عصر شكسبير

عصر شكسبير هو عصر النهضة في إبان ازدهاره، وهو العصر الذي اصطلحوا على تحديده من منتصف القرن الخامس عشر إلى نهاية القرن السابع عشر، ويبدأ من فتح القسطنطينية وينتهي عند أوائل القرن الثامن عشر؛ لأن هذا القرن يبدأ باسم آخر في أطوار الثقافة الغربية، ويُسمَّى بعصر الاستنارة الذي يُعَدُّ امتدادًا لعصر النهضة ولا يُعَدُّ نهاية له في الحقيقة، وإنما تختلف الأسماء للتمييز بين أدوار الثقافة في مراحلها المتتابعة.

ويسمي الأوروبيون عصر النهضة باسم «المولد الجديد» كما يسمونه أحيانًا بعصر إحياء العلوم، ولكن اسم الدعوة الإنسانية Humanism هو أصدق الأسماء في تمييز مقاصده ووجهة النهضة فيه؛ إذ كان ميسم النهضة كلها الاتجاه نحو الإنسان والاعتراف له بحق التفكير وحق الحياة.

لقد بدأت الدعوة الإنسانية قبل عصر النهضة الذي يؤرِّخونه في بداءته بفتح القسطنطينية، وكان لانتشار الحضارة الإسلامية أثره في الإيحاء بنصيب الإنسان من دنياه وتحبيب محاسن الحياة إليه، وكان رائد الإنسانيين بترارك (١٣٠٤–١٣٧٤) يتغنَّى بالحب على أسلوب الشعراء الجوَّالين الذين اقتبسوا أناشيدهم من الشعراء الأندلسيين، ويلحق به رهط من الأدباء والقصاصين ينسجون على منوال ألف ليلة وليلة فيما تخيلوه مثالًا لمتعة العيش، ويتعمدون أن يظهروا في أقاصيصهم ما يبطنه أدعياء النسك والإعراض عن الدنيا من النفاق والولع بالمحرمات والمحظورات، وكان هذا هو جانب الدعوة الذي يشيع بين عامة الناس ويسهل فهمه والشعور به في جميع البيئات، ويسري معه في بيئات المثقفين حب الاطلاع والانطلاق من القيود التي كانت تحرِّم النظر في بعض الكتب العلمية والفلسفية، وأولها كتب «ابن رشد» التي سُمِّيت بالفلسفة الرشدية أو ﺑ «الرشدية» على إطلاقها، وتعرضت للقسط الأوفر من حملات التشهير والتحريم.

بدأت الدعوة الإنسانية — مقابلة لدعوة التقشف والإعراض عن الحياة — بعد قيام الدولة الإسلامية في الأندلس بقرن واحد، ثم جاءت الكشوف المتوالية فعززت هذه الدعوة؛ لأنها صحَّحت مكان الإنسان من العالم وعرفته بما كان يجهله من أرضه التي يعيش عليها، وقد كان يجهل أنه يعيش على كرة تدور في الفضاء، ويحسب أن حدود الأرض تنتهي عند بحر الظلمات.

وقد امتد عصر الكشوف السماوية والأرضية حتى جاء نيوتن فكشف عن قانون الجاذبية وعن قوانين الحركة في الأفلاك وفي الأجسام المادية حيثما تكون، وكشف العلم عن حقائق جسم الإنسان كما كشف عن حقائق الأجسام الصماء، فعرف حقيقة الدورة الدموية واجترأ على تشريح البنية الحيوانية للعلم بوظائف الأعضاء.

كان معنى عصر النهضة، أو عصر الرشد، اعترافًا بحق الإنسان في التفكير وحقه في الحياة، وتمثل هذا الحق في كل شعبة من شعب الفكر وكل غرض من أغراض الحياة: تمثل في الحياة الروحية كما تمثل في الحياة الجسدية، فانتشرت الثورة على التقليد والتسليم، وانتشرت معها المذاهب الدينية التي تبيح للعقل أن يراجع السلطان فيما يمليه عليه من قواعد الإيمان، ولا توجب عليه أن يدين بما يُملَى عليه بغير سؤال ولا برهان.

وانتشرت الثورة على التقليد في شؤون العلم والحكمة كما انتشرت الثورة على التقليد في شؤون العقيدة وشعائر الدين، وكان الناس قد نسوا أن المعلم الأول — أرسطو — هو القائل: إنني أجلُّ أفلاطون، ولكن الحقيقة أعظم من أفلاطون، فوقفوا بالحقيقة كلها عند مقولات أرسطو التي تناقلوها جيلًا بعد جيل، ثم جمدوا على ما فهموه خطأ من أقواله ولم يقصده ولا خطر بباله، فلما ثبت لهم حق الفكر قام منهم من يقول إن الحقيقة أكبر من أرسطو وإن ميدان المعرفة يحيط بأمور لم يحط بها المعلم الأول في زمانه.

•••

ومما ساعد على انتشار دعوة الإنسانيين أن كثيرًا من اللاهوتيين المتقشفين المخلصين في زهدهم وإعراضهم عن الدنيا، كانوا يُقبِلون على دراسة الفلسفة والحكمة ويختبرون دراسات العلوم الطبيعية، وربما كان منهم من ينكر دعوة الإنسانيين إلى متاع الحياة واجتناب معيشة النسك والشظف، ولكنهم كانوا في ثورتهم الفكرية على قيود الدراسة أشد وطأة على «السلطة الدينية» من دعاة الإنسانيين.

على أن هؤلاء النساك المشتغلين بالفلسفة كانوا يؤيدون دعوة الإنسانيين إلى متاع الحياة من طريق آخر؛ لأنهم كانوا يشنون الغارة على أصحاب الرئاسات من رجال الدين المنعَّمين الذين كانوا يذكرون الزهد بألسنتهم ولا يتكلفون في معيشتهم، فكانوا بمسلكهم هذا في الخفاء والعلانية حجة «فعلية» على قوة الدعوة إلى الحياة ومغالبتها لمن يصطنعون إنكارها والزراية عليها أمام أعين الناس.

وكانت البلاد الأوروبية تموج بالوعَّاظ من زمرة النساك الدارسين، فلا تخلو أمة في القارة ولا في الجزر البريطانية من واعظ جهير الصوت عنيف الحملة على البذخ والنفاق بين ذوي الرئاسات من رجال الدين، وكان أعنفهم حملة في أوائل القرن الرابع عشر أتباع الواعظ الفيلسوف وايكليف Wycliffe المعروفون بالمترنِّمين Lollards لأنهم كانوا يترنَّمون بالصلوات وأناشيد الضراعة والابتهال، فقد كان هذا الواعظ الفيلسوف يخوض معركة الجدل بين أنصار مذهب الواقعية Realism وأنصار مذهب الاسمية Nominalism ويسترعي إليه أسماع العامة بزهده وغيرته وأسماع الخاصة ببلاغته ومضاء حجته، وما زالت دعوته تشتد وتشيع حتى أقلقت رؤساء الدولة والدين فحاربوها وكادوا يسكتونها، ولكن بعد أن هيأت العقول في البلاد لقبول ثورة أشد وأبقى منها، وهي الثورة البروتستانتية، وفي أعقابها ثورة المتطهرين التي قبضت على زمام الحكم في عهد الملك شارل الأول وجمعت إليها طبقات الأمة من النبلاء ومن تابعوهم من حواشيهم متابعة الطاعة العمياء.

ومن الواضح أن عصرًا كعصر النهضة خليق بأسبابه العامة أن يعم الأمم الأوروبية ولا ينحصر في ناحية منها دون سائر نواحيها؛ لأنه كان ينبعث من حركة العلماء والرهبان الذين هاجروا من بلاد الدولة البيزنطية إلى أقطار أوروبة الشرقية والوسطى بعد سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين، وسبقهم من الطرف الآخر تلاميذ العرب في غرب القارة بفرنسا وفي جنوبها بالأندلس وصقلية، وراحوا يتنقلون جميعًا في بقاع الشرق والغرب والجنوب التي ارتفع فيها السخط من داخلها على فساد السلطة الدينية والدنيوية، فلم تسمع بين أمم القارة صيحة إصلاح واحتجاج إلا قابلتها صيحة مثلها من سائر الأمم تلبيها أو توافقها في الزمن لأسباب مثل أسبابها وإلى وجهة قريبة من وجهتها.

غير أن الجزر البريطانية قد اجتمعت لها في عزلتها أسباب خاصة — مع هذه الأسباب الأوروبية العامة — جعلتها في ثورة مطبقة تشترك فيها بجملتها فضلًا عن الثورة التي كانت تعتلج في نفوس المحكومين منها على حكامها وسادتها.

فهي في عزلتها كانت بعيدة من سيطرة رومة، قريبة من معاهد العلم في أوروبة الغربية، فخف طلاب المعرفة من أذكيائها إلى مدارس إسبانيا وفرنسا وصقلية ونبغ منهم حوالي القرن الثاني عشر نفر لا يساويه في عدده ولا في علمه نظراؤهم من الأمم الأوروبية الأخرى، ويُذكَر في طليعتهم أديلارد أوﭫ بات، ودانيال أوﭫ مورلي، وروجر أوﭫ هيرفورد، وإسكندر نكوام. ويليهم: رائد المدرسة التجريبية الحديثة روجر باكون (١٢١٤–١٢٩٢) أستاذ سكوتس زعيم الاسميين، وأكهام زعيم الواقعيين الذي كان لوثر يفخر بالانتساب إليه، فيقول: «أستاذي العزيز أكهام.»

ولولا هؤلاء لما تمهدت سبل البحث والنظر لإمام المدرسة التجريبية فرنسيس باكون معاصر شكسبير.

وسبب آخر من أسباب وفرة العوامل التي ضاعفت قوة النهضة في هذه الجزر المعزولة أنها أصبحت في المحيط الأطلسي مركز الملاحة والتجارة بعد كشف القارة الأمريكية، فقد تحولت طرق الملاحة العالمية من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلسي بعد كشف أمريكا وكشف الطريق البحري حول رأس الرجاء إلى الشرق الأقصى، فنشطت في إنجلترا طوائف عدة من الروَّاد والملاحين ورجال الأعمال وطلاب المغامرة والمرشحين لولاية الحكم في مستعمرات الغرب والشرق، وتعاظم نفوذ هذه الطوائف في عصر شكسبير — عصر عريضة الحقوق الدستورية — فنالت الأمة الإنجليزية منها ما لم تنله الأمم الأوروبية بجوارها إلا بعد ذلك بعشرات السنين، وكانت عزلتها في البحر من أسباب هذا السبق في انتزاع الحقوق من أيدي المستبدين؛ لأن حكومتها كانت تعتمد على الأسطول لحماية أرضها، وكان يكفيها القليل من الكتائب في الجيش القائم لحماية الأمن في داخلها، وكان لنبلائها جيوش صغيرة في أقاليمهم توازن جيش الملك الكبير في العاصمة والمدن المحصَّنة، فلما نهضت الطبقة الوسطى — الجديدة — للمطالبة بحقوقها لم يكن في طاقة الملك أن يقمعها، وأن يستغني عن معونتها المالية في تسليح جيشه والإنفاق عليه، فنجحت الثورة الدستورية قبل أن تنجح في بلاد الحكومات التي تحميها الجيوش القائمة، ويضعف فيها نفوذ الطبقات الوسطى في كل حركة تستقل بها عن طبقة النبلاء، ولا تعتمد فيها على مشايعة الدهماء.

•••

ولما دخلت إنجلترا في المذهب البروتستانتي كان دخولها في هذا المذهب بمثابة ثورة من طرفين متقابلين: ثورة الملوك على سيطرة الكنيسة للاستقلال بالحكم في دولتهم وإقامة أنفسهم على رأس الكنيسة في بلادهم، وثورة الشعب الذي كان على استعداد لخلع الرئاسة الدينية المفروضة عليه بعد تتابع الدعوات من قبيل دعوة وايكليف وأتباعه، أو قبيل دعوة المتطهرين التي ضمت في أحضانها شراذم متفرقة من طبقات متفاوتة تدين أحيانًا بعقائد رومة ولا تدين في الجملة بمراسمها وتقاليدها «الكهنوتية».

وقد اصطلحت شتى العوامل على وضع الجزر البريطانية في موضع المناظرة والمقاومة لدولة القارة الكبرى التي تمثل فيها النظام القديم في موقفه من الدين والعلم وموقفه من مسائل الاجتماع والسياسة، وقد تمثل ذلك النظام على أتمه وأعمه في الدولة الإسبانية.

فالدولتان — إسبانيا وإنجلترا — تتنافسان في السياسة؛ لأنهما تتنازعان السيادة والغلب على المحيط الأطلسي ومستعمرات الأمريكتين الشمالية والجنوبية.

وكلتاهما تناصب الأخرى العداء؛ لأنها أكبر الدول التي تحمي مذهبها في العقيدة، فكانت إسبانيا حامية الكثلكة وإنجلترا حامية المذهب الذي اشتهر يومئذ بمذهب «الاحتجاج» والإصلاح.

وبين الدولتين منافسة في العنصر «القومي» لا تخلو من آثارها الملموسة في شؤون الفكر والنظرة الروحية، ولا شك أن لهذا التنافس أسبابه التاريخية التي تتصل بالسياسة وأنظمة الشعوب والقبائل، ولكنه — كائنًا ما كان في منشئه وتطوره — ظاهر للعيان في تقسيم الأمم بين الكثلكة والمذاهب الأخرى؛ فالأمم اللاتينية إلا القليل منها جانحة إلى كنيسة رومة، والأمم التيوتونية والجرمانية إلا القليل منها جانحة إلى المذاهب التي فارقت كنيسة رومة وخرجت عليها، وقد يظهر ذلك في الجزر البريطانية نفسها، فإن الشعوب التي لا تنتمي إلى الجرمان والتيوتون بقي أكثرها على مذهب رومة ولم يتابع جيرانه في الخروج عليها.

وزبدة هذه العوامل المتشابكة أن الحوادث كانت تميل بالأمم البريطانية إلى الجانب المعارض للنظام القائم منذ القرون الوسطى، وأن دعوة الإنسانيين بالنسبة إليها كانت إلى الواقع المقرر أقرب منها إلى الرأي والمطاوعة المقصودة، فكل ما حرمته النظم القائمة فهو بحكم المصلحة — أو بحكم رد الفعل — عرضة للمناقضة والشك من الجانب الذي يناظره ويتحدَّاه، وهذا الذي جعل الجزر البريطانية على عهد النهضة في ثورة مطبقة تشترك فيها بجملتها، فضلًا عن ثورتها في داخلها على حكامها.

وكل تلك العوامل المتشابكة تتراءى على كثرة، أو على قلة، فيما يصادفنا من أحوال المجتمع وعادات طوائفه وفئاته وأزياء رجاله ونسائه وفيما يتبدل من نظم الحكومة ودساتير المعاملة بين الرعاة والرعايا، وما يجيش في نفوس هؤلاء من سورات القلق والشكاية، وهذه نتائج تلك العوامل الجديدة في عالم الواقع على صورتها العملية، ولكنها تطالعنا صريحة ناطقة في صفحات الكتب ونظرات المفكرين وذوي الرأي فيما يتناولونه من موضوعات الدعوة الإنسانية، أو فيما يتخلل الموضوعات العامة عرضًا واتفاقًا بمعزل عن تلك الدعوة، وهجيراها في جملتها ترديد الاعتراف بحق الإنسان في التفكير المستقل والحياة الدنيوية، وتصحيح مكانه في هذا العالم تبعًا لما تعارفه الناس من تصحيح علاقاته وحدوده، وهذه هي رسالة عصر النهضة التي بلغت مرحلتها الوسطى قبيل ميلاد شكسبير، ولم تزل آخذة في التمام والاتساع أثناء حياته وبعد مماته.

•••

فالقس ريتشارد هوكر Hooker (١٥٥٤–١٦٠٠) يقول في فصل عن قوانين الكون: إن الله قانون لنفسه ولسائر الموجودات، ويبدأ كلامه قائلًا: «جميع الموجودات لها أعمال ليست بالجامحة ولا بالعرضية، وما من شيء يُعمَل ما لم تكن له وجهة مرسومة يعمل لأجلها، ولا تُدرَك هذه الوجهة ما لم يكن العمل المتجِّه إليها صالحًا لبلوغها من طريقه.»
وسير والتر رالي Raleigh (١٥٥٢–١٦١٨) يكتب عن العوامل الطبيعية وعوامل السحر فصلًا يقول فيه: «إنه لصحيح أن ثمة صناعات كثيرة — إن صدقت التسمية — تنطوي تحت عنوان السحر، ويلوح عليها أنها فروع من الشجرة التي ما نمت عليها قط في الحقيقة، وأول هذه الصناعات استحضار الأرواح، وهو على أنواع: أحدها التعزيم على روح الميت عند قبره ويسمع فيه الجواب من الشيطان لا من الطيف الذي يُخيَّل للناظر أنه قد ظهر أمامه، ومن البيِّن أن الأرواح الباقية لا تسكن التراب ولا تستقر في جثث الموتى، وإنما كانت تهب الحركة والفهم للحي وهو بقيد الحياة فما كان الموت إلا انفصالًا بين الجسد والروح.»

ثم يقول عن نوع آخر من العزائم: «إنه ذلك الذي يُقَال فيه إنه عهد مع الشيطان يجعل لصاحبه قدرة على استدعاء الشياطين لسؤالها عما تريد أن تعلمه، وخطأ هؤلاء الذين يدعون هذه الدعوى ظاهر؛ لأنهم يعتقدون أنهم يرعبون الشياطين بالكلمات المخيفة التي تحصرها في خطوط دائرة لا تقوى على أن تحبس فيها الفأر الضعيف …»

وتوماس ديج Digges (١٥٤٥–١٥٩٥) الفلكي يكتب في تأييد نظريات كوبرنيكس بعد تصحيح بعض الأخطاء، فيقول: «إنه بين تلك الأخطاء وجدت أوصاف للعالم ومراكز الأفلاك السماوية والعناصر على حسب شروح بطليموس التي تسربت إلى الجامعات كافة على ما يظهر من أثر التسليم بفلسفة أرسطو. ولكننا قد نبغ في عصرنا هذا نابغة ألمعيٌّ، فَطِن للأخطاء المتكررة والأقوال السخيفة التي سيق إليها من لا يريدون أن يصدقوا أية حركة في فلك الأرض، فكشف بالدرس الطويل والبحث المجهد والذكاء النافذ صورة للعالم تدل على أن الأرض لا تثبت في مركز الكون، بل في مركز هذا الفلك الدنيوي الفاني تحت القمر وحول الشمس التي استوت على العرش في وسط ملكها تصدر قوانين الحركة لسائر ما يحتويه.»
وجابرييل هارڨي Harvey (١٥٤٥–١٦٣٠) الشاعر الأديب يكتب إلى صاحب يشكو إليه فساد الدنيا في الزمن الأخير، فيقول له إن ما ينعاه على دنياه قديم كقدم هابيل وقابيل وآدم وحواء وبابل وسدوم، وإن تاريخ الإنسان يرينا أن الأقدمين كانوا أساتذة للتابعين في خلائق الغدر والرجس والجريمة، فلا ينبغي أن نجهل حقيقة الأولين ولا أن نبخسهم حقهم أو حق الخلف الذين يعيشون في هذا الزمان … إلى أن يقول: «إنك لتحسب أن العصور الأولى كانت في حياة الإنسان عهدها الذهبي، وما هو بذاك، فلعل العهد الذهبي كما قال بودين Bodin مزدهر بيننا الآن.»
وجابرييل هارڨي هذا يكتب عن العلم والعمل أو عن معرفة الورق ومعرفة التجربة، فيقول عن أحد الصناع: «إنه شابٌّ لم يتعلم في جامعة، ولكنه يُخجِل أساتذتها الذين يتعلمون منه؛ إذ هم يملكون الكتب والصناع يملكون المعرفة.» ثم يمضي فيسرد أسماء: همفري كول Cole صانع المكنات الفلكية، وماثيو بيكر Baker السَّفان، وجون شيوت Shute البنَّاء، وروبرت نورمان Norman الملَّاح، ووليام بورن Bourne صانع الأسلحة، وجون هستر Hester الكيمي، فيقول: إنهم سيُذكَرون يوم يُنسَى كثيرٌ من أساتذة الأوراق.

•••

وأينما قلَّبنا الصفحات في المؤلفات التي ظهرت باللغة الإنجليزية بين أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، فهناك هذه النظرة الجديدة إلى العالم وإلى الإنسان وإلى المعرفة التي تقوم على تحقيق الضوابط والقوانين وتحرير التجربة العملية.

ولأول مرة في الغرب بعد القرون الوسطى يفهم عشاق المعرفة أنها سرور ورياضة، ويشيحون بوجوههم عن المعرفة التي تقيِّدهم بالأماني الموروثة أو تُلقَى إلى الطلَّاب كأنها ضريبة ثقيلة ترين على رؤوسهم وكواهلهم، ويسري هذا الرأي في المعرفة المحبوبة من ولاة الأمر الذين يصدرون الأوامر والنواهي ولا يرتاحون عادة إلى الإقلال من القيود والتخفيف من الفرائض والمحظورات، ولكنهم يخالفون ديدنهم في هذه القيود؛ لأنهم كانوا في ذلك العهد أصحاب الحصة الكبرى من المعرفة الجديدة: حلية الرئاسة، وأداة المنصب، والوظيفة.

يروي روجر أشام Ascham (١٥١٥–١٥٦٨) أستاذ الأميرة اليصابات وأمين سرها باللغة اللاتينية بعد ارتقائها إلى العرش أنه كان يحضر مجلس المائدة في القصر وكل حاضريه من نخبة من وزراء القصر ومستشاريه، فذكر أحدهم على سبيل العجب أن بعض الطلاب تركوا الجامعة تذمرًا من صرامة العقاب، فكان تعليق أحد الوزراء أن هذه الصرامة تبغض الناشئة في العلم قبل أن يتذوقوا حلاوته فيصبروا على الشدة في تحصيله، وقال غيره: إن الجامعة ينبغي أن تكون مثابة متعة وملعب رياضة، ولم يكن بينهم أحد من شيعة التعليم بالخوف والعقوبة.

وفي هذا العصر نبغ العلماء والأدباء من العلية وكبار الساسة وذوي المناصب في القيادة والرئاسة، ومن هؤلاء كان فرنسيس باكون إمام المدرسة التجريبية الذي يسبق إلى الظن من تلقيبه بإمام هذه المدرسة أنه أول من دعا إلى التجربة العلمية ووجَّه العقولَ إليها، وإنما كان في الواقع أحد الباحثين الذين نشأوا في عصر البحث والقوانين الكونية والعلوم التجريبية، وفضله الخاص بين الدعاة إلى هذه الوجهة العامة أنه طبق فكرة التجربة في ناحية البحث العلمي ووضع له قواعده الصالحة لتحقيق النتيجة الصحيحة، ولم يكن أحد من فضلاء عصره يقرر نتيجة من نتائج العلم على أساس غير أساس التجربة واستقلال الفكر بالفهم والمناقشة، وعلى هذا تتم أقوالهم وأقوال أمثالهم في مسائل النظر وأبواب العلم والدراسة بأنواعها.

وتلك الخليقة حَرِيَّة بالتقرير في هذه المقدمة عن عصر شكسبير؛ لأنها — مع لزومها لفهم روح العصر — لازمة في فهم شكسبير وباكون وسائر المفكرين من أبناء الحركة الفكرية المخضرمة بين القرن السادس عشر والقرن السابع عشر؛ إذ كان يعيش الشاعر والفيلسوف، فإنها فترة من الوقت لم ينفرد فيها أحد بنوع من المعرفة ولا أسلوب من المعرفة، وغاية ما ينفرد به النابغ في إبان الدعوة العامة على مثال دعوة الإنسانيين أن يضفي عليها طابعه الشخصي فيما تخصص له من فن أو علم، وما هو بالحظ القليل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤