مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن عصور النهضات في كل أمة لا تزال مملوءة بعظائم الحوادث، مزدانة بعظماء الرجال، والحقيقة أن كل حركة أو نهضة تعتري الشعوب الساكنة المطمئنة فتُحدِث فيها تطورًا أو انقلابًا، إنما هي في الحقيقة نوع من الزلزال، فلا عجب إذا رأيت هيكل الأمة قد تفجر عما يستكن في جوفه من مَلَكَات ومواهب وفضائل ومناقب، وتفتحت كنوزه فباحت بخفايا بدائعها وأبرزت خبايا ودائعها، وهنالك يقذف المَنجم ياقوته وعقيانه، ويلفظ اللج لؤلؤه ومرجانه، وهنالك تظهر فحول الرجال وعظماء الأبطال.

أولئك الفحول والعظماء من جلة رجال الأمة، يبرزون على مسرح النهضة فيلعب كلٌّ دوره الذي أعدته له الفطرة والطبيعة، وهيأته لتمثيله الظروف والأحوال.

لكل رواية دورها المصيب المسمى في الاصطلاح التمثيلي أزمة الرواية أو «قمتها»، حيث يبلغ السَيل الربى، ويصعد الترمومتر إلى درجة الغليان، ويجلس القَدَر على منصة الحكم، ويُنصب الميزان، وإذ ذاك تتشوف أبصار وتشرئب أعناق، وتخفق أفئدة، وتُبهر أنفاس، ويلوي القلق والإشفاق أوتار القلوب، ويقوم الشعب بين الخوف والرجاء على سراط الشك المرهف الذليق، الأملس الزليق، المعلق فوق هاوية التلف والخسار، يؤمون لدى نهاية هذا السراط وادي السعادة والنعيم، مسترشدين في مأزق هذه الرحلة الخطرة المُخوِّفة بكوكب الأمل الدائم الخفق واللمعان.

تلك هي حالنا بالدقة في دورنا الحالي الخطير، وإن كنا قد اجتزنا بعد من مناطق هذا السراط أشدها خطرًا وأوعرها مسلكًا، ودخلنا فيما نستطيع أن نجعله بفضل الحكمة والحزم منطقة سلامة وخطة نجاة.

وبديهي أن مثل هذا الدور العصيب من أدوار رواية الجهاد الوطني جدير أن يحرك بعظيم أحداثه من نفوس الكُتاب ما لا تحركه العصور الخاوية الفارغة، وأن يثير من خواطرهم بما يبديه من مآثر الرجال، ومفاخر الأبطال ما ليس تثيره الأوقات الساكنة الوسنى بأشخاصها الصغار العاديين. أجل، إن عصر النهضة خليق بفضل حوادثه وأبطاله أن يهز جدران النفوس من أرسخ أساسها، ويثير لجج الأرواح من أعمق أعماقها حتى تُفعم الأذهان من مزدحم الأفكار والعواطف بما يأبى إلا التدفق على أسلات الألسُن والأقلام؛ لعجز أربابه عن حبس طوفانه في أوعية صدورهم، ودفن نيرانه في حنايا ضلوعهم.

وكذلك الكلمة الحارة هي كالدمعة الحارة إن نُفثت أراحت وفرجت، وإن كُتمت أمضت وأرمضت، فهي مدفونة في الجنان أخبث داء، ومنطلقة من اللسان أنجع دواء، ورُبَّ كلمة خُزنت في الضمير فكانت منية صاحبها وآخرين، وكلمة لُفظت فكانت حياة صاحبها ومنجاة ملايين.

فبديهي بعد ما تقدم أن أُصبح — كغيري ممن تصدوا للكتابة عن عصور النهضات — يأبى ضميري إلا نفث ما يجول به ويزدحم من سوانح الفكر والخواطر عما يبدو لي من حوادث هذا العصر ومآثر رجاله وأبطاله.

وسأتوخى في كتابتي — إن شاء الله — وصف الواقع لا أقل ولا أكثر، ونعت الحقيقة جهد طاقتي، محاولًا أن أكون في ذلك كالمرآة المنبسطة تعكس صورة الأشياء كما هي دون أدنى تحوير أو تبديل — ليس كالمرآة المحدبة أو المقعرة التي تعكس شبح الشيء مفرغًا في قالبها المشوه — وأن أجعل من مخيلتي مجازًا ومَعْبَرًا للحقائق ليس إلا، تدخل من أحد طرفيه وتخرج من الآخر ثابتة على حالها لم يخالطها مزاج ولم تشُبها شائبة، متحاشيًا أن أجعل من مفكرتي وعاء طيب وغالية تمر به الحقائق فتخرج مضمخة بذكي نشره وعاطر أريجه. ولكني سأجعل من يراعتي معزفًا ترتل عليه الطبيعة ألحان الحقائق خالصة حرة صريحة، لم يتعرض لها ملحن الأنانية فيطبعها بألحان الأغراض ويوقعها على نبرات الحب والبغضاء والسخط والرضى.

والله أسأل أن يجيء هذا السِّفْر غير خالٍ من النفع والفائدة، وأن يجعله وسيلة هداية وإرشاد في ظل صاحب العرش الكريم المحفوف بالعناية والتأييد، جلالة ملك مصر والسودان فؤاد الأول، أدام الله مُلكه وسلطانه، وأغدق على رعاياه المخلصين بره وإحسانه، وأرتعهم من جنانه الفسيح في أخصب وادٍ وأطيب منتجع ومُستراد، وأحلهم من ركنه الوطيد في أسمى ذروة وقمة، وأمنع ملاذ وعصمة، ما هبت نسمة ولاحت نجمة، والله سميع الدعاء.

محمد السباعي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤