الفصل الرابع

مناقب ثروت باشا

نقف الآن وجهًا لوجه أمام شخصية من أعظم ما أنجبت هذه البلاد من الشخصيات الجليلة، نحاول جهد طاقتنا بيان ما أُودِعت من آيات القوة والنفوذ ودلائل الفضل والحجى، وتحليلها إلى ما يكون مجموعها من عناصر الذكاء واللوذعية، وأسرار النبوغ والعبقرية. هذا ما نرومه الآن وما نحاوله وإن كان فوق قدرتنا الضئيلة وحولنا الضعيف؛ لأنا نعلم أن البطل لا يزال لغزًا يعي الناس حله، وأن ما يظهر لنا من مآثره وحسناته ثمار تختفي جذورها في أعماق سر الطبيعة وخفايا مجاهل الأبحاث البسيكولوجية، ونعلم أن تهجم الكُتاب والنُّقاد على شخصية الرجل العظيم — ابتغاء تَعرُّف أسرارها وتحليلها إلى عناصرها — يكون في الغالب كتهافت أسراب الفراش على الشهاب المتقد يبهر أبصارها ويحير ألبابها، وقصارها بعد ذلك أن ترتد عن لهيبه الساطع برءوس مطرقة وأجنحة محرقة.

ولكنا على الرغم من كل هذا — وبباعث غريزة الاستطلاع الفني التي تدفع كل فني إلى الجرأة على أعوص مطالب فنه وأبعدها غورًا — نحاول الآن أن نجول جولة في عالم هذا النبوغ العجيب، ونَسبح سبحة في خضم تلك العبقرية المهيب، لعلنا أن نعود من هذا وذلك بقليل من نفائسهما الجمة وثروتهما الطائلة.

ثروت باشا رجل عظيم قد توافرت فيه شرائط العظمة التي أساسها قوة الشخصية المتسلطة على النفوس والأذهان بسحر الجاذبية، ومن ثم ما يُعهد فيه من تفوق مَلَكَة البيان وخلابة المنطق في جميع مراتب الكلام، من أسماها، أعني الخطابة في الجماهير والمحافل، إلى أدناها، أعني التهامس والمسارة.

لقد عرفنا ثروت في جميع أدوار حياته — منذ كان نائبًا عموميًّا وقبل ذلك إلى وقتنا هذا الذي يتربع فيه دست الوزارة، ويدير دفتي الإدارة والسياسة — خطيبًا مصقعًا، ومنطقيًّا مفحمًا، ومتكلمًا مؤثرًا خلابًا. لقد عهدناه في كل أدواره ساحر البيان، يقتاد أفكار سامعيه، فيمكنه ذلك من اقتياد إراداتهم، حتى يحبب إليهم من الأعمال والأغراض ما كانوا يستنكرونه — جهلًا منهم بفوائده — منذ ساعة، فيحملهم على الارتياح إلى مزاولته بعد إحجام عنه ونفور، وليس بعسير على من بلغ من سحر البيان والخلابة منزلة الرئيس الجليل ثروت باشا أن يلعب بألباب سامعيه، فيقرع بها أوتار السرور تارةً وأوتار الحزن أخرى، وآونةً يبعث منها رنات الندم والأسف، وآونةً صدحات الحبور والطرب، ومثله قدير أن يسل بقوة بيانه سخائم الصدور، ويستأصل جذور الضغائن والأحقاد، حتى يترك العدو صديقًا حليفًا، والضد صاحبًا أليفًا، ويملأ القلوب اليائسة رجاءً وأملًا، والنفوس الموحشة أُنسًا وجذلًا. أَوَ لَمْ تُحدث خُطبه الأخيرة الرنانة أمثال هذه الآثار الحسان في نفوس الشعب المصري الكريم يوم نزلت على القلوب بردًا وسلامًا، وبددت ما كان لا يزال عالقًا بنفوس الكثيرين من بقايا الريب والظنون والقلق والإشفاق، فكان في آياتها البليغة جلاء الشبهات، وفي حُججها الدامغة زوال الظنون، وكانت منفاة الهموم والأتراح، مدعاة المسار والأفراح.

إن مثل الوزير الجليل ثروت باشا إذا قام يخطب، أو انبرى يتحدث، خُيل إليك كأنما يصب تيار روحه الزاخر في أرواح سامعيه فيمتلك نفوسهم، ويستحوذ على ألبابهم، ويقتاد أفئدتهم بأعنتها، ثم يرى نفسه أحق بالخطابة من سائر المتصدين لها — إذ كان أغزرهم مادة وأملئهم وعاء — فينبري للكلام — وإنه لأجدر به وأولى — وإذ ذاك يصغر بجانبه الخطباء ويتضاءلون، ثم يذهلهم فرط السرور بسماع مطرباته عن الاشتغال بإحساسات الحسد والحقد وغيرها من نزعات الأنانية، فيرتاح كل سامعيه إلى التضاؤل في حضرته، ويلذ لهم أن يغمسوا أرواحهم في معين بلاغته الفياضة، ويغمروا نفوسهم برحيق بيانه المنعش. فمثل هذا الخطيب المصقع، والمحدث البارع، يملأ الساعة التي يقضيها بالخُطبة أو بالحديث من بدائع آياته، وروائع معجزاته بما يجعلها غُرة في جبين العصر، ويترك غيرها من ساعات حياتنا الاعتيادية، وكأنها بالنسبة إلى تلك الساعة الغنية الفياضة ساعات نومٍ ورقاد. فمن ذا الذي يعجب بعد ذلك لفرط ما أوتي أمثال ذلك الخطيب من التأثير والنفوذ والسلطان على نفوس البشر؟

ثروت باشا خطيبٌ عظيم ومن أجل هذا كان بطلًا؛ لأن قوة الخطابة نوع من البطولة؛ ذلك لأن الخطيب العظيم يقف من جماهير سامعيه موقف المبارز المناجز المستعد لملاقاة كل قادم، فهو قد وطن النفس على أن يكون في كلماته الحارة المتألقة، وفي عباراته الثرة المتدفقة، ما يقنع جميع سامعيه مهما تكاثر عددهم، ويفحمهم ويشفي غليلهم، ويكون فيه الجواب المسكت على كل ما عساه أن يجيش بصدورهم، ويجول في خواطرهم من الشكوك والظنون والأسئلة؛ لذلك ترى مثل هذا الخطيب إذا قام يخطب في المحافل وقف وقفة المشمر المنجرد، المتحفز بقدم متقدمة إلى الأمام، كالذي قد هم أن يزحف على تلك الجموع المحتشدة ويغزوهم، وتلك هي الحقيقة؛ لأنه يزحف عليهم فعلًا بجيوش من أفكاره البديعة السامية، ويغزوهم بكتائب من آرائه الجديدة المبتكرة؛ لذلك يجب أن تكون خطبته سابقة في منازل الرُّقي لأفكار سامعيه أيًّا كانوا، بل سابقة لأفكار جيله وعصره، وإلا كانت فضولًا ولغوًا وهراءً، ومن ثم كانت الخُطبة الجليلة أجدر أن تُعد عملًا نافذًا من أن تعتبر مجرد كلام وألفاظ؛ إذ هي في الواقع كهرباء العمل والحركة، فهي تنطوي على القوة الدافعة إلى الأعمال — شأنها في ذلك شأن ما يرسمه قائد الجيش من خرائط المواقع والملاحم، وما يُصدره من أوامر الكر والفر والدفاع والهجوم — وكذلك الخطيب إما أن يكون قد جاء لأمرٍ عظيم؛ ليستنهض جماهير سامعيه، ويستنفرهم إلى استئصال جيوش الأباطيل والأضاليل، وإلى افتتاح عوالم جديدة من الآراء والأفكار، فتكون خطبته مناداة إلى الغزو وصيحة إلى الجهاد، وإلا فأولى له أن يسكت.

إن ثروت باشا — باعتباره خطيبًا مفحمًا ومتكلمًا خلابًا — يؤثر في سامعيه ويقنعهم، ويحملهم على اتباع رأيه والأخذ بمبدئه، وذلك بفضل ما يجلو لهم من غوامض الأمر، ويحل لهم من مشكلاته، وبإعارته إياهم بصيرته النافذة، ورويته الثاقبة ينظرون بها في نواحي الموضوع وجوانبه، ويتغلغلون بمنظارها الكشاف إلى خفاياه وخباياه فيبدو لهم الأمر على خلاف ما كانوا يعهدون، وعلى العكس مما كانوا يحسبون فإذا السواد بياض، والفساد صلاح، والتنافر وئام، والاعوجاج استقامة، والسوأة حسنة واليأس رجاء. فمثل ثروت باشا إذا شاء إقناع سامعيه وحملهم على ما يريد رأيته ينظر إلى الأمام، ويتجه بنظره البعيد إلى ما سيكون، في حين ترى سامعيه قد جاءوه وهم ينظرون إلى ما كان من الأمر وما انقضى — أعني إلى الماضي وما قد أنكروا من حوادثه وأحواله — فنظرهم بذلك الماضي معقود وفيه محصور، ومن ثم كان قصر نظرهم وضيقه واحتباسه في دائرة صغيرة محدودة يترددون فيها ويتعثرون كالخفافيش في ظلمة الشك والحيرة، وقد يئسوا من استقامة الأمر وصلاحه. أما هو (أعني ثروت باشا) فغير ذلك شأنه — وما كان من زمرة الخفافيش حتى يحصر نفسه في دائرة الماضي الضيقة، ويحبس نفسه في ظلمتها (وإن كان لا ظلمة مع شهاب رأيه الساطع ونجم فكره اللامع) — ولكنه — وهو ذلك النسر الطماح — يضرب صفحًا عن الماضي المنقرض الداثر، ويستقبل بعينه الثاقبة شمس المستقبل الباهرة فيصفق في شعاعها البراق جناحيه الطموحين، ويستدر عليهما قطرات أنداء البشارة من مزنة الأمل الصدوق والرجاء المحقق، ويستهبط آيات الوحي والإلهام من آفاق المستقبل المشرقة، وكذلك إذا استدبر القوم المعارضون أمرهم، وتشبثوا بأذيال الماضي وأعقابه — فأُوصِدت في وجوههم أبواب الآراء، وأُغلِقت منافذ الأفكار، وانحبس عنهم فيض الخواطر إلا ما يصوب عليهم من أليم الذكريات مما تكف به سحائب الماضي المنقشعة — رأيت ثروت باشا — ذلك الهمام الطماح العزيمة والأريب الثاقب البصر والروية — يضرب صفحًا عن ذلك الماضي، ويعمد إلى معين ذهنه الفياض، وينبوع قريحته المتدفق، فيغترف من ثمة سجال الرأي السديد، والفكر الأنف الجديد، ثم يستطلع نجوم فراسته الصادقة فيتلمس في صحفها المشرقة طوالع السعود، أو يتسقط من شوابك أفنان شجرتها الذهبية أوراق اليُمن والبشارة، وحينئذ يُقبل على سامعيه فيباغتهم من سوانح إلهام بصيرته، وخطرات وحي بديهته بما يُبدد سحائب شكهم وريبتهم، ويُنفر أسراب خوفهم ووحشتهم، وهنالك يبصرهم من غوامض أسرار الأمر وخفايا دخائله ما لم تكن نظراتهم السطحية لتستطيع من قبل أن تكشف نقابه وتهتك حجابه. هنالك يفيض إناؤه المفعم الملآن في أوعية صدورهم من مادة العلم والعرفان ما يبرز لهم الموضوع في مظهر آخر، وضياء جديد وشكل مستحدث، حتى تراه يفتن ألبابهم، ويسحر عقولهم، ويملؤهم دهشةً وعجبًا كما لو كانوا زمرة أطفال، فينسيهم أفكارهم القديمة في الموضوع، ويذهلهم عما كان يخالج نفوسهم فيه من فاسد الاعتبارات والأوهام، وكذلك ينتصر عليهم بقوة التكهن والتنبؤ، وقد كانوا يحسبون أنه لا يملك من سلاح الإقناع إلا تكرار البراهين المعروفة المتبذلة، والعبارات المرددة والكلام المُعاد.

وإني كلما تأملت ما قد أوتي الرئيس الجليل من قوة الخطابة، وسحر البيان، وخلابة التأثير، تذكرت ما قاله توماس كارليل في وصف ذلك العبقري النابغة نادرة زمانه، ومعجزة أوانه، الشاعر الأعظم البريطاني «روبرت بارنز»، ورأيت أن الناقد المتصدي لوصف ما يمتاز به الرئيس الجليل من المَلَكَات البيانية والخطابية الرائعة لن يستطيع أن يبلغ غرضه بأحسن من ترديده في الرئيس ما قاله سالفًا توماس كارليل في بطل أمته روبرت بارنز.

قال ذلك الكاتب الكبير: «كان بارنز آية في خلابة المنطق وسحر البيان، كان حديثه العادي أبدع من شعره وأفتن من حديث كل من رأيت وسمعت به من سائر الناس.»

شرك العقول ونهزة ما مثلها
للمطمئن وعقله المستوفز
إن طال لم يملل وفي إيجازه
يهوى المحدث أنه لم يوجز

كان حديثه كالسُّلَّم الموسيقي قد استوعب درجات النغم من أخفت جرس التحية، وأرق كَلِم الملاطفة، إلى أرفع صيحة الغضب وأشد صرخة الوجد، ففيه ضحكة الطرب الجذلان، وزفرة الصبِّ الولهان، وإيجاز المجتزئ بإشارته، وإطناب وليم بِيت في خطابته.

وقد روت عنه السيدات والأميرات ربات الأدب البارع، والفضل الرائع، أنه كان يزدهيهن بفتنة حديثه، ويستحفهن بخلابة بيانه، حتى يكدن يثبن في الهواء ويطرن في الجو. فهذا وايم الله عجيب. وأعجب منه ما رواه النقادة الجهبذ المستر لوكهارت من أن خُدام الفنادق كانوا إذا رقدوا في مضاجعهم للرقاد ورنقت سِنة النُّعاس في أجفانهم، ثم سمعوا صوت الشاعر بارنز يتكلم، وثبوا من مراقدهم فالتفوا به وكلهم إقبال عليه وإصغاءً لحديثه، وما لي أعجب من ذلك؟ أليسوا رجالًا ينصتون إلى رجل؟ وأعظم ما يُؤثَر عن بارنز ما رواه لي شيخ مسن — كان من أخص أصدقائه — من أن بارنز ما فتح فاه قط إلا ألقى منه حكمة، قال ذلك الشيخ: «لقد كان بارنز كثير الصمت فإذا تكلم جلى من غوامض الأمر وأنار شبهاته، ولا أدري لماذا يتصدى امرؤ للكلام إذا لم يكن قادرًا على هذا.»

إذا قلنا إن ثروت باشا قد حذق فن الخطابة فإنما نعني بذلك أنه قد استكمل أدوات هذا الفن ومَلَكَاته — أعني صفاء البصيرة وقوة الذاكرة وحُسن البيان ومتانة الحُجة والبرهان وحِدَّة الخيال — أي القدرة على إبراز أفكاره في صور طبيعية ناصعة — ويضاف إلى ذلك الإرادة النافذة القوية التي إذا تجملت بالثبات والنزاهة كانت جديرة أن تُسمى «الخُلُق العظيم أو العظمة الأخلاقية»، وتلك هي أسمى مراتب الرجولة.

لا شك في أن السِّرَّ في نجاح ثروت باشا كمُناظِر وخطيب — يرجع إلى قوة أعظم من البراعات اللفظية والمحاسن الظاهرية كدماثة الطبع وحلاوة الشيم ورِقة الشمائل وعذوبة اللفظ والصوت — يرجع إلى قوة خُلُقية كبرى ومَلَكَة وجدانية عظمى — أعني الإخلاص والإيمان ورسوخ العقيدة — بما يدافع عنه ويحاول إثباته من النظريات والمسائل؛ فهو يقبض على ناصية نظريته، ويعتنقها أشد اعتناق وأحره، والحرارة — نتيجة الإخلاص والإيمان — هي العامل الأكبر في قوة الخطابة ونجاحها. فإذا أردت أن تفلح في خطابتك فكن كالرئيس الجليل، غير متعرض إلا لما أنت به عالِم وموقن وخبير، وكفيل أن تحتمل تبعته ومسئوليته، وتُقدم عنه أوفى حساب وأدقه. فإنما الخطابة والبلاغة أن تعمد إلى الحقيقة الخطيرة الجائلة في وجدانك، فتترجمها إلى أفهام سامعيك بأقرب لغة، وأعلقها بأذهانهم، وأوقعها في نفوسهم، ولا مراء في أن هذه القدرة العظيمة — هذه الكيمياء العجيبة التي تستطيع أن تُحول الحقائق المنقوشة بلغة الخالق على صحف الضمائر المرقومة بالقلم العلوي في سجلات السرائر إلى حقائق مؤداة بلغة سامعيك من الجماعات والأفراد — لهي أبدع سلاحًا طُبِعَ في مسبك الصانع الأجلِّ والصيْقل الأعظم.

لا نعني بلغة الخطيب التي ينقل بها أفكاره إلى أذهان سامعيه مجرد ما يفوه به من الألفاظ والعبارات — وهذه أحقر وسائل تأديته، وأيسر وسائط إبلاغه — وإنما نعني ذلك التيار الروحاني المنبعث من ينبوع نفسه، والسيال الكهرباء المنبث من جهاز أعصابه، وكما أن القائد العظيم يحرز النصر لا بكثرة الوقائع والملاحم ولكن بفضل ما يدبره من الحيل والمناورات فكذلك الخطابة والمناظرة هي حرب أفكار وأرواح؛ فالألفاظ المنطوقة هي أضعف عناصر الخطبة وأقل أجزائها، وإنما الأساسي الجوهري الذي عليه المُعتمَد والمُعوَّل هو موقف الخطيب وما تَنُم عنه هيئته وصوته ونغمته وحركاته وشمائله من قوة رجولته وسمو همته، ومن أنه يحمل بين جنبيه روحًا أجلَّ وأعظم من روح المُخاطَب.

هكذا شأن فحول الرجال الذين يصولون في ميادين الخطابة والمناظرة بقوة شخصيتهم الهائلة، ويسيطرون على النفوس بسلطان الروح النافذة الباهرة، والطبيعة الغلَّابة القاهرة، وبهذه وتلك يحرزون الظفر وينالون الغنيمة، وقد روي عن روبسبيير — أحد الثلاثة الزعماء المعروفين في عهد الثورة الفرنسية — أن سامعي خُطبه من الجماهير والجماعات كانوا لا يكادون يفهمون كلماته ولكنهم — كانوا على الرغم من ذلك يفهمون في خُطبه الرنانة ما هو أعظم وأخطر من ألفاظها وعباراتها — كانوا يفهمون ما أُودِعت تلك الألفاظ من حرارة الوجدان ونارية الشعور والعاطفة، وكانت عدوى هذه الحرارة والنارية تنتقل إليهم وتسري في أعصابهم وتشيع في جوانحهم، وهل يريد الخطيب نتيجة أعظم من هذه أو أثرًا أشد وأبلغ؟

مثل هذا النوع من الكلام والخطابة — وإن كان أثره الفعال مضمونًا محتومًا — قد يكون من الزور والباطل، وقد أُرِيدَ به التمويه والتضليل، واتُّخِذَ سبيلًا إلى الفساد ومطيةً إلى الشرور والرذائل. نقول: قد ينجح مثل هذا الكلام الخلاب المؤثر في النفوس بسلطان شخصية باهرة لكنها غير مخلصة، ولكن نجاحه لا يكون إلا مؤقتًا؛ لأن الأكاذيب والأباطيل هي — كما قلنا غير مرة — رهينة بالزوال والفناء قد كُتِبَ لها الموت، وصدر عليها حكم الإعدام في محكمة الأزل مهما طال عمرها وتراخت مدتها. فأنت إذا بنيت خطابتك على أساس من الباطل، وكانت مقدمة قياسك المنطقي أُكذوبة، فمهما استعملت بعد ذلك من خلابة اللسان وسحر البيان، ومهما أثرت في سامعيك بحرارة العاطفة ونارية الوجدان، وبهرتهم بقوة الروح القاهرة وغلبة الشخصية الباهرة، فإنك لن تصنع شيئًا، ولن تُحدث في عالم الحقيقة أثرًا، وتكون إنما انتهيت من حيث ابتدأت، وما كان امرؤ قط ليستطيع بأكمل عُدَد الفصاحة، وأمضى سلاح البلاغة أن يرفع إلى ذروة الحق من فنون الباطل ما تراه يهبط بطبيعته إلى الوهدة ويهوي إلى الحضيض.

أما الفوز الدائم والنجاح النهائي فذلك نصيب البارعين المخلصين، والحاذقين الصادقين — أمثال الرئيس الجليل — ممن جمعوا بين رجاحة العقل ونزاهة النفس، بين حِدَّة الذكاء وشدة الغيرة والتضحية، بين المَلَكَات الذهنية والفضائل النفسانية، بين سمو الفكر والروح معًا وصفاء الذهن والقلب جميعًا.

لقد بلغ ثروت في براعة الخطابة والبيان منزلةً أصبح معها مليئًا أن يقتاد أعنة قلوب سامعيه فتُذعِن إليه وتعنو، فهو المسيطر على نفوسهم المتحكم في عواطفهم ووجداناتهم، وقدمًا قيل: ليس الأمير من لبس التاج وجلس على الأريكة، إنما الأمير من عرف كيف يحكم النفوس ويسيطر على الأفئدة، وكأني بالرئيس الجليل يستطيع بحدة ذكائه أن ينفذ إلى أعماق القلوب عليمًا بذات الصدور، مُطلِعًا على مكنوناتها، طَبًّا بأدواء النفوس خبيرًا بأمراضها وعِللها، قديرًا أن يداوي هذه العلل والأدواء بخلابة القول، لديه — لكل جرحٍ بلسم من فتنة اللفظ، ولكل كَلِمٍ مرهم من روائع الكَلِم — فنون شتى من البيان تُعالَج بها فنون شتى من آلام النفس والجنان، ولا عجب فلقد يُؤثَر عن «أنتيفون» اليوناني — أحد الخطباء العشرة الذين روى «بلوتارك» أنهم أقطاب الخطابة في العالم — أنه نشر في أتينا إعلانًا عن نفسه قال فيه: «إني مستعد لتطبيب أمراض الذهن بالكلام، ومداواة علل النفس بالألفاظ.» وليس ذلك بمستحيل، وقوة سلطان الكلام معروفة مجربة في كل زمانٍ ومكان منذ كان الإنسان، وآثار الألفاظ في التسلط على الأمزجة والعواطف والإحساسات، وفي العقائد والأفكار والمذاهب وتكييفها وتشكيلها حسب أميال المتكلم، وفي قلب كيان الأذهان والنفوس في الأفراد والجماعات، بل قلب كيان الدول والممالك، تُعدُّ من قبيل الخوارق والمعجزات، وهل ترى — أصلحك الله — ما يُسمونه الرُّقى والتعاويذ والنفث في العُقد — الذي نزلت فيه آية الكتاب الحكيم إذ يقول جلَّ شأنه: وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ — وغير ذلك من ضروب السحر وفنونه، شيئًا سوى الألفاظ والكلمات؟ وهل رأيت رجلًا بلغ من النعيم أقصاه، ومن الصفاء والرغد منتهاه، فوثق بالحظ وأمن من طوارق الحدثان، وأخذ على القَدَر الميثاق ومن الدهر الأمان، إلا كان في استطاعتك — إن كنت ممن أوتي سحر البيان — أن تُبدد ثقته وتُذهب طمأنينته، وتورثه القلق والإشفاق باللفظة تنبذها في سمعه، والكلمة تلقيها في روعه؟ أفلم يروِ لنا التاريخ أمثال هذه الحال عما كان يحدث بين الملوك ووعاظهم من العُبَّاد والنُّساك، إذ كان يطلع الناسك على الملك العظيم وهو منغمس في غمار اللذات والملاهي فيرميه بالكلمة من الوعظ فإذا هو قد أفاق من غمرته، وهبَّ من رقدته، ثم أطرق فاعتبر، وارعوى فازدجر؟ ألم نقرأ أمثال هذه الأخبار عن كسرى والسائح، وعن النعمان وعدي بن زيد، وعن المنصور وخالد بن صفوان؟ وعلى العكس من هذه الحال، أي كارثة عظيمة أو فاجعة أليمة تنوب الفتى فلا يكون في مقدرة المنطق الخلاب أن يشرع في تسكين حدتها وتلطيف سورتها. وقد عَرَّفَ أفلاطون البلاغة بأنها «فن سياسة العقول، وتدبير حركات النفوس.» أليس في استطاعة البلاغة أن تُغير في ظرف سويعات ما شيدته الحُقب والأجيال من العادات والأخلاق والعقائد؟

وكذلك قد يبلغ من سيطرة الخطيب العظيم — مثل ثروت باشا — أن يصبح جمهور السامعين بين يديه كالآلة الموسيقية بين يدي المطرب البارع — فهو يعزف على أوتار القلوب كما يعزف المطرب على أوتار آلته، ويستثير من أفانين الإحساسات والعواطف من جمهوره أمثال ما يستثيره المطرب من أفانين الأصوات والألحان من معزفه — فتارةً يُسكن ثائرة غضبهم ويطفئ نيران وجْدهم ويرد شارد حلمهم وعازب رشدهم بتهدئة خواطرهم وطمأنة قلوبهم، وأخرى يهيج حميتهم ويُجرِّد عزيمتهم وهمتهم، يُبكيهم آنًا وآنًا يُضحكهم، إذا شاء لوى بالطرب أعناقهم وشق بالفكاهة أشداقهم، وإن شاء استذاب بالعظات عبراتهم واستثار بالحِكم والأمثال زفراتهم، وكذلك تراه يستولي على قلوبهم، ويستحوذ على شعورهم، ويتملك إرادتهم ومشيئتهم فتكون طوع بنانه، ورهن إشارته فمهما أمرهم به يأتمرون، ومهما كلفهم يتحملون ويتجشمون، ولو كان اقتحام النار وخوض اللجج والغمار. أَوَ لَمْ يأتك نبأ بونابرت حينما ترك منفاه في جزيرة «ألبا» قافلًا إلى باريز حتى إذ نزل أرض فرنسا، وسار يؤم العاصمة في نفرٍ قليل من محبيه وبطانته، لقيتهم جيوش عدوه لويز الثامن عشر الذي كان قد تبوأ الأريكة الفرنسية بعد اعتزال نابليون، فما هو إلا أن رأت تلك الجيوش الجرارة شخص بونابارت وسمعوا صوته حتى خضعوا له وأذعنوا، وحيوه تحية الإكبار والإجلال يدعونه إمبراطورهم ومالك رقابهم وأرواحهم، ثم انضموا إليه وانضووا تحت لوائه وساروا في قيادته يؤمون باريز، وإذ ذاك بُهِتَ لويز الثامن عشر وزُلزِل به وسقط في يديه وفر من وجه نابليون «يحتث أنجى مطاياه من الهرب»؟

مثل هذه السيطرة الخطابية والتسلط بقوة البيان على أرواح الأفراد والجماعات — شبيهة بما يُؤثَر عن سلطان الموسيقى وتأثير النغمات وتحكمها في شعور سامعيها وفي عواطفهم وإراداتهم — كالذي يُروى عن «أورفيوس» وداود وغيرهما من نوابغ الموسيقيين أنهم كانوا يجتذبون إليهم بقوة عجيبة من قبيل قوة الجاذبية الطبعية جميع الكائنات ما بين حيٍّ وجماد من إنسان وحيوان داجن ووحشي، ومن سبعٍ ضارٍ وضيغم فراس وحشرة وهامة، ومن شجرة ونبات وصخرة وجلمود. أو كالذي يُروى عن المطرب «ميودون» كيف لما حرك برخيم النغم أوتار مزهره في بعض المآتم استطاع أن يسحر عقول حملة النعش، ويفتن ألبابهم بقوة تأثيره حتى ذهلوا عما هم فيه وبعرضه من شعائر الجنازة، وانبروا يرقصون حول نعش الميت.

إن الخطيب البارع والمُحدِّث الرائع لا يحتاج إلى جرس يلفت إليه الناس وينبههم إلى مكانه، ويُشعرهم بنفاسة أقواله، كما أنه لا يحتاج إلى بوليس يقوم بمهمة توقيف الناس حوله وتثبيتهم ثمة بالقوة الجبرية ومنعهم من الانصراف قبل تمام الحديث أو الخُطبة؛ ذلك لأن الحديث العذب والخطاب الشيق يجذب بطبيعته الخلائق ويحجزهم بلا واسطة تشويق أو ترغيب، وكأني بالوزير الجليل ثروت باشا — من مَلَكَ أعنة البيان وفَقِهَ أسرار الخلابة — إذا انبرى يتحدث أو يخطب استدرج الشيوخ من مجالسهم، والفتيان من ملاهيهم، والصبية من ملاعبهم، والمرضى من مضاجعهم، وأثبتهم حوله مغلولين بأوثق قيود من الفتنة والطرب فسلبهم أرجلهم حتى لا ينصرفون، وسلبهم ذاكرتهم حتى لا يتذكرون أهم أشغالهم وأقدس واجباتهم فتشغلهم عن كلماته وتلهيهم، وسلبهم عقائدهم حتى يكون إيمانهم بأقواله خالصًا صريحًا لا يشوبه رأي مخالف، ولا تعارضه أفكار منافية أو نظريات مضادة.

وقد حدَّثنا المؤرخ اليوناني العظيم «بلوتارك» قال: «لما سأل «أرخيداموس» ملك إسبرطة «ثيوسيد يدس» عن صراعه مع «بيريكليز»: أيهما كان أشد بأسًا وأصعب مراسًا وأقهر لخصمه وقرنه؟ قال «ثيوسيد يدس»: «إني كلما صرعت بيريكليز ووسدت جنبه الثرى أنكر ذلك وجادل فيه وتمارى، واستطاع بخلابة لسانه أن يحمل الناظرين والشهود على تصديق مزاعمه مُروِّجًا لديهم الزور ومُحِقًّا الباطل.» ولما سمع فيلب ملك مقدونيا وصف إحدى خطابات «ديموسطين» وقوة تأثيرها قال: «أما والآلهة لو كنت شاهده لاستطاع أن يحملني على إعلان الحرب ضد نفسي وتجريد السلاح لقتالها.» ولما قام الخطيب البريطاني «بيرك» في البرلمان الإنكليزي فألقى خطبته الطنانة في اتهام «ورين هتستن» حاكم الهند إذ ذاك قال ذلك المتهم مع اعتقاده براءة نفسه من التهمة: «لقد بلغ من فرط تأثري بكلمات «بيرك» أني لبثت أثناء خطبته أعتقد أنه ليس على وجه الأرض آثم أشنع مني جريمة وأفظع جناية.»

لقد رأينا ثروت باشا في أحاديثه وخُطبه يجمع إلى الخلابات اللفظية المحضة، والبراعات البيانية البحتة، مزايا أجلَّ من ذلك وأشرف — أعني العناصر الروحية والقوى الوجدانية من إخلاص وغيرة وصدق إيمان وتضحية — وهذه هي التي تُكسِب الخطبة أو الحديث صفة الجزالة والفحولة ومزية الجلال والعظمة، وتطبعها بطابع المجد والخلود. فإذا خَلت الخُطبة من هذه الصفات العظيمة والميزات الجليلة، واقتصرت على الخلابات اللفظية والبراعات البيانية، كانت فائدتها وقتية وأثرها سريع الزوال، وكان قصارى فعلها أن تسترق الآذان بحُلو اللفظ وعذب الكلام، وتلذ مَلَكَة التصور والخيال فتكون بمثابة ملهاة ومسلاة ليس إلا. فهي وإن أثرت أشد الأثر في وقتها وساعتها فليست تعدو كونها خدعة وشعوذة لا يلبث أثرها أن يضمحل فيزول، فهي أشبه شيء بصوت الآلة الموسيقية تمر في الطُّرقات والشوارع فتُحرِّك خيال المارة وتثير عواطفهم، وتتركهم وكأنهم شعراء لحظة من الوقت ريثما ترن في أسماعهم نغماتها، ولكنها لا تلبث أن يزول أثرها من النفوس متى تحولت إلى الحي المجاور؛ لذلك أرى أن اللسان الطلق الذليق إذا لم يكن من الحدة بحيث لو يوضع على الشَّعر لحلقه وعلى الصخر لفلقه، ولو لعق النجم لمحاه، أو القمر لطواه، لكان أقصى جهده أن يُحدِث نشوة لا تلبث أن تزول، وغاية ما يستحقه أن يُدرج في عِداد المُسكِرات والمخدرات كالأفيون والخمرة، ولكان أحسن علاج يُتقى به تأثيره سدادات القطن تُجعل في المسامع، أو قطع الشمع التي جاء في أساطير اليونان أن «يولوسيس» سد بها آذان نوتية سفينته حينما كانت تمر بهم على جزيرة الساحرات اتقاء ما خشيه عليهم من فتنة أصواتهن وسحر ألحانهن.

هذا النوع من البيان السطحي هو شيء خلاف ما قد امتاز به ثروت باشا من قوة البلاغة الحرة الصادقة، وإني أرى فرقًا ما بين الصنفين كالذي بين رشاش الفوارة الصناعية الذي لا يكاد يتصاعد حتى يتهاوى، ولا تكاد تتلألأ على لبات الضحى قلائده حتى ترفض حباته وفرائده، وبين البحر الخضم في دوافق موجه ودوافع لجه، تجيش فيه زواخر عبابه، وتقصف في حجرتيه زماجر عجاجه وصخابه، ويكمن في أعماقه نفائس أعلاقه، ويستكن في ضميره روائع ودائعه وبدائع بضائعه. وكذلك شأن الخطيب السامي الدرجة في مراتب البلاغة، وهذه صفات من تسنم ذروة البيان، ونزل من الفصاحة في الغارب والسنام، وتلك لعمري مزية نادرة وغاية بعيدة المنال تتقطع من دونها أنفاس البراذين، ولا يُدرِك مداها إلا الكرام العتاق:

وابن اللبون إذا ما لز في قرنٍ
لم يستطع صوت البزل القناعيس

وإنما نال ثروت باشا هذه الغاية، وبلغ هاتيك المرتبة، بفضل ما اجتمع له من خِلالٍ قلما اجتمعت إلا لواحدٍ في جيل وفردٍ في أمة — وهذه هي العقل والدهاء والعزم والحزم وقوة الإرادة والغيرة والإخلاص والشغف بالحق والهيام بالحقيقة، يعزز هذه خلابة المنطق وحُسن البيان ودماثة الطبع ورقة الشمائل — هذه الخِلال إذا استُكمِلت في رجل تكوَّن فيه من مجموعها تلك القوة العجيبة النادرة المسماة «فتنة الجاذبية الروحية وسحر السيطرة الشخصية»، ومن كان هذا شأنه فذاك خليق أن يُرجح بسائر أهل جيله، وخليق أيضًا أن يتغلَّب على كل أمرٍ وحادث، فإذا صادفته المعضلات والمشاكل صادفت فيه فَكَّاك عُقدها وحَلَّال ألغازها، وإذا لاقته المحن والكوارث لاقت فيه فتاكها وفراسها، ويتلقى منه الرجال جلمود صدام يصكهم فيسحقهم، ومقذف رجام يرضهم فيمحقهم. مثل هذا البطل يكون كفؤًا لكل حادثة وكارثة ولكل أزمة وشدة. فأين الرجل الاعتيادي — مثلي ومثلك — من ذلك البطل في ساعة الروع والخطر وقد حسرت الداهية الدهياء من نقابها، وكشرت المحنة النكراء عن نابها؟ قُل لي ماذا تصنع إذا وجدت نفسك وسط زوبعة على كواهل أمواجٍ كالجبال في بحرٍ جموح الموج مجنون العباب، وحولك أُناسٍ قد طاش الذعر بألبابهم، وطار الرعب بقلوبهم؟ أكنت مطيقًا أن تسترد عازب ذهنك، وتربط نافر جأشك، ثم تستلم مقاليد بيانك، وعنان لسانك فتصرفهما بحزمٍ وحكمة في طمأنة أفئدة أولئك الجازعين الهالعين، وتسكين خاطرهم توسلًا إلى النجاة من ذلك الخطر؟ وإذا رمى بك الحظ السيئ في أيدي لصوص أو جمهور ثائر أو أغوال من أكلة اللحم الآدمي فماذا تصنع؟ وكيف تلتمس المخرج والمنفذ؟ وإذا أوقعك القَدَر في يد فاتِك من قُطَّاع الطريق فهَمَّ أن يسلبك مالك وروحك فماذا أنت صانع؟ أتراك تعرف كيف تخرج من هذا المأزق الضنك بفضل قوة الذهن، وشدة العارضة، وذلاقة اللسان، وخلابة المنطق، مثلما كان يفعل رجل كمعاوية أو ابن العاص أو طاهر بن الحسين أو صلاح الدين، أو مثل الإسكندر أو يولوس قيصر أو القائد «مالبرة» أو البرنس دي كونديه أو محمد علي أو نابليون؟ (ليس من شأني أن أتصدى لإلحاق ثروت باشا بهؤلاء الأبطال، فإن ذلك موكول إلى حكم التاريخ في قادم الأجيال، وإن كان لا يسعني إلا الاعتراف والإقرار بأني آنس في شخصية الوزير الجليل عنصرًا من تلك الفحولة وجذوةً من لهيب هاتيك البطولة).

لا شك أنه متى طلع اللص قاطع الطريق على أحدٍ ممن سمينا من أولئك الأبطال، أحس في الحال أنه قد لقي من هو أشد منه بأسًا وصولةً، وقال في نفسه: «إن كنت ريحًا فقد لاقيت إعصارًا.» ولا عجب، فما أعظم الفرق والتفاوت بين الرجل والرجل في قوة الوجه! ألست ترى الرجل يتغلَّب على الآخر بتفوق الأول على الثاني في قوة العين وحِدَّة اللحظ فيبهره بذلك حتى يحيره ويربكه؟ أَوَ مَا سمعت بالرجل كيف يستطيع — برباطة الجأش وجرأة الجنان وبالثقة بالنفس واستشعار سيما العِزَّة والعظمة — أن يُخضِع الرجال ذوي المنزلة والمكانة والصولة والنفوذ والجاه فيقودهم ويسودهم، ويرأس ما شاء من الشِّيَع والأحزاب فربما عزل الملوك وألغى الدساتير وقلب الدول والممالك؟ وإني لا أشك في أن مثل نابليون بونابرت أينما وضعته، وفي أيما زمانٍ أو مكان ألقيته، فلا بد أن يسود ويقود وينفذ كل ما شاء وأراد، وقد كان يولوس قيصر في أيام صباه وقع في أسر جماعة من القرصان، فماذا كان منه؟ لقد ألقى بنفسه في سفينتهم، ثم ما لبث أن أكد بينه وبينهم أمتن روابط الصُّحبة والأُلفة، وكان يحدِّثهم القصص والنوادر تارةً ويلقي عليهم الخُطب تارةً أخرى، فإذا رآهم لا يهللون إعجابًا ولا يصفقون طربًا هددهم بالإعدام شنقًا (وقد نفذ فيهم هذا الوعيد فيما بعد حينما صار قيصرًا) ولم تَكُ إلا مدة قصيرة حتى أصبح زعيمهم وعميدهم.

مثل هذا الرجل معصوم في جميع أوقاته وحالاته من آفة الاضطراب والارتباك والدهش والحيرة، فهو لا تنفد من يديه أوراق اللعب الفائزة، فإذا ألقى الورقة فكسب «الطابق» لم تستطع أن تقول هذه آخر ورقاته؛ إذ لا يزال لديه عتادًا من السلاح وذخيرةً من القوة. مثل هذا الرجل يستطيع — كما قلنا — أن يقلب كيان الدولة، ثم تصبح أحاديثه ضربًا من المعجزات والخوارق، وأجلُّ معجزاتها أنها تؤثر في سامعيها فتنةً وسِحْرًا، حتى يولونه على مجرد السماع به أعظم الثقة وأكملها، وبذلك يتأتى له أن يُغير وجه العالم، وحينذاك يسعى في خدمته، ويقوم بترديد صدى مساعيه الشعر والنثر والتاريخ، وتنشأ المذاهب الفلسفية الجديدة؛ لتعليل سبب وجوده وحكمة حياته وأعماله. إن ميزة هذا الرجل هي تمام مقدرته على امتلاك عواطفه ووجداناته، ولكن سِرَّ تغلُّبه وسيطرته أدق وأعمق من هذا؛ ذلك هو سريان قوة الطبيعة بلا عائق وجريانها وانطلاقها بلا عقبة أو حائل من ذهنه وإرادته إلى يديه، فالرجال والنساء لعبه وآلاته، وحيثما وُجِدوا فثمة له مصدر حيل إلى مراميه وذرائع إلى أغراضه، وما أحسن قول لوثر حيث يقول: «إنما الرجل من أجاد الكلام.» فأمثال هذا الرجل كانت ولايات اليونان تستهدي وتستورد من ولاية «إسبرطة» (أوفر الولايات نصيبًا من الفحول) حينما كانت تحتاج إلى قائد.

وإذا ضربنا صفحًا عن فحول الرجال من الملوك والقُوَّاد وأهل الحرب والقتال؛ ألفينا في ساحات السلام ومناديح الأمن والسكينة فحولًا أيضًا، لا يقلون عن أولئك جزالةً وقوةً وسلطانًا على الأنفُس، وسيطرةً على العقول. فهؤلاء وإن لم يعتلوا مسرح الحرب والسياسة، أو يتصدوا لزعامة أو قيادة، وكانت صناعاتهم عادية، ومناهج عيشهم سلمية مدنية، تراهم مع ذلك يؤثرون أينما حلُّوا تأثير الشعاع المنعش، أو الزمهرير المرعش، وإذا نطقوا أُصيخ لهم وإن لم يكن نطقهم إلا همسًا ونبسًا، وإذا خطوا قصدوا وسددوا، وإذا فعلوا أحسنوا وأجادوا، ثم يكون عملهم قدوةً تُنتحى ومثالًا يُحتذى، وهؤلاء الفحول يلقون في أخفض منازل المجتمع مثلما يلقون في أرفعها وأسماها.

فأساس المَلَكَة الخطابية في جميع الحالات — وعلى اختلاف شئون أربابها وأعمالهم وحِرفهم ومراكزهم — هو قوة الشخصية وشرف النفس وسمو الهمة؛ ولذلك ترى الأمم والشعوب إذا احتاجت إلى من يمثلها أمام الخصوم، ويمثل أمانيها وأغراضها، ويطالب برد حقوقها، عمدت إلى من كان من بين أفرادها أقواهم شخصية، وأعظمهم روحًا، وأجزلهم حظًّا من صفات الرجولة وخِلال الفحولة — كالحزم والرزانة والحلم والأرب والحصافة والجرأة والشجاعة مع سمو المركز الاجتماعي — جاعلة اهتمامها بهذه المزايا الأخلاقية النبيلة، والسجايا الرجولية الجليلة، أشد من اهتمامها بالكفاءات الفنية — كالخبرة القضائية مثلًا أو غزارة العلم بالقانون الدولي والتجاري أو التفقه في العلوم الاقتصادية والسياسية — وإلى النوع الأول من الصفات والمزايا — أعني صفات الرجولة والفحولة — كانت ترمي الأمة المصرية — أعني ذوي الرأي والمكانة وأُولِي الفضل والكفاءة والوزن والجاه منها — حينما عمدت إلى اختيار الرئيس الجليل ثروت باشا؛ ليمثلها لدى الخصوم، ويكون النائب والوكيل عنها في المطالبة بحقوقها وتحقيق أمانيها، ولقد صدق ظنها وصحت فراستها، وأصبحت تحمد مذهبها في اختيار ذلك البطل حينما حقق شطر أمانيها، وبات ساهر الجفن، قلق الضلوع، متوقد الأحشاء في تحقيق ما بقي من آمالها. فطوبى للأمة المصرية ومرحى! لقد علمت وعلم العالم أجمع أنها حينما اختارت ثروت باشا للدفاع عن قضيتها والمطالبة بحقوقها قد اختارت الرجل الذي إذا نادى بالخصوم أسمع، وإذا ناظر أقنع، وإذا خاصم أفحم، وإذا ناوأ أرغم:

مَنْ يُساجلني يُساجل ماجدًا
يملأ الدلو إلى عقد الكرب

•••

كادوا وكدت فأزهقت ما دبروا
إحدى هناتك أيما إزهاق

إن السِّرَّ في نجاح خطة ثروت — بفضل قوة تأثيره وإقناعه في خُطبه وأحاديثه — هو ارتكاز كلامه على أساس الحقائق الثابتة، ولا مراء في أنه ما كان للرئيس الجليل، ولا لأي خطيب أو مُناظِر كائنًا من كان، أن يبلغ ما يريده من التأثير في معارضيه وإقناعهم بمجرد المَلَكَات الكلامية، ما لم تستقر في جوف كلامه حقيقة صلبة مادية، وقياسًا على هذا نقول: إن ثروت باشا خطيب عظيم؛ لأنه يرمي في أثناء خُطبه بالحقيقة تلو الحقيقة، أو كما يقول أهل المجاز لأنه يصيب المحز ويطبق المفصل، ويقرطس الفرض، ويصمي كبد الحقيقة، وله بعد ذلك ما يُسمونه مَلَكَة التعميم — أي استخلاص الكليات من الجزئيات والقواعد من المفردات — فهو يستنتج أثناء كلامه المنسجم الفياض القاعدة والقانون، يُنير به جو المناقشة، ويُجلي به ظلمة الشك والشبهة في أوجز اختصار، وأسرع إيماء كأنه لمحة البرق في غاشيات الضباب:

كم حومةٍ للجدال فرَّجها
والقوم عُجمٌ في مثلها خُرس
شك حشاها بخُطبةٍ عننٍ
كأنها منه طعنة خلس

ثروت باشا هو الرجل الذي يشتمل على الحقائق الخطيرة، ويعرف كيف يلقي بها في رُوع المُخاطَب ويقذفها في جنانه — يعرف كيف ينقلها إلى وجدان المخاطب سواء أشاء المُخاطَب أم لم يشأ — ويحمله على الاقتناع بصحتها والاعتقاد بها بالكره منه وعلى رغم أنفه، وكم من رجل يشتمل من الحقائق الخطيرة على مثل ما يشتمل عليه ثروت باشا، ولكنه يعجز عن نقلها إلى قلوب معارضيه وعن حملهم على الاعتقاد بها! وإنما ميزة الرئيس الجليل أنه يعرف كيف يهتدي إلى ذلك المسلك السِّرِّي، والمنفذ الخفي الذي يوصله إلى كل قلبٍ مغلق، وجنانٍ موصد من أفئدة معارضيه ومناوئيه، وكل معارض في حقيقة من الحقائق، مُكذِّب بها، مُغلِق دونها باب قلبه، مهما حاول الفصحاء والبلغاء إيلاجها في ذهنه، وإقرارها في ضميره بمختلف أساليب البيان وشتى وسائل الفصاحة. فاعلم أنه يوجد في أسرار البلاغة أسلوب إذا وُضِعت فيه تلك الحقيقة كان كفيلًا أن ينفذ بها إلى فؤاد ذلك المُنكِر المكذب مهما تحصن دونها بأكثف مجان الجحود وأصفق دروع المعارضة. نعم، قد يُتاح لهذا المُنكِر المعارض ذلك البليغ المقتدر، فيُصب له تلك الحقيقة المُكَذَّبة المرفوضة في قالب عجيب غريب مخالف لآلاف الصيغ والقوالب التي اعتاد أن يسمعها عليها — فيكون لهذا القالب من القوة والنفوذ ما يخترق به حجاب سمعه وقلبه، ويُفضي إلى أعماق جنانه فيضع ثمة تلك الحقيقة، ويضرب هنالك أوتادها وأطنابها فترسو، وتستقر على عرش فؤاده عقيدة راسخة مكينة عظيمة النفوذ والسلطان. فإذا ارتاح ضميره إلى الخضوع لسلطان هذه الحقيقة سَلِمَ وعاش، وإذا كره بعد كل ذلك أن يخضع لسلطانها لم يُغنِه ذلك ولم ينفعه بل ستراه يموت من دون ذلك كمدًا. فإن حكم هذه الحقيقة بعد تمكنها من عقيدته سيكون نافذًا قاهرًا محتومًا؛ فإما أن يخضع لها فتكون حاكمته ومالكته، وإما أن يأبى الخضوع فيموت بها؛ داءه القتال ومنيته العاجلة. فهذا بلا شك أروع أساليب البلاغة وأمضى أسلحتها، والذي يعالج بمثل هذا الأسلوب، ويكافح بمثل هذا السلاح، لا يملك أن يؤمن بدولة البيان وسلطان البلاغة، ويردد قول نبينا — عليه السلام: «إن من البيان لسِحْرًا.»

ولا تنسَ ما امتاز به الرئيس من حميا الإخلاص، ولهيب الحمية الذي هو أصل الحياة، ومنبع الروح والقوة في أحاديثه وخُطبه، وهذا مُستمَد من مصدرين: (١) غيرته ووطنيته الغريزية، (٢) الظروف الراهنة الاستثنائية. فإن الظروف — كما لا يخفى — تكون أحيانًا بمثابة منبع قوة جديد يُضاعِف ما بالإنسان من قدرة وهمة. ومتى اجتمعت قوة الظروف وكفاءة المرء فذلك اجتماع العقل البشري والقضاء الإلهي. وقد أرى إخلاص ثروت باشا لفرط حميته أشبه شيء بالنشوة قد تملكت شعوره، واشتملت على لُبه؛ فهو يكاد يترنح وطنية وغيرة، وإذا أراد الكلام ازدحمت سيول البلاغة في صدره، ثم انطلقت تتدفق دُفعًا فدُفعًا، وتراه قد تملكه موضوع الخطابة أو الحديث — أعني موضوع القضية المقدسة — تملكًا يترك الأفكار والمعاني تنسجم في نظام هو — نظام الطبيعة ذاتها — أقوى النُّظم البيانية، وأروع الأساليب التعبيرية، وأجلُّ وأعظم من أن يُجارى أو يُبارى. فلا جرم إذا قلنا إن ثروت باشا إذا خطب فإنما الطبيعة تخطب بلسانه، وإذا فاضت أحاديثه فإنما هي الحقيقة تفيض من مَعين قلبه ووجدانه. فلا عجب إذا كان تأثيرها في النفوس تامًّا، وسلطانها على الأذهان والأرواح كاملًا، شأن الطبيعة في كل حركاتها وآثارها، وعلى اختلاف صورها ومظاهرها، وإني لأرى بعد في هذا الإخلاص الرائع الشديد، وفي عظيم ما ينتج عنه من خُطب الرئيس الجليل وأحاديثه الباهرة، مصداقًا على تلك الخرافة القديمة وهي: «إنما يصيب الغرض من السهام ما يُغمس أولًا في دم الرامي.»

من حقق النظر في أحاديث ثروت باشا وفي خُطبه، وفي خُطب وأحاديث سائر أئمة الخطابة والمناظرة في العالم — أمثال ديموسطين وأسكينيز، وديماديس، وبيريكليس، ولوثر، وفوكس، وشانام، وباتريك هنري، وآدمز، وميرابو، وأيسوقراط، وبيرك، وجون بابتست، وهرميت بطرس وجون نوكس — وجد أن أَصْدَق تعريف للخطابة أو الحديث البليغ هو أنه «أفضل كلام صادر عن أفضل روح»، وأنه «عنوان كل ما يحتوي الذهن من آيات الجلال والجمال»، فإذا خرج الخطاب أو الحديث عن كونه مجرد آلة وأداة لتأدية ما يجيش بالصدر من عقائل الأفكار وكرائم المعاني، وأُريد به أن يكون غاية في ذاته، وأن يُتباهى به ويُفتخر كبعض الزخارف والحُلي، صار أُكذوبة وخدعة، وليس هكذا حديث ثروت باشا ولا خطابه، وما كانت قط هكذا أحاديث الفحول — ممن ذكرنا آنفًا — ولا خطاباتهم. أجل، ليس هذا شأن الفحول في كلامهم، وليس بهذا يأمر الإخلاص والصدق والغيرة والإيمان والوطنية، وما زال رجال الجِد والإخلاص — أمثال ثروت باشا — يُؤْثِرون الغرض الشريف والعمل الصالح على مجرد المباهاة برنين نغمات البلاغة، والمفاخرة بطنين مطربات البيان والخطابة — أعني يُؤْثِرون الجوهر على العرض والروح على الزي والملبس — وتلك شيمة الإخلاص والنزاهة.

شتان بين كلام المخلص الجاد الغيور صادرًا عن أعمق أعماق نفسه، وبين كلام المزخرف المتأنق العابث صادرًا عن أغلفة قلبه وقشوره الظاهرية. فهذا الأخير ليس سوى سحابة صيف، وعجالة ضيف، وشيء يُولد مع الصباح ويزول وقت الزوال، وشبح يذهب كالظلال بذهاب الأهواء والأميال، وأما الأول فآية تُنقش على صحيفة الزمان، وتبقى على الدهر ما بقي الإنسان، وتُنتج أعظم النتائج من آثار المدنية ومظاهر العمران، وهل هذه المدنية الحاضرة وآتي المدنيات وماضيها وكل ما يُعمِّرها سالفًا وحاضرًا ومستقبلًا من آثار الإنسان في هذه الحياة ومصنوعاته ومبدعاته ومخترعاته — من دول وممالك، ونُظم ودساتير وقوانين، وشرائع وآداب وأخلاق، وعلوم وصناعات وفنون، ومعاملات تجارية واقتصادية وسياسية، وقصور ومدائن وقلاع وكنائس، وهياكل ومتاحف ومقاصف، وكل ما يقوم عليه صرح هذه الحياة الهائلة من دعائم البقاء وأساطين العمران، وكل ما يساعد الإنسان الشقي المسكين على تخفيف عبء الحياة، وتلطيف آلامها، ومعالجة آفاتها ومحنها، وإساغة جرعتها المضيضة ومضغتها المُرة، وتليين عجلاتها العَسِرة المستعصية تسهيلًا لسيرها بقافلة الإنسانية التعسة في أوعار هذه الحياة الشاقة الأليمة إلى مثوى الإنسان الأخير في سكينة القبر وهدوئه؛ أقول: هل ترى كل هذه الأشياء المكوَّن منها صرح المدنية ونظام الحياة إلا نتيجة كلمة حق تُعبر عن فكرة صالحة؟

أجل، ليس ثروت باشا بالعابث في أحاديثه وخُطبه يتوخى التأثير السطحي في الجماهير بطنين الكَلِم الأجوف الرنان، ويخدع العقول بزبرج الكلام وتزاويقه يبتغي بذلك المفاخرة باللسن والذلاقة، والمباهاة بالحذق واللباقة، ويريغ الشهرة والذكر والجاه والسلطان، ولكنه رجل الجِد والإخلاص والصدق قولًا وعملًا، كثير الإطراق والتفكير، فإذا نطق فما شئت من لُبٍّ وفضل وحكمة. لا يتصدى بالكلام لغرض من الأغراض، أو مسألة من المسائل، إلا أنار شبهتها، وكشف غامضها، واستثار دفينتها، وهكذا يجب أن يكون الكلام وإلا فلا. إن ثروت باشا ذلك الرجل المجبول بفطرته على الجِد والإخلاص والحمية ليرى في قضية البلاد المقدسة أمرًا جللًا، أعظم من أن يحتمل العبث والتظاهر والمباهاة، والإدلال برنات طنان الكلام وسجعاته. لقد كان الأمر عنده — كما قال توماس كارليل — «أمر حياة أمة أو مماتها، أمر فلاح أو خُسران، ومسألة بقاء أو فناء. فلم يَكُ منه إزاء ذلك إلا الجِد المُر والإخلاص العميق. فأما التلاعب بالكلمات والعبث بالحقائق فليس من شأنه البتة، والعبث والتلاعب في المسائل الحيوية الجُلى جريمة من أفظع الجرائم؛ إذ ليس هو إلا رقدة القلب وهجعة العين عن الحقائق وتقلب المرء في مظاهر كاذبة خداعة. فمثل هذا الإنسان لا يقتصر أمره على كون أقواله وأعماله كلها أكاذيب بل إنه هو نفسه أُكذوبة. فأنت إذا تأملته في صميم كيانه، ألفيت نور الله — أعني الشرف والمروءة — قد انطفأ فيه سراجه، وخبا وقاده ووهاجه، فهو على الرغم من ذرابة لسانه، وخلابة بيانه، أفَّاك كاذب، إذ لا يزال مثل هذا الرجل سُمُّ الحياة وآفة الإنسانية. فإن غَرَّك برخامة صوته وجرسه، وحلاوة جهره ونبسه، ورقة مسه ولمسه، لم يَكُ في ذلك إلا كحامض الكربون تراه على لطف مسراه، ولين مجراه، سُمًّا نقيعًا، وموتًا ذريعًا.»

والآن بعد الذي أوردناه من ذلك الفصل المسهب والمطلب المستفيض في وصف الركن الأول من مناقب ثروت باشا — أعني المَلَكَة الخطابية البيانية بأصولها وفروعها وعُدَدها وآلاتها ودقائقها وأسرارها — ننتقل إلى الركن الثاني من صرح أخلاقه الوطيد الرفيع، أعني دماثة الطبع وعذوبة الشمائل.

لقد جاء في حكمة الأقدمين أنه لن يستطيع مسرة الجلساء وإطرابهم بفنون الأحاديث من كانت روحه خالية من عنصر السرور والطرب. فإن الحديث المشتمل على تُحف المعاني وبدائع الأفكار إذا صدر عن روح ساخطة أو غضبى أو متضجرة أو مشمئزة — أعني عن روح متنافرة مع أرواح الجلساء والعُشراء — كان جديرًا أن يدهش الأذهان ويبهرها، ولكنه ليس جديرًا أن ينعش الأرواح ويُدخل على النفوس عوامل الأُنس والصفو والحبور. فخِلة اجتذاب القلوب واستمالة الأهواء مُحال أن تتوافر لمن كان موحش الناحية، مقفر الجناب، خشن الجانب. فإن الأذهان خلاف الأرواح، وليس من اللازم المحتوم أن الرجل القادر على النفاذ إلى أذهان الناس بروائع كَلِمه، أن يستطيع بهذه الواسطة وحدها أن ينفذ أيضًا إلى قلوبهم وأرواحهم؛ إذ كيف يتأتى له ذلك إذا كان جامد الروح، مظلم الهواء، راكد النسيم، والرجل الخالية نفسه من عوامل الفرح كيف يستطيع إدخال الفرح على نفوس غيره؟

ولذلك قيل إن فن استمالة الغير بأسباب المَسرَّة إنما أساسه أن تكون قبل كل شيء مسرورًا في أعماق نفسك، ومن ثم رأينا أن أعاظم كُتاب الفُكاهة في العالم، الذين قدموا للعالمين أوفر ذخائر السرور والأُنس، وأشهى ألوان الطرب والحبور على مائدة الفنون والآداب — أمثال موليير وشاكسبير، وسرفانيتس، وأديسون، وجولد سمث، وفيدلن، وستيرن، وديكنز، وثكري، ورابليه، وماريفوه، وصاحب ألف ليلة — كانوا جميعًا من ذوي الطبائع الفرِحة الجذلى، والأمزجة الرطبة الخضلة، والصدور المثلوجة القريرة، والنفوس الطيبة الراضية المطمئنة المملوءة بروح الصفاء والاستبشار والتفاؤل. على عكس المتشائمين المتبرمين الغاضبين الثائرين من كُتاب الفُكاهة — أمثال سويفت وبوب وفولتير وبيرون — الذين قد مزجوا مزاجهم بأنكر الهِجاء والتهكم، وخلطوا مجونهم بأمضِّ القذع والسخط والنقمة فجاءت مؤلفاتهم أدعى إلى الإيلام منها إلى الإطراب، وأدنى إلى الإيجاع منها إلى الإعجاب، وأجدر بالإيحاش منها بالإيناس، وأنكى شبًّا من إبرة العقرب في الشعور والإحساس، ذلك إلى الجم الكثير من آفات تلك الكُتُب التشاؤمية في المجتمع، ومساوئ آثارها في هيكل الإنسانية مما يصغر ويضؤل بجانبه ما قد حوت من الفوائد والمنافع، حتى ذهب فريق كبير من أدباء العالم ونُقاده إلى اعتبار مؤلفيها الفحول الفطاحل من ضمن عوامل الفساد ومصادر الشر والبلاء على العالم، فقال لنا الفيلسوف الألماني الطائر الصيت «فردريك نيتشه»: «أغلقوا «بيرون» وافتحوا «جيتا»، وأصل هذه السوءات والآفات في الخالدات العبقريات من تآليف أولئك النوابغ هو — كما أسلفت — مرارة السجية وحموضة الطبع وحرافة المزاج، وما يتبع ذلك من جفوة الروح وقسوة القلب وغلظة الكبد.

وليس ثروت باشا بالجافي النفس، ولا القاسي القلب، ولا الغليظ الكبد، ولا هو بالحامض الطباع الحريف المزاج، ولا بالموحش الجناب، المظلم الناحية، الراكد النسمات، ولكنه مع متانة أخلاقه وصرامة عزمه، وأنه لا يجمد في الحق، ولا يتدفق في الباطل، تراه ذلك الرجل اللين الجانب، المأنوس الجناب، المشرق الناحية، هينًا لينًا، طلق الجبين، براق الأسارير.

بِشْرٌ أبو مروان إن عاسرته
عَسِرٌ وعند يَسارِه ميسور
وكالسيل إن قاومته انقدت طوعه
وتقتاده من جانبيه فيتبع
فإذا جالسته صدرته
وتنحيت له في الحاشيه
وإذا سايرته قدمته
وتأخرت مع المستأنيه
وإذا ياسرته صادفته
سلس الخُلُق سليم الناحيه
وإذا عاسرته صادفته
شرس الرأي أبيًّا داهيه
فاحمد الله على صحبته
واسأل الرحمن منه العافيه

وطبيعة ثروت باشا بعد هي الدماثة واللطف والرقة والظُّرف، وإن كان فيه عند مقتضيات الأحوال شدة وصلابة وبأس وصرامة:

له سَورة مُكتنة في سكينةٍ
كما اكتن في الغمد الحسام المهند

وتلك شيمة الرجل الفاضل في كل زمانٍ ومكان، وتلك كانت شيمة أبطال العرب في ذروة عِزِّهم وعلياء مجدهم؛ قلوب تذوب رحمةً وعطفًا، في جوانح تلتهب حميةً وأنفًا، وأرواحًا تتدفق بِرًّا وكرمًا، تحت عزمات تثور عِزًّا وشممًا، كالينبوع الثر الغزير، العذب النمير، يكتنفه أمنع سور من الصفوان، وأمتن حاجز من الجلمد الصوان:

ولا خير في حِلمٍ إذا لم تكن له
بوادر تحمي صفوه أن يُكدَّرا

وتلك كانت شيمة فرسان المسيحية في عهد الفروسية الأمجد الأشرف الذي هو فخر المدنية الغربية في القرون الوسطى، يوم كان أئمة الدين هم أيضًا أئمة الحرب والجهاد، وكان أعلام التُّقى أعلام الوغى، يوم كان أبطالهم يحملون الإنجيل على أسلات الرماح، ويقرنون السيف إلى الصليب في نطاق ووشاح. هنالك كنت ترى أقصى غاية البِر والرأفة والحنان، مع أقصى غاية الثبات والشجاعة وقوة الجنان. هنالك كنت ترى التواضع والحياء والخشوع والانكسار، مع البأس والشدة وصولة العزيز القهار:

خاشعٌ تارةً وجبارٌ أخرى
فتراه أرضًا وطورًا سماء

وهكذا إذا طلبت منتهى الرقة والدماثة والحنان والرحمة وجدتها في الرجل الصارم الشجاع القوي المتين، وكذلك أعذب الماء وأصفاه هو ما صادفته في النقر واللصاب في الصخرة الصماء والصفاة الصلدة.

ومن ثم كان ثروت باشا — ذلك البطل القوي الأيدِ الصلب العود والمعجم — رجلًا سمحًا سجحًا، غزير الأُنس والحفاوة، جم الظُّرف والفُكاهة، تكاد ابتسامته تضيء ما حوله بنور البِشر والطلاقة، ويكاد الهواء يتأرج بطِيب أنفاسه إذ كانت صادرة عن روضة الحسب الأغر، والكرم الأوفر الأبر.

ولا شك عندي في أن تلك المادة الغزيرة من الفرح والابتهاج الغريزي في ثروت باشا هي من أعظم أسباب نجاحه في كل ما يحاول من الخطط والتدابير، وكل ما يباشر من المعاملات والمفاوضات؛ لأن ذلك الفرح والابتهاج يظل له كنشوة طبيعية تُحرك همته وتبعث عزمته، وتترك سيف جِده مسلولًا لأيسر داعٍ ومقتضى، وتُغنيه عن كل منشط خارجي وحافز صناعي، وأكبر ظني أن هذا الابتهاج والصفاء الغريزي النفساني في ثروت باشا هو بعض مصادر تلك الجاذبية والخلابة التي استطاع بها أن يؤثر في كبار رجالات البريطانيين ممن فاوضوه في قضية البلاد المقدسة، ويستميلهم إلى مذهبه، ويقنعهم بصحة رأيه ونصوع حُجته. وأراني خليقًا أن أشبهه في ذلك بالقائد الإنكليزي العظيم الدوق أوف «مالبره»، ذلك البطل التاريخي المشهور الذي بفضل حذقه ولباقته انتصرت إنكلترا وحلفاؤها على فرنسا في عهد لويز الرابع عشر، يوم كانت فرنسا أقوى دول أوروبا جيوشًا، وأمهرها قُوَّادًا، وأشدها بأسًا وصولةً، وأقهرها سطوةً وسلطانًا. لقد كانت جيوش حلفاء بريطانيا أثناء حروبها الطويلة المتوالية مع فرنسا في ذلك العهد عُرضة لعوامل النزاع والشقاق، لا يزال يقع بينها النفور والمشاحنة، فلو كانت استمرت على تلك الحال لما كانت ظفرت من فرنسا بطائل، بل كان من المؤكد هزيمتها واندحارها بأسياف تلك الدولة، ولكن القَدَر الذي أراد غير ذلك جعل من خلابة القائد «مالبرة»، ومن جاذبيته، ومن رقة شيمته، وحلاوة أُنسه، وعذوبة شمائله؛ أبلغ وسيلة وأحسن واسطة لضم شوارد القلوب بين الحلفاء، وتأليف نوافر النفوس، وجمع بدائد الأهواء والأميال، ونظم تلك العناصر المتشاحنة في سلكٍ واحد من الوئام والأُلفة، وقياد الجميع بحبل التوفيق والهداية إلى غرضهم الأوحد الفرد من تلك الحرب الشعواء — على الرغم من متباين مذاهبهم وآرائهم، ومما كان متفشيًا بينهم من عوامل التحاقد والتحاسد، ونزوات التعسف والتهور، ونزعات الطيش والضلال — فأيما بلاط من بلاطات تلك الدول المتحالفة كان يذهب إليه القائد مالبرة ويغشاه كان لا يلبث بفضل سجاحة خُلُقه، وحلاوة سجاياه، وعذوبة طبعه أن يستميل أهله، ويستدرجهم مهما بلغ من عنادهم وشكاستهم، حتى يحملهم على قبول شروطه واتباع رأيه.

لقد امتاز ثروت باشا بنوع من صفاء النفس، وهدوء الروح، وسكينة الجأش، لها في نفوس مخاطبيه ومجالسيه من الأثر العميق ما يشبه تأثير النغم الرخيم والألحان الشجية. ولا عجب، فإن الصفاء والهدوء من النظام، وكل نظام فإنما يكون نظامًا بفضل ما ينطوي في جوفه من الموسيقى الصامتة؛ أي من روح الموسيقى، أو بعبارة أخرى: كل نظام موسيقي في عنصره وجوهره. فهذا الهدوء والسكينة والصفاء في ثروت باشا تؤثر في مخاطبيه ومجالسيه تأثيرًا يسبيهم من نفوسهم، ويجتذبهم إليه بنوع من الكهرباء الخفي. فلا جرم إذا قلنا إن مثل هذا الخلاب تكون روحه منهلًا للأُنس، ومُسترادًا للنعيم والمسرة، وسنا بِشره يفيض على جوانب الجو كمثل رونق الضحى، وحديثه ينفث في الهواء كأنفاس النعامي تنفح بأريج الخزامي:

أو كالنسيم الغض غِبَّ الحَيا
يختال في أردية الفَجر

•••

وإذا ما أشار هَبَّت صَبَا المِسـ
ـك وخِلت الإيوان من كافور

هذه السكينة والهدوء والصفاء الغريزية الفطرية (مع حِدَّة الذهن الهائلة) هي التي بفضلها بلغ نابليون — أعظم رجل في التاريخ الحديث — من ذروة المجد والعلاء، وقمة الحسب والفخار، ما راع الملأ وبهر العالم، وهي التي بفضلها أيضًا استطاع ذلك الرجل المدهش أن يحتمل أرزاء الدهر ومحن الزمان في عظمة وجلال يشوبهما شيء من اللهو العبث، وأن يستسلم لخسارة مُلك العالم استسلام من خسر دورًا في لعبة النرد أو الشطرنج.

وكذلك ترى ثروت باشا — على صرامته وبأسه في مواضع الجِد والحزم — أغر أبلج، بسَّامًا وضاح الجبين، جم البِشر والحفاوة، عذب الإيناس، حُلو الفُكاهة، تتألق في صفحة وجهه الكريم ابتسامة صادقة من فؤادٍ صادق؛ لأن من الابتسامات ما تكون كاذبة منبعثة عن فؤادٍ كاذب كسائر أكاذيب صاحبها من أعمالٍ وأقوال، وما زال الابتسام الصادق والضحك الخالص الصريح ينبعث من القلب الطاهر النقي الرقيق الحاشية، الأمين الناحية، الغزير مادة الحنان والرحمة. فمثل ذلك الضحك يكون عنوان الكرم والخير، وشاهد المروءة والبِر، إذا كان كاذب الضحك آية الشر والنكر، وأمارة الخُبث والغدر، وما زال الحر الشريف يمزح في الأحايين ويهزل، والبَرُّ الكريم يَطرب ويَجذل، وما زلنا نرى الأريب الحصيف يفصل نظام حكمته الثمين بشذور الأمازيح والفُكاهات، ويُرصع ديباجة كلامه الجِدي الرزين بفصوص المعابثات والمداعبات. ومن ثم ما قاله توماس كارليل في وصف إفراط الفُكاهة والضحك في سيد شعراء العالم قاطبةً «وليم شاكسبير»: «لا أرى دليلًا أصدق على ما يمتاز به ذلك الشاعر الخالد من كرم النفس ورِقة الطبع ونقاء الضمير وصفاء السريرة من غلواء الضحك وإفراط المزاح في رواياته. ألا ترى أن مضحكاته تنحط عليك كشآبيب الغيث الثر، ودوافع السيل الهمر؟ ألا ترى أنه إذا نَصَبَ أحد أشخاص رواياته غرضًا لمرامي المزح والدُّعابة انبرى يهيل على رأسه ما لا يُحصى من أفانين الهزل والمجون، وينقله من المواقف والأشكال المضحكة فيما فيه أقصى عجب العاجبين وضحك الضاحكين، فيُخيل إليك أن شاكسبير يضحك من ذلك الشخص الذي هو سليل وهمه وصُنع خياله ضحكًا مفرطًا بملء صدره وأضلاعه، وهو بعد ضحك طيب صالح لا يُراد به السخرية من البؤساء والمساكين والضعفاء، التي هي ألأم أنواع الضحك؛ لما تنطوي عليه من السفالة والخُبث والنذالة، وإني أرى ضحك شاكسبير وغيره من ذوي الكرم والبِر والرأفة ليس من قبيل معمعة الحريق تحت القِدر — يقهقه لهيبه وضرامه والقِدر تغلي وتفور — ولكنه ضحكٌ مشوب بالرحمة والعطف حتى على الأغبياء والأدعياء. فمثل ذلك الضحك لا أشبهه إلا ببساط نور الشمس على صدر البحر الرحيب.»

وكذلك ثروت باشا رجل الجِد والحد والقوة والمتانة والوقار والرزانة والعزم والصرامة، لا يخلو مع ذلك من رِقة الظُّرف وحلاوة الإيناس وطُرف الفُكاهة والدُّعابة. فيا له من جوهرةٍ كريمة، أبدى الله صفحتها، وجلا بهاءها وبهجتها، على حين قد أقفر العصر من الجواهر الغوالي، وصفرت الأيدي من كرائم اللآلي. فحبذا تلك من جوهرةٍ جمعت بين الرونق والمتانة، والسنا الوهاج والرصانة، كالصخرة المنطوية على ينابع الكرم والسخاء، وأشعة الفطنة والذكاء، وجمرات العزم والمضاء.

ومن أركان مناقب ثروت أيضًا: الثقة بالنفس والاعتزاز بالرأي والنفاذ والصرامة، فهو يمضي في تنفيذ إرادته مضاء النجم الثاقب، متحملًا مسئولية أعماله وتبعتها، مقتحمًا ما يعترضه مما يراه هو اعتراضًا باطلًا واعتبارًا كاذبًا، غير مبالٍ بما يُصوَّب إليه من سهام الملام والتفنيد وقوارص العذل والتقريع، اغتباطًا بما يعتقد أنه سيكون من صالح النتائج ومحمود العواقب، مما يراه هو ببصره النافذ ورويته البصيرة، وإن خفي على غيره من الأشخاص المعتادين ممن لم تمنحهم الطبيعة ما ميَّزته هو به من الذكاء والفطنة والدهاء. فلا عجب إذا كان ثروت باشا — كغيره من الأبطال والفحول — يتبين فيما يأتي ويذر، وفيما يحل ويعقد من سِرِّ الحكمة ووجه الصواب ما ليس يظهر لسواه من الناس؛ إذ كان كل قائد يظل أَعرَف بخطته من سائر الجنود، وأَبصَر بما ينتهج لهم من مناهج السعي والعمل وسُبل الغزو والجهاد. فبرنامج العمل المرقوم في ذهنه، وخريطة الزحف المرسومة على صفحات قلبه، إنما يقرؤها ويفهمها هو وحده من دونهم، وهو وحده المسئول عن العاقبة والنتيجة. فلينتقدوا وليعارضوا ما شاءوا، فما اعتراضهم ونقدهم إلا سحابة صيف لن تلبث أن تزول متى طلعت من ورائها شموس نتائج أعماله مشرقة بلجاء؛ وإذ ذاك يعلم أقوام أن مذهب الوزير كان الحق الصراح، وخطته الصدق المبين، وكان عمله منزهًا عن الأغراض والأهواء، بريئًا من شوائب الأنانية، بل هادمًا لعوامل الأنانية ماحقًا لعناصرها، مشبعًا بعواطف الوطنية والإخلاص والتضحية.

ونحن إذا آنسنا في أخلاق ثروت باشا خلة الثقة بالنفس، والاعتزاز بالرأي، فقد ما آنس الناس ذلك في كل بطل وقائد، وهل كان الاعتزاز بالنفس إلا شيمة النفس الثائرة على الأكاذيب والأباطيل، المترفعة عن مراعاة أكاذيب التقاليد والاصطلاحات وأباطيل السُّنن والاعتبارات، الآخذة بالجِد والإقدام والإصرار والمثابرة بعزيمة لا تهن ولا تكل، وصريمة لا تثلم ولا تفل، المستهزئة بأكاذيب الآراء والعقائد. فصاحب مثل هذه النفس الكبيرة الشماء ينطلق إلى غايته انطلاق الكوكب المشبوب، مسترسلًا في سُننه طربًا على نغمات موسيقى روحه العظيمة الجياشة الصداحة، ولو ثارت من حوله الزوابع، وضجت المعامع، وصخبت الزعازع، وهبَّت العواصف، وزمجرت القواصف، وكاد الكون أن يتحطم فيتهدم. هذه — وأبيك — البطولة في أنصع مجاليها وأبعد مراميها، وهي وإن راعت بعض القوم وأخافتهم — لعجزهم عن سبر أغوارها وإدراك أسرارها — فالواجب على الجميع أن يوفوها حقها من الإجلال والإكبار، إذا كانت قد حفت من شواهد الجلال، وآيات السمو والعظمة بما ينبغي أن يثير عواطف الإعجاب والإكبار في نفس كل شريف، بل في نفس كل من علق بنفسه أدنى أثر من عناصر الشرف والكرم والمروءة — فيملؤه عجبًا وطربًا من جلائل أعمال ذلك البطل (وإن قصر ذهنه عن تمام إدراكها) ثم يلهمه شيئًا من الصبر والتأني انتظارًا وترقبًا لما سيكون من نتائج فِعاله وعواقب أعماله — وحسبُه أثناء ذلك أن يحمل نفسه على الاعتقاد بأن أفعال مثل هذا الرجل القوي، إنما هي أفعال المولى جلَّ شأنه يأتيها على يد عبد من عباده. فقبيح بأي مخلوق أن يتسرع إليها باللوم والطعن والهِجاء، وذميم أن يعجل إلى منفذها بالشر والشغب والمناوأة، أو يعترضه في سبيله الخشن الصعب بالعرقلة والتعطيل والمقاومة. فحسبُه بخشونة مركبه ووعورة مسلكه، وإنه يبيت ساهر العين من أجل عيون ملء أجفانها الرقاد، وينصب متعب الجسد من أجل أحساد تتقلب على ألين مهاد، ويتجرع غصص الألم في سبيل أقوام يرشفون أقداح المسرات والنعم، ويخترط أشواك المضض من شجر الكد والعناء لمصلحة من يقطفون ثمار الراحة من أفنان الدعة والصفاء.

إن الرجل العظيم يعمل عمله مدفوعًا إليه بدافع وجداني مستسر في خفايا نفسه العميقة العظيمة، فحكمة هذا الدافع الوجداني لا يمكن أن تكون بادية لعيون العامة والجماهير مثلما تبدو وتظهر لصاحبه، بدليل أن كل امرئٍ يكون أَعرَف بسريرة وجدانه من غيره، ويكون أبعد نظرًا وأقصى مرمًى فيما يتعلق بمذهبه الخاص به دون غيره، وبخطته التي هو انتهجها دون سواه.

ولكنا نرى الذين لا يريدون أن يعترفوا للرجل العظيم بشرف مسعاه، وسمو غايته ومرماه — إما لقصر عن إدراك مراميه أو لآفة في نفوسهم — ينكرون عليه بُعد همته وحُسن نيته، فيتهمونه بالسعي وراء حاجة في نفسه وبُغية شخصية أنانية، ومن ثم يحكمون عليه بما لا يليق أن يُنسب إلى الفحول والأبطال. أمثال هؤلاء الظالمين الجائرين لا يرون في أبطال العالم — الذين هم بُناة ما في العالم من مجد وعظمة، ومشيدو ما فيه من صروح الحضارة والمدنية العالية، والذين هم في الحقيقة أعلام التاريخ وفرائد عِقده النظيم المؤلفة منهم سلسلة المدنيات الذهبية — إلا أشرارًا آثمين لا فضل لهم ولا خير فيهم، وأنهم لم يأتوا من أعمالهم العظام ما أتوا إلا إرضاءً لشهوات أنانية وإشباعًا لمطامع شخصية. والواقع أن أولئك الأفاكين المعتدين بالكذب والزور على مقامات العظماء في كل زمانٍ ومكان هم الجناة الآثمون الذين لم يَسلم من ألسنتهم بطلٌ ما أيًّا كان في حاضر الزمن وغابره؛ فهم زعموا أن الإسكندر الأكبر كان مجنونًا مصابًا بجنون الغزو والفتح بعلة أنه دوخ بلاد اليونان وأصقاع آسيا، وزعموا أن حب الشهرة والولوع بالصيت كان باعثه الوحيد على فتوحاته العظيمة بدليل أن هذه الفتوحات قد أدت في النهاية إلى الصيت والشهرة. ومثل هذا قاله أولئك الأفاكون عن يولوس قيصر وهانيبال، والسفاح، وتيمورلنك، ومحمد الفاتح، وشارلمان، وشارل الثاني عشر ملك السويد (الذين سموه «مجنون الشمال» إشارة إلى موقع مملكته من أنحاء المعمور) ونابليون بونابرت، وكذلك خُيل إليهم أنهم قد استطاعوا أن يثبتوا الجنون على أئمة العالم وقادته وأقطابه، وكأنى بهم قد استنتجوا من ذلك (وإن لم يصرحوا بهذا الاستنتاج) أنهم هم الأكابر والفحول والعظماء — لا نابليون ولا محمد الفاتح ولا عمرو ولا أمثالهم — وأنهم هم أجلُّ وأعظم من هؤلاء الأعلام والأقطاب؛ بدليل أنهم لم يغزو آسيا كالإسكندر، ولم يفتحوا روما كهانيبال، ولم يدوِّخوا أوروبا كما فعل نابليون، وإنما حصروا كل مجهودهم وهمتهم في أن يأكلوا ويشربوا، ويتركوا غيرهم يأكل ويشرب، وبذلك عاشوا وماتوا سالمين مسلمًا منهم، آمنين مأمونًا من شرهم.

فهؤلاء النقاد الأصاغر أشبه شيء بالبعوض الذي يحاول أن يلدغ بإبرته الضئيلة الواهية المناكب العِراض، والأعناق الضخمة من أُسُود المجتمع وضياغمه، فتكل إبرتهم وتنبري دون أن تنال تلك الليوث بأدنى ضائر، أو هم كما قال الأعشى:

كناطح صخرة يومًا ليفلقها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

هذا البعوض النقاد ما زال يظهر في العالم منذ كان العالم، لم يخلُ منه عصر من العصور ولا مصر من الأمصار، فنحن نتلو نبأه في إلياذة هوميروس تحت اسم «ثرسيثيس» ذلك المخلوق الحقير الذي لم يكن له هم ولا دأب إلا سب الأمراء والملوك، فكان جزاؤه على الدوام الضرب بالعصي والجَلد بالسياط، وأشد عذابًا عليه من ذلك شوكة الحسد المضيض وإبرة الحقد الأليم التي قُضي عليه أن لا يزال يحملها في جلده، وجمرة الغيظ والحنق التي قُيض له أن لا تنفك مدفونة في صميم كبده، وحسبُه فشلًا وخيبة مع كل ذلك أن تصبح آراؤه الوجيهة الرشيدة، وانتقاداته السليمة السديدة — يومًا ما إن عاجلًا أو آجلًا — قد ذهبت بعد كل مجهوداته الجسيمة ومحاولاته العظيمة هباءً منثورًا، وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا.

•••

والآن بعدما أجلت قلمي الضعيف جولةً في هذا الميدان الفسيح — مجال البطولة والفحولة — وسمته خوضةً في ذلك الخضم العميق — عباب العظمة والهمة والرجولة — أُلقي به في أكنان الراحة نضوًا متعبًا حسيرًا من طول ما اصطك أثناء جولاته بهضاب تلك العبقرية الباذخة، وجبال تلك البطولة الشامخة، وأطرح صحيفتي في يم التأليف ذلك الهائج المائج الثائر المضطرب لتلقى نصيبها من الطفو أو الرسوب وجزاءها من العطب أو السلامة.

لقد أمضيت برهة على هضاب جبل «أوليمب» — مجال الأبطال وملعب الآلهة (في أساطير اليونان) — أتأمل روائع آياتها وبدائع معجزاتها حتى أُفعم قلبي جلالًا وجمالًا، وبهرني ذلك المشهد المهيب، فانحدرت نازلًا وأنا أُسبِّح بحمد الله عجبًا وطربًا، وأحمد الصانع البديع الذي يأبى كرمه وفضله أن يترك مقابح هذه الحياة وشوهاتها في أي عصر وبقعة، خالية من محاسن الرجولة، مقفرة من مفاخر العظمة والبطولة.

(١) مشروع ملنر: مذكرة

  • (١)

    لكي يُبنى استقلال مصر على أساس متين دائم يلزم تحديد العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر تحديدًا دقيقًا، ويجب تعديل ما تتمتع به الدول ذوات الامتيازات في مصر من المزايا وأحوال الإعفاء، وجعلها أقل ضررًا بمصالح البلاد.

  • (٢)

    ولا يمكن تحقيق هذين الغرضين بغير مفاوضات جديدة تحصل للغرض الأول بين ممثلين معتمدين من الحكومة البريطانية وآخرين معتمدين من الحكومة المصرية، ومفاوضات تحصل للغرض الثاني بين الحكومة البريطانية وحكومات الدول ذوات الامتيازات، وجميع هذه المفاوضات ترمي إلى الوصول إلى اتفاقات معينة على القواعد الآتية:

  • (٣)
    • أولًا: تُعقد معاهدة بين مصر وبريطانيا العظمى تعترف بريطانيا العظمى بموجبها باستقلال مصر كدولة مَلَكية دستورية ذات هيئات نيابية، وتمنح مصر بريطانيا العظمى الحقوق التي تلزم لصيانة مصالحها الخاصة، ولتمكينها من تقديم الضمانات التي يجب أن تُعطى للدول الأجنبية؛ لتحقيق تخلي تلك الدول عن تلك الحقوق المخولة لها بمقتضى الامتيازات.
    • ثانيًا: تُبرم بموجب هذه المعاهدة نفسها محالفة بين بريطانيا العظمى ومصر، تتعهد بمقتضاها بريطانيا العظمى أن تعضد مصر في الدفاع عن سلامة أرضها، وتتعهد مصر أنها في حالة الحرب — حتى ولو لم يكن هناك مساس بسلامة أرضها — تُقدم داخل حدود بلادها كل المساعدة التي في وسعها إلى بريطانيا العظمى، ومن ضمنها استعمال ما لها من الموانئ وميادين الطيران ووسائل المواصلات للأغراض الحربية.
  • (٤)
    تشتمل هذه المعاهدة أحكامًا للأغراض الآتية:
    • أولًا: تتمتع مصر بحق التمثيل في البلاد الأجنبية، وعند عدم وجود ممثل مصري مُعتمَد من حكومته تَعْهَد الحكومة المصرية بمصالحها إلى الممثل البريطاني، وتتعهد مصر بأن لا تتخذ في البلاد الأجنبية خطة لا تتفق مع المحالفة أو تُوجِد صعوبات لبريطانيا العظمى، وتتعهد كذلك بأن لا تعقد مع دولة أجنبية أي اتفاق ضار بالمصالح البريطانية.
    • ثانيًا: تمنح مصر بريطانيا العظمى حق إبقاء قوة عسكرية في الأراضي المصرية لحماية مواصلاتها الإمبراطورية، وتُعين المعاهدة المكان الذي تعسكر فيه هذه القوة، وتسوي ما تستتبعه من المسائل التي تحتاج إلى التسوية، ولا يعتبر وجود هذه القوة بأي وجه من الوجوه احتلالًا عسكريًّا للبلاد كما أنه لا يمس حقوق حكومة مصر.
    • ثالثًا: تُعيِّن مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية مستشارًا يُعهد إليه في الوقت عينه بالاختصاصات التي لصندوق الدين الآن، ويكون تحت تصرف الحكومة المصرية؛ لاستشارته في جميع المسائل الأخرى التي قد ترغب في استشارته فيها.
    • رابعًا: تُعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية موظفًا في وزارة الحقانية يتمتع بحق الدخول على الوزير، ويجب إحاطته علمًا على الدوام بجميع المسائل المتعلقة بإدارة القضاء فيما له مساس بالأجانب، ويكون أيضًا تحت تصرف الحكومة المصرية لاستشارته في أي أمر مرتبط بحفظ الأمن العام.
    • خامسًا: نظرًا لما في النية من نقل الحقوق التي تستعملها إلى الآن الحكومات الأجنبية المختلفة بموجب نظام الامتيازات إلى الحكومة البريطانية تعترف مصر بحق بريطانيا العظمى في التداخل بواسطة ممثليها في مصر؛ ليمنع أن يطبق على الأجانب أي قانون مصري يستدعي الآن موافقة الدول الأجنبية، وتتعهد بريطانيا العظمى من جانبها أن لا تستعمل هذا الحق إلا حيث يكون مفعول القانون جائرًا على الأجانب.

      صيغة أخرى لهذه المادة

      نظرًا لما في النية من نقل الحقوق التي تستعملها للآن الحكومات الأجنبية المختلفة بموجب نظام الامتيازات إلى الحكومة البريطانية، تعترف مصر بحق بريطانيا العظمى في التداخل بواسطة ممثليها لتمنع أن يُنفذ على الأجانب أي قانون مصري يستدعي الآن موافقة الدول الأجنبية، وتتعهد بريطانيا العظمى من جانبها بأن لا تستعمل هذا الحق إلا في حالة القوانين التي تتضمن تمييزًا جائرًا على الأجانب في مادة فرض الضرائب أو لا توافق مبادئ التشريع المشتركة بين جميع الدول ذوات الامتيازات.

    • سادسًا: نظرًا للعلاقات الخاصة التي تنشأ عن المحالفة بين بريطانيا العظمى ومصر يُمنح الممثل البريطاني مركزًا استثنائيًّا في مصر، ويُخول حق التقدم على جميع الممثلين الآخرين.
    • سابعًا: الضباط والموظفون الإداريون من بريطانيين وغيرهم من الأجانب الذين دخلوا خدمة الحكومة المصرية قبل العمل بالمعاهدة يجوز انتهاء خدمتهم بناءً على رغبتهم أو رغبة الحكومة المصرية في أي وقت خلال سنتين بعد العمل بالمعاهدة، وتحدد المعاهدة المعاش أو التعويض الذي يُمنح للموظفين الذين يتركون الخدمة بموجب هذا النص زيادة عما هو مخول لهم بمقتضى القانون الحالي.

    وفي حالة عدم استعمال الحق المخول بهذا الاتفاق تبقى أحكام التوظف الحالية بغير مساس.

  • (٥)

    تُعرض هذه المعاهدة على جمعية تنظيم، ولكن لا يُعمل بها إلا بعد إنفاذ الاتفاقات بين الدول الأجنبية على إبطال محاكمها القنصلية، وإنفاذ الأوامر العالية المعدلة لنظام المحاكم المختلطة.

  • (٦)

    يُعهد إلى جمعية التنظيم وضع قانون نظامي جديد تسير حكومة مصر في المستقبل بمقتضى أحكامه، ويتضمن هذا النظام أحكامًا تقضي بجعل الوزراء مسئولين أمام الهيئة التشريعية، وتقضي أيضًا بإطلاق الحرية الدينية لجميع الأشخاص، وبالحماية الواجبة لحقوق الأجانب.

  • (٧)

    تحصل التعديلات اللازم إدخالها على نظام الامتيازات باتفاقات تُعقد بين بريطانيا العظمى والدول المختلفة ذوات الامتيازات، وتقضي هذه الاتفاقات بإبطال المحاكم القنصلية الأجنبية؛ لكي يتيسر تعديل نظام المحاكم المختلطة، وتوسيع اختصاصها، وسريان التشريع الذي تسنه الهيئة التشريعية المصرية (ومنه التشريع الذي يفرض الضرائب) على جميع الأجانب في مصر.

  • (٨)
    تنص هذه الاتفاقات على أن تنتقل إلى الحكومة البريطانية الحقوق التي كانت تستعملها الحكومات الأجنبية المختلفة بمقتضى نظام الامتيازات، وتشتمل أيضًا أحكامًا تقضي بما يأتي:
    • أولًا: لا يسوغ العمل على التمييز الجائر على رعايا أي دولة وافقت على إبطال محاكمها القنصلية، ويتمتع هؤلاء الرعايا في مصر بنفس المعاملة التي يتمتع بها الرعايا البريطانيون.
    • ثانيًا: يُؤسس قانون الجنسية المصرية على قاعدة النَّسب، فيتمتع الأولاد الذين يولدون في مصر لأجنبي بجنسية أبيهم، ولا يحق اعتبارهم رعايا مصريين.
    • ثالثًا: تخول مصر موظفي قنصليات الدول الأجنبية نفس النظام الذي يتمتع به القناصل الأجانب في إنكلترا.
    • رابعًا: المعاهدات والاتفاقات الحالية التي اشتركت مصر في التعاقد عليها في مسائل التجارة والملاحة — ومنها اتفاقات البريد والتلغراف — تبقى نافذة المفعول، أما في المسائل التي ينالها مساس ما جراء إبطال المحاكم القنصلية فتعمل مصر بالمعاهدات النافذة المفعول بين بريطانيا العظمى والدول الأجنبية صاحبة الشأن، مثل معاهدات تسليم المجرمين وتسليم البحارة الفارين، وكذلك المعاهدات التي لها صفة سياسية سواء كانت معقودة بين أطراف عدة أو بين طرفين، مثال ذلك: اتفاقات تحكيم والاتفاقات المختلفة المتعلقة بسير الحروب، وذلك كله ريثما تُعقد اتفاقات خاصة تكون مصر طرفًا فيها.
    • خامسًا: تُضمن حرية إبقاء المدارس وتعليم لغة الدولة الأجنبية صاحبة الشأن على شرط أن تخضع هذه المدارس من جميع الوجوه للقوانين السارية بوجه عام على المدارس الأوروبية بمصر.
    • سادسًا: تُضمن أيضًا حرية إبقاء أو إنشاء معاهد دينية وخيرية كالمستشفيات إلخ، وتنص المعاهدات أيضًا على التغيرات اللازمة في صندوق الدين، وعلى إبعاد العنصر الدولي عن مجلس الصحة في الإسكندرية.
  • (٩)

    التشريع الذي تستلزمه الاتفاقات السالفة الذكر بين بريطانيا والدول الأجنبية يُعمل به بمقتضى مراسيم تصدرها الحكومة المصرية، وفي الوقت عينه يُصدر مرسوم يقضي باعتبار جميع الإجراءات التشريعية والإدارية والقضائية التي اتُّخذت بمقتضى الأحكام العرفية صحيحة.

  • (١٠)

    تقضي المراسيم العالية المعدلة لنظام المحاكم المختلطة بتخويل هذه المحاكم كل الاختصاص الذي كان مخولًا إلى الآن للمحاكم القنصلية والأجنبية، ويُترك اختصاص المحاكم الأهلية غير ممسوس.

  • (١١)

    بعد العمل بالمعاهدة المشار إليها في البند الثالث تُبلغ بريطانيا العظمى نصها إلى الدول الأوروبية الأجنبية، وتُعضد الطلب الذي تُقدمه مصر للدخول عضوًا في جمعية الأمم.

(٢) مشروع كرزون: بنصوص مشروع اتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر

أولًا: انتهاء الحماية

  • (١)
    في مقابل إبرام المعاهدة الحالية والتصديق عليها تقبل حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى رفع الحماية المعلنة على مصر في ١٨ ديسمبر سنة ١٩١٤، والاعتراف بمصر من ذلك الحين دولة متمتعة بحقوق السيادة Sovereign State تحت إمرة ملوكية دستورية. فبمقتضى هذا قد أُبرمت — وتستمر باقية — بين حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى وشعبه من جهة، وبين حكومة مصر والشعب المصري من الجهة الأخرى، معاهدة دائمة ورابطة سلام ووداد وتحالف.

ثانيًا: العلاقات الأجنبية

  • (٢)

    تتولى الشئون الخارجية لمصر وزارة الخارجية المصرية تحت إدارة وزير معين لذلك.

  • (٣)

    يمثل حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى في مصر قوميسير عالٍ يكون له في جميع الأوقات وبسبب مسئولياته الخاصة مركز استثنائي، ويكون له حق التقدم على ممثلي الدول الأخرى.

  • (٤)

    يمثل الحكومة المصرية في لوندره وفي أية عاصمة أخرى ترى الحكومة المصرية أن المصالح المصرية يمكن أن تستدعي هذا التمثيل فيها معتمدون سياسيون يكون لهم لقب ومرتبة وزير.

  • (٥)

    بالنظر للتعهدات التي أخذتها بريطانيا العظمى على نفسها في مصر — وعلى الخصوص فيما يتعلق بالدول الأجنبية — يجب أن توجد أوثق الصلات بين وزارة الخارجية المصرية والقوميسير العالي البريطاني الذي يقدم كل المساعدة الممكنة للحكومة المصرية فيما يتعلق بالمعاملات والمفاوضات السياسية.

  • (٦)

    لا تدخل الحكومة المصرية في أي اتفاق سياسي مع دولة أجنبية بدون أن تستطلع رأي حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى بواسطة القوميسير العالي البريطاني.

  • (٧)

    تتمتع الحكومة المصرية بحق تعيين ممثلين قنصليين في الخارج حسب مقتضيات مصالحها.

  • (٨)

    لأجل تولي الشئون السياسية بوجهٍ عام، والقيام بالحماية القنصلية للمصالح المصرية في الأماكن التي لا يوجد فيها ممثلون سياسيون أو قناصل مصريون، يضع ممثلو جلالة ملك بريطانيا العظمى أنفسهم تحت تصرف الحكومة المصرية، ويقدمون لها كل مساعدة في قدرتهم.

  • (٩)

    تستمر حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى على تولي المفاوضة لإلغاء الامتيازات الحالية مع الدول ذوات الامتيازات، وتقبل مسئولية حماية المصالح المشروعة للأجانب في مصر، وتتداول حكومة جلالة الملك مع الحكومة المصرية قبل البت في هذه المفاوضات رسميًّا.

ثالثًا: النصوص العسكرية

  • (١٠)

    تتعهد بريطانيا العظمى بمساعدة مصر في الدفاع عن مصالحها الحيوية، وعن سلامة أراضيها.

    لأجل القيام بهذه التعهدات، ولحماية المواصلات الإمبراطورية البريطانية الحماية اللازمة، تكون للقوات البريطانية حرية المرور في مصر، ولها أن تستقر في أي مكان في مصر ولأية مدة يُحددان من وقتٍ لآخر، ويكون لها أيضًا في كل وقت ما لها الآن من التسهيلات لإحراز واستعمال الثكنات وميادين التمرين والمطارات والترسانات الحربية والمين الحربية.

رابعًا: استخدام الموظفين الأجانب

  • (١١)

    بالنظر للمسئوليات الخاصة التي تتحملها بريطانيا العظمى، وبالنظر للحالة القائمة في الجيش المصري والمصالح العمومية، تتعهد الحكومة المصرية بألا تُعين ضباطًا أو موظفين أجانب في أية مصلحة منها قبل موافقة القوميسير العالي البريطاني.

خامسًا: الإدارة المالية

  • (١٢)
    تُعين الحكومة المصرية بعد استشارة In consultation with حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى قوميسيرَ ماليًّا تُوكل إليه في الوقت المناسب الحقوق التي يقوم بها الآن أعضاء صندوق الدين، ويكون هذا القوميسير المالي مسئولًا بوجه أخص عن دفع المطلوبات الآتية في مواعيدها:
    • (أ)

      المبالغ المخصصة لميزانية المحاكم المختلطة.

    • (ب)

      جميع المعاشات والسنويات الأخرى المستحقة للموظفين الأجانب المحالين على المعاش وورثتهم.

    • (جـ)

      ميزانيتي القوميسيرين المالي والقضائي والموظفين التابعين لهما.

  • (١٣)

    لأجل أن يؤدي القوميسير المالي واجباته كما ينبغي، يجب أن يُحاط إحاطة تامة بجميع الأمور الداخلة في دائرة وزارة المالية، ويكون له في كل وقت التمتع بحق الدخول على رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية.

  • (١٤)

    ليس للحكومة المصرية عقد قرض خارجي أو تخصيص إيرادات مصلحة عمومية بدون موافقة القوميسير العالي.

سادسًا: الإدارة القضائية

  • (١٥)

    تُعين الحكومة المصرية بالاتفاق مع حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى قوميسيرَ قضائيًّا يُكلف — بسبب التعهدات التي تحملتها بريطانيا العظمى — القيام بمراقبة تنفيذ القانون في جميع المسائل التي تمس الأجانب.

  • (١٦)

    لأجل أن يؤدي القوميسير القضائي واجباته كما ينبغي، يجب أن يُحاط إحاطة تامة بجميع الأمور التي تمس الأجانب، وتكون من اختصاص وزارة الحقانية والداخلية، ويكون له في كل وقت التمتع بحق الدخول على وزيري الحقانية والداخلية.

سابعًا: السودان

  • (١٧)

    حيث إن رُقي السودان السلمي هو من الضروريات لأمن مصر، ولدوام مورد المياه لها، تتعهد مصر بأن تستمر في أن تُقدم لحكومة السودان نفس المساعدات الحربية التي كانت تقوم بها في الماضي، أو أن تُقدم بدلًا من ذلك لحكومة السودان إعانة مالية تُحدد قيمتها بالاتفاق بين الحكومتين.

    تكون كل القوات المصرية في السودان تحت أمر الحاكم العام.

    وغير ذلك تتعهد بريطانيا العظمى بأن تضمن لمصر نصيبها العادل من مياه النيل، ولهذا الغرض قد تَقرر أن لا تُقام أعمال ري جديدة على النيل أو روافده جنوبي وادي حلفا بدون موافقة لجنة مؤلفة من ثلاثة أمناء؛ يمثل أحدهم مصر، والثاني السودان، والثالث أوغندا.

ثامنًا: قروض الجزية

  • (١٨)

    المبالغ التي تعهد خديويو مصر في أوقات مختلفة بدفعها للبيوت المالية التي أصدرت القروض التركية المضمونة بالخزينة المصرية تستمر الحكومة المصرية على تخصيصها كما كان في الماضي؛ لدفع الفوائد والاستهلاك لقرضي سنة ١٨٩٤ وسنة ١٨٩١ إلى أن يتم استهلاك هذين القرضين.

    تستمر الحكومة المصرية أيضًا في دفع المبالغ التي كان جاريًا دفعها لسداد فوائد قرض سنة ١٨٥٥ المضمون.

    عندما يتم استهلاك قروض سنة ١٨٩٤ وسنة ١٨٩١ وسنة ١٨٥٥ تنتهي مسئولية الحكومة المصرية فيما يتعلق بأي تعهد ناشئ عن الجزية التي كانت تدفعها مصر لتركيا سابقًا.

تاسعًا: اعتزال الموظفين والتعويض المستحق لهم

  • (١٩)

    للحكومة المصرية الحق في أن تستغني عن خدمة الموظفين البريطانيين في أي وقت كان بعد نفاذ هذه المعاهدة بشرط أن يُمنح هؤلاء تعويضًا ماليًّا — كما سيأتي بيانه — وذلك زيادة على المعاش أو المكافأة التي يستحقونها بمقتضى أحكام استخدامهم.

    ويكون للموظفين البريطانيين الحق بنفس هذه الشروط في الاستعفاء من الخدمة في أي وقت بعد نفاذ هذه المعاهدة.

    تسري جميع هذه الأحكام على الموظفين الذين لهم الحق في المعاش، والذين ليس لهم الحق في المعاش، وأيضًا على موظفي البلديات ومجالس المديريات والهيئات المحلية الأخرى.

  • (٢٠)

    الموظفون المرفوتون أو المحالون على المعاش طبقًا لنص المادة السابقة تُعطى لهم زيادة على التعويض إعانة إياب لبلادهم تكون كافية لسد نفقات ترحيل الموظف نفسه وعائلته ومتاعه المنزلي إلى لندره.

  • (٢١)

    تُدفع التعويضات والمعاشات بالجنيهات المصرية باعتبار سعر ثابت قدره ٩٧ قرشًا صاغًا ونصف قرش صاغ للجنيه الإنجليزي.

  • (٢٢)
    يوضع جدول عن التعويضات:
    • (أ)

      للموظفين الدائمين.

    • (ب)

      للموظفين المؤقتين.

    بمعرفة رئيس جمعية خبراء حسابات التأمين Society of Actuaries.

عاشرًا: حماية الأقليات

  • (٢٣)

    تتعهد مصر بأن النصوص الوارد ذكرها فيما بعد تعتبر قوانين أساسية، وألا يتضارب معها أو يؤثر عليها أي قانون أو لائحة أو عمل رسمي، وألا ينقض مفعولها قانون أو لائحة أو عمل رسمي.

  • (٢٤)

    تتعهد مصر بأن تضمن لجميع سكان مصر الحماية التامة الكاملة لأرواحهم وحريتهم من غير تمييز بسبب مولدهم أو تبعيتهم الأولية أو لغتهم أو جنسهم أو دينهم.

    يكون لجميع سكان مصر الحق في أن يقوموا بحرية تامة علانيةً أو غير علانيةً بشعائر أية مِلَّة أو دين أو عقيدة ما دامت هذه الشعائر لا تنافي النظام العام أو الآداب العمومية.

  • (٢٥)

    جميع الحائزين للرعوية المصرية يكونون متساوين أمام القانون، ويكون لكل منهم التمتع بما يتمتع به الآخرون من الحقوق المدنية والسياسية من غير تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين.

    اختلاف الأديان والعقائد والمذهب لا يؤثر على أي شخص حائز للرعوية المصرية في المسائل الخاصة بالتمتع بالحقوق المدنية والسياسية، مثل: الدخول في الخدمات العمومية والتوظف، والحصول على ألقاب الشرف أو مزاولة المهن أو الصناعات.

    لا يسوغ فرض أي قيد على أي شخص متمتع بالرعوية المصرية في حرية استعماله لأية لغة في معاملاته الخصوصية أو التجارية أو في الدين أو في الصحف أو في المطبوعات من أي نوع كانت أو في الاجتماعات العمومية.

  • (٢٦)

    الأشخاص الحائزون للرعوية المصرية التابعون للأقليات القومية أو الدينية أو اللغوية يكون لهم الحق في القانون وفي الواقع في نفس المعاملة والضمانات التي يتمتع بها غيرهم من الحائزين للرعوية المصرية، وعلى الخصوص يكون لهم حق مساوٍ لحق الآخرين في أن يُنشئوا أو يديروا أو يراقبوا على نفقتهم معاهد خيرية أو دينية أو اجتماعية ومدارس أو غيرها من دور التربية، ويكون لهم الحق في أن يستعملوا فيها لغتهم الخاصة، وأن يقوموا بشعائر دينهم بحرية فيها.

(٣) المذكرة التفسيرية: تبليغ من نائب جلالة الملك إلى حضرة صاحب العظمة سلطان مصر في ٣ ديسمبر سنة ١٩٢١

يا صاحب العظمة:

إنه بموجب التعليمات التي وصلتني من حكومة جلالة الملك، لي الشرف أن أرفع إلى مقام عظمتكم البيان الآتي المتضمن آراء حكومة جلالته فيما يتعلق بالمفاوضات التي جرت حديثًا مع الوفد المرسل من قِبل عظمتكم تحت رئاسة صاحب الدولة عدلي يكن باشا، أن حكومة جلالته قدمت إلى عدلي باشا مشروع اتفاق لعقد معاهدة بين الإمبراطورية البريطانية ومصر، كانت حكومة جلالته على استعداد لأن توصي جلالة الملك ومجلس النواب بقبوله، ولكنها علمت بمزيد الأسف أن ذلك المشروع لم يَحُز قبولًا لديه، ومما زاد أسفها أنها تعتبر اقتراحاتها هذه سخية في جوهرها واسعة النطاق في نتائجها، فإنها لا يمكنها أن تبقى محلًّا لأي أمل في إعادة النظر في المبدأ الذي بُنيت عليه تلك الاقتراحات؛ لذلك كان من المستحسن أن تُحيط حكومة جلالته علم عظمتكم إحاطة وافية بالاعتبارات الرئيسية التي استرشدت بها، وبالروح التي صدرت عنها تلك الاقتراحات.

إن هناك حقيقة جلية سادت العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر مدة أربعين سنة — ويجب أن تبقى هذه الحقيقة سائدة على الدوام — وهي التوافق التام بين مصالح بريطانيا العظمى في مصر وبين مصالح مصر نفسها. إن استقلال الأمة المصرية وسيادتها كلاهما عظيم الأهمية للإمبراطورية البريطانية. إن مصر واقعة على خط المواصلات الرئيسي بين بريطانيا العظمى وممتلكات جلالة الملك في الشرق، وجميع الأراضي المصرية هي في الواقع ضرورية لهذه المواصلات؛ لأن مصر لا يمكن فصلها عن سلامة منطقة قناة السويس؛ لذلك فإن حفظ مصر سالمة من تسلط أية دولة عظيمة أخرى عليها هو في الدرجة الأولى من الأهمية للهند وأستراليا ونيوزيلاندة ولجميع مستعمرات وولايات جلالته في الشرق، ويؤثر في سعادة وسلامة نحو ثلاثماية وخمسين مليونًا من رعايا جلالته. ثم إن نجاح مصر يهم هذه البلاد ليس لأن كُلًّا من بريطانيا العظمى ومصر هي أفضل عملية للأخرى فقط، بل لأن كل خطر جسيم على مصلحة مصر التجارية أو المالية يدعو إلى مداخلة الدول الأخرى فيها ويهدد استقلالها. هذه كانت البواعث الرئيسية للعلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر، وهي لا تزال الآن على ما كانت عليه من القوة في العام الماضي.

لقد اعترف الجميع بما أصاب هذا الائتلاف من النجاح بوجه عام أثناء الحرب العظمى، ولما بدأت بريطانيا العظمى تهتم بمصر اهتمامًا فعليًّا كان المصريون فريسة الاحتلال المالي والفوضى الإدارية، وكانوا تحت رحمة أي قادم، ولم يكن في طاقتهم مقاومة ضروب الوسائل القتالة للاستغلال الأجنبي — تلك الوسائل التي تسلب من نفوس الأمة كرامتها، وتمحو قواها الحيوية — فإذا كانت الأمة المصرية الآن أمة نشيطة ذات كرامة، فإنها مدينة لهذه النهضة على الخصوص لمعونة بريطانيا العظمى ومشورتها. إن المصريين سَلِموا من المداخلة الأجنبية، وأُعينوا على إنشاء نظام إداري، وإنه وقد تدرب عدد كبير منهم على إدارة الأمور والحكم واطرد نمو مقدرتهم، ونجحت ماليتهم نجاحًا فوق المنتظر، وقد قامت سعادة جميع الطبقات على أُسس ثابتة، وفي هذا التقدم السريع لم يكن هناك ظل للاستغلال؛ أن بريطانيا العظمى لم تطلب لنفسها ربحًا ماليًّا أو امتيازًا تجاريًّا. والأمة المصرية قد جنت كل ثمار مشورة بريطانيا العظمى ومساعدتها لها. إن نشوب نار الحرب بين الدول الأوروبية العظمى سنة ١٩١٤ زاد بالضرورة عُرى الائتلاف توثيقًا بين الإمبراطورية البريطانية ومصر، ولما انضمت الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا في الحرب لم يكن أثر ذلك قاصرًا على تهديد المواصلات البريطانية وحدها، بل كان مهددًا لها ولاستقلال مصر على السواء تهديدًا عاجلًا، فكان إعلان الحماية على مصر اعترافًا بهذه الحقيقة، وهي أنه لا يمكن دفع الخطر عن الإمبراطورية البريطانية ومصر معًا إلا بعمل مشترك تحت قيادة واحدة. كان اتساع نطاق الحرب بدخول تركيا فيها السبب في قتل وتشويه آلاف من رعايا جلالة الملك من الهند وأستراليا ونيوزيلاندة ومن رجال بريطانيا العظمى أيضًا، وقبورهم في غاليبولي وفلسطين والعراق شاهدة على الجهد العظيم الذي كابدته شعوب الإمبراطورية البريطانية بسبب دخول تركيا. قد اجتازت مصر هذه المحنة دون أن يمسها ضرر بفضل جهود من بعثت بهم تلك الشعوب من الجنود، فكانت خسائر مصر طفيفة، ولم يزِد دينها وثروتها لآنٍ أعظم مما كانت قبل الحرب في حين أن الكساد الاقتصادي قد اشتدت وطأته على أكثر البلدان الأخرى، فليس من الحكمة أن الشعب المصري يتغاضى عن هذه الحقائق أو ينسى لمن هو مدين بذلك كله. ولولا القوة التي أبدتها الإمبراطورية البريطانية في الحرب لأصبحت مصر ميدان حرب بين القوات المتحاربة ولوطئت هذه القوات حقوق مصر بأقدامها وأفنت ثروتها، ولولا نصر الحلفاء لم تكن في مصر أمة الآن تطالب بحقوق السيادة الوطنية بدلًا عن حماية أجنبية، فالحرية التي تتمتع بها مصر الآن وما تتطلع إليه من حرية أوسع إنما هي مدينة بهما للسياسة البريطانية والقوة البريطانية.

إن حكومة جلالة الملك مقتنعة بأن الاتفاق التام في المصالح بين بريطانيا العظمى ومصر — الذي جُعِلَ ائتلافًا نافعًا لكلتيهما في الماضي — هو دعامة العلاقة التي يجب على كلتيهما استمرار المحافظة عليها، وعلى الإمبراطورية البريطانية الآن — كما كان في الماضي — أن تحمل على عاتقها في آخر الأمر مسئولية الدفاع عن أراضي عظمتكم ضد أي تهديد خارجي، وكذلك عليها تقديم المعونة التي قد تطلبها في أي وقت حكومة عظمتكم لحفظ سلطتكم في البلاد. ثم إن حكومة جلالة الملك تطلب فوق ذلك أن يكون لها دون غيرها الحق في تقديم ما قد تحتاج حكومة عظمتكم من المشورة في إدارة البلاد وتدبير ماليتها وترقية نظامها القضائي ومواصلة علاقاتها مع الحكومات الأجنبية. على أن حكومة جلالته لا ترمي من وراء هذه المطالب إلى منع مصر من تمتعها بكامل حقوقها في حكومة ذاتية وطنية، بل هي ترمي بذلك إلى التمسك بها قبل الدول الأجنبية الأخرى، وهذه المطالب قوامها تلك الحقيقة، وهي أن استقلال مصر واستتباب النظام فيها وسعادتها ركن أساسي لسلامة الإمبراطورية البريطانية. فحكومة جلالة الملك تأسف على أن مندوبي عظمتكم لم يتقدموا أثناء المفاوضات تقدمًا يُذكر في سبيل الاعتراف بما للإمبراطورية البريطانية — دون سواها — من الأسباب الصحيحة للتمسك بهذه الحقوق والمسئوليات.

إن شروط المعاهدة التي تعتبرها حكومة جلالة الملك ضرورية لحفظ هذه الحقوق وكفالة هذه المسئوليات قد أُدرجت في مواد المشروع الذي سيرفعه إلى عظمتكم صاحب الدولة عدلي باشا، وأهم هذه الشروط هو ما يتعلق بالجنود البريطانية. فإن حكومة جلالة الملك قد عُنيت أتم عناية ببحث الأدلة التي قدمها الوفد المصري في هذا الشأن، ولكنها لم تستطع أن تقبلها؛ لأن حالة العالم الحاضرة ومجرى الأحوال في مصر منذ عقد الهدنة لا يسمحان بأي تعديل كان في توزيع القوات البريطانية في الوقت الحاضر، ومن الواجب إعادة القول بأن مصر هي جزء من مواصلات الإمبراطورية البريطانية، ولم يكَد يمضي جيل على مصر منذ أُنقذت من الفوضى، وهناك علامات على أنه لا يبعد على المتطرفين في الحركة الوطنية أن يزجوا بمصر ثانيةً في الهوة التي لم يطل العهد على إنقاذها منها، وقد زاد اهتمام جلالة الملك بهذا الشأن؛ لما رآه من عدم رغبة وفد عظمتكم في الاعتراف بأن الإمبراطورية البريطانية يجب أن يكون عندها ضمان قوي ضد أي تهديد مثل هذا لمصالحها، وإلى أن يحين الوقت الذي يكون فيه سلوك مصر مدعاة إلى الثقة بالضمانات التي تعطيها يكون من الواجب على الإمبراطورية البريطانية نفسها أن تستبقي ما تراه كافيًا من الضمانات، وأول هذه الضمانات ورأسها هو وجود جنود بريطانية في مصر وحكومة جلالة الملك لا يمكنها أن تتخلى عن هذا الضمان ولا أن تنقص منه.

على أنها تعيد القول وتؤكده بأن مطالبها في هذا الصدد لا يُقصد بها استمرار حماية لا فعلًا ولا حكمًا، بل — بالعكس — إن أمنيتها القلبية الخالصة هي أن تتمتع مصر بحقوق وطنية، ويكون لها بين الأمم مقام دولة متمتعة بحق السيادة على أن تكون مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالإمبراطورية البريطانية بمعاهدة تكفل للفريقين مصالحهما وأغراضهما المشتركة؛ ولهذه الغاية التي جعلتها حكومة جلالته نُصب عينيها اقترحت رفع الحماية فورًا والاعتراف بمصر «دولة متمتعة بحقوق السيادة تحت إمرة ملوكية دستورية»، والاستعاضة عن العلاقات القائمة الآن بين الإمبراطورية البريطانية ومصر «بمعاهدة دائمة رابطة سلام ووداد وتحالف»، وكانت حكومة جلالته تأمل أن مصر بإعادة وزارة الخارجية ترسل ممثليها في الحال إلى الممالك الأجنبية، كما أنها كانت على استعداد لتعضيد مصر في انضمامها إلى جمعية الأمم إذا طلبت ذلك؛ وبذلك كان يتحقق لمصر في الحال ما للدول المتمتعة بحقوق السيادة من السلطة والميزات.

ولكن رفض حكومة عظمتكم الحاضرة لهذه الاقتراحات أوجد حالة جديدة، وهذه الحالة لا تؤثر في مبدأ السياسة البريطانية، ولكنها بالضرورة تقلل من التدابير التي يمكن تنفيذها الآن؛ ولذلك فإن حكومة جلالة الملك ترغب أن تبدي بوضوح حالة موقفها الآن.

ففيما يتعلق بالحاضر لا يمكن لحكومة جلالته تنفيذ اقتراحاتها بدون رضاء الأمة المصرية واشتراكها، ولكن حكومة جلالته تحافظ على الرغبة التي كانت لديها على الدوام، وهي العمل على إنماء مواهب المصريين بزيادة عدد الموظفين منهم في كل فرع، ولا سيما في الفروع الإدارية العالية التي كثر فيها عدد الموظفين الأوروبيين، وحكومة جلالته مستعدة لأن تواصل بمشاورة حكومة عظمتكم المفاوضات مع الدول الأجنبية لأجل إلغاء الامتيازات؛ لكي يكون الموقف الدولي جليًّا عندما يحين وقت إصدار التشريع المصري الذي سيحل محل تلك الامتيازات، وكذلك ترجو حكومة جلالته أن السلطة التي يباشرها الآن القائد العام تحت القانون العسكري، تباشرها الحكومة المصرية وحدها بمقتضى القوانين المدنية المصرية، وهي تُسر برفع الأحكام العسكرية حالما يصدر «قانون التضمينات» ويُعمل به في كل المحاكم المدنية والجنائية في مصر.

وهو قانون لا بد منه لحماية الحكومة المصرية، وحماية السلطة البريطانية في مصر.

وأما من جهة المستقبل، فإن حكومة جلالة الملك ترغب أن توضح بعبارة جلية السياسة التي تنوي اتباعها؛ فقد علمت أن المشروع الذي قدمته إلى وفد عظمتكم قد رُفِضَ بحجة أن الضمانات التي تضمنها المشروع لصيانة المصالح البريطانية والأجنبية؛ تقضي على التمتع بالحكومة الذاتية تمتعًا صحيحًا، وهي تأسف غاية الأسف على أن استبقاء الجنود البريطانية في مصر واشتراك الموظفين البريطانيين مع وزارتي الحقانية والمالية يُساء فهم المراد منهما إلى هذا الحد. إذا كان الشعب المصري يستسلم إلى أمانيه الوطنية — مهما كانت هذه الأماني صحيحة ومشروعة في ذاتها — دون أن يكترث اكتراثًا كافيًا بالحقائق التي تستحكم في الحياة الدولية، فإن تقدُّمه في سبيل تحقيق مطمحه الأسمى لا يصيبه التأخير فقط بل يتعرض للخطر تعرضًا تامًّا؛ إذ ليس من فائدة تُرجى من وراء التصغير من شأن ما على الأمة من الواجبات، وتعظيم ما لها من الحقوق، وأن الزعماء المتطرفين الذين يدعون إلى هذا لا يعملون على نهوض مصر بل يهددون رُقيها. وهم بما كان لهم من الأثر في مجرى الحوادث قد تحدوا مرة بعد مرة الدول الأجنبية في مصالحها وأثاروا مخاوفها، وكذلك عملوا في الأسابيع الأخيرة على التأثير على مصير المفاوضات بنداءات مهيجة استثاروا بها جهل العامة وشهواتهم. وأن حكومة جلالة الملك لا تعتبر أنها تخدم مصلحة مصر بتساهلها إزاء تهييج من هذا القبيل، ولن يمكنوا مصر أن تسير في سبيل الرُّقي إلا متى أظهر قادتها المسئولون من الحزم والعزيمة ما يكفل قمع مثل هذا التهييج، فإن العالم الآن تألم من جهات عديدة من الاندفاع في نوع من الوطنية المتعصبة المضطربة، وحكومة جلالة الملك تقاوم هذا النوع من الوطنية بكل شدة سواء في مصر أو في غيرها، وأن أولئك الذين يستسلمون لتلك النزعات إنما يعملون على جعل القيود الأجنبية التي يطلبون الخلاص منها أشد لزومًا، وبذلك يُطيلون أجلها.

وإذ كان الأمر كذلك، فإن حكومة جلالة الملك مراعاةً لمصلحة مصر ومصلحتها الخاصة أيضًا تستمر بلا تردد على مواصلة غرضها كمرشدة لمصر، وأمينة على مصالحها، ولا يكفيها أن تعلم أن في استطاعتها العودة إلى مصر إذا تبين أن مصر بعد أن تُركت لنفسها بغير معونة قد عادت إلى عهد التبذير والاضطراب الذي لازمها في القرن الماضي. فرغبة حكومة جلالة الملك أن تستكمل العمل الذي بُدئ به في عهد اللورد كرومر لا أن تبدأه من جديد، وهي لا تنوي أن تُبقي مصر تحت وصايتها بل — بالعكس — ترغب في تقوية عناصر التعمير في الوطنية المصرية، وتوسيع مجال العمل أمامها، وتقريب الوقت الذي يمكن فيه تحقيق المطمح الوطني تحقيقًا تامًّا، ولكنها ترى من الواجب أن تصر على الاحتفاظ بالحقوق والسلطة الفعالة لأجل صيانة مصالح مصر ومصالحها الخاصة على السواء، وذلك إلى أن يُظهر الشعب المصري أنه قادر على صيانة بلاده من الاضطراب الداخلي، وما يترتب عليه حتمًا من تداخل الدول الأجنبية.

وسبيل التقدم الوحيد للشعب المصري يقوم على تآزره مع الإمبراطورية البريطانية لا على تنافرهما، وحكومة جلالته لرغبتها في هذا التآزر مستعدة فيما يتعلق بها إلى البحث في أية طريقة قد تُعرض عليها لأجل تنفيذ اقتراحاتها في جوهرها، وذلك في أي وقت تريده حكومة عظمتكم، على أنها مع هذا لا يسعها تعديل المبدأ الذي بُنيت عليه تلك الاقتراحات، ولا إضعاف الضمانات الجوهرية التي تشتمل عليها، وهذه الاقتراحات من مقتضاها أن يكون مستقبل مصر في أيدي الشعب المصري بنفسه، فكلما زاد اعتراف شعبكم بوحدة المصالح البريطانية ومصالحه قلَّت الحاجة إلى هذه الضمانات. وقادة مصر المسئولون هم الذين عليهم في هذا العهد الثاني من اشتراكهم مع بريطانيا العظمى أن يثبتوا، بقبولهم النظام الوطني المعروض عليهم الآن وبالتزام جانب الحكمة في العمل به، أن المصالح الحيوية للإمبراطورية البريطانية في بلادهم يمكن أن تُوكَل لعنايتهم بالتدريج.

(٤) رد الوفد الرسمي على مشروع الاتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر

اطلع الوفد الرسمي المصري على المشروع الذي سلمه اللورد كرزون إلى رئيس الوفد بتاريخ ١٠ نوفمبر سنة ١٩٢١.

ولقد رأى أن هذا المشروع تضمن — فيما يتعلق بأكثر المسائل التي تناولتها مناقشاتنا والمذكرات التي تبادلناها منذ أربعة شهور — نفس النصوص والصيغ التي عُرِضت علينا عند بدء المفاوضات ولم نقبلها حينئذ.

فعن المسألة العسكرية — وهي ذات أهمية كبرى — استبقى المشروع الحل الذي قاومناه أشد مقاومة، ولم يقتصر على ذلك بل توسع في مرماه بما جعله أشد وطأة. على أن حماية المواصلات الإمبراطورية، وهي التي قيل في مفاوضات العام الماضي إنها العلة الوحيدة لوجود قوة عسكرية في القُطر المصري، لا تبرر هذا الحل.

ففي حين أنه كان يكفي تعيين نقطة في منطقة القنال تنحصر فيها طرق ووسائل المواصلات الإمبراطورية، وكذلك القوة التي تتولى حمايتها، نص المشروع على تخويل بريطانيا العظمى الحق في إبقاء قوات عسكرية في كل زمان وفي أي مكان بالأراضي المصرية، ووضع أيضًا تحت تصرفها كل ما لدى القُطر من وسائل المواصلات وطرقها، وهذا إنما هو الاحتلال بذاته، الاحتلال الذي يهدم كل معنى للاستقلال، بل ويذهب إلى حد القضاء على السيادة الداخلية. على أن الاحتلال العسكري في الماضي، ولو لم تكن له إلا صفة مؤقتة، قد كفى لأن يثبت لبريطانيا العظمى المراقبة المطلقة على الإدارة كلها، وإن لم يكن هناك أي نص في معاهدة أو تقرير لأية سلطة.

أما مسألة العلاقات الخارجية، وهي المسألة الوحيدة التي عُدِّلت فيها الصيغة الأولى التي كانت وضعتها وزارة الخارجية البريطانية، وذلك بقبول مبدأ التمثيل، فإن المشروع قد أحاط الحق الذي اعتُرف لنا به بقيود كثيرة أصبح معها بمثابة حق وهمي؛ إذ لا يُتصور أن تتوفر لدى وزير الخارجية الحرية التي يقتضيها القيام بأعباء منصبه وتحمل مسئوليته إذا كان ملزمًا بنص صريح بأن يبقى على اتصال وثيق بالمندوب السامي، فإن ذلك معناه أن يكون خاضعًا في الواقع لمراقبته مباشرةً في إدارة الأمور الخارجية، وعدا ذلك فإن الالتزام بالحصول على موافقة بريطانيا العظمى على جميع الاتفاقات السياسية — حتى ما لا يتناقض منها مع روح التحالف — فيه إخلال خطير بمبدأ السيادة الخارجية. وأخيرًا فإن استبقاء لقب المندوب السامي، وهو لقب لم تجرِ العادة بمنحه إلى الممثلين السياسيين لدى البلاد المستقلة، لهو أوضح في الدلالة على طبيعة النظام السياسي المقترَح لمصر.

ومن جهة أخرى فإن تأجيل مسألة الامتيازات دعانا إلى الاعتقاد بأنه لم تبقَ حاجة إلى النص عليها في المعاهدة، وأن المفاوضة بشأنها في المستقبل تكون موكولة إلى مصر صاحبة الشأن الأول مع معاونتها في ذلك سياسيًّا من جانب حليفتها. ولكن المسألة منظور إليها اليوم كأنها تعني على الأخص بريطانيا العظمى التي تتولى من الآن حماية المصالح الأجنبية، وتريد أن تباشر وحدها عند الاقتضاء المفاوضات بشأن إلغاء الامتيازات.

أما فيما يتعلق بالمندوبين (القوميسيرين) المالي والقضائي، وبتداخلهما في إدارة الشئون الداخلية كلها باسم حماية المصالح الأجنبية تداخلًا قد يصل في بعض الأحوال فيما يختص بالمندوب (القوميسير) المالي إلى شل سلطة الحكومة والبرلمان، فإننا لا نريد هنا أن نكرر ما سبق لنا إبداؤه من الاعتراضات في مذكراتنا.

على أنه يتحتم علينا القول بأن المناقشات التي تلت تأجيل مسألة الامتيازات بعثت في نفوسنا الشعور بأن الاتفاق فيما يتعلق بحماية المصالح الأجنبية سيقوم على قواعد أكثر ملاءمة للسيادة المصرية.

أما مسألة السودان التي لم يكن قد تناولها البحث فلا بد لنا فيها من توجيه النظر إلى أن النصوص الخاصة بها لا يمكن التسليم بها من جانبنا؛ فإن هذه النصوص لا تكفل لمصر التمتع بما لها على تلك البلاد من حق السيادة الذي لا نزاع فيه وحق السيطرة على مياه النيل.

•••

إن الملاحظات المتقدمة لا تجعل ثمة حاجة إلى مناقشة المشروع تفصيلًا؛ إذ فيها ما يكفي للدلالة على روحه ومرماه، وغير هذا فقد التزم المشروع تكرار ذكر تعهدات بريطانيا العظمى و«المسئوليات الخصوصية» الواقعة على المندوب السامي، وكذلك الغرض الجديد — وهو قصد صيانة المصالح الحيوية لمصر — الذي اتُّخذ سببًا لوجود القوة العسكرية، وبهذا تتم للمشروع صيغة الوصاية الفعلية.

إنَّا لما قبلنا المهمة التي عهد بها إلينا عظمة السلطان كنا نؤمل الوصول إلى إبرام معاهدة تحالف مؤيدة لاستقلال مصر تأييدًا حقيقيًّا، وكفيلة في الوقت نفسه بصيانة المصالح البريطانية، وعندئذ فإن مصر حليفة بريطانيا العظمى كانت تعد من واجبات كرامتها الوفاء بإخلاص بما تقطعه على نفسها من العهود، ولكن التحالف بين أمتين لا يمكن أن يتحقق إلا على شريطة أن لا يُقضى على إحداهما بالخضوع الدائم.

وإن روح المسالمة التي سادت مناقشاتنا كانت تسمح لنا بالتفاؤل بنجاح المفاوضات، ولكن المشروع الذي أمامنا لم يحقق هذا الأمل، فهو بحالته لا يجعل محلًّا للأمل في الوصول إلى اتفاق يحقق أماني مصر الوطنية.

لوندره في ١٥ نوفمبر سنة ١٩٢١

(٥) الوثيقتان الجديدتان: كتاب اللورد اللنبي إلى عظمة السلطان

يا صاحب العظمة

  • (١)

    أتشرف بأن أعرض لمقام عظمتكم أن الناس قد ذهبوا في تأويل بعض عبارات المذكرة التفسيرية التي قدمتها إلى عظمتكم في الثالث من شهر ديسمبر مذاهب تخالف أفكار الحكومة البريطانية وسياستها، وهو ما آسف له أشد الأسف.

  • (٢)

    ولقد يخال المرء مما نُشر عن هذه المذكرة من التعليقات العديدة أن كثيرًا من المصريين أُلقي في رُوعهم أن بريطانيا العظمى توشك أن ترجع في نواياها القائمة على التسامح والعطف على الأماني المصرية، وأنها تنوي الانتفاع بمركزها الخاص بمصر؛ لاستبقاء نظام سياسي إداري لا يتفق والحريات التي وعدت بها.

  • (٣)

    غير أنه ليس شيء أبعد عن خاطر الحكومة البريطانية من هذه الفكرة، بل إن الأساس الذي بُنيت عليه المذكرة التفسيرية هو أن الغاية من الضمانات التي تطلبها بريطانيا العظمى ليست إبقاء الحماية حقيقةً أو حكمًا، وقد نصت المذكرة على أن بريطانيا العظمى صادقة الرغبة في أن ترى مصر متمتعة بما تتمتع به البلاد المستقلة من ميزات أهلية ومن مركز دولي.

  • (٤)

    وإذا كان المصريون قد رأوا في هذه الضمانات أنها تجاوزت الحد الذي يلتئم مع حالة البلاد الحرة فقد غاب عنهم أن إنكلترا إنما ألجأها إلى ذلك حرصها على سلامة نفسها تلقاء حالة تتطلب منها أشد الحذر خصوصًا فيما يتعلق بتوزيع القوات العسكرية. على أن الأحوال التي يمر بها العالم الآن لن تدوم، ولا يلبث كذلك أن يزول الاضطراب السائد في مصر منذ الهدنة، والأمل وطيد في أن الأحوال العالمية صائرة إلى التحسن. هذا من جانب، ومن جانب آخر — فكما قيل في المذكرة — سيجيء وقت تكون فيه حالة مصر مدعاة إلى الثقة بما تُقدمه هي من الضمانات المصرية لصيانة المصالح الأجنبية.

  • (٥)

    أما أن تكون إنكلترا راغبة في التداخل في إدارة مصر الداخلية، فذلك ما قالت فيه الحكومة البريطانية — ولا تزال تقول — إن أصدق رغباتها وأخلصها هو أن تترك للمصريين إدارة شئونهم، ولم يكن يخرج مشروع الاتفاق الذي عرضته بريطانيا العظمى عن هذا المعنى، وإذا كان قد ورد فيه ذكر موظفين بريطانيين لوزارتي المالية والحقانية، فإن الحكومة البريطانية لم ترُم بذلك إلى استخدامهما للتداخل في شئون مصر، وكل ما قصدته هو أن تستبقي أداة اتصال تستدعيها حماية المصالح الأجنبية.

  • (٦)

    هذا هو كل مرمى الضمانات، ولم تصدر هذه الضمانات قط عن رغبة في الحيلولة بين مصر وبين التمتع بحقوقها الكاملة في حكومة أهلية.

  • (٧)

    فإذا كانت هذه هي نوايا إنكلترا، فلا يمكن لأحد أن ينكر أن إنكلترا يعز عليها أن ترى المصريين يؤخرون بعملهم حلول الأجل الذي يبلغون فيه مطمحًا ترغب فيه إنكلترا كما تتوق إليه مصر، أو أن ينكر أنها تكره أن ترى نفسها مضطرة إلى التداخل لرد الأمن إلى نصابه كلما أدركه اختلال يثير مخاوف الأجانب ويجعل مصالح الدول في خطر، وإنه ليكون مما يؤسف له أن يرى المصريون في التدابير الاستثنائية التي اتُخذت أخيرًا أي مساس بمطمحهم الأسمى أو أية دلالة على تغيير القاعدة السياسية التي سبق بيانها. فإن الحكومة البريطانية لم يعُد غرضها أن تضع حدًّا لتهييج ضار قد يكون لتوجيهه إلى أهواء العامة نتائج تذهب بثمرة الجهود القومية المصرية؛ ولذلك كان الذي روعي بوجه خاص فيما اتُّخذ من التدابير مصلحة القضية المصرية التي تستفيد من أن البحث فيها يجري في جوٍّ قائم على الهدوء والمناقشة بإخلاص.

  • (٨)

    والآن وقد بدت تعود السكينة إلى ما كانت عليه بفضل الحكمة التي هي قوام الخُلُق المصري، والتي تتغلَّب في الساعات الحاسمة، فإنني لسعيد أن أُنهي إلى عظمتكم أن حكومة جلالة الملك تنوي أن تشير على البرلمان بإقرار التصريح الملحق بهذا، وإنني على يقين بأن هذا التصريح يُوجِد حالة تسود فيها الثقة المتبادلة، ويضع الأساس لحل المسألة المصرية حلًّا نهائيًّا مُرضيًّا.

  • (٩)

    وليس ثمة ما يمنع منذ الآن من إعادة منصب وزير الخارجية، والعمل لتحقيق التمثيل السياسي والقنصلي لمصر.

  • (١٠)

    أما إنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف والرقابة على السياسة والإدارة في حكومة مسئولة على الطريقة الدستورية، فالأمر فيه يرجع إلى عظمتكم وإلى الشعب المصري.

وإذا أُبطئ لأي سبب من الأسباب إنفاذ قانون التضمينات (إقرار الإجراءات التي اتُّخذت باسم السلطة العسكرية) الساري على جميع ساكني مصر — والذي أشير إليه في التصريح الملحق بهذا — فإنني أود أن أحيط عظمتكم بأنني إلى أن يتم إلغاء الإعلان الصادر في ٢ نوفمبر سنة ١٩١٤ سأكون على استعداد لإيقاف تطبيق الأحكام العرفية في جميع الأمور المتعلقة بحرية المصريين في التمتع بحقوقهم السياسية.

فالكلمة الآن لمصر، وإنه ليُرجى أنها وقد عرفت مبلغ حُسن استعداد الحكومة البريطانية ونواياها تسترشد في أمرها بالعقل والروية لا بعامل الأهواء.

ولي مزيد الشرف، إلخ.

القاهر في ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢
اللنبي فيلد ماريشال

(٦) تصريح لمصر

بما أن حكومة جلالة الملك عملًا بنواياها التي جاهرت بها ترغب في الحال في الاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة.

وبما أن للعلاقات بين حكومة جلالة الملك وبين أهمية جوهرية للإمبراطورية البريطانية.

فبموجب هذا تعلَن المبادئ الآتية:
  • (١)

    انتهت الحماية البريطانية على مصر، وتكون مصر دولة مستقلة ذات سيادة.

  • (٢)

    حالما تصدر حكومة عظمة السلطان قانون تضمينات (إقرار الإجراءات التي اتُّخذت باسم السلطة العسكرية) نافذ العمل على جميع ساكني مصر تُلغى الأحكام العرفية التي أُعلنت في ٢ نوفمبر ١٩١٤.

  • (٣)
    إلى أن يحين الوقت الذي يتسنى فيه إبرام اتفاقات بين حكومة جلالة الملك وبين الحكومة المصرية فيما يتعلق بالأمور الآتي بيانها، وذلك بمفاوضات ودية غير مقيدة بين الفريقين، تحتفظ حكومة جلالة الملك بصورة مطلقة بتولي هذه الأمور، وهي:
    • (أ)

      تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر.

    • (ب)

      الدفاع عن مصر من كل اعتداء أو تداخل أجنبي بالذات أو بالواسطة.

    • (جـ)

      حماية المصالح الأجنبية في مصر وحماية الأقليات.

    • (د)

      السودان.

وحتى تُبرم هذه الاتفاقات تبقى الحالة فيما يتعلق بهذه الأمور على ما هي عليه الآن.

(٧) تأليف الوزارة الجديدة: أمر كريم نمرة ١٣ لسنة ١٩٢٢ صادر لحضرة صاحب الدولة عبد الخالق ثروت باشا

عزيزي عبد الخالق ثروت باشا

إن القرار الذي أبلغنا إياه صاحب المقام الجليل المندوب السامي لدولة بريطانيا العظمى فيما يختص بانتهاء الحماية البريطانية على مصر بالاعتراف بها دولة مستقلة ذات سيادة، يحقق أعز أمنية لنا ولشعبنا العزيز، وهو ثمرة الجهاد القومي الذي تعهدناه على الدوام بالتشجيع والتأييد، ولا ريب عندنا في أن استمساك الأمة بروابط الوئام والاتحاد والتزامها جانب الحكمة في هذا الدور الجديد من حياتها السياسية كفيل بتحقيق كامل أمانيها.

ونظرًا لما نعرفه لكم من الجهد المشكور في خدمة القضية المصرية، ولما لنا من الثقة التامة بكم، وما نعهده فيكم من الجدارة الكاملة للقيام بمهام الأمور، قد اقتضت إرادتنا السلطانية توجيه سند رئاسة مجلس وزرائنا مع رتبة الرئاسة الجليلة لعهدتكم، وقد أصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ في تأليف وزارة جديدة يكون من بينها وزير للخارجية، وعرض مشروعه لجنابنا لصدور مرسومنا العالي به، ولما كان من أجلِّ رغباتنا أن يكون للبلاد نظام دستوري يحقق التعاون بين الأمة والحكومة؛ لذلك يكون من أول ما تُعنى به الوزارة إعداد مشروع ذلك النظام.

وإنا نسأل الله العلي القدير أن يجعل التوفيق رائدنا فيما يعود على بلادنا ورعايانا بالخير والسعادة، وهو المستعان.

صدر بسراي عابدين
في ٢ رجب سنة ١٣٤٠ / أول مارس ١٩٢٢
الإمضاء: (فؤاد)

برنامج الوزارة

يا صاحب العظمة

أتقدم إلى سُدَّة عظمتكم بفائق الشكر على ما تفضلت فأوليتني من الثقة السامية إذ عهدت إليَّ بتأليف الوزارة الجديدة، ووجهت إليَّ رتبة الرئاسة الجليلة.

وإني لأتشرف بأن أعرض على عظمتكم أسماء الوزراء الذين تتألف منهم هيئة الوزارة، وقد قبلوا مشاركتي في العمل، وهم:
إسماعيل صدقي باشا لوزارة المالية
وإبراهيم فتحي باشا لوزارة الحربية والبحرية
وجعفر ولي باشا لوزارة الأوقاف
ومصطفى ماهر باشا لوزارة المعارف العمومية
ومحمد شكري باشا لوزارة الزراعة
ومصطفى فتحي باشا لوزارة الحقانية
وحسين واصف باشا لوزارة الأشغال العمومية
وواصف سميكة بك لوزارة المواصلات

وقد احتفظتُ بوزارتي الداخلية والخارجية.

فإذا وقع هذا الاختيار موقع الاستحسان لدى عظمتكم يصدر المرسوم العالي بالتصديق عليه.

يا صاحب العظمة

لم يكن لزملائي ولي، ونحن نشاطر الأمة أمانيها في الاستقلال، إلا أن نقر الوفد الرسمي الذي تولى المفاوضات لعقد اتفاق مع بريطانيا العظمى على ما فعل. فلم يكن يسعنا أن نتولى أعباء الحكم ما دامت المبادئ التي تسترشد بها الحكومة البريطانية في سياستها نحو مصر هي تلك التي كانت تظهر من مشروع ١٠ نوفمبر من العام الماضي، ومن المذكرة التفسيرية التي تلته، فإن تولي الحكم في ظل مثل هذه المبادئ قد يكون فيه معنى القبول بها.

غير أن الكتاب الذي رفعه فخامة المندوب السامي البريطاني إلى عظمتكم، وتصريح الحكومة البريطانية في البرلمان، قد أحدثا في الحالة تغييرًا كبيرًا، فأصبح من الممكن أن تتألف هذه الوزارة؛ إذ إنها ترى أن الشعور القومي أصاب ترضية من هاتين الوثيقتين، لا من ناحية الاعتراف باستقلال مصر حالًا وقبل أي اتفاق فحسب، بل ولأن المفاوضات المقبلة ستكون حرة غير مقيدة بأي تعهد سابق.

أما وقد جزنا هذا الدور بخير، فلم يبقَ على مصر إلا أن تثبت لبريطانيا العظمى أن ليس بها في سبيل حماية مصالحها من حاجة للتشدد في طلب ضمانات قد يكون فيها مساس باستقلالنا، وأن خير الضمانات في هذا الصدد وأجلَّها أثرًا هي حُسن نية مصر ومصلحتها في حفظ العهود.

على أن الوزارة ترى أنه لكي تكون جهود البلاد في سبيل تحقيق كامل أمانيها بحيث تؤتي جميع ثمرها، يجب أن يؤلف بين عمل الحكومة وبين عمل هيئة تنوب عن الأمة، وأن تسعى الهيئتين متساندتين لأغراض متحدة؛ ولذلك فإن الوزارة عملًا بأوامر عظمتكم ستأخذ في الحال في إعداد مشروع دستور طبقًا لمبادئ القانون العام الحديث، وسيقرر هذا الدستور مبدأ المسئولية الوزارية؛ ويكون بذلك للهيئة النيابية حق الإشراف على العمل السياسي المقبل.

وغني عن البيان أن إنفاذ هذا الدستور يقتضي إلغاء الأحكام العرفية، هذا وإن إعادة منصب وزير الخارجية سيُعِين على العمل لتحقيق التمثيل السياسي والقنصلي لمصر في الخارج.

ونظرًا لأن النظام الإداري الحالي لا يتفق مع النظام السياسي الجديد ومع الأنظمة الديموقراطية التي ستُمنحها البلاد، فإن الوزارة قد اعتزمت أن تتولى الأمر بنفسها وبلا شريك في الحكم الذي ستتحمل كل مسئوليته أمام الهيئة النيابية المصرية، وسيكون رائدها في إدارة شئون الأمة توجيهها إلى المصلحة القومية دون غيرها، والوزارة موقنة بأن أكبر عامل لنجاح مصر في تسوية المسائل التي بقي حلها، وأقوى حُجة تستعين بها في تأييد وجهة نظرها، هو أن تُقبل على هذا الدور الجديد متحدة الكلمة مؤتلفة القلوب، وأن تأخذ بدواعي النظام، وتلتزم جانب الحكم.

والوزارة تُحيِّي العصر الجديد الذي كان لعظمتكم أجلُّ أثر في طلوعه على الأمة بفضل ما بذلته عظمتكم من المساعي الوطنية العالية، وهي واثقة أن ستلقى من لَدُنْ عظمتكم كل تأييد في عمل الغد، وإنها لترجو أن يجيء مكللًا لمجهود البلاد.

وإني لا أزال لعظمتكم العبد الخاضع المطيع، والخادم المخلص الأمين.

ثروت
القاهرة في ٢ رجب سنة ١٣٤٠ / أول مارس سنة ١٩٢٢

(٨) خُطب ثروت باشا في وفود المهنئين ملخصة في مقطم ٢١ مارس سنة ١٩٢٢ – خلاصة خُطب ثروت باشا في وفود الأعيان يوم ٢١ مارس سنة ١٩٢٢

إن مصر خَطَت الخطوة العظمى في سبيل الاستقلال وذلك بفضل أهلها، كُلٌّ على قدر اشتراكه في الاتحاد والتضامن في سبيل الاستقلال. فهم — أي الوفود — يهنئون دولته به ويشكرونه عليه، ولكن دولته يرد ثناءهم إليهم، ويشكر الأمة وأبناءها الذين جدوا وجاهدوا لنَيْل هذا الاستقلال بتضامنهم، واتحاد كلمتهم حتى حصلوا على هذه النعمة العظمى من نِعم الله التي يجب عليهم التحدث بها على الدوام. قال: فلقد حضر هذا الصباح معتمدو الدول الأجنبية إلى سراي عابدين العامرة لجلالة الملك، فقدمهم دولته إلى جلالته واحدًا واحدًا، ثم خطب أقدمهم عهدًا فهنأ جلالته باستقلال مصر مجاهرًا على رءوس الأشهاد.

ثانيًا: إنه إذا قلنا إن مصر خَطَت الخطوة العظمى في سبيل الاستقلال، فليس المراد من ذلك أن مصر لم تحصل على استقلالها؛ لأنها حصلت عليه من الوِجهة الوطنية المصرية، وإنما المراد أنه لا يزال أمام مصر مفاوضات يلزمها أن تفاوضها من الوِجهة البريطانية؛ لأن إنكلترا تطلب من مصر ضمانات، فقد كانت إنكلترا قابضة على استقلال مصر وهي تقول لنا: إنه وديعة بيدي أسلمكم إياه متى أعطيتموني الضمانات التي أطلبها منكم، وكان دولته ينتقل من هذا الكلام إلى الكلام عن الوفد المصري الرسمي، ويطري مآثر صاحب الدولة عدلي باشا فيه، وامتناعه عن أن يقيد الأمة بإعطاء الضمانات المطلوبة حتى عاد دولته ورفاقه من دون أن يتم الاتفاق على الاستقلال المطلوب. وانحاز ثروت باشا وغيره من الوزراء الباقين في هذا القُطر إلى دولة عدلي باشا وقالوا قوله ورفضوا ما رفضه، وهكذا فضل أعضاء الوزارة الحالية معتمدين في ذلك كله على اتحاد الأمة وحُسن تضامنها وصدق غيرتها وعزيمتها؛ حتى قَدَّرَ الله أن رضيت إنكلترا بتسليم وديعة الاستقلال إلى مصر، وأن لا تطالب الوزارة المصرية أية كانت بالضمانات التي تريدها، بل تطالب الأمة المصرية ذاتها. فنالت مصر استقلالها وفازت بحريتها وهي لم تُقيد بشيء ولا أُخِذَ عليها عهدٌ ما. والآن تسعى الوزارة في إنشاء برلمان مصري يكون له القول الفصل في مسألة الضمانات الإنكليزية. قال دولته: «فإذا بحث نواب أمتكم في تلك الضمانات ووجدوها مطابقة لاستقلالهم ومصلحة بلادهم قبلوها، وإذا لم يجدوها كذلك رفضوها وهم أسياد في بلادهم.» ثم كان دولته يتخلص من ذلك.

ثالثًا: إن الفوز التام في سبيل هذا الاستقلال إنما يُنال إذا سلكت الأمة سبيل العقل والروية، وحافظت على السكون وتمام النظام، وأظهرت للأوروبيين جميعًا أنها أمة تُحسن السير، وتستطيع التقدم في مراتب الكمال بعد تمتعها بنعمة الاستقلال. قال دولته: «وهذا يتوقف أمره عليكم ويُطلب منكم، والحكومة ترجو أنكم تضافرونها عليه وتكونون لها عونًا فيه، فهي مستعدة لأن تضع بيدكم ما يلزم لحفظ السكون والنظام من وسيلة وعدة من الوسائل المشروعة، وعاقدة النية على أن لا تدخر وسعًا في تأييد النظام، وشد أزر المحافظين عليه، والضرب على كل يد تعبث به وتعيث فسادًا في البلاد، وهي مصممة أيضًا على أن تُفرغ جهدها في عمل كل ما تقتضيه مصلحة البلاد من الأعمال، وما يقتضيه السكون والنظام، وتقدُّم البلاد والعباد في الراحة والرفاهة. وترجو أن الأمة تتأنى في حكمها على عملها، ولا تتسرع بالإصغاء إلى الأقوال التي لا تطابق الواقع حتى يتضح لها الغث من الثمين والصدق من المين؛ فتحكم حكمها بعد ذلك.» وكانت الوفود تقابل أقوال دولته بالهتاف والدعاء، وخصوصًا عند ذكر دولة عدلي باشا، وكانت تهتف طويلًا وتصفق كثيرًا.

(٩) خُطبة صاحب الدولة ثروت باشا في مأدبة الكونتننتال

حضرات السادة الأجلاء

إني أغتبط الاغتباط بموقفي بينكم في هذا اليوم السعيد الميمون الذي هو أول عيد لميلاد مولانا المعظم بعد إعلان استقلال البلاد.

أرى أيها السادة من واجبي قبل كل شيء أن أنحني بكل احترام وإجلال تحيةً لصاحب عرش مصر على ما أبداه من التفاني في شد أزر أمته والأخذ بناصرها في هذا الدور العظيم من أدوار تاريخها الطويل المجيد.

لقد كان من بواعث سعادتي أن رأيت بنفسي عن كثب ما قام به مليكنا النبيل من الجهاد في القضية المصرية، فأثبت بهذا أن الدم لا يكذب، وكتب لنفسه في تاريخ المجد صحيفة خالدة جديرة بابن إسماعيل وحفيد إبراهيم ومحمد علي، فليحيا سيد مصر المستقلة، ولنهتف جميعًا من قلب مفعم بالإخلاص والولاء: ليحيا جلالة الملك فؤاد الأول.

ثم نُحيِّي بعد ذلك هذه الأمة الكريمة التي عرفت قدر نفسها، واستمسكت بحقها، وأبت أن تتنازل عما يوجبه عليها تاريخها الحافل بالعظائم، ويحتمه عليها ماضيها العظيم، وأظهرت من الحكم وسَدَاد الرأي ما أكسبها احترام الأمم، وجعلها جديرة بما تطمح إليه من المستقبل الزاهر. فإنه إذا كان لأحد فضل فيما وصلنا إليه وفي ما سنصل إليه بعون الله وتأييد مليك البلاد، فإن الفضل في الواقع للأمة بأجمعها، ولِما أبداه كل فرد منها كبيرًا أو صغيرًا في صدق الوطنية وروح التضحية.

أيها السادة؛ أنتم من صفوة أبناء الأمة، ومن خيرة أهل الفضل والحجى فيها، ولكم أكبر مصلحة في نجاحها ويُسرها، فأنا أنتهز هذا الظرف السعيد لكي أكاشفكم بما يجول في نفسي، وأخاطبكم اليوم لكي أستمد العون والتعضيد منكم على ما أنا ماضٍ فيه مع زملائي، فإنما نحن لكم نعمل وبكم نعتز، وليس لنا من الحول إلا بمقدار ما نرى منكم من الأخذ بناصرنا، وما تولونا من ثقة.

لنرجع إذن أيها السادة قليلًا إلى الوراء لنتعرَّف الحالة على حقيقتها، ولنتبين منها أهمية الخطوة التي خطوناها أخيرًا.

بسطت بريطانيا العظمى حمايتها على مصر في ١٨ ديسمبر سنة ١٩١٤ على أثر دخول تركيا الحرب العامة وانضمامها إلى دولتي الوسط، وأعلنت في تبليغها للمغفور له السلطان حسين كامل أن جميع الحقوق التي كانت لتركيا قد سقطت عنها، وآلت إلى الحكومة البريطانية، ولكنها أعلنت في الوقت نفسه أنها تعتبر هذه الحقوق وديعة تحت يدها لسكان القُطر المصري.

كانت نيران الحرب مشتعلة والنفوس ثائرة، وقد أوشكت أركان الحضارة أن تنهار، وأصبح مصير الشعوب معلقًا في ميزان القَدَر. فلم يكن في وسع مصر إلا أن تصبر حتى تنجلي هذه الكارثة ويتبين وجه الحق، وأقبلت على بريطانيا تنجدها نجدة الكريم للكريم، ولم تدخر جهدًا في سبيل مدها بالمعونة حتى بَسَم ثغر النصر، فلما أمضيت الهدنة بادرت مصر تقاضي إنكلترا ما وعدت به في إعلانها من أن حقوق تركيا وديعة تحت يدها لسكان مصر، وتطالبها برد الوديعة لأصحابها.

ولا أرى داعيًا إلى الإسهاب في بيان ما وُضِعَ في هذه السنوات من الجهاد الطويل، وما حدث فيه من التطور في الأفكار، فكلكم اشترك فيه، وكلكم كان من المجاهدين، ولكني أُذكِّركم أني كنت في ذلك العهد عضوًا في الوزارة متشرفًا فيها برياسة ذلك الوطني الجليل حضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا وزميله الصديق الوفي الأمين دولة عدلي باشا، فأبت الوزارة أن تسكت على حق مصر أو تقبل في هذا الحق هوادة أو تسويفًا، فلما حالت الحكومة البريطانية بيننا وبين إبداء ما نريد كانت الاستقالة المعروفة، ولا ينكر أحد ما كان لهذه الاستقالة من الأثر في تاريخ الحركة المصرية.

كان المذهب الذي تذهب إليه الحكومة البريطانية في بادئ الأمر أن مصر قد دخلت في دائرة الحماية فلن تخرج منها، وقد أوفدت اللورد ملنر إلى مصر لكي ينظر في خير الأنظمة لهذه البلاد في دائرة الحماية، فلما تبين لها أنه ما من مصري يرضى بتلك الحماية التي فُرضت على مصر فرضًا لضرورات خاصة، تحولت عن موقفها الأولي، وانتهى بها الأمر إلى الاعتراف بأن الحماية لم تعُد علاقة مُرضية، وطلبت إلى مصر المفاوضة في إبدال هذه العلاقة بغيرها.

يتبين لكم من هذا أن السياسة البريطانية تجاه مصر كانت قائمة على أن إلغاء الحماية لا يمكن أن يتم إلا في مقابل علاقة جديدة تحل محلها، وعلى أن لبريطانيا العظمى في هذا القُطر مصالح جوهرية لا بد لها من تأمينها وضمانتها، فلن تعترف باستقلالنا إلا متى أعطيناها هذه الضمانات.

وإنَّا أيها السادة نعتقد أن خير ضمانة لمصالح إنكلترا ومصالح جميع الدول الأجانب على السواء، هو حرص مصر نفسها على حُسن سمعتها كدولة متمدنة راقية، ومصلحتها في حفظ عهودها. فلقد أخذنا بأسباب الرُّقي من عهدٍ بعيد، وأدخلنا إلى بلادنا الأنظمة الحديثة، ونشرنا فيها راية العرفان، وأوفدنا البعثات العلمية إلى البلاد الغربية، وبالإجمال نهضنا من عهد محمد عليٍّ نهضة عظمى حتى صح أن يقال إن مصر قطعة من أوروبا، ومع هذا، فإن الأمة المصرية لأجل إثبات حُسن قصدها وشديد رغبتها في الاتفاق مع بريطانيا العظمى وتبديد مخاوفها، سَلَّمَت مبدئيًّا بفكرة الضمانات، وإنما بشرط أساسي لا محيص عنه، وهو أن لا تتعارض هذه الضمانات مع الاستقلال، وعلى أمل أن لا تلبث الحال قليلًا حتى ترى إنكلترا ذاتها أن لا حاجة بها إلى هذه الضمانات.

تشكلت الوزارة العدلية لتتولى المفاوضة في القضية المصرية بعد أن أعلنت الحكومة الإنجليزية رأيها، ولا يمكنني أن أترك ذكر هذا الحادث يمر دون أن أقوم بواجب أشعر به نحو ذلك الذي كان مثلًا في الوطنية ونكران الذات، وأعني به دولة رشدي باشا؛ لقد تولى دولته رياسة الوزارة قبل ذلك مرات عدة، وبلغ أسمى مقام يمكن أن يطمح إليه إنسان، ومع ذلك فإنه قبل أن يدخل عضوًا في الوزارة الجديدة — لأن البلاد كانت في تلك الساعة في حاجة إلى مواهبه وعلمه — فما تردد في إجابة نداء الواجب ولم يُقعده عن ذلك اعتبار من الاعتبارات.

سافر الوفد الرسمي إلى إنكلترا وعلى رأسه ذلك الرجل الكبير القلب الكبير النفس عدلي يكن باشا للمفاوضة في عقد اتفاق، وقد أخذ على نفسه أن يعمل على تحقيق الاستقلال، وعاهد أمته — بل عاهد قبل ذلك ضميره وربه — على أن لا يقبل اتفاقًا يخل بهذا الاستقلال بأي وجه من الوجوه.

طالت المفاوضات شهورًا بين الرجاء واليأس إلى أن تكشفت عن المشروع الذي قدمته بريطانيا العظمى إلى الوفد في ١٠ نوفمبر من العام الماضي، وهو المشروع الذي عُرِفَ بين الناس باسم مشروع كرزون.

نظر عدلي باشا إلى المشروع فرأى أن بريطانيا العظمى غالت فيما طلبته من الضمانات، وأن هذه الضمانات لا تتفق وما عاهد به أمته من استقلال لا تحوطه ريبة، فما تردد لحظة في رفضٍ برد اقترنت فيه الحكمة بالشمم، والبراعة السياسية بعِزَّة النفس. كان في وسعه أن يعرض المشروع على أمته، وأن يُلقي على عاتقها مسئولية قبوله أو رفضه، ولكن عدلي عرض المشروع على ضميره أولًا فكان نصيبه الرفض.

أيها السادة: سيُنشر يومًا من الأيام ما طُوي من الصحائف، وما خفي من أسرار المفاوضات حينئذ يعلم بنو مصر جميعًا أنه ما من رجل دافع عن بلده كما دافع عدلي باشا عن مصر أثناء المفاوضات الرسمية، وأن الموقف الشريف الذي وقفه ذلك الوزير الكبير والوطني الصميم كان في ذاته أعظم تأكيد لشخصية مصر التي صممت على نَيْل استقلالها، والتي تأبى أن تُوقِّع على صك يُضعف هذه الشخصية. إنما الوطنية الصحيحة، الوطنية الصادقة تعمل ولا تتكلم، وكل همهما موجه إلى جلب النفع للوطن. فلزم عدلي باشا الصمت. كان خصومه يرمونه بأشنع ما يُرمى به إنسان من نقص في الوطنية وضعف في العقيدة القومية، فكان جوابه الوحيد على هذه التهم العمل على إثبات حق مصر، وأما ماعدا ذلك فلم يكن له عنده من شأن، فكان وطنيًّا عظيمًا في صمته كما كان وطنيًّا عظيمًا في حُسن دفاعه، ولقد أعلنا تضامننا مع الوفد في رفضه للمشروع وفي رده عليه. نعم أيها السادة، كنا وما زلنا ولن نزال نُقر الوفد على ما فعل في هذا الرفض؛ لأننا نأبى كل الإباء أن نُقر أي اتفاق أو تعاقد ينقض استقلال بلادنا.

ولكن بريطانيا العظمى أمسكت بالمشروع في يدها، ولوَّحت بالاستقلال التام أمام عيوننا، وقالت: ها أنا ذا على استعداد للاعتراف لكم بالاستقلال، ولإلغاء الحماية المفروضة عليكم، ولكن بشرط أن أتقاضى منكم ثمنه. قلنا: وما هو الثمن؟ قالت: أن تعطوني ما أطلبه من الضمانات المُبيَّنة في المشروع، فإن فعلتم كان لكم ما تريدون، وإن أبيتم فالحماية باقية في أعناقكم.

قال الوفد الرسمي كلا، وقلنا نحن كلا، وقالت البلاد كلها بصوتٍ واحد كلا؛ لأننا نريد استقلالًا صحيحًا، ولأن ما تعترف به إنكلترا في المشروع تهدمه هاتيك الضمانات.

أما اليوم فقد تغيرت الحال؛ فإن بريطانيا العظمى قد ألغت الحماية على مصر، ألغتها ولم تتقاضَ ذلك الثمن الذي جعلت تَقاضيه منا شرطًا لإلغائها، ونادى جلالة ملكنا المعظم بأن بلادنا دولة مستقلة تامة السيادة، وأبلغنا هذا النطق الملكي من وزارة خارجيتنا إلى وكلاء الدول الأجنبية في مصر، كما أبلغهم إياه جناب المارشال اللنبي، فجاءنا رد هؤلاء الوكلاء بوصول البلاغ إلى دولهم، وبادرت الوزارات الأجنبية بتقديم تهانئها إلى حكومتنا على هذا العهد الجديد، وأرسل الملوك ورؤساء الجمهوريات إلى جلالة الملك فؤاد الأول تهانيهم بالاستقلال.

أيها السادة: لقد كنا لغاية سنة ١٩١٤ مستقلين استقلالًا داخليًّا تحت سيادة الدولة العثمانية، فلما نشبت الحرب العامة، وسقطت سيادة تركيا عنا أصبحنا مستقلين حكمًا، ولكن تمسك بريطانيا العظمى بانتقال حقوق تركيا إليها بحكم إعلان الحماية حَالَ بيننا وبين استقلالنا.

أما اليوم فقد سقطت الحماية أيضًا دوليًّا بصورة نهائية فأصبحت مصر دولة مستقلة في نظر الدول جمعاء.

ومهما كان رأي الناس في أمر الحماية واختلاف نظرهم إليها من جهة صحتها أو بطلانها، فمما لا نزاع فيه أن بعض الدول وافقت عليها، وأنه من الوِجهة الدولية أصبحت هذه الحماية صحيحة على الأقل في نظر هذه الدول، أما اليوم فقد انتهى الأمر وسواء كانت هذه الحماية صحيحة أو باطلة فقد عفت آثارها.

يقولون ولكن بريطانيا قد احتفظت بأمور معينة كانت مُبيَّنة في المشروع الذي رفضته البلاد، وجوابي أن هذه الأمور احتفظت بها بريطانيا من تلقاء نفسها، وبمحض إرادتها، ومن غير أن نوقع لها صكًّا بإقرارها، ولكن مشروع المعاهدة كان يجعل قبول هذه الضمانات شرطًا أساسيًّا لإلغاء الحماية، وهناك على ما أظن فرق كبير بين أن تكون الضمانات صادرة عن إرادة إنكلترا وبين أن تكون إنكلترا حاصلة عليها بصفة شرعية برضى مصر.

وفضلًا عن هذا فإن إنكلترا قد احتفظت بهذه الضمانات بصفة عامة دون تعرض للتفاصيل. وقد سبق أن بينا أن مبدأ الضمانات في ذاته سلَّمت به غالبية الأمة، وإنما كان الاختلاف يقع عند التفصيل، والتصريح الأخير اكتفى بالإجمال واجتنب التفصيل. ثم إن الحكومة البريطانية في تبليغها إلى جلالة الملك لم يسعها إلا الاعتراف بأن الأمور المُحتفَظ بها تكون محلًّا لمفاوضة مقبلة جمة غير مقيدة، فبقي حق مصر كاملًا حتى لو رجعنا إلى هذا التبليغ.

وفوق هذا كله فإنَّا أبينا أن نرتبط أي ارتباط بأي أمر من هذه الأمور، وقلنا إن الكلمة الأخيرة في ذلك تكون للبلاد ممثلة في برلمانها.

وبالإجمال فإن مصر خرجت من هذه المعركة السياسية فائزة بالمزايا التي كانت تسعى إلى تحقيقها دون أن ترتبط بأي ارتباط، أو تلتزم بعهد يقيد حريتها في العمل فيما بقي، وأن استقلالها أصبح مُعترَفًا به من الدول.

نترك هذا الموضوع، وننتقل إلى نظام الحكم في بلادنا.

لقد جعلنا أساس برنامجنا فيما يتعلق بالحكم أن تكون لبلادنا هيئة نيابية، وأن تكون الوزارة مسئولة أمامها عن كل أعمالها فما تستطيع البقاء في منص الحكم إلا إذا أولاها البرلمان ثقته، فحققنا بذلك دفعة واحدة ما بح صوت البلاد في المطالبة به سنوات عديدة فلم تظفر بطائل، وما لم يحصل عليه كثير من البلاد إلا بعد أن بذلت في سبيله جهدًا كبيرًا.

ويترتب على هذا النظام — بطبيعة الحال — أن يكون للوزارة تمام الحرية في تولي إدارة البلاد وسياستها دون أن يشاركها في ذلك أحد؛ لأن تحمل المسئولية يفترض في ذاته حتمًا هذه الحرية؛ إذ مما لا يمكن تصوره أن يكون للبرلمان الكلمة العليا في شئون البلاد والإشراف عليها، وتكون الوزارة مسئولة أمامه عن هذه الشئون، فلا تبقى في مساندها إلا بسيرها على إرادته، وتوخيها إنفاذ مقاصده، ثم تكون في الوقت ذاته خاضعة لأية سلطة أخرى فيما يتعلق بالشئون عينها.

على أننا أيها السادة لم ننتظر إنفاذ النظام البرلماني حتى نأخذ المسئولية على عاتقنا، بل نحن قد أخذناها على عاتقنا من أول لحظة، وأصبحت إدارة شئون البلاد في يدنا بتمام الحرية، فلم يبقَ للمستشارين هذا الأثر الذي كلكم كنتم تعرفونه، وتحسون به، وأصبحت كلمتهم لا تخرج عن حد المشورة، ولا أريد الحوادث فأخبركم بما سيكون في القريب العاجل.

والخلاصة في هذا الباب: أن مصر الآن من الوِجهة الداخلية أصبحت أمورها بيد أبنائها، وأنها ستصبح في القريب العاجل ذات نظام دستوري على أحدث النُّظم العصرية.

ولم يبقَ علينا إلا أن نقنع إنكلترا أن ليس بها من حاجة إلى التمسك بالضمانات التي تريد الاحتفاظ بها، فتخطو بريطانيا العظمى خطوة أخرى بالاكتفاء بما لا يتنافى منها مع استقلالنا الشرعي.

أيها السادة؛ ليس لدينا وسيلة لتأييد ما نذهب إليه أكبر من تعلقنا بأهداب السكينة، والتزامنا الهدوء، وأخذنا بأسباب النظام؛ فإن حجتهم الكبرى في ما يبدونه من رغبة في الضمانات هي شدة حذرهم على مصالحهم، وخوفهم عليها، وعدم اطمئنانهم في تركها لعهدتنا، فإذا قضينا على عوامل الفتنة والاضطراب، وجعلنا التزام السكينة رائدنا؛ فإننا نثلم هذا السلاح بأيديهم وندفع حججهم علينا، ولا مشاحة في أن كل من يعمل على تعكير السلام أو إثارة الاضطراب مجرم في حق وطنه عامل على هدم كيانه.

على أن خصومنا السياسيين لا يرون أننا فعلنا شيئًا، أو أن الوثائق الجديدة تحوي أمرًا جديدًا، وأن إلغاء الحماية وإعلان الاستقلال وتبليغه للدول واعتراف هذه الدول به، وإدخال النظام النيابي الكامل، وتقرير مبدأ مسئولية الوزارة أمام البرلمان، كل هذا لا يُعد شيئًا مذكورًا في نظر بعض الناس متى جاء على يد خصومهم.

لا غرابة في ذلك، فإن للاعتبارات الشخصية عند البعض مقامًا فوق كل مقام؛ تقوَّلوا علينا الأقاويل، وأذاعوا عنا ما أذاعوا في طول البلاد وعرضها، وزعموا أن الوزارة ستتعرض لحرية الانتخابات، وأن البرلمان سيكون ألعوبة في يدها. من أين أتاهم علم الغيب؟ ومن أين جاءهم أنها ستعمل ذلك؟ وأية مصلحة لها في أن لا تتعرف من الأمة إلا رأيًا فاسدًا لا يتفق ورأيها الصحيح؟

لقد نسوا أنهم بهذا يرمون أمتهم بأقبح التهم، وينسبون إليها أنها تنقاد كالأنعام، وتستسلم استسلامًا أعمى للحكام حتى فيما يعود على الوطن بالتلف والمذلة.

لقد نسوا أو تناسوا أيها السادة أننا أشخاص زائلون، وأننا لن نبقى متربعين في دست الأحكام إلا برهة من الزمن، ثم نخلي السبيل لغيرنا، أما النظام الدستوري فهو نظام ثابت دائم، وهو أتم ما وصل إليه الناس إلى اليوم لتمثيل الأمة أحسن تمثيل، وللإشراف على الحكم باسمها، سنذهب نحن أما النظام فسيبقى. وعجيب أن رجالًا يتولون الحكم زمنًا قصيرًا يعملون على تحقيق مثل هذا النظام الصالح لكي يجعلوه أداة في يدهم وسلاحًا يشهرونه في وجه خصومهم.

أيها السادة لن تكون الانتخابات سِرًّا مكتومًا فستشتركون جميعكم فيها؛ بل يشترك فيها كل مصري له حق الانتخاب، وستذاع أخبارها وتتناقلها الأفواه، وسترون بأنفسكم أن الحكومة بريئة مما يتهمونها به، وأن هذه التهم وليدة الظن الأثيم.

إنني أعتقد أن تحقيق النظام البرلماني لصحيفة فخار — ولو أن الفخر كله في الأمة وإليها — فلن يبلغ بنا سوء الرأي إلى تسويد هذه الصحيفة بمثل ما ينسبون إلينا من التداخل المعيب، فلا تصغوا أيها السادة إلى ما يقولون ويعيدون، واحكموا بما سترون لا بما تسمعون، وإني أجاهر لكم — وهل أنتم في حاجة إلى مثل هذه المجاهرة — بأن الانتخابات ستكون حرَّة بعيدة عن عوامل التأثير وإفساد الضمائر.

كذلك أخذ خصومنا علينا عدم إلغاء الأحكام العرفية حالًا.

نعم، إن إلغاء الأحكام العرفية لم يصبح أمرًا مرهونًا بإرادة السلطة العسكرية — وهو اليوم بيد الحكومة المصرية من حيث المبدأ — ولكن الشروط التي لا يشك أحد في وجوبها لإلغاء تلك الأحكام لا تتحقق بين غمضة عين وانتباهتها، يعلمون ذلك ولكنهم يغالطون ويشوهون الواقع في أمر قانون التضمينات؛ للتذرع بذلك في اتهام الوزارة في إخلاصها وصدق نواياها.

تعلمون حضراتكم أنه في سنوات الحرب وبعدها صدرت تشريعات مهمة استمدت فيها سلطة القائد العام لجعلها سارية على الأجانب، حينما كان الالتجاء إلى الطرق العادية في إصدار القوانين غير ميسور ومقرونًا بالصعوبات أو محتمل البطء في أمور تقضي بالاستعجال، كضريبة الخفر وقانون أجور المباني وإيقاف سريان المُدد والمواعيد القانونية، وكالنظامات المتعلقة بأشخاص الأعداء وأموالهم، وتنفيذ معاهدات الصلح.

كذلك منعت المحاكم الأهلية والمختلطة لأسباب مختلفة من نظر مسائل داخلة في اختصاصها أو يجوز اعتبارها كذلك؛ لتتولاها محاكم عسكرية أو لجان أو غير ذلك من الهيئات، وصدرت في هذه المسائل أحكام وقرارات، وبُني على أساسها حقوق وتعهدات، ثم صدرت أيضًا أوامر إدارية، وتدابير تتعلق بالأمن أو النظام العام.

وتعلمون حضراتكم أن كل ذلك حصل، وأن السلطة العسكرية اشتركت في أعمال التشريع والقضاء والإدارة العادية للبلاد بسبب الامتيازات الأجنبية وبسبب الحرب، هذا فضلًا عن المركز الخاص الذي تهيأ لها بسبب معاهدات الصلح، فأصبحت أشبه بنظام عادي بالرغم من أن الأحكام العرفية بطبيعتها أداة استثنائية.

تعلمون ذلك حضراتكم، ولا تجهلون أن كل ما بُني على هذا النظام يجب أن ينهار إذا زال أساسه، وأنه إذا أُلغيت الأحكام العرفية سقطت كل التشريعات التي اتُّخذت بمقتضاها، وأصبح من الممكن أن تُنقض كل الحقوق المدنية التي بُنيت على أحكام السلطة وأوامرها، بل أن يُفتح على السلطة أبواب مسئولية واسعة.

ليس منا من لا يرغب في إلغاء الأحكام العرفية وبلا تأخير، ولكن كل إنسان يشعر بأننا لا يمكننا إلغاءها دون إقرار التصرفات الماضية، ولا عبرة بما يراه غير المسئولين الذين يرون أنه يكفي أن نطلب فنُجاب.

عرف الناس ذلك، وسمعوا أنه يجب إصدار قانون لإقرار التصرفات الماضية، فقال بعضهم؛ إنما أُريد به تقرير الحماية وتنظيم أحكامها، وهم يعلمون أن ذلك القانون لا يخرج أمره عن أن يكون تصفية للماضي، ولا علاقة له مطلقًا بالنظام المستقبل، فلفظة التضمينات هي التي أفسحت المجال للمضللين أن يذهبوا إلى التأويل ما شاءوا، وحقيقة الأمر أن ذلك القانون يسمى بالإنجليزية Bill of Indemnity ومعناه الصحيح: القانون الذي يُقيل من المسئولية ويرفعها.

على أن بعض من يشكون من وجود الأحكام العرفية ويطالبون بإلغائها يعملون في الوقت نفسه على عرقلة مساعي الحكومة في ذلك، وقد وعدت هذه الوزارة بأنها اعتمادًا على حُسن موقف الأمة ستسعى في الحصول على الرجوع فيما اتُّخذ من التدابير المقيدة للحرية طبقًا للأحكام العرفية، ولكن الذين لا يرعون حُرمة يحرضون على الفتنة، ويشجعون الرعاع على الإخلال بالنظام، وأعمال التهييج والإرهاب (أترون في ذلك شيئًا من الخير للبلاد؟) ولكن هذه الحكومة لن ترى مانعًا من القيام بواجبها، وستمضي أعمالها بما تمليه عليها ذمتها وضميرها، ولا تُلقي بالًا لهذه الحركات التي لم يُقصد بها وجه الله ومصلحة الوطن حتى إذا فرغت من عملها وتقدمت به إلى الأمة أدرك كل باغٍ أن صفحتها بيضاء، وأن إخلاصها عظيم.

هذا ما أردت أن أقوله لكم في هذا المقام، ولكني قبل الختام، وبمناسبة ما ذكره حضرة صديقنا شيخ المحامين وكبيرهم إبراهيم بك الهلباوي (وكأني به قد خشي أن تنثني عزائمنا لما نلقاه من المعارضة) لا أرى بُدًّا من أن أُطمئنه وأن أوجه أنظاركم أيها السادة إلى أنني لا أكره المعارضة، بل إذا انعدمت هذه المعارضة فإنني أعمل على خلقها لما لها من نفع وفائدة في الوصول إلى الحقيقة، وتمحيص كل أمر على أكمل وجه، ولكني أريد المعارضة الشريفة التي تترفع عن الاعتبارات الشخصية، ولا تنزل إلى اختلاق الأكاذيب والعمل على النَّيْل من الخصم بكل وسيلة، والنظر إلى كل عمل من أعماله بمنظار البغضاء والعداوة. إنني أريد الخصومة الشريفة التي لا تنظر إلا لمصلحة الوطن وخير البلد، وتدرس كل أمر لذاته مجردًا عن كل اعتبار شخصي، هذه الخصومة الشريفة أتمنى وجودها، وأمد يدي لمصافحتها. أما تلك الخصومة الحمقاء التي تأخذ على الناس سبيل آرائهم، وتزري بأقدارهم، وتَرجُمهم في الطرقات، وتعمل على اضطهادهم ماديًّا وأدبيًّا عقابًا لهم على رأي أو قول، تلك الخصومة الحمقاء المجرمة التي تزعم أنها تعمل هذا باسم الحرية ودفاعًا عن الحرية، فتحقق بذلك القول المشهور: «أيتها الحرية كم من الجرائم تُرتكب باسمك»، تلك المعارضة المجرمة يجب علينا جميعًا مكافحتها إلى النهاية؛ لأنها نكبة على بلدٍ ناهض، وسأجد من عونكم ما يُعينني على الوقوف في وجهها.

أيها السادة؛ متى فتح البرلمان المصري أبوابه فستقوم منا أحزاب وشِيَع تبعًا لاختلاف الآراء، وتعدد وجهات النظر، وسيعمل كل حزب على خدمة الوطن بالسبيل التي يراها أقوم السُّبل. أما اليوم فإننا جميعًا سواء أمام المطلب الأسمى للأمة، وإذا كنا في وقت من أوقات تاريخنا في حاجة إلى الاتحاد فإنما هو هذا الوقت الذي نرجو فيه أن نسعى في إزالة ما يَحُول بيننا وبين التمتع الكامل باستقلالنا.

فأنا أنادي الأمة باسم الوطن ومصلحته بضم صفوفنا، وتناسي الماضي، وليكن كلنا حزبًا واحدًا في خدمة بلادنا.

والله المسئول أن يقرب اليوم الذي تتحقق فيه جميع آمالنا في ظل حضرة صاحب الجلالة ملك مصر أطال الله مُلكه وأدام عِزَّه.

(١٠) حديث ثروت باشا عن السودان مع مكاتب الأهرام في ٢٢ مايو سنة ١٩٢٢

تفضل صاحب الدولة رئيس الوزارة بالجواب على الأسئلة التي ألقيناها بخصوص السودان، وهذا نص الحديث:
س: لغط الناس كثيرًا في مسألة السودان في العهد الأخير، وتساءلوا لِمَ لم تُبدِ الحكومة بيانًا عن خطتها ورأيها في مركز السودان بالنسبة لمصر؟

ج: تذكرون أن مسألة السودان من المسائل المُحتفَظ بها للمفاوضات المقبلة كما ورد ذلك في كتاب المندوب السامي البريطاني إلى جلالة الملك في ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢، ولكن ليس معنى الاحتفاظ بمسألة لزمنٍ مقبل ألا يكون للحكومة المصرية رأي فيها ومذهب تدافع عنه وتسعى لتحقيقه، وغير صحيح أن الحكومة لم تُبدِ رأيها في مركز السودان بالنسبة لمصر؛ فإن برنامج الوزارة كان بهذه العبارة: «لم يكن لزملائي ولي، ونحن نشاطر الأمة أمانيها في الاستقلال، إلا أن نقر الوفد الرسمي على ما فعل.» ولم يَغِب عن ذهن أحد أن الوفد أشار في الرد الذي أرسله إلى اللورد كرزون إلى مذهبه في علاقة مصر بالسودان، وقال في ذلك: «أما مسألة السودان التي لم يكن قد تناولها البحث، فلا بد لنا فيها من توجيه النظر إلى أن النصوص الخاصة بها لا يمكن التسليم بها من جانبنا؛ فإن هذه النصوص لا تكفل لمصر التمتع بما لها على تلك البلاد من حق السيادة الذي لا نزاع فيه وحق السيطرة على مياه النيل.»

وليس معنى إقرار الوفد الرسمي على ما فعل إلا أن الوزارة أخذت بمذهبه في المسائل المختلفة التي تعرَّض لها في الرد، ومنها مسألة السودان، فرأي الحكومة في السودان رأي غير مكتوم، وإذا لم يكن الذين ينتقدون على الحكومة عدم إبداء رأيها في السودان قد تنبهوا إلى هذا الرأي فليس ذلك من ذنب الحكومة.

س: ولكن ما هو رأي الحكومة إزاء ما يروونه من احتمال تغيير حالة السودان قبل الوصول إلى المفاوضات، وهل هي تنوي السكوت على هذه الحالة الجديدة؟

ج: احتفظت الحكومة الإنكليزية بمسألة السودان — كما احتفظت بغيرها من المسائل — وأشارت إلى أن معنى ذلك الاحتفاظ هو أن هذه المسائل تبقى على ما كانت عليه حتى يجيء دور المفاوضات، فلا محل لتوقع أي تغيير في حالة السودان قبل ذلك الدور.

وما دامت المفاوضة ستُجرى حرة خالية من كل قيد، فكل ركن من أركان المسألة سيتناوله البحث والتمحيص.

ولقد جرى لي مع فخامة المندوب السامي البريطاني حديث في هذا الشأن، وكنا على اتفاق أنه مهما كانت نظرية كل فريق فإنه لن يحدث من أحد الجانبين أي تغيير في حالة السودان أو بت في شأنه، بل يجب بقاء القديم على قِدمه حتى يجيء دور المفاوضات بين الحكومتين المصرية والإنكليزية، وقد صرحت الحكومة الإنكليزية بذلك أخيرًا في مجلس النواب البريطاني بلسان أحد وزرائها، وعلى ذلك فلا محل لإثارة البحث في هذا الموضوع الآن.

وعندي أن مسألة السودان مسألة متشعبة الوجوه، ومن مصلحة القضية المصرية أن يكون البحث فيها شاملًا لجميع أطرافها في وقتٍ واحد، وهذا لا يتيسر إلا وقت المفاوضة حيث تلتقي الوِجهتان المصرية والإنكليزية بصفة تامة واضحة، وأرجو أن لا يتعذر إذ ذاك الوصول إلى حلٍّ مُرضٍ. ثم إن لهذه المسألة — كما لغيرها من المسائل المُحتفَظ بها — من الأهمية الكبرى والدقة ما يقضي بإشراف الهيئة النيابية على المفاوضة بشأنها.

(١١) خُطبة ثروت باشا في لجنة الدستور

حضرة صاحب الدولة، وحضرات الأعضاء المحترمين

إني باسم حكومة جلالة الملك المعظم فؤاد الأول أُحيِّيكم في هذا الاجتماع الذي هو أول اجتماع للجنتكم الموقرة، كما أُحيِّي فيكم الغيرة الوطنية والرغبة الصادقة في خدمة بلادكم العزيزة؛ إذ قبلتم أن تشاركوا الحكومة في مهمة وضع مشروع الدستور للمملكة المصرية بعد إعلان استقلالها.

إن الحكومة أيها السادة تُقدر كل التقدير خطورة المهمة التي وُكِّلت إليها من جانب مليك البلاد، وتعلم حق العلم عظيم مسئوليتها عن حُسن القيام بها أمام ضميرها وأمام الأمة والتاريخ. كذلك تعلم أن مهمة وضع دستور للبلاد لا يكفي في أدائها على الوجه الصالح أن ينقل ما وُضِعَ لغيرها من البلاد بغير تمحيص وتدقيق، بل يجب أن تُلاحظ في تقرير أحكام هذا الدستور تقاليد البلاد المحلية وعاداتها، ومختلف الاعتبارات الاجتماعية فيها، وأن يُستفاد في وضع نصوصه من تجاريب الأمم الأخرى. كذلك أيها السادة لم تتردد الحكومة منذ طلبت إليها القيام بهذه المهمة في أن لا تستأثر في أدائها برأيها، وأن لا تكتفي في ذلك بما لرجالها من الخبرة الخاصة بحالة البلد وبالأنظمة العامة، بل صحَّت عزيمتها على الاستعانة في ذلك بخبرة ذوي الكفاءات من أبناء البلاد.

وقد كان من حُسن حظها أن لبيتم دعوتها، ورضيتم أن تشاركوها في مسئوليتها، وأن تضحوا من وقتكم وراحتكم شيئًا كثيرًا في سبيل تحقيق التعاون بين الأمة والحكومة، ووضع الحجر الأساسي لحياة مصر المستقلة. لذلك لا يسعني إلا أن أُهنئكم بهذا الشعور، وأن أُسديكم خالص الشكر على العون الجليل الذي لا شك في أن الحكومة ستناله من اشتراككم معها، وإن شكري لكم ليزداد إذا ذكرت الضجة التي أُقيمت حول مسألة وضع الدستور، وأنها لم تصرفكم عن سماع نداء الضمير والواجب.

إن الحكومة لم تقتصر في الدعوة إلى معاونتها على فريق دون آخر، بل وَجهتها أيضًا إلى من قضت عليهم الظروف بأن يعتبروا أنفسهم خصومًا سياسيين لها، غير أنهم — للأسف — لم يريدوا أن يصافحوا اليد التي مُدَّتْ إليهم، وأبوا أن يتقدموا إلى المشاركة في هذا العمل الوطني الخطير، ولعمري إن في تصرفهم ما يقضي بالعجب؛ فإن مصير الدستور أن يُطبَّق على الأمة جميعها لا على طائفة دون غيرها، وكنت أستبعد أن تدخل الشخصيات في شأنٍ يجب بطبيعته أن يعلو على كل تلك المنافسات، ولقد أَعجب أكثر من ذلك أن أراهم يخطئون النظر حتى من وِجهة مصلحتهم الخصوصية؛ فلقد كان اشتراكهم في عمل اللجنة يسمح لهم بالاطلاع على كل ما يجري فيها، ويُمكِّنهم من الوقوف على حقيقة ما جرت به ألسنة السوء، وليتبينوا أن ليس هناك أمور مُقررة من قبل تُعرض على اللجنة لمجرد الشكل. ولقد فاتهم برفضهم الدخول في اللجنة — فرصة ما كان أحقهم بالحرص عليها — فرصة عرض آرائهم والإدلاء بحُججهم. واللجنة بين أن تأخذ بها فيتضح لهم أنها لم تكن متحيزة أو صادرة عن غرض أو هوى، أو أن ترفضها فيكونوا قد أراحوا ضمائرهم والحساب بعد ذلك بيد الأمة. لا أدري مقدار ارتباط هذا الرفض بالحركة التي روجت منذ أيام للدعوة إلى عقد جمعية وطنية وما إذا كانت سببًا أو نتيجة، على أن ذلك لا يعنيني الآن، وإنما يعنيني تمحيص هذه الآراء، خصوصًا وأن تلك الدعوة كان ينطوي فيها شيء ليس بالقليل من سوء الظن بالحكومة، وتهمتها في إخلاصها. إني أترك جانبًا ذلك الفريق الذي يدأب على تحدي الحكومة ومناوأتها وإقامة العراقيل في وجهها مهما جر ذلك على البلاد من الشر والوبال.

أما الفريق الثاني: فإنه يحكم على الأشياء حُكمًا نظريًّا صرفًا، ويُخطئ تطبيق النظريات على الواقع، أولئك هم الذين يزعمون أنه لم يوضع دستور إلا على يد جمعية وطنية، وأنه لا يصح دستور إلا إذا كان كذلك.

علمنا أن القوانين الدستورية وتواريخها ومبادئها معروفة ومنتشرة بين جميع الناس، وفي وسع كل إنسان أن يرجع إليها؛ ليعرف مقدار نصيب تلك النظريات من الصحة، ويمكنني أن أقول لحضراتكم أن الأمر في وضع القوانين الدستورية ليس على ما يذكرون؛ فإن كثيرًا من البلاد الأوروبية وغير الأوروبية لم تكن قوانينها الدستورية وليدة جمعية وطنية. وأذكر على سبيل الاستدلال تلك الأمة العظيمة التي قطعت شوطًا كبيرًا في سبيل الحضارة والمدنية، وأعني بها الأمة اليابانية، وهي تلك البلاد التي أصبحت في مركز لا أريد أن أغالي فأقول إن أمم أوروبا تحسدها عليه، ولكن مركزها على كل حال مما تُغبط عليه. أما أمم أوروبا فإن بعضها كان الدستور فيها من عمل جمعية وطنية، ولكنها الأقل عددًا، والسبب في تولي الجمعية الوطنية هذا العمل يرجع إلى ظروف استثنائية خاصة كالثورة أو زوال السلطة الشرعية فيها، وحلول سلطة مؤقتة عليها. أما الأمم الأخرى فقد سارت في وضع دساتيرها على الطريق العادي، وصدرت دساتيرها من ملوكها، وأذكر على سبيل المثال إيطاليا والنمسا والبرتغال وتركيا.

فيجب أن لا يغيب عن أذهان أولئك القائلين بنظرية الجمعية الوطنية تلك الفروق بيننا وبين من اضطرتهم أحوالهم الاستثنائية إلى الالتجاء لجمعية وطنية لوضع نظام حكوماتهم، إذ إننا — ولله الحمد — لسنا في حالة من تلك الأحوال.

على أنه فيما يتعلق بمصر يجب لأجل تعيين السلطة التي تتولى وضع الدستور الرجوع إلى قانوننا العام، وقد جرى الأمر فيه على أن تصدر القوانين النظامية من ولي الأمر سواء كان ذلك في إنشاء مجلس الوزراء — وهو أول حجر وُضِعَ في بنيان النظام الديموقراطي في مصر — أو ما في تلا ذلك من النُّظم النيابية التي أوجدت نوعًا من الاشتراك بين الأمة والحكومة، وهي قانون مجلس شورى النواب، وقانون مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، والقانون الذي أنشأ الجمعية التشريعية، وإذا كان قانون سنة ١٨٨٢ قد شذ عن هذا القياس فإن ذلك يرجع إلى أنه في ذلك العهد كانت ثورة على العرش دعت إلى اغتصاب وضع الدستور من صاحب السلطة في وضعه، وهذا ما يؤيد ما نذهب إليه من أن وضع الدستور بطريق ولي الأمر ليس فيه افتئات على حقوق الأمة أو خروج عن القواعد المألوفة.

قد يقول قائل إذا لم يكن الدستور من وضع جمعية وطنية فإن في وسع ولي الأمر أن يسترده في أي يوم من الأيام. وهو قول لا يقول به إلا كل رجل يجهل مبادئ القانون الحديث وتطوراته؛ لأنه مهما يكن من طريقة وضع الدستور وإصداره، فإن استرداده بعد ذلك مُحال؛ إذ إنه بمجرد صدوره يصبح حقًّا مكتسبًا للأمة.

إنهم يقولون إن الجمعية الوطنية هي الوسيلة الوحيدة للوقوف على رغبات الأمة وحاجاتها، وأخشى أن أقول في هذا إنه حق يُراد به باطل؛ لأنه حتى مع التسليم جدلًا بأن المبادئ العامة في مصر تسمح بأن مثل هذا العمل تتولاه جمعية وطنية، فإن هناك أشخاص يعملون منذ زمن على ترويج سوء الظن بالحكومة، وعلى التقليل من أهمية ما وصلت إليه البلاد، وعلى التشكيك في ما نحن قادمون عليه، بحيث إذا اجتمعت جمعية وطنية سادت فيها تلك الآراء والنزعات، وانقلب العمل فيها إلى معارضة وتهويش وتعطيل تمتنع معه كل نتيجة صالحة؛ بل يُخشى أن ينقلب وبالًا على البلاد؛ ذلك أنه بالرغم من أن البلاد نالت فوزًا عظيمًا بإعلان استقلالها واعتراف الدول به، إلا أن المسألة المصرية لم تسوَّ بعد تسوية تامة نهائية؛ إذ لا يزال أمامنا مفاوضات يجب أن تمكن مصر من الوصول إلى دورها موفورة القوة تامة النظام لم تُفسد عليها عوامل الشر والفوضى آمال النجاح فيها.

يدَّعون أننا بعملنا هذا نرمي الأمة بالعجز والقصور عن تقدير مصلحتها، فالله يعلم أننا نُجِلُّ أمتنا كل الإجلال ونضعها فوق كل اعتبار، وأن هذا نفسه هو الذي يدعونا أن نقيها في هذه الآونة الدقيقة من عوامل الفساد ودواعي التضليل، ولعمري لأن نُتهم تهمة سيتجلى وجه الحق فيها بعد قليل خيرٌ لنا من أن نترك البلاد تسود فيها الفوضى ويجري الشغب فيها مجراه؛ فإن التهمة إذا اصطدمت بالواقع المحسوس زائلة، ولكن أضرار الشغب والفوضى هائلة، وآثارها باقية.

وأريد هنا أن أتساءل عن قيمة المخاوف والشكوك التي يريد بعضهم أن ينشرها بين الناس، ويحيط بها عمل الحكومة واللجنة.

يزعمون أننا نخشى الجمعية الوطنية؛ لأنها لو دُعيت للاجتماع لاتخذت من القرارات ما لا يتفق مع ميول الحكومة، نريد بالاقتصار على تأليف لجنة أن تتحكم في النظام الدستوري، وأن تَحُول بين الأمة وبين إبداء رغباتها، وأقول: إن بيننا وبين الأمة عهدًا يحدد جوهر ما يُختلف فيه الآن، لنا برنامج قطعنا فيه على أنفسنا أننا سنراعي في الدستور الذي نضعه أحدث مبادئ القانون العام، وعلى الأخص المسئولية الوزارية أمام البرلمان. أترى يشكون في مبادئ القانون العام الحديث نفسها، أم يجهلون أن مبدأ المسئولية الوزارية هو محور النظام الدستوري وجوهره ولبابه، والأمان الكافي ضد خروج السلطات عن حدودها، والأساس الصالح للتعاون بين الأمة والحكومة، أو يجهلون أن ما خلا هذا المبدأ لا يبلغ أهميته وأن هذا المبدأ ضابط لأحكام الدستور نفسه؟!

قالوا: إن وضع الدستور بهذه الطريقة لن يجعل للأمة سبيلًا إلى تغيير شيء من أحكامه. على أنني لا أدري مبلغ هذا التكهن من الصحة، فإن ما أعلمه عن القواعد الدستورية — وهي التي أشرت إليها في برنامج الوزارة — أن الدستور يشتمل عادةً على نص يُحتفظ به بسبيل يكون من حق للأمة مشخصة في إدخال ما يُرى ضرورة إدخاله من التعديلات. سيرى الناس إذا انتظروا قليلًا أن محاولة عرقلة الحكومة في أعمالها لم يكن من مصلحة البلاد في شيء، وأن الحكومة ما توخت ولن تتوخى شيئًا غير مصلحة الوطن القائمة التي تتلاشى أمامها الأعراض الزائلة والأوهام الباطلة.

سيرى الناس يوم يصبح الدستور حقيقة واقعة بأن التهمة التي وُجِّهت للحكومة غير صادقة، وأن يرون أنفسهم أمام نظام يسمح للإرادة العامة بأن يكون لها مظهر حقيقي وأثر فعلي في تصريف الأعمال العامة وفي كل شيء يتعلق بمستقبل البلاد.

قالوا إننا خرجنا عن برنامج وزارة عدلي باشا الذي كنا متضامنين معه فيه، ولكنهم نسوا أو تناسوا أن مهمة الجمعية الوطنية بحسب ذلك البرنامج لم تكن في الأصل وضع دستور للبلاد، وإنما كانت مهمتها النظر في الاتفاق الذي تألفت وزارة عدلي باشا للمفاوضات فيه، ثم وضع الدستور المبني على نصوص هذا الاتفاق بعد ذلك.

فالمهمتان لا تقبلان التجزئة، وكان يجب على الجمعية إذا هي أقرت الاتفاق أن تراعي في وضع الدستور ما يكون قد تضمنه من الشروط والقيود، أما اليوم فإن وضع الدستور متقدم على الاتفاق، وإذا كان لا يُبنى عليه فإنه يجب على أي حال أن لا يُسد الطريق للوصول إليه.

هذه هي الحقائق التي أردت أن أبسطها أمام حضراتكم، وأن ما تعرفه الحكومة في حضراتكم من الكفاءة والكفاية لهذا العمل أحسن ضمان لأن يكون عملكم خير مرشد وهادٍ إلى رغبات البلاد وحاجاتها.

ولا أريد أن أختم كلامي بغير إشارة إلى التضحية الكبيرة التي قدمها حضرة صاحب الدولة رشدي باشا بقبول الاشتراك في عمل هذه اللجنة، ولا أخفي على حضراتكم أن فكرة إسناد الرئاسة لدولته قد خطرت مرارًا على بالي من أول يوم فكَّرت فيه الحكومة في تأليف اللجنة.

ولكن علمنا بمقدار ما يبذله من نفسه وصحته في أداء الواجب الذي يدعوه إليه الوطن ومصلحته، وحبنا لشخصه، ورغبتنا في تمتعه بالصحة التامة، كل ذلك جعلنا نتردد عن مخاطبته في الأمر.

غير أنني لما خاطبت بعد ذلك أحدًا من حضراتكم إلا وسألني عما إذا كان رشدي باشا مشتركًا في عمل اللجنة، وأظهر رغبته في أن يراه على رأسها، فلم أجد بُدًّا أمام هذا الإجماع من إيصال هذه الرغبة إلى علمه.

فتقدم كعادته إلى الخدمة الوطنية غير ملتفت إلى ما يكلفه ذلك من تحميل صحته هذه المتاعب الجديدة، ولكنه اشترط شرطًا لم يكن في وسعي قبوله، وتركت لدولته الحرية في أن يقدمه بنفسه لحضراتكم؛ لتتصرفوا فيه كما تريدون … وأختم القول بتكرار التحية لحضراتكم، وتوجيه الرجاء إلى المولى — عز وجل — أن يلهمكم السداد، وأن يوفقنا جميعًا إلى ما فيه الخير للبلاد.

(١٢) شروط ثروت باشا لتأليف الوزارة (نقلًا عن مقطم ٣١ يناير سنة ١٩٢٢)

  • أولًا: عدم قبول مشروع كرزون، والمذكرة التفسيرية.
  • ثانيًا: تصريح الحكومة البريطانية بإلغاء الحماية، والاعتراف باستقلال مصر قبل الدخول في كل مفاوضة.
  • ثالثًا: إيجاد وزارة خارجية مصرية، وتمثيل خارجي من تعيين سفراء وقناصل.
  • رابعًا: إيجاد برلمان مُشكَّل من هيئتين: إحداهما مجلس نواب، والأخرى مجلس شيوخ، ويكون للبرلمان المذكور السلطة التامة على أعمال الحكومة، وتكون الوزارة مسئولة أمامه.
  • خامسًا: إطلاق يد الوزارة بلا مشارك في جميع أعمال الحكومة، تمكينًا للوزارة من تحمل مسئولية الحكم أمام البرلمان.
  • سادسًا: ألا يكون للمستشارين في الوزارات إلا رأي استشاري، وأن يبطل ما للمستشارين الآن من الحق في حضور جلسات مجلس الوزراء.
  • سابعًا: حذف وظائف المستشارين في القريب العاجل ما عدا وظيفتي مستشاري الحقانية والمالية، فإنهما تبقيان إلى ما بعد ظهور نتيجة المفاوضات الجديدة.
  • ثامنًا: استبدال الموظفين الأجانب بموظفين مصريين، وأخذ العُدَّة لذلك من الآن، وتعيين وكلاء مصريين على الفور لجميع الوزارات، وهم: وكيل للمالية، ووكيل للخارجية، ووكيل للمواصلات، ووكيل للأشغال العمومية، ووكيل للداخلية ووكيل آخر للداخلية في الصحة.
  • تاسعًا: رفع الأحكام العسكرية، ووعد الوزارة — اعتمادًا على حُسن موقف الأمة — بالسعي في سحب ما اتُّخذ من الإجراءات بمقتضى الأحكام العرفية، ومن جملة ذلك: فك اعتقال المعتقلين المصريين حيثما كانوا.
  • عاشرًا: الدخول في مفاوضات جديدة — بعد تشكيل البرلمان المصري — مع الحكومة البريطانية بواسطة هيئة مصرية يشرف البرلمان المصري نفسه على تعيينها؛ للنظر في مسألة السودان، وفيما لا ينافي استقلال البلاد من الضمانات التي تطلبها الحكومة البريطانية تأمينًا لمصالح الإمبراطورية البريطانية ومصالح الأجانب في مصر، وذلك كله على شرط أن تكون هذه المفاوضة غير مقيدة بشرط أو قيد من القيود والشروط المُبيَّنة في مشروع كرزون.

وبعد الانتهاء من هذه المفاوضات يكون القول الفصل في نتيجتها للأمة المصرية المشخصة في برلمانها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤