعة الجيش، ومرة في سؤاله عنه وعنايته به بعد هزيمة الخيل مولية عند اشتباك الجمعين.

وحق خالد في تلك الثقة إنما يستبين من غرض الغزوة كلها لجلاء الأسباب التي أوقعت الهزيمة الأولى بجيش المسلمين، ولا يد فيها لخالد من قريب أو بعيد … بل لعلها توحي إلينا أنَّ هزيمة خيله يومئذ إنما كانت كصد الأجسام للأجسام ضرورة مادية لا دخل فيها للعوامل النفيسة، أمام جارفة من الجوارف القوية، تأخذ ما أمامها من إنسان أو حيوان ومن شجاع أو جبان.

فقد فتحت مكة والأعراب من حولها ثائرون محنقون، وعلموا يومئذ أنها الوقعة الفاصلة وأنه لا مطمع بعدها في مكافحة النبي إذا تطاولت الأيام على قيام دينه في البلد الحرام وموطن الكعبة والأصنام، فاجتمعت قبائل همدان من هوازن وثقيف وجشم، ومشى بعضهم لبعض يقولون: «إنَّ محمدًا قد فزع من قتال قومه ولا ناهية له عنا. فلنغزه قبل أن يغزونا»، واستنفروا القبائل فلباهم من أقربائهم عدد كبير، منهم بنو سعد بن بكر الذين تربى بينهم النبي وهو رضيع.

وتولى قيادتهم مالك بن عوف النضري، وهو فتى جريء في نحو الثلاثين يجمع إلى غطرسة الإمارة وحمية الفروسية وحدة الشباب ولدد الخصومة والعناد … فساق أموالهم ونساءهم وأبناءهم، وأمرهم إذا رأوا المسلمين «أن يكسروا جفون سيوفهم، ثم يشدوا شدة رجل واحد». فإما فوز وإما فناء. وصُفَّتِ الخيل ثم الرَّجَّالة المقاتلة، ثم الإبل عليها النساء، ثم صفت النعم في حراسة لئلا تفر والجيش مشتغل عنها.

وسأله دريد بن الصمة حكيم القوم: ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله؛ ليقاتل عنهم، فسخر دريد برأيه وقال له: رويعي ضأن والله! وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها — أي الحرب — إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. فرماه مالك بالخرف ولج في عناده ولمح في بني هوازن ميلًا إلى كلام دريد، فجمح به غضبه العارم وأقسم: «لتطيعني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري!»

فهي عزمة رجل مستميت لا يبالي ما يصنع بنفسه أو بقومه في سبيل قهر المسلمين …

ونمى الخبر إلى النبي، فخرج في ألفين من أهل مكة حديثي العهد بالإسلام وعشرة آلاف من أصحابه الذين قدموا معه من المدينة، وقيل إنهم كانوا جميعًا ثمانية آلاف.

وأعوزه السلاح، فاستعار من بعض المشركين دروعًا فأعطوه ثلاثين أو أربعين درعًا — وقيل مائة درع — بما يكفيها من السلاح، واستعار من ابن عمه نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ثلاثة آلاف رمح، فأعاره إياها وهو يقول: كأني انظر إلى رماحك هذه تقصف ظهر المشركين.

وأخرج خالدًا على طليعة الجيش في مائة فارس من بني سليم.

قال الحارث بن مالك: خرجنا مع رسول الله ونحن حديثو عهد بالجاهلية فسرنا معه إلى حنين، وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة، فيعلقون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها ويعكفون عليها يومًا. فرأينا ونحن نسير مع رسول الله سدرة خضراء عظيمة، فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله: الله أكبر. قلتم — والذي نفسي بيده — كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة!

وكان في الجيش كثير من أمثال هؤلاء المسلمين المحدثين، ومعهم في ساقة الجيش جمع من المشركين بين رجال ونساء ينظرون ما يكون، وكان فيهم أبو سفيان الذي قال حين رأى بوادر الهزيمة: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر! وفيهم كلدة بن الحنبل الذي صرخ شامتًا متعجلًا: ألا قد بطل السحر اليوم، وصرخ معه آخرون يقولون: اليوم ترجع العرب إلى دين آبائها …

وكان الغالب على جيش المسلمين في خروجهم قلة الاكتراث بعدوهم، فقال أبو بكر الصديق: لن نغلب اليوم من قلة … ونسبت هذه الكلمة إلى غيره، ولكنها قيلت على التحقيق لما جاء في القرآن الكريم: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا (التوبة: ٢٥).

وتقدم الجيش حتى حضرت صلاة الظهر، فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله، إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبلًا فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله وقال: تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاء الله، ثم سأل: من يحرسنا الليلة؟ قال أنس بن أبي مرثد: أنا يا رسول الله. فأمره عليه السلام أن يستقبل الشعب حتى يكون في أعلاه، وقال له لا نُغَرَّن٢ من قبلك الليلة.

فلما أصبحوا سأل النبي: هل أحسستم فارسكم؟ يعني ذلك الحارس المستطلع … قالوا: يا رسول الله ما أحسسنا، فجعل عليه السلام يصلي ويلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى صلاته، قال: أبشروا، فقد جاءكم فارسكم … فجعل ينظر إلى خلال الشجر في الشعب، وإذا هو قد جاء حتى وقف، وقال: إني انطلقت حتى إذا كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أرَ أحدًا فسأله: هل نزلت الليلة؟ قال لا، إلا مصليًا أو قاضي حاجة.

وروى مسلم من حديث عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه، قال: «غزونا مع رسول الله حنينا فلما واجهنا العدو تقدمت لأعلو ثنية، فاستقبلني رجل من المشركين، فأرميه بسهم وتوارى عني فما دَرَيْتُ ما صنع، ثم نظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا هم وصحابة رسول الله فولى أصحاب رسول الله، وأرجع منهزمًا.»

وحدث أبو عبد الرحمن الفهري، قال: «كنا مع رسول الله في حنين فسرنا في يوم قائظ شديد الحر.»

وروى محمد بن إسحاق بسنده: «خرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين فسبق رسول الله إليها، فأعدُّوا وتهيأوا في مضايق الوادي وأحنائه، وأقبل رسول الله وأصحابه حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح، فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل فشدت عليه وانكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على أحد.»

وفي روايات شتى أنَّ كمينًا من المشركين فاجأ المسلمين من شعبة في الوادي وقابلهم بنبل كأنه الجراد المنتشر، «وكانوا رماة … لا يكاد يسقط لهم سهم»، فأدبرت الخيل وأدبر المقاتلة وراءها لا يلوون على شيء …

وتلك جملة الأخبار عن بدء المعركة جمعناها من مصادر متعددة وأثبتنا بعضها بحروفها، ويتبين من المعارضة بينها أنَّ الهزيمة انكشفت من الهجمة الأولى؛ لأن الخيل فوجئت في الطليعة بالنبل المنتشر من الكمين المستتر، فولت منهزمة في جفلة حيوانية معروفة في أشباه هذه المواقف … وقديمًا ذكر الرواة عن حرب الإسكندر وأمراء الهند أنَّ جفلة الفيلة من الحديد المحمي كانت هي سبب الهزيمة التي أصيبت بها الهند، فانقلبت الفيلة وبالًا عليهم، وقضت وهي مُولِّيَة على الكثيرين من فرسانهم ومشاتهم، تطأ بعضهم وتوقع الآخرين وتدفع من حاول الثبات إلى الفرار، ولم تمض على حنين بضع سنوات حتى لقي الفرس من فيلتهم في حرب المسلمين مثل هذا المصرع ومثل هذه الجفلة الحيوانية، يوم تعمدها المسلمون بالضرب في الأعين والخياشيم.

وقد حدث مثل هذا مرة أخرى في وقعة حنين هذه، حين حاول المسلمون أن يكروا بعد الفرار «فصار الرجل يلوي بعيره فلا يقدر على ذلك؛ لكثرة الأعراب المنهزمين، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم من بعيره ويخلي سبيله ويؤم الصوت.»

وهكذا بدأت الهزيمة بفرار الخيل ولحاق المشاة بهم واختلاط الحابل بالنابل بعد ذلك من الفريقين، وتواتر القول بأن الطلقاء الحديثين في الإسلام أدبروا منهزمين عمدًا بعد الهجمة الأولى، فأشاعوا الهزيمة فيمن معهم من المهاجرين والأنصار.

ولقد أوشك أهل مكة أن يستقبلوا الأعراب المتقدمين على رضا من بعضهم لحنينهم إلى الدين القديم، وعلى كره من بعضهم لأنفتهم من غلبة الأعراب على قريش، لولا أن تغير مجرى القتال، ودارت الدائرة على المشركين بعد لحظات، وكان الفضل في ذلك لحركة جاءت من قبل المسلمين وحركة جاءت من معسكر الأعراب، وكان مجيئهما في الموعد المقدور.

فأما الحركة التي جاءت من قبل المسلمين فهي بروز النبي — عليه السلام — بشخصه الكريم إلى مقدمة الصفوف. فقد ثبت في ذلك الهول الجارف ثبوتًا يجل عن الوصف وأخذ زمام المعركة كلها في يديه ليمضي وحده في القتال كيفما تصير الأمور.

وكان قد شهد المعركة على بغلته دلدل أو الشهباء، فانحاز إلى اليمين سريعًا؛ ليستطع التقدم بين تلك الصفوف المتدفعة من مدبرين ومقبلين، والتفت إلى اليمين ونادي: يا معشر الأنصار … ثم التفت إلى اليسار ونادى كذلك: يا معشر الأنصار … فتسامعوا وتجاوبوا وعطفوا — كما وصفهم شاهدو الموقف — عطفة الإبل على أولادها، واجتمع معهم حول رسول الله مئات في لمحة عين.

•••

وتختلف الروايات في وصف هذه الحركة المجيدة من بدايتها، فيقول بعضها إنَّ الناس أدبروا يومئذ عن رسول الله حتى بقي وحده، ويقول بعضها: بل بقي معه نفر قليل منهم أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان بن الحارث وربيعة بن الحارث ومعتب بن أبي لهب وعبد الله بن مسعود، وقليلون لا يتجاوزون الاثنى عشر، وجعل رسول الله يقول:

أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب

ثم أمر عمه العباس أن يصرخ في الجيش: يا معشر الأنصار … يا أهل السمرة يا أصحاب سورة البقرة … يا بني الخزرج، وكان العباس رضي الله عنه جهير الصوت يُسمع صوته على مسافات بعيدة، وقيل إنه كان يقف على سلع وينادي غلمانه بالغابة فيسمعونه، وبينه وبينهم ثمانية أميال.

فلما جلجل صوته بهذا النداء، إذا بالأنصار والمهاجرين يتجاوبون: يا لبيك يا لبيك … ويسرعون إلى ناحية الصوت زرافات زرافات، حتى تجمع منهم ثلاثمائة أو يزيد في لحظات، ثم شاعت بين الألوف المؤلفة قدوة الكر والإقبال بعد الفر والإدبار، فإذا بالجيش بقضه وقضيضه يعدو إلى ساحة القتال ويرسل الخيل والمطايا ليملك كل منهم زمام يديه وقدميه، وهانت النفوس حتى استهدفت النساء للموت غير مباليات، ومنهن من لم تكن على صحة في النظر كالعميصاء أم أنس بن مالك، وكانت وهي حامل تحزم وسطها ببُرد لها، وفي حزامها الخنجر لدفاع من يجترئ عليها.

وكان خالد بن الوليد قد ثنى عنان فرسه بعد التوائه في الهجمة الأولى، فلم يزل يقاتل حتى سقط مُثقلًا بالجراح لا يقوى على السير من مؤخرة رحله، وهناك وجده النبي — عليه السلام — حين خرج يتفقد الجرحى بعد المعركة، فبارك له وواساه.

أما الحركة التي جاءت من قبل المشركين، فأعانت على هزيمتهم فذاك أنهم قد غرتهم طلائع النصر، فأقبلوا على الغنائم والأسلاب، وشغل الكثيرون منهم بالتقاطها واستلابها عن مطاردة المدبرين، فاتفقت الحركتان في وقت واحد لتحويل وجهة القتال.

•••

ويتبين من مقدمات المعركة كلها ومن بوادرها التي أجملناها أنَّ الهزيمة فيها بعد الهجمة الأولى كانت ضرورة مادية لا محيد عنها، وأنها ضرورة لم يكن لخالد يد فيها ولا طاقة باتقائها؛ لأن أسبابها كلها كانت من وراء تدبيره ومشيئته، وهي كثيرة نجملها ما وسعنا الإجمال.

فمنها أنَّ الروح التي غلبت على جيش المسلمين في بداية المعركة كانت روح استهانة وقلة اكتراث، وأنَّ الروح التي غلبت على روح المشركين يومئذ كانت روح استماتة وعناد مع تقارب العدد بين الجيشين.

وربما رجحت كفة المشركين في الدروع والسلاح لما تقدم من حاجة النبي — عليه السلام — إلى استعارة بعض الدروع والرماح.

و«منها» أنَّ جيش المسلمين كان فيه كثير من الطلقاء، قد يبلغون الألفين وقد يزيدون، وكانوا على دخل أو على ضعف يبيتون النية على خذلان النبي فخذلوه، وتبعهم الناس.

و«منها» أنَّ جيش المشركين سبق المسلمين إلى مواقفه، فاختار وأحسن الاختيار، وهجم في الوقت الذي ارتضاه.

و«منها» أنَّ المسلمين كانوا يواجهون الشمس عند الصباح واليوم قائظ لا تقوى فيه العيون على مواجهة شعاعها، فحيل بينهم وبين التثبت والإحكام في مطلع الصباح إلى أن استوت الشمس في كبد السماء.

و«منها» أنَّ استطلاع المسلمين لم يكن على عادته من البراعة والتيقن والإسراع، فقد أبطأ الفارس المستطلع حتى التمسه النبي — عليه السلام — مرات، ثم جاء ولم يخبر بشيء، ثم ظهر الكمين المرهوب من حيث لا يرونه، فأوقع بالخيل وهي لا تحسب له أي حساب، وهذا مع مهارة المشركين في الرماية، حتى قيل إنهم لا يسقط لهم سهم.

و«منها» أنَّ بني سليم أصحاب الخيل التي تولاها خالد كانوا على قرابة من هوازن، وعز عليهم أن يلاحقهم المسلمون بعد استدارة المعركة، فكانوا يقولون: ارفعوا القتل عن بني أمكم … وكانوا مع هذا ضعاف الإسلام فسبقوا إلى الردة بعد موت النبي عليه السلام، وما زالوا في موضع الظنة بعد ذلك على عهد الخلفاء.

فتقدير النبي لخالد بن الوليد إنما هو التقدير الصحيح لأعمال السرايا والجيوش في مؤتة وبني جذيمة وحنين، وكأنما هو تقويم الجوهري الخبير للجوهر النفيس في معدنه الخفي غير مصنوع ولا مصقول، وللتاريخ من بعده تقويم الجوهر بما يضفي عليه من جمال الصوغ والضياء.

ونعود هنا فنقول: إنَّ تقدير النبي — عليه السلام — خالد بن الوليد لم يكن تقدير المجاملة لمكانه أو لما يُرْجى من قومه الأقوياء بني مخزوم، فإنه عليه السلام لم يجامله في وصفه الذي طابقته حوادث الأيام، ولم يجامله حين قدم عليه في القيادة ثلاث من السابقين في الإسلام وترك اختياره بعدهم لاتفاق كلمة المسلمين، بل لم يجامله حين خاصم عبد الرحمن بن عوف، فغضب النبي — عليه السلام — وقال له مُعَرِّضًا: «يا خالد ذر أصحابي. لو كان لك أحد ذهبًا فأنفقته قيراطًا في سبيل الله لم تدرك غدوة أو روحة من غدوات أو روحات عبد الرحمن.»

إنما هو سيد السادة ومربي الرجال والأبطال، يُقَوِّم الأعمال بقيمتها ويُنزل العظماء في منازلهم، ولا يمنعه أداء المجاملة أن يجامل بمقدار على حسب السوابق والأقدار.

وقد تولى خالد للنبي أعمالًا أخرى في سنوات صحبته الثلاث، ولكن الأعمال التي اخترناها هي أكبر أعماله في حياته عليه السلام، وهي أقرب الأعمال إلى وزن كفايته وتقويم معدنه وتمييز خلقه، ولكنه أريد لكل عمل صغير، كما أريد لكل عمل كبير، وكانت للنبي — عليه السلام — نظرة في كل مهمة مقدورة ندبه إليها …

فمن مهامه الصغيرة تسييره في ثلاثين فارسًا لهدم «العزى» بعد فتح مكة ببضعة أيام، وهي الصنم الذي كان أبوه يتمسح به وينحر له الإبل والغنم، وكان سدنته من بطون بني سليم الذين قاتلوا مع خالد في مقاوم شتى، وقد كان معبود القبائل التي لقيها المسلمون في يوم حنين، وأصله ثلاث شجرات بأرض نخلة يزعمون أنَّ ربهم كان يشتو بها لحر تهامة، ويصيف باللات عند الطائف لبردها … وظلت مخوفة إلى ما بعد الإسلام، فيقول الكلبي: «إنَّ اللات والعزى ومناة لكل منها شيطانة تكلمهم، وتراءي للسدنة، من صنيع إبليس وأمره»، وهي التي أرجف من أرجف من المشركين أنَّ القرآن الكريم يرتضيها ويساومهم على عبادتها، ويجعلون منه قولهم: «اللاة والعزى ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلا، وإنَّ شفاعتهن لترتجى.»

فهي مهمة مخوفة من وجهتها النفسية وإن سهلت من الوجهة الحربية، فخرج خالد حتى انتهى إليها فهدمها، وجاء في بعض الأقاويل أنه: «لما انتهى إليها جرد سيفه، فخرجت إليه امرأة سوداء عريانة ناشرة شعرها، فجعل السادن يصيح بها:

«أَعُزَّى» إذا لم تَقْتُلي المرء خالدًا
فبوئي بإثم عاجل أو تنصري

فأخذ خالدًا «اقشعرار في ظهره»، وضربها بالسيف فشقها، ثم لقي النبي، فقال له: الحمد لله الذي أكرمنا بك وأنقذنا بك من الهلكة، لقد كنت أرى أبي يأتي العزى بخير ماله من الإبل والغنم فيذبحها للعزى، ويقيم عندها ثلاثًا ثم ينصرف إلينا مسرورًا، ونظرت إلى ما مات عليه أبي وإلى ذلك الرأي الذي كان يعاش في فضله، وكيف خدع حتى صار يذبح لما لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع.» فقال عليه السلام: «إنَّ هذا الأمر إلى الله، فمن يسره للهدى تيسر له ومن يسره للضلالة كان فيها.»

وكذلك بلغت العبرة إلى خالد قبل أن تبلغ منه إلى الناس.

•••

ومن المهام التي نُدب لها في حياة النبي مهمة يمتزج فيها الشك بالأمل، والرفق بالشدة، والترغيب بالترهيب؛ لأنها بعثة إلى أناس غلَّابين مجتمعي الرأي أولي عصبة وبأس وحنكة ولهم سمة يخالفون بها سمة العرب في معظم أنحاء الجزيرة وهم بنو الحارث بن كعب بنجران.

أرسله إليهم وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاثة أيام، فإن استجابوا قبل منهم وإن لم يفعلوا فله أن يقاتلهم، فخرج إليهم وبعث الركبان فيهم يبشرون بالدين الجديد ويبصرونهم بفضائله وأحكامه، فاستجابوا له ودخلوا فيما دعوا إليه.

وأقبل وفد من عظمائهم على النبي — بأمره عليه السلام — فقال حين رآهم: من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند؟ قيل: يا رسول الله، هؤلاء رجال بني الحارث بن كعب، ثم سلموا ونطقوا بالشهادتين، فقال لهم عليه السلام: أنتم الذين إذا زجروا استقدموا؟ وأعادها ثلاثًا وهم لا يجيبون، فلما أعادها الرابعة قال زعيمهم يزيد بن عبد المدان وفيه شوس وخيلاء: نعم يا رسول الله، نحن الذين إذا زجروا استقدموا، وكررها أربعًا، فقال النبي: لو أنَّ خالدًا لم يكتب لي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم، فانطلق ابن عبد المدان يقول: أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدًا. قال: فمن حمدتم؟ قالوا: حمدنا الله عز وجل الذي هدانا بك يا رسول الله.

قال: صدقتم، ثم سألهم: بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ قالوا متغضبين: لم نكن نغلب أحدًا، قال: بلى. كنتم تغلبون من قاتلكم، فعادوا يقولون: كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله، أنا كنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحدًا بظلم.

قال: صدقتم … وقفلوا إلى ديارهم، فأرسل إليهم عمرو بن حزم يفقههم في الدين ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام ويأخذ منهم الصدقات.

•••

وقد شهد خالد مع النبي — عليه السلام — غزوتين لم يجرِ فيهما لقاء واشتباك، وهما غزوة الطائف وغزوة تبوك.

وكانت غزوة الطائف تتمة لوقعة حنين، لاذت بها القبائل بعد فرارها وامتنعت وراء أسوارها، وجمعت من الميرة ما يكفيها إلى السنة القابلة، فأحاط المسلمون بالأسوار فرماهم المشركون بالنبل كأنهم أسراب الطير، وقتلوا وجرحوا وهم متمكنون في أسوارهم، فبرز خالد لهم يدعوهم إلى النزال ولا يجيبه أحد، ثم صاح به عبد ياليل عظيم ثقيف: «لا ينزل منا أحد ولكن نقيم في حصننا، فإن فيه من الطعام ما يكفينا سنين، فإن أقمت حتى يفنى هذا الطعام خرجنا إليك بأسيافنا جميعًا حتى نموت عن آخرنا.»

فضربهم المسلمون بالمنجنيق وتقدم نفر من الصحابة تحت دبابتين من جلود البقر يفتحون ثغرة في الحصن. فأرسل عليهم المشركون سكك الحديد المحماة فأحرقت الدبابتين وصدتهم عن السور.

وأمر عليه السلام بكرومهم ونخيلهم فقطعت وهم يصيحون: دعها لله والرحم. فقال عليه السلام: «أدعها لله والرحم»، واستشار نوفل بن معاوية الديلي في أمرهم فأجابه: «يا رسول الله. ثعلب في حجر إن أقمت أخذته وإن تركته لم يضرك.»

وفي الطريق، قسم النبي غنائم حنين قسمة لم تُرضِ أناسًا، فغضب رجل من المنافقين وصاح في حضرته: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فاحمر وجهه عليه السلام غضبًا وقال له: ويحك، من يعدل إذا لم أعدل؟ ووثب خالد وعمر يستأذنانه في ضرب عنقه فأبَى وقال: لا … لعله أن يكون يصلي، فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فعاد النبي يقول: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق عن بطونهم.

أما غزوة تبوك فقد خرج لها النبي — عليه السلام — إلى حدود الروم سنة تسع للهجرة في أعظم جيش شهده المسلمون في حياته … ومن ثمَّ، أمر خالدًا أن يذهب إلى دومة الجندل ليأتيه بالأكيدر أميرها؛ لأنه كان في وسط الطريق بين الحجاز والعراق والشام عينًا للروم وحربًا للقوافل يدين للقسطنطينية بالعقيدة وبالطاعة، ومن خبرة النبي — عليه السلام — بالقبائل وأحوالها والأمراء وعاداتهم أنه قال لخالد: «ستجده يصيد البقر» … فكان كما قال.

وقد ذهب خالد إلى الدومة في أربعمائة وعشرين فارسًا فاقتحم الحصن واضطر من فيه إلى التسليم ومنهم الأمير، وجاء به إلى المدينة فصالحه النبي على الجزية وعاهده على الأمان.

وثمَّ بعثة من غير هذا الباب ندب لها خالد، ولم يندب لمثلها قط في عهد النبي ولا عهود خلفائه، وتلك بعثته إلى بني مراد وزبيد ومذحج باليمن، يدعوهم إلى الكتاب ويعلمهم شريعته وأحكامه.

قيل إنه مكث فيه أشهرًا يدعوهم فلا يجيبونه، وإنه عليه السلام بعث بعده على بن أبي طالب وأمره أن يقفل خالدًا ومن معه، فإن أراد أحد أن يعقب معه تركه.

ولا غرابة عندنا في هذا الذي حدث — إن كان قد حدث على الوجه الذي ذكره الرواة — فإن خالدًا لم يسمع من القرآن ولا من فقه الدين كما سمع الصحابة ممن عاشروا النبي سنين بعد سنين، وإنما هي سنوات قلائل لم يفرغ فيها إلا بضعة أشهر من الغزوات والبعوث، وقد أم الناس بالحيرة — في خلافة الصدِّيق — فقرأ من سور شتَّى، ثم سلم والتفت إلى الناس معتذرًا يقول: «شغلني الجهاد عن كثير من قراءة القرآن.»

•••

ويجوز أنَّ النبي — عليه السلام — أرسله في هذه البعثة؛ ليدربه على الدعوة وليفرغ بعض وقته للمدارسة والمذاكرة بهداية من معه من فقهاء الصحابة، ويجوز أنه عليه السلام تعمَّد أن يرصده للبطل المشهور عمرو بن معد يكرب — فارس زبيد — ندًّا له يكف من غربه ويلزمه التدبر في عاقبة نكثه وانتقاضه.

وفي تواريخ البعثة اضطراب قد يشكك القارئ في بعض وقائعها وأغراضها فيجوز أيضًا أنَّ البعثة وفقت بعض التوفيق أو كل التوفيق وأنَّ الرواة قد فاتهم في هذا الصدد شي كثير أو قليل من التحقيق.

لكنها كائنًا ما كان مصيرها ومصير عشر من أمثالها — لو ندب إلى عشر من أمثالها — لتسقطن من سيرة خالد ويبقين له ما هو حسبه من البطولة وصدق البلاء. وليكونن بها أو بغيرها خطيبًا يبين من منبر التاريخ، وإن لم يحمله قط منبر التعليم.

١  اصطلم: أي قتل وأبيد.
٢  يجب ألا يباغتنا الأعداء من ناحيتك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤