الفصل التاسع

عبقريته الحربية

كسبت المعارك الحاسمة لأسباب لا تحصى، وكسبت معارك شتى للسبب ونقيضه، وربما تعرض النقاد العسكريون للمعركة الواحدة فإذا بهم يردون النصر فيها إلى أسباب تتناقض وتتباعد كأنهم يتكلمون عن النصر والهزيمة.

كسب بعض المعارك؛ لأن الأقواس كانت أكثر من السيوف، وكسب بعضها؛ لأن السيوف كانت أكثر من الأقواس.

وكسبت معارك حاسمة؛ لأن الرماح المنتصرين كانت أطول من رماح المهزومين بشبرين أو بضعة أشبار، وكسبت معارك غيرها؛ لأن الرماح كانت تتلاحق في طولها على حسب الصفوف.

وفي بعض المعارك كان الفرسان في الوسط، فقيل: إنَّ هذا كان من دواعي النصر العاجل، وفي معارك أخرى قيل: إنَّ دواعي النصر إنما ترجع إلى قيام الفرسان على الجانبين …

وكثيرًا ما يقال: إنَّ اشتراك الفرسان والمشاة في العمل كفيل بالغلبة في بعض الميادين، ثم يدور الكلام على ميدان آخر فيقال: إنَّ تربص الفرسان بمعزل عن القتال إلى ساعة الفصل هو الكفيل بالغلبة المؤزرة حتى نهاية القتال، وربما قيل: إنَّ ظهور الفرسان في ميدان يضيق عن حركات المناورة جنى على الفرسان وعلى المشاة فدب الفشل في صفوف هؤلاء وهؤلاء …

ولقد يحاول بعض الخبراء أن يجمعوا أسباب النصر إلى قاعدة موجزة فيقولون كلامًا يحسن الاطلاع عليه، ولكنه كلام يقرؤه القائدان معًا فيبوء أحدهما بالنصر ويبوء الآخر بالهزيمة.

مثل هذه القواعد الموجزة كمثل القاعدة التي توجز لك البلاغة الشعرية في كلمات ثلاث وهي: الوزن، واللفظ، والمعنى … ولا خطأ في هذا الإيجاز، ولكنه مع هذا لا يعلم الشاعر الصواب.

وقصارى ما يقال بعد تقرير الأسباب وتدوين القواعد أنها لا تمنع الفروق بين معركة ومعركة وميدان وميدان، وأنَّ القائد الموفق هو الذي يلمح هذه الفروق فيعمد إلى العمل اللازم في الوقت اللازم بالقدر اللازم، فلا ينقص أو يزيد، ولا يتقدم أو يتأخر، ولا يوحد العمل مع وفرة الفروق …

وإذا كان كل شيء في المعركة يتوقف أحيانًا على كذا أو كذا من الخطوات في السبق إلى حومة القتال، وكذا أو كذا من الأشبار في طول الرماح، وكذا أو كذا من التفاوت في سرعة القذيفة هنا أو هناك، أو كذا وكذا من الحركات إلى اليمين أو إلى الشمال وإلى الأمام أو إلى الوراء، فتفصيل أسباب النصر في المعارك القديمة على التخصيص ضرب من المستحيل؛ لأن إثبات الفوارق بين المعسكرين في الأسلحة والمواعيد والعدد والحركة غير ميسور، وأقصى ما نطمع فيه أن نقنع بالإجمال دون التفصيل.

وإجمال القول في توفيق خالد بن الوليد أنه لم تعوزه قط صفة من صفات القائد الكبير المفطور على النضال، وهي الشجاعة والنشاط والجلَد واليقظة وحضور البديهة وسرعة الملاحظة وقوة التأثير.

كان يضع الخطة في موضعها ساعة الحاجة إليها … فكان يحارب بالصفوف كما كان يحارب بالكراديس، وكان يحارب بالكمين والكمينين كما يحارب أحيانًا بغير كمين، وكان يستخدم التورية والمباغتة والسرعة على أنماط تختلف باختلاف الدواعي والأحوال.

وقد علم أنَّ تمزيق الجيوش أجدى في الحرب من الحصار والاحتلال وعلم أنَّ الخبر قوة وسلاح، فكان يستطلع أخبار العدو ولا يتيح له أن يستطلع خبرًا من أخباره يفيده أو يحميه من بأسه …

وأجدى من هذا جميعه أنه كان لا يغفل عن القوة الأدبية يعززها ما استطاع في جيشه ويضعضعها ما استطاع في جيش عدوه.

فكان هو نفسه مادة لهذه القوة الأدبية تجيش بها نفوس أنصاره فيثقون بالفوز ويأمنون خطر الهزيمة، وتشيع في نفوس أعدائه فيسري إليهم الذعر وتفارقهم الثقة والطمأنينة.

•••

وإلى هذا، كان يعتمد على قوة الإيمان وهمة الأمل، فيتعهد جيشه بالعظات قبل القتال وفي أثناء القتال، ولا يفوته وهو مشغول بالضرب والطعن والتوجيه والمراقبة أن يطوف بين الصفوف للتذمير والتشجيع فيعمل ويقول القول الذي هو ضرب من العمل، فإذا قال: «إنَّ الصبر عز وإنَّ الفشل عجز وإنَّ الصبر مع النصر» فليست هي أصداء تمر بالهواء، ولكنها في العز والصبر ماثلان للعيان يسريان بالقدوة منه إلى كل مسمع وجنان …

وإلى هذا وذاك، كان يثير المنافسة الكريمة في صدور جنده وأعوانه، فيدعوهم إلى التمايز والتناظر لينفث فيهم مع عزيمة الإيمان عزيمة أخرى من حب الفخار وخوف المسبة والعار.

ويتخذ من الغيرة على العرض مددًا لهذه العزائم التي تواجه الموت على حد قوله كما تواجه الحياة، فإذا بالرجل الفرد يُبلي في قتاله ما ليس يُبليه عشرات.

•••

ولم يخف عليه قط مقتل العدو من قوته الأدبية حيثما عمد إلى هذا المقتل في منازلات للمستبدين والطغاة. فإنهم في جيوش الأمم التي طال عهدها بالظلم يرتفعون إلى مقام الأرباب من حيث يتحدر رعاياهم إلى مقام القطيع السائم. فإذا أصيب القائد في الجولة الأولى، فكثرة الجند بعد ذلك معوان على الهزيمة وليست بالوقاية منها؛ لأنها كثرة من الخوف والذعر وليست كثرة من الثقة والثبات.

ولقد كان هو يخلق فنون الحرب التي يجمعها «الخبراء» في عصورنا هذه بمراجعة الحروب وتحصيل الدروس واستخراج القواعد من الخطط والمعلومات.

قرأنا في كتاب «فن الحرب اليوم»١ لمؤلفيه من قواد البحر والبر والهواء: «عند بحث هذه المسألة ينبغي أن نحضر في أذهاننا أنه مع استثناء قليل لم يكن ثمة إلا نوعان من السلاح سيطرا على حومة القتال، وهما السلاح المقذوف والسلاح الضارب أو القارع، أي النبل أو السهم أو الرصاصة من جانب، والهراوة والسيف والرمح من الجانب الآخر … ومجمل ما يقال بعد هذا أنَّ الصف هو أنسب الأوضاع لتطور قوة السلاح المقذوف وأنَّ الكُرْدُوس أنسب الأوضاع لتطور قوة السلاح الضارب؛ لأن الرماة بالقذائف يحتاجون إلى مدى مكشوف. وإنما يتأتى الضرب في العمق كرات متلاحقات من المقاتلين جماعات جماعات.»

إنَّ خالد بن الوليد لم يقرأ ولم يفته شيء بفواته عنه؛ لأنه قد علم كنهه ولبابه من بديهته الحربية، فقاتل بالصفوف حيث تغني الصفوف وبالكراديس حيث لا تغني إلا الكراديس.

وفي هذا الكتاب أيضًا يقول المؤلفون: «يتضح مما تقدم أنه في حملات السلاح الضارب هناك أمران ضروريان، وهما: الاستطلاع، وكتمان الحركات، والغرض من الاستطلاع وزن قوة العدو ومن كتمان الحركات أن تحول بينه وبين وزن قوتك وتوقع الهجمة من أي موضع تكون …»

ثم يتكلمون عن الاستطلاع كما يجري في عصرنا الحديث فيقولون: «وعلى هذا يجري الاستطلاع من الهواء قبل الحركات الأولى وفي خلالها، وتتقدم الكراديس في أثناء ذلك على نظام المعركة، أي على النظام الذي تتألف به حين تدعى إلى الهجوم.»

وهذه هي ربيئة خالد للاستطلاع، ومسيره «على التعبئة الكاملة» التي يهجم بها ساعة اللقاء بالنظام الذي كان يسير عليه، ثم يدخل في التحام قريب ولا يطيل في موقف التقاذف بالنبال والسهام.

وتقرأ في كتاب «الأسلحة وفنون التعبئة»٢ لمؤلفه ونترنجهام الذي كان محررًا لمجلة الجيش والبحرية بالولايات المتحدة: «إنَّ سرعة الحركات وقوة الإصابة وتدبير الوقاية هي الآن — كما كانت في كل زمان — بعض مفاتيح النصر التي لا شك فيها، فإذا كسبت المعارك أحيانًا بالمفاجأة أو التركيز في الموضع الحاسم وفي الوقت اللازم أو المناورة البارعة، فهذه المزايا إنما تستمد مباشرة من التفوق في سرعة الحركة أو في قوة الإصابة أو في تدبير الوقاية.»

وخالد بن الوليد لم يُقَسِّم فن التعبئة هذا التقسيم حين علم أنه يضمن سرعة الحركة باقتحام الصحراء المخيفة، ويضمن المفاجأة بهذا الاقتحام، ولا يزال واثقًا بالوقاية حيثما حارب وظهره إلى الصحراء أو حيثما تقدم وراء جيش مهزوم لا يتماسك له قوام.

•••

ووَضَعَ الخبير الحربي المشهور ليدل هارت٣ كتابًا مستقلًّا عن فن سوق الجيوش على طريق التورية لخصه في قوله: «إنَّ التحرك في الوجهة المتوقعة يحفظ توازن العدو ويزيد بتثبيت هذا التوازن قدرته على المقاومة، وفي الحرب. كما في المصارعة — إنما يتأتى لك أن تغلب الخصم دون أن تزحزح قدمه وتخل توازنه باستنفاد قوتك أنت استنفادًا لا يناسب الجهد الذي يلقاه خصمك، ولن يتاح النصر بهذه الوسيلة إلا بفضل الرجحان الكبير في قوتك على نحو من الأنحاء، وقد يضعف الحسم في النتيجة مع ذاك … وعلى نقيض هذا، ينبئنا التاريخ العسكري في جميع العصور لا في عصر واحد، وفي جميع الحروب الحاسمة على التقريب، أنَّ الإخلال بتوازن العدو نفسيًا وماديًا هو المقدمة التي لا محيص عنها للقضاء عليه» …

وهذا الإخلال بالتوازن هو الغاية التي كان يتوخاها ابن الوليد، إما بالهجوم من جهتين أو ثلاث جهات، وإما بالمفاجأة التي لا تتوقع بحال من الأحوال، وإما بالكمين الذي يدخل اليأس على العدو في ساعة بالتطويق من حيث لا ينتظر التطويق.

وكل أولئك مفهوم جد الفهم أن يزلزل الأقدام ويخل التوازن، وكل ما يزلزل أقدام الإنسان في الحرب أو السلم فهو كذلك مفهوم جد الفهم من أقدم الزمان، ولكن القدرة حق القدرة هي معرفة الوقت، ومعرفة الوسيلة، ومعرفة التنفيذ متى عرف الوقت وعرفت الوسيلة، وبهذا دون غيره تتجلى «معرفة» القواد الملهمين …

وقال خبير حربي آخر هو آرثر برني٤ في كتابه «فن الحرب» معقبًا على حرب الفرس واليونان: «كانت قوة الفرس، جنودًا، قائمة على الخيالة والرماة، وكانت طريقتهم في القتال أن يمطروا العدو سهامًا، ثم يجترفوه بجملة من الفرسان في الوقت اللازم، وأفلحت هذه الطريقة مع أصحاب الأقواس من الميديين، وأصحاب الرماح الراكبة من الليديين، وأصحاب المشاة الثقيلة من البابليين والمصريين، لكنها خابت مع اليونان، وكانت التبعة في خيبتها على ضعف فرق المشاة الفارسية، فإذا ما استطاع الجند الإغريق أن يقتربوا — وكل شيء يتوقف على هذا — تناولوا المشاة الفرس على عجل بسيوفهم القصيرة ودروعهم الصغيرة …»
ولو عمم هذا الخبير القول لوجب أن يقول: إنَّ الذي خيب طريقة الفرس مع اليونان هو الذي خيبها مع العرب من أيام ذي قار إلى أيام خالد بن الوليد، فالهجوم من قريب بالسيوف القصيرة والدروع الصغيرة هو الجُنَّة٥ التي احتمى بها العرب من الرماة ومن الفرسان، بل ومن الفيلة في بعض الأحيان، وقد قيل في الأمثال الشعبية التي هي أصدق من قواعد الخبراء «الذي تغلب به العب به» وقد كان خالد يعلم أنَّ الالتحام هو أنفع ضروب القتال للجندي الذي ينافح عن عقيدة ويضرب بالسلاح الخفيف، فلم يلقَ الفرس ولا الروم إلا في التحام.

وقد صح هنا رأي ونترنجهام مؤلف كتاب «الأسلحة وفنون التعبئة» الذي سبقت الإشارة إليه حين قال: «إنَّ بعض الجماعات الإنسانية بطيئة التغير، ومن هذه الجماعات الممالك الآسيوية التي يحكمها ملك أو عاهل مرفوع النسب إلى السماء، فإنها تنتظم على سنن فحواها أن التغيير لا ينبغي وأنَّ العادات المأثورة كلها حسنة قويمة، إنَّ كل ما يعمل الآن خليق أن يعمل كما قد عمل منذ أزمان، وربما لاذت بعض الأمم التي هي أقرب إلى التقدم بفترة من فترات الراحة تستبقي فيها التقاليد والمأثورات على سنة المحافظة على القديم، فإذا برزت جماعات من هذا القبيل للقتال برزت وفي رءوس قوادها وجنودها فكرة عتيقة عن الحرب وحقيقتها، ولم يغيروا خططهم وآراءهم للانتفاع بسلاح جديد أو معرفة جديدة، ورسخت عندهم أصول رجعية للحرب أو لم تكن لهم فيها أصول على الإطلاق، ولكنهم يمضون بحكم العادة وفاقًا للترتيب الذي وضع منذ عهد بعيد وإنَّ هذه الجماعات لتخرج جيوشًا ليس أسهل من تحطيمها بجيوش الأمم التي يسهل عليها اتخاذ الأساليب الجديدة ومواجهة الغِيَرِ والطوارئ …»

ولو شاء صاحب هذا الرأي لشمل الدولة الرومانية فيما حكم به على الدول الآسيوية؛ لأنها كانت تقاتل بخططٍ وضعها الأقدمون لها منذ قرون، وهي على هذا عاجزة عن تنفيذ القديم عجزها عن ابتكار الجديد.

وجملة القول أنَّ خالدًا كان يحارب بالقريحة الملهمة أناسًا رثَّت عقائدهم كما رثَّت ملكاتهم العسكرية، فكانوا يرتبون كتائبهم وأسلحتهم في الميدان على نحو مرسوم كأنهم قائمون في مراتبهم بديوان التشريفات، وكان خالد يلبي الضرورة عفو الساعة في ترتيب كل كتيبة وكل سلاح، فإذا بدا له أنَّ الخيالة لا تجدي في الحركة جدوى المشاة ترتبت حركات الجيش معه كما تترتب الحركات في أعضاء الجسم الشاعر بتلبية الأعصاب والجوارح لمراكز التنبيه في الدماغ، فيترجل وقد ترجل معه كل من تنفعه الحركة على قدميه في كره وفره وهجومه ودفاعه.

وإذا بدا له أنَّ الحرب بالجماعات أنفع من الحرب بالصفوف المختلطة، فما هي إلا كلمة قالها حتى تتلاقى تلك الجماعات كل منها إلى قائدها المختار: «تمايزوا أيها الناس» فإذا هم بعد لحظات متمايزون …

وكانت مادة القتال التي يعمل بها من جند أو سلاح تغنيه وتلبيه، فكان جنده يصبرون على الشدة ولا يروعهم فقد مفقود؛ لأنهم مؤمنون عالمون أنَّ الموجود هو رب القائد والمقود، وكانوا يصبرون على الهزيمة؛ لأنهم عرب معودون في غزواتهم أن يكروا بعد فر، وأن يجتمعوا بعد تفرق، فهم يحسبون النكوص ضربًا من التحفز للوثوب، أما خصومه فكانوا يتساقطون تباعًا كما تتساقط حجارة اللعب المرصوصة إذا سقط منها الحجر الأول … فلا تماسك بعد ابتداء السقوط …

ومن ثمَّ كان نمطًا فريدًا بين قواد التاريخ؛ لأنه يمزج الفن بالبديهة، كما يمزج فن البداوة بفن الحضارة … وكان يقتبس ويجدد بالرأي والفطنة كما يقتبس ويجدد بغريزة موروثة من قبيلة «القبة والأعنة» يصح أن تسمى غريزة الميدان. وقد تصعب المقارنة بينه وبين قواد العصور الحديثة لاختلاف الأسلحة والمسافات، وإن كنا نعتقد أنَّ القائد العبقري تسعفه عبقريته على اختلاف العصر والسلاح.

ولكن المقارنة بينه وبين قواد الطراز الأول من الزمن القديم تقدمه إلى المرتبة الأولى بين أكبر القواد، ومنهم الإسكندر وبلزاريوس اللذان حاربا عدوًّا كعدوه في ميدان كميدانه. فالإسكندر في وقعة «أرهل» هزم جيشًا فارسيًا تقدر عدته بمائة ألف من الفرسان والمشاة، وبلزاريوس في وقائع أرمينية هزم جيشًا فارسيًا تقدر عدته بأربعين ألفًا أو قرابة الأربعين … والمقارنة بين خالد بن الوليد وهذين القائدين ترجح كفته على كفتيهما معًا في هذا الميدان؛ لأن الإسكندر كان يقود خمسة وأربعين ألفًا ويلزاريوس كان يقود نيفًا وعشرين ألفًا، وكلا الجيشين مسلح بأمضى الأسلحة في ذلك الزمان …

وقد كان خالد يحارب بثمانية عشر ألفًا جيوشًا أعظم من الجيوش التي تصدى لها القائدان الكبيران، ولم يكن له مثل سلاح المقدونيين أو سلاح الرومانيين، ولم يكن نصرهما كنصره ولا العاقبة بعدهما كالعاقبة بعده، وزاد على ذلك أن انتصر مثل هذا النصر على كل عدو من العرب أو العجم، ومنهم الرومان في أكبر الميادين، ميدان اليرموك.

فكان خالد في التاريخ العسكري هو مكان الطليعة بين أكبر القواد الذين اشتهروا بالفن، أو اشتهروا بالعبقرية، أو اشتهروا بالمناقب الشخصية. وفيه من ملامح القيادة في العظائم والصغائر ما يدل على طبيعة القيادة الملهمة، وأنه كان كما يقال قائدًا من فرع رأسه إلى قدميه.

فقد خالد قلنسوته يوم اليرموك، فقال: اطلبوها، فبحثوا ونظروا فلم يجدوها، فما زال يأمرهم أن يطلبوها ويلحوا في طلبها حتى وجدوها، فإذا هي خلقة لا تساوي شيئًا. فسئل عن ذلك فقال: «اعتمر النبي فحلق رأسه فابتدر الناس شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة، فلم أشهد قتالًا وهي معي إلا تبين لي النصر.»

رحمه الله! لم تفته من سمات القيادة حتى التعويذة المشهورة بين رجال الحروب … فما زال معلومًا عن كبار الجند أنهم يأنسون إلى تعويذة يعتزون بها ويستبشرون بصحبتها وهم يخوضون غمرات الموت. وما في ذلك من عجب، فليس أحوج إلى صلة بعالم الغيب من رجل يلقى الموت صباح مساء.

وقال خالد في أخريات عمره: «ما ليلة يُهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب، أو أُبشَّر فيها بغلام أحب إليَّ من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، أصبح بهم العدو، فعليكم بالجهاد.»

هذا حبيب الحرب الذي يهواها وتهواه، فله منها الصفوة التي لا تصطفي بها أحدًا من الطلاب والقرناء على بغضاء.

١  Warfare Today تأليف الأميرال باكون والجنرال فلو ومارشال الطيران باتريك بلايفير.
٢  Wintringham: Weapons and tactics.
٣  The strategy of Indirect approach: by Liddell Hart.
٤  The Art of war: by Arthur Brinie.
٥  الجنة: الدرع أو الوقاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤