الفصل السادس

حروب الردَّة

لتفصيل الكلام في حروب الردة مكان غير هذا المكان …

لأننا نتناول منها في هذا الكتاب ما يتصل بأعمال خالد وتقديم خصائصه ومزاياه، وندع ما عدا ذلك لمكانه من الشروح والمطولات.

وقد رجعت الردة — كجميع الثورات والأحداث الاجتماعية — إلى أسباب مختلفة، ولم تنحصر في سبب واحد، وربما كان من أسبابها ما خفي على المؤرخين ولا يزال خافيًا علينا حتى الآن، ولكننا نعتقد أنَّ الأسباب الآتية كافية لتفسيرها وتفسير نصيب خالد منها، على القدر اللازم لفهمها وتصحيح دلالتها.

فمن أسباب حروب الردة تمرد القبائل القوية على قريش، وأقواها القبائل التي تنتمي إلى ربيعة دون مضر؛ فإنها كانت تتعصب لنسبها وتأنف أن تعلوها قريش بفضل النبوة والرئاسة، وصرح بذلك طليحة النمري حين لقي مسيلمة زعيم بني حنيفة ومدعي النبوة في اليمامة، فقال: «أشهد أنك كذاب، لكن كذاب ربيعة أحب إلينا من كذاب مضر.»

وكان مسيلمة هذا يقول: إنه أراد أن يأخذ نصف الأرض ويترك نصفها لقريش «ولكنَّ قريشًا قوم لا يعدلون.»

ولم تكن المنافسة بين قبائل مضر أخف ولا أضعف من المنافسة بين مضر وربيعة، فإن المنافسة في الأقربين أشد وأيقظ من المنافسة بين الأبعدين كما هو المعهود في كل قبيل؛ فكانت ذبيان وعبس وبنو أسد تكره من سيادة القرشيين ما تكرهه القبائل البعيدة، وروي عن عيينة بن حصن مثلما روي عن طليحة النمري إذ قال يؤيد المتنبئ طليحة بن خويلد: «نبي من الحليفين أحب إلينا من نبي من قريش»، ويعني بالحليفين بني أسد وبني غطفان.

وكانت قريش تقابل مثل هذه النفرة بمثلها في أيام خصومتها للنبي وثورتها عليه. فكان صفوان بن أمية مشركًا في وقعة حنين، ولكنه أنكر من أخيه أن يفرح بنصر هوازن وحلفائها، وصاح به وذهزيمة المسلمين على أشدها: «اسكت فض الله فاك. أتبشرني بظهور الأعراب … والله لأن يَرُبَّنِي رجل من قريش أحب إليَّ من أن يَرُبَّنِي رجل من هوازن.»

ومن أسباب الردة، ثورة البادية على الحاضرة … فما زال من دأب البادية في كل زمان أن تنقم على الحاضرة سلطانها ونعمتها، ولم يشذ عن هذه السنة إلا بضع قبائل فيما بين مكة والمدينة كانت تخشى من سطوة القبائل الكبرى ما ليست تخشاه من سطوة المدينتين، وكانت تحتكم في خصوماتها إلى وساطة أهل مكة تارة وأهل المدينة تارة أخرى، فتؤثر مودة الجوار بعد طول الخبرة وطول العشرة على بلاء الفتنة فيما بينها إذا زال سلطان مكة والمدينة، ولزم بعض هذه القبائل الحيدة يترقب ما يكون، وأسرع بعضها إلى تلبية الدعوة، فحارب في صفوف المسلمين.

ومن أسباب الردة، نجاح الدعوة المحمدية بعد فتح مكة … فإن هذا النجاح أطمع بعض القادة من رؤساء العشائر في بلوغ مثل هذا المطلب الجليل …

فما هو إلا أن استقر الأمر لمحمد في الحجاز وما حوله حتى اشرأبت الأعناق للاقتداء به، وظن من ظن أنهم قادرون على ما قدر عليه وأن المسألة كلها مسألة كهانة وأسجاع وقيادة وأتباع، وقصرت عقولهم عن إدراك سر القوة الأصلية التي هيأت لمحمد كل ذلك التوفيق العظيم، وهي أن دعوته مطلوبة لإصلاح الأخلاق والمعاملات ونظم الحكم والمعيشة في العالم كله وليست مجرد نهزة تنتهز لظهور رئيس مطاع وتحقيق مجد مرموق … فنجم الدعاة في حياة النبي باليمن، ونجد، والبحرين، لمجاراة الدعوة بالحجاز، وجاءت وفاته عليه السلام إثر ذلك فجرأتهم على المجاهرة بالعصيان.

ومن الأسباب التي أثارت القبائل، فريضة الزكاة التي فرضها الإسلام على كل مستطيع؛ فإنها أثارتهم لضنهم بالمال، وأنفتهم من الإتاوة، وخالفت ما ألفوه حتى من أكاسرة الفرس وقياصرة الروم؛ لأنهم كانوا يأخذون من هؤلاء أكثر مما يعطون، وكانت الإتاوات التي يرضخون منها أقل من المنح التي توزع عليهم بين حين وحين، باسم الخلع أو الهبات.

بل كان منهم من ضاق ذرعًا بالفرائض فأسقطها الدعاة عنهم جميعًا وأعفوهم من كل فريضة، ومنهم من أنف من السجود، فقال لهم طليحة الأسدي: «إنَّ الله لا يصنع بتعفير وجوهكم، فاذكروا الله قيامًا، فإن الرغوة فوق الصريح.»

ويلحق بهذا وأشباهه أنَّ الدين الجديد لم ترسخ جذوره بعد في نفوس الأقصين من أعراب البادية، ولم تهجر طباعهم بعد عادات الجاهلية في العبادة والمعيشة، وقد كان المسلمون أعلم بهم من أن يُدهموا بالمفاجأة من قِبَلِهم، لأنهم عرفوا طويتهم قبل ذلك من القرآن الكريم: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات: ١٤).

وليس أقرب إلى المألوف من نكوص هؤلاء على أعقابهم بعد موت النبي وشيوع الفتنة والاضطراب عن أيمانهم وشمائلهم، مع إغراء الدعة وفرط الحنين إلى القديم وهو منهم جد قريب.

•••

وثمة سبب لا يغفل ولو لم تذكره التواريخ بالسند القاطع والنص الصريح؛ وهو الدسيسة المبثوثة من الدول الأجنبية … كل منها بما يوائمها وبما هي قادرة عليه.

وهذا يفسر لنا أنَّ النبوة ظهرت من العرب أولياء فارس ولم تظهر من العرب أولياء الروم، وهم الغساسنة ومن جاورهم من قبائل التخوم السورية، فهؤلاء يدينون بالمسيحية فلم يظهر بينهم مدع أو مدعية للنبوة، ولكنهم ناوشوا المسلمين على التخوم مناوشة الحرب والوقيعة، أما التغلبيون على مقربة من فارس فلم يكن عليهم حرج من دولتهم التي تحميهم أن يحاربوا دين العرب الجديد بدين آخر، ولم يجدوا حرجًا من عقيدتهم أن يسمعوا إلى المتنبئين والمتنبئات؛ لأن عقيدتهم هذه كانت مزيجًا من المجوسية والوثنية ومسحة من المسيحية لا يرضاها أتباع كتاب؛ فلهذا ظهرت بينهم سجاح وسلكت في التبشير بدينها العجيب مسلكًا لا يستريح العقل إلى تفسيره بغير تفسير واحد، وهو أنها كانت تعمل لغرض سياسي وبإغراء دولة أجنبية، ولا تعمل لغرض ديني ولا بدافع من عندها وعند ذويها.

فسجاح هذه كانت من بني يربوع أقرب بطون بني تميم إلى نفوذ فارس، ثم تزوجت في أخوالها التغلبيين بالعراق، ثم انحدرت من ثم إلى أرض بني تميم مبشرة بدين جديد بعد موت النبي عليه السلام، وانحدر معها جيش كثيف لا يُستهان بأمره، فلما دعت قومها الأولين بنى يربوع إلى هذا الدين طلبوا إليها — على ما يظهر — أن تؤلف بطون بني تميم جميعًا إلى دينها قبل الزحف على الحجاز لمحاربة المسلمين، فلم يتفق بنو تميم على رأي، وتركتهم إلى اليمامة حيث كان مسيلمة الكذاب يتحفز كذلك للخروج على الإسلام، ولم يكن أوفق لهما بهذه المثابة من التعاهد على غرض واحد؛ هو الزحف على الحجاز ولكنها رجعت إلى قومها وهي تقول: «إنها وجدته على الحق فتزوجته» وأنه سيؤدي لها نصف غلات اليمامة وقد استنجزته شطر هذا النصف قبل مرجعها إلى بلادها …

فلماذا خالفها بنو تميم؟ ولماذا خالفها مسيلمة؟ ولماذا انحدرت ثم عادت إن كان همها التبشير بدين جديد؟ ولماذا هابها مسيلمة وأعطاها الجزية وهو يأنف أن يعطيها خليفة المسلمين ويجرد لحربه جيشًا قيل إن عدته أربعون ألفًا وقيل: بل ستون ولم يقل عن عشرين ألفًا في تقدير أحد من المؤرخين؟

كل أولئك لغز سخيف لا يقبله العقل إلا على وجه واحد، وهو أنها كانت داعية الفرس لتحريض العرب على الثورة، ومن ثم أصابت ما أصابت من الإخفاق أو النجاح.

ويعزز ذلك أنها لقيت في رحلتها عملاء فارس جميعًا من أبناء البوادي العراقية والنجدية، وأنها عملت حيث كان الأكاسرة حريصين على تجديد نفوذهم القديم …

قال ابن الكلبي: «كانت عير١ كسرى تبذرق — أي تحرس — من المدائن حتى تدفع إلى النعمان بن المنذر بالحيرة، والنعمان يبذرقها بخفراء من بني ربيعة حتى تدفع إلى هوذة بن علي الحنفي باليمامة، فيبذرقها حتى يخرجها من أرض بني حنيفة، وتجعل لهم جعالة، فتسير بها إلى أن تبلغ اليمن.»

وعلى هذا، تكون مهمة سجاح قد وضحت على هذه الصورة التي لا لغز فيها ولا تناقض بين أجزائها.

ويكون بنو تميم وبنو حنيفة وغيرهم قد عاملوها المعاملة الواجبة لمن يعتز بصولة الأكاسرة ويخلف المناذرة في وقت واحد.

فقد هدمت وقعة ذي قار، التي مر ذكرها بأول هذا الكتاب، هيبة الأكاسرة في الجزيرة العربية.

وساء ظن الأكاسرة بالمناذرة — ملوك الحيرة — الذين كانوا صنائع فارس وكانت فارس تعول عليهم في إخضاع البادية القريبة والبعيدة، فنكلوا بهم وعصفوا بدولتهم قبيل ذلك بقليل، فأرسل الأكاسرة أميرة تغلبية؛ لتخلف المناذرة في هذه المهمة القديمة.

وكان اختيارها من بني تغلب أدنى شيء إلى المعقول والمنظور؛ لأنهم أعداء بني بكر الذين تصدوا لحرب الفرس وهزموهم في وقعة ذي قار.

ثم كان تردد بني تميم وبني حنيفة في معاملتها أدنى شيء كذلك إلى المعقول والمنظور؛ لأنهم أصدقاء المناذرة من زمن قديم، فلا هم راضون بهوانهم ولا هم قادرون على إغضاب فارس … وغاية ما في وسعهم، أن يصرفوا سجاح راضية ويقنعوها بأن الثورة على الإسلام حاصلة، ويكون عملهم جميعًا معقولًا على هذا التفسير حيث يعوزه الفهم والوضوح على كل تفسير سواه.

بل نحن نخطر هذا في أخلادنا، فنفهم كيف اشتد التغلبيون في حرب المسلمين وكيف اشتد المسلمون في حرب التغلبيين يوم اشتبكت جيوش الإسلام وجيوش الأكاسرة على إثر حروب الردة، فهي شدة لها أوائلها ونهاية جاءت بعد بداية. وكانت رحلة سجاح إلى الجزيرة العربية هي أولى الطلائع في حرب الأكاسرة والإسلام.

•••

من جملة هذه الأسباب يجوز لنا أن نقول: إنَّ المدينة ومكة وجيرتهما كانت تقف وحدها في وجه البادية العربية بأسرها، ومن وراء البادية دول كبيرة تنصرها ولا تنصر المدينتين في هذه المعركة.

وقد كانت حروب الردة طائفًا من الشر لا شك فيه.

ولكنها ولا ريب لم تكن شرًّا محضًا خِلْوًا من جانب المصلحة والفائدة؛ لأن هذه الحروب وحدت عناصر المدينتين وهما وشيكتان أن تفترقا كل مفترق، فاجتمعت منهما قوة تكافئ كل قوة في البادية على انفراد، وتيسر لهما من ثم أن تأخذا من البادية قوة تفل قوى الدول الواقفة لهما بمرصد قريب …

ولولا حروب الردة؛ لكان الخلاف بين المهاجرين والأنصار خليقًا أن يتشعب ويستفحل، وكان الأنصار فيما بينهم مختلفين شيعتين كبيرتين ثم شيعًا صغارًا في كل من الشيعتين، وكذلك كان المهاجرون من هاشميين وأمويين ومن سائر بطون قريش، فإن بني هاشم على انفرادهم لم يجتمعوا بينهم إلى كلمة، ولم يكن لهم مطمع في الوفاق بينهم وبين بطون قريش الأخرى، ودع عنك الوفاق بين طوائف المسلمين أجمعين.

فلما تحفزت البادية للوثوب على المدينة، أحس المسلمون جميعًا أنهم فريق واحد، مهدد بخطر واحد، فاتفقوا بوحي البداهة التي لا موضع فيها لتعمل التفكير وحيلة الحض والتحريض، ولبثوا متفقين ما كانوا بحاجة إلى الوفاق، وما كان الشقاق بينهم مرهوب العواقب محذور الأخطار.

وغنيٌّ عن القول، أنَّ خالد بن الوليد كان في وسط هذه الحومة بكل داع من دواعيه النفيسة والعقلية؛ بداعي العقيدة الإسلامية، وداعي العصبية القرشية، وداعي النشأة الحضرية، وداعي القيادة العسكرية التي قدمته إلى طليعة المجاهدين في هذا الميدان.

فشهد حروب الردة من أوائلها إلى نهاياتها، وقسمت له الحصة الكبرى في أهم وقائعها وأعصب أوقاتها، ومنها وقعة واحدة ترجح بها جميعًا وتعد من حروب الإسلام الحاسمة في صدر تاريخه، وهي وقعة اليمامة التي انتصر فيها بعد هزيمة قائدين.

وتنقسم أعمال خالد في حروب الردة إلى قسمين: أحدهما الذي اشترك فيه مع كبار الصحابة بقيادة الخليفة في المدينة وما جاورها، والآخر الذي استقل به أو استقل على الأصح بناحيته العسكرية، وهو أعظم عملية في هذه الحروب.

•••

تُوفِّيَ النبي — عليه السلام — وجيش أسامة بن زيد في الجرف من أرباض المدينة، والفتنة على مقربة منها تتطلع برءوسها، فعاد فريق منه إلى المدينة وأشار بعض الصحابة على الخليفة أن يرجئ مسيرته ويستبقيه عنده فترة من الزمن ريثما يطمئن في عقر داره خلال تلك الغاشية، فأبى أشد الإباء أن يُخْلِف وصية للنبي أوصى بها في مرض وفاته، وقال قولته المأثورة: «والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله، ولو أنَّ الطير تخطفتنا والسباع من حول المدينة، ولو أنَّ الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة» ونادى في المسلمين: «لِيَتِمَّ بعثُ أسامة! ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف …»

وسار الجيش إلى وجهته كما أراد، فخلت المدينة من الجند إلا بضع مئات من رجال المهاجرين والأنصار، ودرى أقرب المرتدين إليها بحالها من العزلة وقلة الحامية، فزحفوا عليها، وظنوا أنهم إذا هددوها وهي عزلاء وتوسلوا بالمفاوضة والوساطة في الوقت نفسه — رجع الخليفة عن عناده وقبل منهم ما ساوموه عليه؛ وهو إقامة الفرائض كلها والإعفاء من الزكاة … أو من الجزية كما سموها!

زحفت مئات من عبس وذبيان وفزارة على المدينة، وتركوا شطرًا من جموعهم في الرَّبَذَة حيث تلتقي طرق كثيرة على مسافة سبعين أو ثمانين ميلًا من المدينة، وساروا بالشطر الآخر إلى ذي حسا وذي القَصَّة وهي أقرب محلة إليها، ثم أوفدوا سفراءهم ينزلون بالناس في بيوتهم ويتوسلون بهم إلى الخليفة أن يقبل منهم ما عرضوا عليه، فأبى إباءه الذي لا ينثني وقال: «لو منعوني عَناقًا لجاهدتهم عليه.»

فقفلت الوفود إلى جماعاتها، وعلم الخليفة بقفولها، وأخذ في التأهب للأمر بحزم العمل وحزم التدبير والحيلة بعد حزم الإيمان. فلم يدع شيئًا قط يستعد به للخطر المنتظر إلا أعده في أوانه وعلى الوجه الأمثل في تلك الأحوال …

فأقام كبار الصحابة على الأبواب، وجمع في المسجد من استطاع جمعه من المجاهدين، وأرسل العيون على الطرقات من كل سبيل، فما هو إلا أن جاءوه بنبأ القوم ومواضع جماعاتهم المختلفة حتى خرج مع الليل، ليضربهم من حيث لا يتوقعون قدومه، ودهم من كان منهم بذي القَصَّة فذعروا لهذه البغتة التي لم تكن لهم على بال، ولاذوا بالفرار حتى لحقوا بأصحابهم في ذي حسا فثبتوا هناك للمقاومة، وقيل إنهم تحيلوا على إبل المسلمين التي لم تروض للقتال فضربوها بالأنحاء المنفوخة في وجوهها؛ فنفرت وولت مجفلة من حيث أتت، فأطمعهم ذلك في الهجوم على المدينة، وظنوا أنَّ أهلها لن يفارقوها يومهم على الأقل بعد هذه الهزيمة …

إلا أنَّ الخليفة لم ينتظرهم معتصمًا بالمدينة كما انتظروا، بل خرج بمن معه في هزيع من الليل على تعبئة كاملة، وهبط عليهم عند طلوع الصبح وهم على غير أهبة فلم يلبثوا قليلًا حتى تفرقوا وارتدوا، ولم تقم بعدها قائمة في هذه المحاولة الخاسرة؛ لأن جيش أسامة عاد من وجهته قبل أن يسعفهم مدد نافع، فيئسوا أن يأخذوا المدينة عَنْوة أو غِرَّة بعد ما أعياهم أخذها وهي قليلة الحامية مفتوحة الطريق.

تلك كانت هجمة المرتدين الأولى على معقل الإسلام … ظفر فيها المسلمون؛ لأنهم اعتصموا بحزم الإيمان وحزم التدبير وحزم الوفاق، وانخذل فيها المرتدون؛ لأنهم كانوا على نصيب ضئيل من هذه العدد الثلاث، فخانتهم عزيمة الدين وعزيمة الرأي وعزيمة الكلمة الواحدة، ولعلهم لو شاءوا أن يتحدوا كلمة وفعلًا لفاتهم طلاب ذلك؛ لقلة الكلأ والماء الذي يكفيهم مجتمعين. فكان تفرقهم مما أعان المسلمين عليهم، وعوضهم من قلة الجند رجحانًا يقابلون به الكثرة وهي منحلة الوثاق.

ومن عجائب الخليفة الصديق، أنه كان يعتصم بالإيمان حتى يقال لم يدع مزيدًا للحيلة والتدبير، ويعتصم بالحيلة والتدبير حتى يقال إنه لم يدع مزيدًا للإيمان …

ففي هذه الفترة التي شغل فيها أولئك المرتدين بالهجوم والدفاع كانت رسله إلى كل مكان تستنفر القبائل الموالية للنجدة، وتمشي بالوقيعة والتفرقة بين القبائل المعادية أو المتربصة للعداء، وتأتيه بالأخبار من كل صوب فيعمل وهو بصير، ويعملون وهم متخبطون مضللون …

فلم تنقض هجمة فزارة وعبس وذبيان حتى استتم له جيش كبير من أبناء القبائل الموالية في جوار المدينة ومكة، ومعهم جيش أسامة وعدته بضعة آلاف من المدربين على القتال.

ومضى رسوله «عدي بن حاتم الطائي» إلى قومه بني طيِّئ وهم يترددون: فريق يعصي الخليفة ويلحق بالمتنبئ الأسدي طليحة بن خويلد ومعهم فلول المرتدين عن المدينة، وفريق يحجم عن العصيان ويؤثر البقاء والانتظار، فأرهبهم من مغبة العصيان وساعده على إرهابهم مصير عبس وذبيان، وأنذرهم ليهبطن عليهم جيش لا قبل لهم بدفعه من تلك الأمداد التي تتدفق على المدينة أو يثوبوا إلى الإسلام وإيتاء الزكاة. فأصغوا إليه، وسألوه المهلة حتى يستخرجوا من لحق بطليحة من إخوانهم لئلا يقتلهم وهم بين يديه، ووعدوه أن يدخلوا بهم جميعًا في زمرة جيش المسلمين.

•••

إلى هنا انتهت المرحلة الأولى التي اشترك فيها المسلمون جميعًا بقيادة الخليفة لمدافعة المرتدين عن المدينة، وكان شأن خالد فيها شأن غيره من أبطال المجاهدين.

وآن أن تبدأ المرحلة الثانية وهي المرحلة التي توزع فيها الأعمال بين القادة في شتى الميادين، بعد أن تمت العدة وتوافدت الأمداد من مختلف القبائل، واستراح جيش أسامة، وهدأت سورة القيظ وبدأ الخريف، وأصبح من الميسور للخليفة أن يوجه البعوث إلى المتنبئين في مواطنهم؛ ليعجل كل منهم عن مراده قبل استفحال خطبه.

ففي أول هذه المرحلة، نرى خالدًا ﺑ «ذي القَصَّة» حيث عقد له الخليفة لواء القيادة على جيش لا تتجاوز عدته أربعة آلاف مقاتل، أكثرهم من أبناء القبائل الموالية وأقلهم من المهاجرين والأنصار، ووجهته إلى «بزاخة» من أرض بني أسد حيث اجتمع بنو أسد وقيس وحلفاؤهم إلى المتنبئ القائم بأمر الردة هناك طليحة بن خويلد.

وربما كان الصحيح أنَّ خالدًا إنما استقل في أول هذه المرحلة بعمل القائد العسكري في تنفيذ خطة مرسومة بتفصيلاتها، إذ كانت هذه الخطة متفقًا عليها بينه وبين الخليفة، وكان الخليفة اليقظان يأمره بما يصطنع خطوة بعد خطوة، وينبهه إلى مواقف القبائل ومواطن الخطر منها على درجاته، ويصحبه إلى بداية طريقه.

قال الخليفة وهو يودع الجيش: «أيها الناس، سيروا على اسم الله وبركته، فأميركم خالد بن الوليد إلى أن ألقاكم. فإني خارج فيمن معي إلى ناحية خيبر حتى ألاقيكم.»

ثم خلا بخالد وأسرَّ إليه أمرًا، ثم قال: «… عليك بتقوى الله، وإيثاره على سواه، والجهاد في سبيله، والرفق بمن معك من رعيتك، فإن معك أصحاب رسول الله وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار فشاورهم فيما نزل بك ثم لا تخالفهم، فإذا دخلت أرض العدو فكن بعيدًا من الحملة فإني لا آمن عليك الجولة، واستظهر بالزاد وسر بالأدلاء، وقدم أمامك الطلائع ترتد لك المنازل، وسر في أصحابك على تعبئة جيدة، واحرص على الموت توهب لك الحياة، ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات فإن في العرب غرة، وأقلل من الكلام واقبل من الناس علانيتهم وكلهم إلى الله في سريرتهم، وإذا أتيت دارًا فاقحم. فإن سمعت أذانًا أو رأيت مصليًا أمسك حتى تسألهم عن الذين نقموا ومنعوا الصدقة، فإن لم تسمع أذانًا ولم تر مصليًا شن الغارة، فاقتل وأحرق كل من ترك واحدة من الخمس … وإذا لقيت أسدًا وغطفان فبعضهم لك وبعضهم عليك، وبعضهم لا عليك ولا لك متربص السوء ينظر لمن تكون الدبرة فيميل مع من تكون له الغلبة، ولكن الخوف عندي من أهل اليمامة، فاستعن بالله على قتالهم، فإنه بلغني أنهم رجعوا بأسرهم، فإن كفاك الله الضاحية فامض إلى أهل اليمامة … سر على بركة الله.»

ولم يكن الخليفة على نية المسير إلى خيبر كما أعلن أمام الناس، ولكنه لم يشأ أن يعلن سير الجيش إلى «بزاخة» نصًّا لمقاصد متعددة: منها أن يخيف بطون طيِّئ حين يقصد إليهم جيش خالد بقضِّه وقضيضه فيجهز على بقية التردد التي تهجس في صدورهم، ومنها أن يقنع طليحة بإرسال من عنده من طيئ لنجدة إخوانهم والدفاع عن بلادهم، ومنها أن يدهم طليحة على غِرَّة وهو يظن أنَّ الجيش متجه إلى غير «بزاخة» ومنصرف عنها إلى حين، ومنها أن يلزم أهل خيبر أماكنهم فلا يشتركوا في قتال …

وقد عمد خالد بهذه الخطة، فمضى في طريق «بزاخة» ثم عرج على اليسار قبل منتصف الطريق كأنه يريد الحملة على ديار طيئ، وهناك وافاه فوق الألف من مقاتلة البطون الطائية ممن تخلى عن طليحة أو كان على نية اللحاق به بعد قليل.

•••

وقبل أن يستوي خالد في طريقه إلى «بزاخة» جاءه أناس من الطائيين فعرضوا عليه أن يكفوه حرب قيس ويعفيهم من حرب بني أسد لأنهم حلفاؤهم منذ الجاهلية. ولم يكن عدي بن حاتم على رأي قومه فقال لخالد: لو ترك هذا الدين أسرتي الأدنى فالأدنى من قومي لجاهدتهم عليه. أفأنا أمتنع عن جهاد بني أسد لحلفهم؟ … فلم يشأ خالد أن يُكره أناسًا على حرب من يسالمونهم ولا يتحمسون في قتالهم، وقال لعدي: «لا تخالف قومك، وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط، والله ما قيس بأوهن الشوكتين. امضوا إلى أي القبيلتين أحببتم.»

وأتم تعبئته للقتال وهو على الطريق، فجعل القبائل على ميمنته والأنصار والمهاجرين على ميسرته، وصمد هو في القلب مع فئة من هؤلاء وهؤلاء …

أما طليحة، فالظاهر أنه كان أحذر من أن يؤخذ على غرة، فإنه قد رصد العيون على فجاج الصحراء فعلم بمقدم المسلمين قبل وصولهم إلى «بزاخة»، وأعد العدة لكلتا الحالتين من غلبة وفرار، فعزل أكثر النساء في مكان أمين؛ لئلا يقعن في السبي إذا دارت الدائرة عليه، وأقام حوله أربعين فارسًا من أشد فتيان بني أسد ليدرأوا الهجمة عنه، كأنه كان يعلم أسلوب خالد في قتاله، إذ كان وكده قبل كل وكد أن ينحي بالضربة المصمية على رئيس القوم فيفت في أعضاد القوم جميعًا بقتله أو إكراهه على الفرار، ولم يكن طليحة جبانًا يتنحى عن الطعن والضرب وراء غيره، بل كان مشهورًا بالشجاعة معروفًا عنه أنه أقسم لا يدعوه أحد إلى مبارزة إلا أجابه، ولكنه كان على شجاعته أميل إلى الحذر والحيطة منه إلى المجازفة والحماسة، وكان في هذه الخصلة نقيض نده الذي يصاوله وينازله بالسلاح والأخلاق، فكان خالد أقرب إلى المجازفة والحماسة منه إلى الحذر والحيطة.

ولقد كانت لجيش طليحة مَزِيَّتان هما الكثرة والراحة … فقد كان جيشه يربو على جيش المسلمين بألف مقاتل أو زيادة مع وفرة السلاح والركائب، وكان مستريحًا في دياره على خلاف جيش المسلمين الذي كان عليه أن يلقاه بعد مسير مئات من الأميال في الأودية والجبال.

ولهذا أوشك أن يفوز بيومه لولا عزمة من عزمات القيادة التي تأتي في إبَّانها وتدور برحى الحرب من طرف إلى طرف في ساعات معدودات.

فلما التحم الجيشان، ثبت طليحة وأصحابه ثبات المستميت، وكروا على المسلمين كرة عنيفة فكشفوا الميمنة ولحقت بها الميسرة وانقضت هنيهة خُيِّل فيها إلى المسلمين أنهم منكسرون لا محالة، وجاء بعض بني طيئ إلى خالد ينصح له أن يتراجع يومه ليعتصم بجبال طيئ ويستدرج المرتدين إليها، فأنكر عليه نصيحته وزجره قائلًا: لا أعتصم بغير الله!

ثم عول على الكرة في كبة الجمع ليبلغ النصر أو يموت دونه، فأرسل فرسه وترجل مقاتلًا على قدميه؛ ليملك الحركة حيث يشاء ويبعث القدوة في قلوب صحبه، ونادى بالأنصار كأنه ذكر موقف النبي يوم حنين: يا أنصار الله … فلبوه مندفعين إليه، وثاب أبناء القبائل إلى مواضعهم فاستحر القتل في الفريقين حتى قتل حرس طليحة جميعًا، واستقر هو في «دثار الكهانة» يوهمهم أنه يتلقى الوحي أو ينتظر المدد من السماء.

وقد كان أتباعه يحبون أن يؤمنوا به مجاملة له ومرضاة لكبرياء القبيلة في أنفسهم، فلما جَدَّ الجِدُّ أحبوا أن يروا لهذا الإيمان علامة، وسأله زعيم فزارة عيينة بن حصن، وهو من أعز أنصاره وألد أعداء المسلمين: هل جاءك جبريل؟ قال: لا … ثم رجع له مستعجلًا وحي السماء صائحًا به — وقد نسي في غضبه أنه يخاطب على زعمه نبيًّا من الأنبياء — لا أبا لك، أجاءك صاحبك؟ قال: لا … فصاح به: حتى متى؟ قد والله بلغ منا. فلما عاوده الثالثة خجل أن يجيبه جوابه الأول وقال له: نعم … جاءني وأوحى إليَّ «أنَّ لك رحًى كرحاه، وحديثًا لا ننساه …» فسخر منه عيينة وقال: «نعم … حديث لا ننساه»، ونادى في قومه وهو مؤمن بهزيمة طليحة وإدبار أمره: انصرفوا يا بني فزارة … إنه لكذاب، وجعل طليحة يسألهم من حيرته ما يهزمكم؟ فأجابه أحدهم: «أنا أحدثك ما يهزمنا، إنه ليس رجل منا إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله، وإنا لنلقى قومًا كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه.»

وأدرك طليحة حذره، وكان قد أعد لهذا الحذر عدته، فركب فرسه وأردف امرأته النوار على راحلة وراءه، ونجا بها وهو ينادي أتباعه: «من استطاع أن يفعل هكذا فليفعل»، وما زال في فراره حتى لحق بالشام.

•••

وتعقب خالد فلول المرتدين ومن مالأهم من قبائل هوازن وسليم حتى لحق بهم في «ظفر» حيث أحاطوا بسلمى أمِّ زِمْل وهي كأمها من قبلها مضرب المثل في العزة والمنعة. كان يقال عن أمها «أعز من أم قرفة»؛ لأنها تعلق في بيتها خمسين سيفًا، كل سيف منها لرجل من ذويها، وقد سبيت هي في عهد النبي عليه السلام فأعتقتها السيدة عائشة — رضي الله عنها — فذهبت إلى قومها مغضبة لتلك العزة التي انتهى بها عناد قومها إلى الأسر والخدمة، واستثارت حمية الرجال بهذه الغضبة التي تثير الطبيعة البدوية ولو لم تجتمع إليها بواعث أخرى للغضب والثورة … فدار بين خالد وبين جيشها أحر قتال، ووقفت هي على جمل مشهور تضرم النخوة في قلوب جندها، وترد الشجاعة إلى من أدبر للفرار، ومضى اليوم وهي تكافح ومن حولها زعماء جيشها يكافحون، فجعل خالد مائة من الإبل لمن يصيب الجمل … وأرسل نخبة من فرسانه عليه فعقروه، وقيل: إنهم لم يصلوا إليه حتى قتل من دونه مائة رجل من حماتها المستيئسين.

وقد تفرقت سرايا خالد في أثر المنهزمين تضربهم وتجمع الأسلاب والغنائم وتدعو إلى الإسلام.

فلم تمض أيام حتى كان قد فرغ من مهمتيه الأوليين، وهما: الإنذار والتغلب على الفتنة، وبقيت مهمته الأخيرة وهي القصاص والتأديب، ولعلها كانت ألزم وأحزم من قمع الفتنة وتمزيق الجيوش؛ لأن المرتدين كانوا قد أسرفوا في التنكيل بالمسلمين الذين أصابوهم بينهم ولم يتورعوا عن مثلة من المثلات التي يتورع عنها المقاتل الكريم، وأصابوا أولئك العزل المنفردين في غير ساحة حرب وبغير نذير من قتال، فكانت أوامر الخليفة إلى خالد صريحة ألا يَنِيَ في عقاب المعتدين: «ولا يظفرن بأحد قتل المسلمين إلا قتله ونكَّل به غيره.»

ولم يكن خالد في مواقف الصرامة والبطش بحاجة إلى توكيد وتشديد، فلم يقبل من المرتدين إلا أن يأتوه «بالذين حرقوا ومثلوا وعدوا على المسلمين.» ومثل بهم فأحرقهم بالنيران ورضخهم بالحجارة ورمى بهم من الجبال كفعلهم بأولئك الأبرياء الغافلين عن عدوانهم الذميم، وقاد رؤساءهم في جوامع الحديد إلى الخليفة ليصنع بهم ما يشاء.

وذلك درسٌ لا شكَّ أنه عنيفٌ مخيفٌ، ولكن لا شكَّ أنه عادل في شِرعة الحرب والسلم، وأنه لازم كل اللزوم في أحوال كتلك الأحوال.

وأيًّا كانت المَثُلات بالمرتدين، فهي على التحقيق لا تتجاوز المثلات التي تؤمر بها «حملات التأديب» في عصرنا هذا لمعاقبة أناس لم يقترفوا مثل ما اقترفه المرتدون، ولم يقرنوا فعالهم بجريرة الخروج على عقيدة أو شريعة، ولا بتهديد «الدولة» في كِيانها وهي أحوج ما تكون إلى الأمان والضمان …

ومع هذا وُجِد من كبار المسلمين من لامَ خالدًا على الإمعان في تأديبه على النحو الذي نحاه، فقال عمر بن الخطاب للخليفة مُنكرًا إحراق الناس: بعثت رجلًا بعذاب الله؟ انزعه!

فلم يستمع إليه الخليفة؛ لأنه كان في حنقه على المرتدين لا يستعظم عليهم ضربًا من ضروب العقاب.

ومهما يكن من مجاراة هذا العقاب لطبع خالد — فهذه البَعْثة بين بعثاته جميعًا هي بعثة التنفيذ المحض الذي لا يشوبه نصيب من الاستقلال، اللهُمَّ إلا استقلال القائد الكفء بحسن القيام على ما وُكِل إليه …

ومما لا غنى عنه قبل الانتقال إلى أعمال خالد المستقلة في بقية حياته أن نتحرى نصيبها من إطاعة الأمر، ونصيبها من الإقدام على العمل غير مأمور به ولا محمود عليه.

فيجوز لقائل في هذا الصدد أن يقول: إنَّ الخليفة لم يرسم لخالد خطة القتال والمداورة في بعثة «بزاخة» وإنما أفضى خالد بهذه الخطة إلى الخليفة فأقرها ووافقه عليها.

ذلك جائز غير ضعيف الجواز، ولكننا على هذا نرجح أنَّ الخليفة هو صاحب الخُطَّة من أَلِفِها إلى يائِها، وأنَّ نصيب خالد فيها هو نصيب الإقرار والموافقة، ويميل بنا إلى هذا الترجيح أنَّ نصائح الخليفة في بَدْءِ البعثة قد شملت الصغائر والكبائر، وتناولت تفصيل الحركة كما تناولت تفصيل البيان الصحيح عن مواقف المرتدين في كل قبيلة وكل ميدان، وأنَّ الخطة قامت على التورية والسبق بالهجوم، وكلاهما مما تعلمه الخليفة الأول بعد طول الصحبة من النبي عليه السلام، إذ كان مأثورًا عنه أنه كان إذا قصد وجهة ورَّى بغيرها، وأنه كان لا ينتظر الهجوم بل يسبق الهاجمين إليه، وقد جرى الخليفة على ذلك في دفاعه عن المدينة قبل مسير البعوث وعقد الألْوِيَة للقواد.

كذلك تواترت بعض الأقوال بمسير خالد إلى بني تميم — بعد معركة البزاخة — قبل أن يأتيه أمر الخليفة بالهجوم. قيل: إنَّ الأنصار أنكروا عليه المسير إلى بني تميم وقالوا له: «ما هذا بعهد الخليفة إلينا، إنما عهده إنَّ نحن فرغنا من البزاخة واستبرأنا بلاد القوم أن نقيم حتى يكتب إلينا»، فقال لهم خالد: «إن يكن عهد إليكم هذا فقد عهد إلى أن أمضى، وأنا الأمير وإليَّ تنتهي الأخبار، ولو أنه لم يأتني كتاب ولا أمر، ثم رأيت فرصة إن أعلمته بها فاتتني لم أعلمه حتى أنتهزها.»

بل قيل أكثر من ذلك، إنه أغار على اليمامة قبل أن يأتيه الأمر من الخليفة بالإغارة عليها. وهي أهول حروب الردة بل لعلها أهول من معظم حروب الفرس والروم.

فزعم قوم أنه قال لصحبه بالبطاح: والله لا أنتهي حتى أناطح مسيلمة، فأبَى الأنصار وقالوا: هذا رأي لم يأمرك به أبو بكر فارجع إلى المدينة؛ فأصر على رأيه وقال: لا والله، حتى أناطح مسيلمة، فرجعت الأنصار فسارت ليلة ثم قالوا: والله لئن نصر أصحابنا لقد ندمنا، ولئن هزموا لقد خذلناهم، فرجعوا إليه ومضى بهم إلى اليمامة …

والذي لا نزاع فيه أنَّ الخليفة لم يبعث أحدًا غير خالد إلى بني تميم، ولو بعث غيره لصح أن يقال إنه سار إليهم غير مأمور، ولكنه قال عند مسير جيشه من ذي القَصَّة: «إذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له.»

أما اليمامة، فقد بعث إليها الخليفة عكرمة بن أبي جهل ثم رأى حاجته إلى المدد فوجه في أثره شرحبيل بن حسنة، وأمرهما أن يتلاقيا ولا ينفردا بالهجمة على اليمامة، ثم بدا لعكرمة أن يستأثر بالنصر وحده، فهجم على مسيلمة قبل أن يوافيه المدد فنكب نكبة شديدة، وتلقى الخليفة نبأ هذه النكبة، فكتب إلى شرحبيل يأمره بالتوقف حتى يأتيه أمره، ولم يقل أحد: إنَّ الخليفة وجَّه قائدًا غير خالد لنجدة شرحبيل، ولا كان معقولًا أن يكتفي بشرحبيل بعد هزيمة عكرمة وقد كان كلاهما عنده في حاجة إلى التعزيز والإمداد.

وقد تقدم أنَّ الخليفة قد بصَّر خالدًا بشأن اليمامة قبل خروجه إلى البزاخة … وليس ثمة من داعٍ إلى الشك في نسبة ذلك المقال إليه، ولا إلى الشك بعد هذا جميعه في تولية خالد قيادة الجيش الذي سار إلى اليمامة …

ومن المتواتر جدًّا أنَّ خالدًا لقي الخليفة بعد مسيره إلى بني تميم وقبل مسيره إلى بني حنيفة؛ لأنه استدعى لسؤاله عن مقتل مالك بن نويرة وزواجه من امرأته ليلى، فهو قد توجه إلى اليمامة مأذونًا مأمورًا بعد وقعة البزاخة وبعد وقعة بني تميم وعدا هذا كله، يكاد يستحيل على العقل أن يقبل أنَّ خالدًا قد تولى حربًا كحرب اليمامة، اشترك فيها أعظم الصحابة واستهدف المقاتلون فيها لأكبر الأهوال دون أن يُنْدَبَ لذلك بأمر صريح.

•••

وغاية ما نفهمه الآن من ورود ذكر اليمامة عند عقد الألوية في ذي القَصَّة أنَّ الخليفة عرف خطرها؛ فأراد أن يجمع لها أكبر قوة من جيوشه المختلفة … وأراد في الوقت نفسه أن يشغل بني حنيفة بأنفسهم، فوجه إليهم عكرمة أولًا ثم وجه شرحبيل بعده ليتلاقيا معًا، ويكون خالد قد فرغ في خلال ذلك من أمر بني أَسَد فيدرك سابقيه معززًا لهم إن تعذر عليهم أن يقهروا بني حنيفة قبل قدومه، وهي خطة تلائم ما عرف عن خطط الصديق من جرأة وحيطة وسرعة، ولا يمنع هذا أنَّ الخليفة أمر خالدًا أن يرجع إليه بعد كل مرحلة من مراحل هذه البعثة لعله قد استجد شيء في غيابه.

وفحوى الأقوال الكثيرة التي تتفق بالبداهة على هذا النسق أنَّ خالدًا قد تولى التنفيذ في ترتيب أعماله وتولاه أيضًا في أوائل خططه، ولكنه قد وُكِلَ إلى نفسه في الأمور التي يعلمها الشاهد ولا يعلمها الغائب … ومنها موعد المسير وطريقة الهجوم واللقاء، فقام بما وُكِلَ إليه جميعًا على أكمل الوجوه وأقمنها بموافقة الخليفة، إلا في موضعين لكل منهما ارتباط بمسألة زواج: أحدهما في البِطاح، والآخر في اليمامة … فقد تعرض فيهما لمؤاخذة الخليفة ومؤاخذة كبار الصحابة، ولم يرض فيهما عرف الجاهلية أو عرف الإسلام.

وظاهرٌ من مقال الخليفة في ذي القَصَّة أنه لم يكن على يقين من عداء بني تميم. أو من ضرورة القتال في أرضهم، وإنما كان يعلق الأمر على موقفهم عند وصول جيش المسلمين إليهم، وبخاصة بعد وفود زعماء منهم بإعلان الطاعة وإيتاء الزكاة.

وليس أدل من هذا على أنَّ الصديق — رضي الله عنه — قد كان يعمل عمله في حروب الردة جميعًا وهو على استطلاع وثيق وعلم وافٍ بأحوال كل طائفة من المرتدين، وإنَّ من دواعي انتصاره وفاء أخباره بحاجات القتال، ونقص أخبار المسلمين عند القبائل المرتدة بعيدها وقريبها على السواء.

فتقديره لموقف بني أسَدٍ منذ البداية كان أصح تقدير.

وكذلك كان تقديره لموقف بني حنيفة في اليمامة.

ومثل هذين في صحة الإلمام بالأحوال المختلفة شكه في ضرورة القتال بالبطاح، وتعليقه القتال مع مالك بن نويرة على شرط، وتخصيصه مالكًا بالذكر دون الآخرين من زعماء بيوت بني تميم.

فالواقع في أمر بني تميم — كما نعلمه اليوم — أنهم لم ينطووا على خطر جسام، وإن اختلفت في نياتهم الظنون.

وتاريخهم قبل الإسلام بعشرات السنين؛ يؤكد هذه الحقيقة، ويوحي إلى الخليفة رأيه الذي ارتآه.

كانوا في أجهل أيام الجاهلية في طليعة العرب كثرة ومَنْعَة وسعة بلاء ووفرة ماء ومرعى.

وكانوا يجترئون على المغامرات التي تَفْرَق٢ منها القبائل الأخرى، فبطشوا مرة بقافلة عظيمة من قوافل الفرس التي تسير في رعاية الدولة الفارسية وحراسة أناس من بني حنيفة. وفارس دولة ضخمة يهابها العرب، وبنو حنيفة قوم من المَنْعَة والعزة بمكان. فلما استشار كسرى بعض زعماء بني حنيفة في عقوبتهم قال له: «إنَّ أرضهم لا تطيقها أساورتك وهم يمتنعون بها، ولكن احبس عنهم المِيَرَة، فإذا فعلت بهم ذلك سنة أرسلت معي جندًا من أساورتك، فأقيم لهم السوق، فإنهم يأتونها، فتصيبهم عند ذلك خيلك.»

وكذلك لم يتمكن منهم كسرى حتى منع عنهم حاجياتهم من أرض الحضارة في سنة مجدبة، واستعان عليهم بمن يستدرجهم إلى مكان ينالون فيه …

ولكنَّ بني تميم على هذا كانوا مثلًا من الأمثلة النادرة على عجائب الحظوظ في هذه الدنيا. فقلما ظهر للمعتبرين أنَّ الكثرة والسعة والمنعة والوفرة تنقلب أحيانًا إلى نقمة تشبه القلة والضنك والخوف كما ظهر ذلك في شأن بني تميم.

فقد كانت كثرتهم وسعة بلادهم واكتفاء كل بلد منها بمراعيه وأمواهه سببًا لتفرقهم وتصدع وحدتهم وتعذر الإجماع بينهم على رئيس واحد. فتشعبوا بطونًا يدين كل بطن منها لرئيس، بل بيوتًا في البطن الواحد يبلغ من تنافسهم أن يتحاربوا ويتوارثوا التراث،٣ ويصبح التوفيق بينهم أعسر من التوفيق بين أحدهم والغريب الطارئ عليهم من الأعداء والأصدقاء …

وكان هذا شأنهم يوم ظهرت الدعوة المحمدية، فلما بلغتهم خاف كل منهم أن يرفضها فيكون منافسوه الواقفون له بالمرصاد حربًا عليه، فأجاب رؤساؤهم الدعوة، وأقرهم النبي على رئاستهم، ومنهم الزِّبْرِقان بن بدر على الرباب، وقيس بن عاصم على مقاعس والبطون، ووكيع بن مالك على بني حنظلة، ومالك بن نويرة على بني يربوع، وهم بيت من بيوت بني حنظلة الكبار.

وكل أولئك رجال من ذوي الرأي الراجح والقول النافذ والمناقب «الشخصية» … ويمتاز من بينهم مالك بن نويرة بمزايا أخرى لم تتفق لواحد منهم، وهي اللباقة والظُّرْف والفصاحة وحسن المحاضرة، مع الوسامة والصباحة وأناقة الزى والشارة، وهي في جملتها تلك الصفات التي ترشح صاحبها لمآسي البطولة في قصص الحياة، من واقع أو خيال.

كانت فيه خيلاء وجفلة، وكان مِتلافًا لا يُبقي على مال، وكان فارسًا شاعرًا محدثًا ظريف المدخل على من يعرف ومن لا يعرف، ومن ذاك أنه كان يقصد الحي من أحياء الأعداء وله فيه أسرى يريد فكاكهم بالفدية المصطلح عليها، فلا يحدث أهل الحي هنيهة حتى يخلبهم بحديثه ويأسرهم بظرفه وحسن سمته؛ فيردوا إليه أسيرة بغير فدية، ويفترقوا وهم أصفياء.

وكان مالك هذا أول من قصدت إليه سَجاح المتنبئة عند منحدرها من الجزيرة، فصرفها عنه بلباقته إلى ملاقاة البطون الأخرى من بني تميم، ولعله زين لها أن تجمعهم إليها عصبة واحدة، لعلمه باستعصاء ذلك عليها وعلى غيرها … وأنها وشيكة أن تنتقم له منهم إن هي دعتهم إلى الالتفاف بها فلم يجيبوها.

ولم تزل الأنباء — قبل مقدم سجاع وبعد منصرفها — يتابع بعضها بعضًا بانكسار المرتدين وغلبة المسلمين عليهم، إلا ما كان من هزيمة عكرمة في اليمامة وانتصار بني حنيفة عليه، وهو انتصار لا يسر بني تميم لشدة المنافسة بينهم وبين بني حنيفة.

فلمَّا أخذ الخليقة في عقد الألوية وتسيير البعوث كان بنو تميم على حالهم المعهود من التفرق والمراقبة بعضهم لبعض على توجس وحذر، فسبق بعضهم إلى المدينة بحصته من الزكاة، وتأخر بعضهم حتى نزل خالد بأرضهم فدفعوها إليه، وتحير مالك بن نويرة، فلم يعزم على الحرب ولم يؤدِّ الزكاة.

وأغلب الظن أنه بدد ما جمع من الصدقات في هباته وملاهيه، ثم لِيمَ في ذلك فأجابه لائميه بأبيات قال فيها:

وقلت خذوا أموالكم غير خائف
ولا ناظر فيما يجيء من الغد
فإن قام بالأمر المخوف قائم
منعنا وقلنا الدين دين محمد

يعني أنَّ محمدًا هو صاحب الدين وصاحب الزكاة، وقد مضى محمدٌ فليس لأحد بعده أن يتقاضاه.

وهو على الجملة موقف رجل مسرف «لا يبالي ما يجيء من الغد»، كما قال: وليس بموقف عناد وتحفز لقتال.

فلما نزل خالد بالبطاح لم يجد أمامه أحدًا يلقاه بزكاة أو يلقاه بقتال … فعسكر حيث نزل وأرسل السرايا في أثر هذا البطاح، فجاءته بمالك بن نويرة في نفر من بني يربوع، فحبسهم ثم أمر بقتلهم، وحدث بعد ذلك أنه تزوج بامرأة مالك ليلى أم تميم، وكانت من أشهر نساء العرب بالجمال، ولا سيما جمال العينين والساقين … يقال إنه لم يُرَ أجمل من عينيها ولا ساقيها.

وتضطرب الروايات هنا أبعد اضطراب وأصعبه أن تهتدي منه إلى مخرج متفق عليه.

فمن قائل: إنَّ السرايا وجدت بني يربوع يصلون وسمعت الأذان، ومن قائل: لم نَرَ صلاة ولم نسمع بأذان.

ومن قائل: إنَّ الأسرى قتلوا؛ لأن الليلة كانت باردة ونادى منادٍ من قِبلَ خالد أن «دافئوا أسراكم»، ففهم الحراس أنه يريد القتل؛ لأنهم من بني كنانة والمدفأة بلهجتهم كناية عنه.

ومن قائل: إنَّ مالكًا قتل بعد محادثة حامية جرت بينه وبين خالد … ثم تضطرب الروايات في نقل حديثهما، فلا يدري له نص صحيح. فقيل: إنَّ مالكًا صرح بأنه لا يعطي الزكاة وإنما يقيم الصلاة، فقال خالد: أما علمت أنَّ الصلاة والزكاة معًا لا تُقبل واحدة دون الأخرى؟ فقال مالك: قد كان صاحبك يقول ذلك، فاتخذ خالد قوله دليلًا على تبرئه من النبي وقال له: أوَ ما تراه لك صاحبًا، ثم حمى الجدل بينهما حتى أمر بقتله، ونسجت الخرافة بعد ذلك نسيجها الذي لا يتماسك لوهيه، فزعموا أنَّ خالدًا أمر برأسه فجعل مع حجرين وطبخ على الثلاثة قدرًا فأكل منه، وأنَّ شعر مالك جعلت النار تعمل فيه إلى أن نضج اللحم ولم يفرغ الشعر! وهي خرافة تُروى؛ لتدلنا على شيء واحد: وهو وجود المحنقين الراغبين في التشهير بخالد وتبشيع أعماله وإيغار الصدور عليه.

وقيل: إنَّ مالكًا لمح في عيني خالد الإعجاب بامرأته فصاح به: هذه التي قتلتني، فقال له خالد: بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام.

ويذهب بعضهم إلى أكثر من هذا، فيزعمون أنَّ هوى خالد لها سابق لحرب الردة، وفي ذلك يقول أبو نمير السعدي:

قضى خالد بغيًا عليه بعرسه
وكان له فيها هوى قبل ذلك

وقيل: إنَّ خالدًا توعد مالكًا بالقتل، فقال له مالك: أو بذلك أمرك صاحبك؟ قال خالد: وهذه بعد تلك؟ ثم تكلم أبو قتادة الأنصاري وعبد الله بن عمر في أمره فكره خالد كلامهما، وعاد مالك يقول له: يا خالد: ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا، فقال خالد: لا أقالني الله إن أقلتك، وتقدم إلى ضرار بن الأزور أن يضرب عنقه … ويزيدون على ذلك، أنَّ خالدًا دعا أبا قتادة الأنصاري وعبد الله بن عمر إلى حضور عقد الزواج بليلى بعد مقتل زوجها فأبيا وأشارا عليه أن يكتب إلى أبي بكر، فلم يستمع إليهما.

وغضب أبو قتادة، فأقسم لا يجمعه بعد اليوم وخالدًا لواء واحد، وقفل إلى المدينة غير مستأذن من قائده، فلقي الخليفة ولقي عمر بن الخطاب، فكانت غضبة عمر أشد وأعنف، وطلب إلى الخليفة أن يعزله وأن يقيده قائلًا: إنَّ سيفه فيه رهق، فلم يجبه الخليفة وقال له: يا عمر، تأول فأخطأ، ارفع لسانك عن خالد، فإني لا أشيم سيفًا سله الله على الكافرين …

ولكنه ودى٤ مالكًا واستدعى خالدًا إليه، فلما قدم إلى المدينة رأى عمر منه ما زاده غضبًا وشدة في طلب القَوَد٥ منه. رآه قد دخل المسجد وعليه قباء وقد غرز في عمامته أسهمًا، فنهض إليه فنزعها وحطمها وصاح به: «قتلت امرءًا مسلمًا، ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنك بأحجارك.»

فتركه خالد ولقي الخليفة فاعتذر إليه. فعنفه الخليفة وأمره أن يفارق ليلى ثم عفا عنه واستبقى خدمته، فعاد خالد إلى المسجد وفيه عمر … فبادره حين رآه مناجزًا: هلم إليَّ ابنَ أمِّ شَمْلَة، فعرف عمر أنَّ الخليفة قد عفا عنه، فلم يكلمه ودخل بيته.

وحسبنا من هذه الأقوال جميعًا أن نقف منها على الثابت الذي لا نزاع فيه … والثابت الذي لا نزاع فيه أنَّ وجوب القتل لم يكن صريحًا قاطعًا في أمر مالك بن نويرة، وأنَّ مالكًا كان أحق بإرساله إلى الخليفة من زعماء فَزازَة وغيرهم الذين أرسلهم خالد بعد وقعة البزاخة، وأنَّ خالدًا تزوج امرأة مالك وتعلَّق بها وأخذها معه إلى اليمامة بعد لقاء الخليفة.

وأوجب ما يوجبه الحق علينا بعد ثبوت هذا كله أن نقول: إنَّ وقعة البطاح صفحة في تاريخ خالد كان خيرًا له وأجمل لو أنها حذفت ولم تكتب على قول من جميع تلك الأقوال؛ لأنها لم تضف إلى فَخاره العسكري كثيرًا ولا قليلًا، وأهدفته لمُلامٍ أحمدُ ما يُحمد منه أنَّ له عذرًا فيه، يقبله أناس ولا يقبله آخرون.

•••

يجب تقدير هذا عند تقرير خالد؛ لأنه الحق الذي لا يعلو على ميزانه ميزان في ترجيح الرجال والأعمال …

ولأن الرجل الذي يخشى على قدره من تقرير أخطائه رجل لا يستحق أن يكتب له تاريخ؛ إذ معنى الخشية عليه من أخطائه أنه فقير في الحسنات والعظائم، وأنه من الفقر في هذا الجانب بحيث تعصف الأخطاء بعظائمه وحسناته، ولم يكن خالد بن الوليد كذلك، بل كانت له في ميزات العظمة والعبقرية كفة راجحة، ولم يكد يرحل عن البطاح حتى اتصلت له حلقات من كبار الأعمال توزع على عشرة رجال ويجد كل منهم في نصيبه كفايته من الفضل والرجحان.

خرج من البطاح إلى اليمامة.

خرج من وقعة لا خطر لها إلى وقعة لها الخطر الأكبر في حروب الردة وفي حروب الإسلام كافة خلال أيام الخلفاء الراشدين.

ويرجح هذا الخطر إلى قوة بني حنيفة أصحاب اليمامة، ودهاء رئيسهم مسيلمة بن تمامة، ومنعة بلادهم بالجبال والأودية ووفرة الماء والثمرات.

هابها أصحاب سجاح، وقالوا لها حين حدثتهم بغزوها: إنَّ مسيلمة قد استفحل أمره وعظم … فلم تُهَوِّنْ عليهم خَطْبَها حتى استنزلت لهم سجعات من وحيها المزعوم تقول فيها: «عليكم باليمامة. دفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، ولا تلحقكم بعدها ملامة.»

وكان مسيلمة هذا رجلًا قصيرًا أخنس الأنف أفطسه شديد الصفرة زري الهيئة، ولكنه على ما يؤخذ من أخباره كان على ذكاء مفرط وحيلة نافذة، وكان من أولئك الدهاة الذين يعوضون بالحيلة ما فاتهم من الهيبة والرواء، فاشتُهر بالخِلَابَة والقدرة على استهواء النفوس من الرجال والنساء، فمن خِلابته أنَّ النبي — عليه السلام — أرسل إليه رجلًا من قراء القرآن؛ ليعلم أهل اليمامة أحكام الإسلام ويبصرهم بالفرائض والعبادات وهو نهار الرحال، فما لبث الخبيث أن استغواه حتى شهد له أنه يُوحى إليه وأنه سمع النبي — عليه السلام — يقول إنه قد أشركه معه وشهد له بالنبوة … وقد استغوى سجاح — وهي تدَّعِي النبوة — حتى شهدت بنبوته وتزوجته وانصرفت من بلاده بنصيب من الهدايا يُقْنِعها بالذَّهاب ولا يضمن لها التَّكرار، وكأنه كان على حظوة عند النساء وخبرة بأهوائهن وأساليب مرضاتهن، فقد كان نساؤه يحببنه ويجزعن عليه، وصاحت إحداهن ساعة أن قتله وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم: «وا أمير الوضاءة. قتله العبد الأسود …»

وخليق بهذا أن يظن به السحر وتنتظر منه الخوارق بين الجهلاء؛ لأنهم يرون سلطانه ولا يعلمون مأتاه، فيخيل إليهم أنه سر من الغيب أو معونة من الجنة والشياطين، وهو على هذا كان يعين حيلته بما استطاع من صناعة الشعوذة والألاعيب التي كان يحذقها بعض الكهان في بلاد العرب والعجم، فكان قبل ادعائه النبوة يطوف بالأسواق ويتعلم «النيرنجيات» حيث سمع بأساتذتها المبرزين فيها، ولم يكن في طبيعته بمعزل عن طبائع السحرة وأدعياء الغيب … فقد قيل في وصفه وهو يتكهن: «إنه إذا اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شِدْقَيه» … والأغلب الأرجح أنَّ به صرعًا كأولئك الذين يشبهونه في الخلائق والدعاوي، ومنهم الذين يعالجون «الاستهواء» من المستهوين أو الوسطاء.

ولسلطانه على أبناء قبيلته أحبوه ووثقوا به وأطاعوه، فتَأَتَّى له أن يجمع منهم أربعين ألفًا أو ستين، وهو عدد ربما ارتفعت به المبالغة أو الجهل بالتقدير، ولكنه لا يهبط إلى ما دون العشرين، قياسًا على ما وصفت به معركة اليمامة من الهول وكثرة القتلى والجرحى بين الفريقين.

وقد كان مسيلمة يحسب الحساب لأمور كثيرة يوم تصدى لدعوى النبوة ومقاومة الإسلام … فكان يقاتل ثُمامَة بن أُثال، ويناوش بني تميم لما بينهم من الذُّحول والمنافسات، ويتوقى شر سجاح وقومها التغلبيين ودولة الأكاسرة من وراء التغلبيين، ويعلم أنَّ أشياعه من بيوت بني تميم قد يخذلونه، وأنَّ الذين دانوا بالإسلام بين قومه عيون عليه، وأنَّ الخليفة لا يمهله ولا يجهل أخباره … فتحيل على مهادنة خصومه، وفرغ جهده لحرب المسلمين وحدهم، وحشد كل ما وسعه من جند وسلاح، ثم تقدم بهم في عجلة إلى موقع يقال له عقرباء في طرف بلاده على مقربة من بلاد بني تميم.

ولم يكن خالد يجهل خطر الرجل الذي سيلقاه، ولم يكن يخفى عليه أنَّ الحرب في العراء غير الحرب في بلاد تكتنفها الجبال، وتقام فيها الأبنية والأسوار، فتوجه إلى اليمامة في أهبة كافية بالقياس إلى أهبة المسلمين لأعدائهم في صدر الإسلام.

ولا يعلم على التحقيق عدد الجيش الذي كان معه في عقرباء، ولكنه على التقريب يجاوز ثمانية الآلاف ولا يقل عنها؛ لأن جيشه بالبزاخة نحو خمسة آلاف، يضاف إليهم جيش شرحبيل بن حسنة الذي سبقه ولبث في انتظاره، ولا يقل عن ألفين، ويضاف إليهم الردء الذي أرسله الصديق وراءهم بقيادة سليط بن عمرو؛ ليحمي ساقتهم، وغير هؤلاء من تطوع للحرب مع المسلمين من بني تميم وبني حنيفة، فهم في جملتهم يجاوزون ثمانية الآلاف ولا ينقصون عنها، إن نقصوا، إلا بقليل.

لكن مكان القوة من هذا الجيش الصغير إنما هو كثرة الصناديد من أبطال الصحابة المشهورين فيه. فقد كان جيش المسلمين لا يجاوز في عدته نصف جيش اليمامة، ولكنه كان في عدة وافية من أفذاذ الرجال الذين يقومون بالألوف … فهم وأعداؤهم بهذه المثابة كفؤان متناظران.

وكانا كفؤين متناظرين في صدق النية واتقاء العار من الهزيمة … هذا تأخذه غيرة الحرم وهذا تأخذه غيرة الدين، وقد قال ابن مسيلمة لقومه وهم يتقدمون إلى المسلمين: «هذا يوم الغيرة … اليوم إن هزمتم تستنكح النساء سبيات وينكحن غير حظيات، فقاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم.»

فليست تعوز الخصمين حرارة الخصومة، ولا شواحذ الغيرة، ولا صلابة العزم، ولا توسم الأمل في النجاح.

ولم يزل خالد يتقدم إلى وجهته على تعبئة كاملة كعادته في معظم غزواته … وكان يتلقى الأخبار عن مسيلمة وحركاته في كل مرحلة من مراحل الطريق، ولعله استعظم القوة التي حشدها مسيلمة في عُقْر داره فجنح إلى الأخذ بالأحوط وكتب إلى الخليفة في طلب المدد عسى أن يحتاج إليه بعد الجولة الأولى من جولات القتال، فأمده الخليفة بجرير بن عبد الله البَجَليِّ، ولكنه التحم بجيوش مسيلمة قبل أن يصل إليه، فلقيه منصرفًا من اليمامة.

ولما دنا من أرض مسيلمة مرت مقدمة جيشه في الليل بكوكبة من الفرسان بين الأربعين والستين … عليهم مجاعة بن مرارة من زعماء بني حنيفة وأصحاب الرأي والمنزلة فيهم، وكأنه كان خارجًا لاستطلاع أمر المسلمين، ولكنه أنكر ذلك وزعم أنه ذهب «لأخذ ثأر له في بني تميم وبني عامر»، فلما سئلوا عن دينهم قالوا: منا نبي ومنكم نبي، فأمر خالد بضرب أعناقهم جميعًا واستبقى مجاعة عسى أن ينتفع بمنزلته في قومه أو بعمله بالحرب والمكيدة، كما قال بعض الرواة.

ونزل خالد على كثيب في مواجهة مسيلمة، ثم التحم الفريقان «وقاتلت بنو حنيفة قتالًا لم يعهد مثله» واندفعت في هجمتها حتى دخلت خيمة خالد من وراء العسكر وفيها امرأته أم تميم ومجاعة بن مرارة مقيد بالأغلال … فهمَّ بعض الحنفيين يقتلها لولا أنَّ حماها منهم مجاعة وأوصاهم بها خيرًا وهو يقول: نعمت الحرة هذه، وعليكم بالرجال.

شوهد في كثير من المعارك بين المسلمين وأعدائهم في الصدر الأول أنَّ الكرة الأولى غالبًا ما تكون للمشركين، ولا سيما حين تجتمع لهم مزية العدد والراحة حيث يختارون مكان القتال، وهي مشاهدة لا تستغرب ولا تخالف المعهود؛ لأن «الدفعة الحيوانية» أبدًا لها الوثبة الأولى مع العدد الكثير وراحة الجسد، وإنما الثبات للعقيدة التي يلوذ بها الإنسان بعد المراجعة، وللضمير الذي يثوب إليه المرء بعد الامتحان، وليس من شأن العقيدة أن تكون — كالدفعة الحيوانية — وثبة عاجلة وهجمة سوارة فاشلة، وإنما شأنها أن تحاسب النفس وتستعيد قواها وتستخرج ذخيرتها من أعماقها، فهي لهذا تنفع صاحبها في المحنة وبعد تبين الشدة، وبخاصة حين يحتاج إليها بعد الجولة الأولى.

وهذا الذي حدث في عقرباء كما حدث في وقائع شتى.

فبعد الجولة الأولى التي فازت بها «الدفعة الحيوانية» برزت العقيدة إلى الطليعة وجاءت بمعجزاتها، وهي معجزات لا يتخيل العقل أنَّ نفسًا إنسانية تقدم عليها بغير اعتقاد.

انكشف الأعراب أولًا في أول صدمة، وتزلزلت أقدام أناس من الأنصار والمهاجرين من طغيان الجموع الهازمة والمنهزمة على السواء.

فبادر خالد إلى تنظيم جيشه على وضع جديد، فميز المهاجرين وميز الأنصار وميز الأعراب كل بني أب على راية، وصاح بهم: أيها الناس تمايزوا حتى نعرف من أين نؤتى.

ثم عول على الموت كما وصاه أبو بكر، فوهبت له الحياة ووهب النصر … حمل على القوم حتى تجاوز الصفوف وجعل يخاطب مسيلمة ويعرض عليه النصف والرجوع إلى الحق ومسيلمة يروغ منه، ثم نادى بشعار المسلمين: يا محمداه … ودعا إلى المبارزة وهو يصول ذات اليمين وذات الشمال ولا من يثبت له في مجال، ولم يبال أن ينظر إلى ما وراءه؛ لأنه ترك كل شيء في تلك الساعة إلا أن يتقدم أمامه، ولم يزد على أن قال لجيرته أو من نسميهم اليوم أركان حربه: «لا أوتين من خلفي» ومضى إلى تقدم بغير رجوع، إلا رجوع ظافر مختار.

وظهرت في مقام الهول فضيلة الصناديد من كبار الصحابة، فحفر ثابت بن قيس لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقيه وهو يحمل لواء الأنصار بعد ما تحنط وتكفن، فلم يزل ثابتًا حتى قتل في مكانه.

وصاح زيد بن الخطاب: أيها الناس عَضُّوا على أضراسكم واضربوا في عدوكم وامضوا قُدمًا. ثم أقسم: والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأكمله بحجتي. فكانت آخر ما فاه به في ذلك اليوم.

وحمى البراء بن معرور وأخذته العُرَواء التي كانت تأخذه حين تتعالى الوغى ويحتدم القتال، فكان كأنما يبحث عن الموت ويهرب من الحياة …

وتجاوبت الساحة بأصوات الأبطال يوصون بعضهم بعضًا، وينظر بعضهم إلى بعض وهم ينقضون على أعدائهم ويتنادون بينهم: يا أصحاب سورة البقرة … يا أنصار الله … كما ناداهم النبي — عليه السلام — في يوم حنين. فاستحى كل منادى منظور المكان منهم في ذلك المشهد العظيم أن ينكص على عقبيه، ولم ير منهم إلا قتيل في موضعه أو زاحف إلى الأمام.

وما هي إلا سويعات حتى انكشف أصحاب مسيلمة منكسرين، وهرول مسيلمة نفسه إلى حديقة مسورة من ورائه … وقد سميت في ذلك اليوم بحديقة الموت؛ لكثرة من قُتل في طريقها وكثرة من قُتل فيها، ولاحت من البراء نظرة إلى جانب الباب فإذا هم قد أوشكوا أن يغلقوه عليهم، فصاح بإخوانه: يا معشر المسلمين، ألقوني عليهم من فوق سورها، فاحتملوه فوق الحجف،٦ ورفعوها بالرماح حتى بلغت أعلى السور فسقط منه على القوم بعد تردد، ولم يزل يعالج باب الحديقة حتى فتحه، وقد تواثب أفراد من المسلمين إلى جانبه فأعانوه.

وقتل في هذه الهجمة مسيلمة، كما قتل محكم بن الطفيل أكبر أعوانه ومشيريه، فاضطرب بنو حنيفة ووقعوا في الحيرة وهم في هزيمة لا يشار فيها برأي، ولا يصغى فيها إلى مشير، فشغلوا عن باب الحديقة وأُعين المسلمون على اقتحامه من داخلها وخارجها. فحق لتلك الحديقة في ذلك اليوم أن تسمى حديقة الموت؛ لأنها اشتملت في يومها على ألوف من القتلى، وبلغ عدد القتلى جميعًا في ذلك اليوم بين ساحة القتال وحديقة الموت عشرات الألوف، أقلهم في تقدير المقدرين عشرة آلاف من بني حنيفة وستمائة من المسلمين، وأكثرهم في تقدير المقدرين يرتفعون إلى سبعين ألفًا أو ثمانين ألفًا حنفيين وألفين مسلمين وهو رقم لا يدل على نبأ صحيح ولكنه يدل على هول صحيح سرى في الأنفاق من أنباء تلك المعركة التي ذهبت فيها نخبة من أجلِّ الصحابة وأفقه الفقهاء … ومن جراء مقتلهم في هذه المعركة أمر الخلفاء بجمع القرآن في المصحف بعد أن فني الكثيرون من حافظيه، وخِيف أن يفنى آخرون.

ثم بعث خالد الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي، وعزم على غزو حصونها جميعًا ولم يكن بقي فيها إلا النساء والصبيان والشيوخ والكبار، فاقترح عليه مجاعة أن يذهب إليهم؛ لينزلهم صلحًا عن معاقلهم، ثم خدعه وأخلص لقومه؛ لأنه أمر النساء والكبار أن يلبسوا الحديد ويبرزوا من رءوس الحصون، فنظر خالد فإذا الشرفات ممتلئة من رءوس الناس، فآثر المصالحة لما رأى بالمسلمين من الجهد «وقد كلوا من كثرة الحروب» واشترط أن يسلموا وأن يكون له نصف السبي والغنائم، ثم نزل من النصف إلى الربع حين أوهمه مجاعة أنَّ القوم قد رفضوا ما قبل منه.

فلما اطمأن المعتصمون إلى الحصون من بني حنيفة فتحوا أبوابها فلم ير فيها إلا امرأة أو صبي أو شيخ فانٍ أو رجل هزيل لا يرجى لقتال.

وقد يتوقع من خالد أن يغضب على مجاعة ويبطش به بطشة خالدية بعد هذه الخدعة التي اجترأ عليه بها علانية وهو في قبضة يديه.

لكننا في الحق لا نعجب إذا هو لم يغضب؛ لأن عمل مجاعة لا مراء عمل نبيل يكبره في النفوس النبيلة، ويبعث له فيها الإعجاب الذي يكفكف من شرة كل غضب سريع. فهو عمل ينضح بالمروءة والغيرة على العشيرة، وكلتاهما فضيلة يعرفها خالد، ويعرف للمتصف بها قدره فلا يذله ولا يجزيه شر الجزاء.

وقصارى ما بلغ من غضبه أنه نظر إليه نظرة شزراء وصرخ به: ويحك … خدعتني، فلم يجبن مجاعة ولم يعتذر، وإنما قال: هم قومي.

وما نحسب إلا أنَّ الإعجاب بمجاعة قد حبب إلى خالد أن يصهر إليه ويوثق الصلة بينه وبينه … زعيم شجاع جميل الرأي حسن التدبير غيور على قومه، عليم كما وصفوه بمكيدة الحرب والسلم، فهو خير صهر في تلك القبيلة التي يفخر «سيف الله» بدخولها على يديه في الإسلام، ويطيب له أن يعزز صلة الدين بصلة البيت والنسب، وقد طاب له المقام بتلك البقاع المخصبة التي يزينها له النصر كما يزينها له طيب الهواء، فاختار له واديًا من أوديتها الجميلة يسمى الوبر ليقيم فيه حتى يؤمر بوجهة أخرى، وخطب إلى مجاعة فتاة له موصوفة بجمالها، وهي خطبة لا تُرفض ولكنها قد تُقبل وتؤجل؛ لأن مجاعة قد علم من «ليلى» مذ كان سجينًا في خيمتها كيف تلقى الخليفة وأصحابه خبر زواجها بخالد في ساحة القتال. فأشفق هذا الرجل المحنك البصير بالعواقب من عاقبة تسوءه وتسوء ابنته وتسوء خالدًا في جريرته، فاستمهله ولم يعجل بتلبية طلبه، وقال له: «مهلًا … إنك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك» … ولكنه لم يلبث أن علم إصرار خالد حتى أجابه ورأى أنَّ عاقبة القبول أسلم من عاقبة الإباء.

وكان خالد قد تلقى من الخليفة أمرًا باستئصال كل من يحمل السلاح من بني حنيفة، فعادت الرسل إلى الخليفة بخبر الصلح وخبر الزواج، فحسب أنَّ الأمرين مقترنان واشتد به السخط على عمل خالد بما وقع في نفسه من حسبان، فكتب إليه أعنف خطاب وجهه إلى قائد من قواده أو والٍ من ولاته، وسماه «ابن أم خالد …» وقال له في خطابه: إنك لفارغ، ونعى عليه أنه «ينكح النساء وبفناء بيته دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجف بعد.»

وقد كتب خالد إلى الخليفة يعتذر في أنفة وعزة: «أما بعد، فلعمري ما تزوجت النساء حتى تم لي السرور وقرت بي الدار، وما تزوجت إلا إلى امرئ لو عمدت إليه من المدينة خاطبًا لم أبل. دع أني استثرت خطبتي إليه من تحت قدمي، فإن كنت قد كرهت لي ذلك لدين أو دنيا أعتبتك، وأما حسن عزائي على قتلي المسلمين فوالله لو كان الحزن يُبْقِي حيًّا أو يرد ميتًا لأبقى حزني الحي ورد الميت، ولقد اقتحمت في طلب الشهادة حتى يئست من الحياة وأيقنت بالموت، وأما خدعة مجاعة إياي عن رأيي فإني لم أخطئ رأي يومي ولم يكن لي علم بالغيب، وقد صنع الله للمسلمين خيرًا، وأورثهم الأرض وجعل لهم عاقبة المتقين.»

وقال في رسالة أخرى: «إني لم أصالحهم حتى قتل من كنت أقوى به، وحتى عَجِف الكُرَاع ونهك الخف، ونهك المسلمون بالقتل والجراح.»

وقد ظن خالد أنَّ الخليفة لم يكن ساخطًا عليه ذلك السخط لولا إصغاؤه «للأعيسر» كما كان يسمى عمر بن الخطاب، ويخيل إلينا أنَّ سخط الخليفة لم يكن ليبلغ به هذا المبلغ لولا أنَّ زواجه ببنت مجاعة سبقه ذلك الزواج الذي خبطت فيه الظنون بعد مقتل مالك بن نويرة.

وعلى هذا، انقضى واجب خالد بن الوليد في حروب الردة كأحسن ما ينقضي هذا الواجب، وقام وحده بأوفر سهم في هذه الحروب؛ لأنه قمع أخطر الفتن في الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، فقمع فتنة بني أسد وحلفائهم، وخطرها أنها كانت أقرب الفتن إلى المدينة ومكة، وقمع فتنة بني حنيفة، وخطرها أنها كانت فتنة القبيلة القُوَّى والعديد الأكثر بين العرب قاطبة … وحقق كل ما ندبه له الخليفة، وكل ما اتفقا عليه، سواء من الخطط التي نظرا معًا في تفصيلاتها، أو من الخطط التي عرف خالد غاياتها، وابتدع لها ما ارتآه من أساليبها في أماكنها وأوقاتها، ولم يخالف رغبة الخليفة إلا في موضعين لهما، كما أسلفنا، علاقة بمسألة زواج.

أما الأولى — وهي زواج ليلى امرأة مالك — فقد تقدم تلخيصها وجملة الرأي فيه — كما أسلفنا — أنه عمل يُحْوِج خالدًا إلى الاعتذار والتفسير، وأنه صفحة كان خيرًا له لو طويت من تاريخه، فما فيها مزيد افتخار، وفيها على أهون القولين مقام اعتذار.

وأما الأخرى فلا يسع أحدًا أن يسهو فيها عن عجلة خالد إلى الزواج على غير عادة القوم في ميادين القتال.

ولكن لا يسع أحدًا كذلك أن يتعدى هذا إلى مظنة تمس نية الرجل أو تجعل صلحه لبني حنيفة متصلًا برغبته في الزواج ببنت مجاعة زعيم الحنفيين في صلح اليمامة … ذلك بعيد، جد بعيد …

لأن بنت مجاعة كانت بين يديه، وكان في وسعه أن يقتل أباها؛ نقمة من خداعه إياه، ومرضاة للخليفة الذي أمره باستئصال من يحمل السلاح في القبيلة، فهو يقتله ولا معتبة عليه.

ولم يصالح خالد بني حنيفة وهم مجمعون على قبول صلحه، بل كان منهم زعيم له أنصار وأتباع — هو مسيلمة بن عمير — أبى أن يذعن لشروط مجاعة ومضى يهتف في قومه: «يا بني حنيفة، قاتلوا عن أحسابكم ولا تصالحوا على شيء فإن الحصن حصين والطعام كثير، وقد حضر الشتاء.»

فلما عارضه مجاعة وذهب برأي الأكثرين من قومه تمادى مسيلمة بن عمير في لجاج الخصومة، وانسل إلى فسطاط خالد يريد أن يفتك به ويشيع بموته الفتنة التي لا تؤمن عقابيلها في معسكره ومعسكر بني حنيفة، فتنبه خالد إليه وسأل: من هذا المقبل؟ … فعرفوه به فقال: أخرجوه عني، فلما أخرجوه وجدوه يخفي السيف في ثيابه، فلعنوه وأوثقوه في الحصن وأخذوا عليه عهدًا لا يقربن بعدها من فسطاط خالد حتى تنتهي بيعة قومه على الإسلام، ولكنه غدر بعهده وأفلت بالليل إلى عسكر خالد مصرًّا على قتله، فلما أدركوه دون بغيته أجال السيف على حلقه فقطع أوداجه وآثر الموت على التسليم.

ومع هذا، بقيت بلدة «القرية» ووادي العرض في اليمامة لم يشملهما الصلح الذي شمل العسكر في عقرباء. فلم تكن مطاولة القوم خيرًا من المصالحة في حالة كتلك الحال، ولم يكن في طاقة المسلمين أن ينهضوا للمطاولة بعد أن قتل منهم من قتل وجرح من جرح ومضى على أكثرهم عدة شهور بين مشقة السفر ومشقة الهول والبلاء، ولم يكن إرجاء التسليم مأمون المغبة إذا استثيرت نخوة الحنفيين وفيهم من يعاند في الخصومة ذلك العناد، ولقد يكون المستسلمون منهم أسرع إلى النكسة يوم يشهدون بأعينهم سبي النساء «غير حظيات» وقتل القادرين على الحرب من فتية وكهول.

فدواعي خالد إلى الصلح أظهر وأرجح من أن يعتسف معها داعِ آخر غير معقول ولا مستساغ، وإنَّ الداعي الذي لا يعقل ولا يستساغ هنا لهو التعليل بزواجه من فتاة اليمامة، وأيسر شيء لديه أن يسبيها بعد قتل ذويها، ثم يكون ذلك أدنى إلى رضا الخليفة وتحقيق ما أمر به، قبل أن يطلع على الموقف في اليمامة من جملة نواحيه.

وبعد، فليحسب زواج خالد كله في أي سجل يشاء أن يحسبه الحاسبون، ففي سجل المفاخر الإسلامية شيء يحسب له بعد حرب اليمامة لن يطول فيه خلاف … فتلك أول حرب ظهر فيها للمسلمين مصداق قول النبي — عليه السلام — إنه سيف من سيوف الله، كان الخطر على الدين الجديد من العرب أنفسهم ومن أمم «الأعاجم» التي تحيط بالبلاد العربية.

وقد رأينا نصيب خالد من وقاية الإسلام في أرضه، وهو أوفى نصيب … وسنرى نصيبه من مِراس الخطر الآخر وما هو بأكبر الخطرين، ولكن نصيب خالد في مراسه كان أوفى النصيبين.

١  العير: القوافل.
٢  تفرق: بفتح التاء والراء أي تخاف.
٣  التِّرات: جمع ترة وهي الوتر أو الثأر.
٤  ودى: أي دفع الدية.
٥  القود: أي التعويض.
٦  الحجف: هي التروس من جلد بلا خشب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤