أسرة شكسبير

كاتب الأعاجيب ليس في سيرته خبر عجيب.

يُقَال هذا ويُعَاد في مفتتح السير التي تروي لنا عجائب الأخبار في الواقع والخيال، ويصدق على فئة كبيرة من أعلام الشعراء والكُتَّاب يصفون لنا أبطال العظائم والغرائب، ويخلقون لنا من أخيلتهم سِيَرًا تشوقنا بما تعمله أو بما تلقاه من صروف المحن والتجارب، ونعود إلى سيرتهم في وقائعها وأخبارها فنعجب لخلُوِّها من العجائب، ونَحَار كيف نضعها مع السِيَر التي وصفوها لنا كما خلقها الله أو وضعوها لنا كما خلقوها من صنع القريحة والخيال.

وأصدق ما تُقَال هذه الكلمة حين تُقَال عن وليام شكسبير، صاحب الروايات التي امتلأت بعجائب السير من وصفه ومما صنعه على يديه، ولا عجيبة في سيرته من يوم مولده إلى يوم وفاته، إلا ما كتبه بقلمه وابتعثه على مسرح التمثيل ثم أبقاه على مسرح الحياة كأبقى ما يبقى الخلائقُ الأحياءُ.

إلا أننا — على ما يُقَال في أحاديث الأرواح والأطياف — لا نبحث عن العجائب إلا وجدناها أمامنا، وإن لم نجدها على تقديرنا وحسباننا، ولعلنا لا نبحث عن العجائب إلا لأنها تستدعينا وتتخايل من وراء حجابها لنلقاها وتلقانا.

إن عظمة شكسبير أعجوبة خارقة، ولكننا لا نبحث عنها لأننا نراها حيثما رأينا شكسبير في عمله، ورأينا أنه عمل عظيم قليل النظر بين أعمال النابهين على غراره.

ولكن العجيبة في هذه السيرة التي لا عجب فيها أنه وُلِد حين وُلِد، وأنه رحل من مسقط رأسه حين رحل عنه، وما من عجب في مولد أحد كما يولد سائر الناس ولا في هجرته من مسقط رأسه كما هاجر في زمنه مئات وألوف، ولكننا نعجب لهذا وذاك؛ لأنهما توفيق من الحوادث يستوقف النظر ولو حسبناه في عداد المصادفات؛ لأن المصادفات من هذا القبيل جديرةٌ بالتنبيه والتسجيل.

وُلِد شكسبير سنة ١٥٦٤، في الوقت الذي نشأ فيه المسرح الثابت بخانات لندن وأصبح من ملاهي العاصمة التي لا يستغني عنها أبناؤها ومن يرتادون خاناتها من وفود الريف، وعمد أصحاب الفرق التمثيلية إلى إقامة المسارح خارج أسوار المدينة بنجوة من تشريعها حين اشتدت وطأة الرقابة عليها من جانب عمدة العاصمة وزملائه في إدارة مجلسها، ثم غلبت رغبة النظارة من الخاصة والعامة في هذا الفن الجديد فاجتاحت أمامها عناد المجلس وبقايا العرف الموروثة وصلابة المتطهرين في مقاومة كل بدعة تدخل فيما يسمونه بالملاهي أو الألعاب، فأذنت الملكة بإقامة المسارح في المدينة وسوَّغت أمرها بما اشترطته آنفًا من اجتناب المساس بالدين والأخلاق وشؤون الحكم فيما يُعرَض على مسارح التمثيل من قصة أو غناء، وعادت الأوامر الملكية التي تخطت تشريع المدينة في هذا الصدد؛ فأكدت ما فرضته من قبلُ من شروط الاستقامة و«حسن السلوك» فيمن يشتغلون بهذه الصناعة، فلا يقبلون في زمرة الممثلين بالمسارح الثابتة إلا بشهادة من نبيل أو وجيه معروف عند ولاة الأمور.

وهاجر شكسبير إلى العاصمة حوالي سنة ١٥٨٦، بعد ارتفاع الحظر على التمثيل فيها بقليل.

هاجر إلى العاصمة وهو في نحو الثالثة والعشرين من عمره؛ لأنه كان يعول أسرة عجز عن الإنفاق عليها وتدبير معيشتها بوسائله الميسورة له ولأهله في الريف، وكان أهله من الريفيين ذوي اليسار، فأصابت أباه عسرة وهو في الثانية عشرة، وعاش في كفالة أبيه إلى ما بعد زواجه على اضطرار قبيل بلوغه العشرين، فلم يطق أن يضطلع بأعباء أسرته بعد أن تزوج ووُلِد له الأبناء، وأوشك أن يطالب بالمشاركة في معونة أبيه.

تُرى هل كان يهجر الريف إلى المدينة لو دامت لأسرته النعمة التي توارثتها من أسلافها؟

تُرى هل كان يخطر له أن يشتغل بالتمثيل لو بقي التمثيل كما كان قبل مولده صناعة من صناعات الأفاقين والجوالين الذين حشرهم العرف والقانون في طغمة اللصوص والطرداء المنبوذين؟

أغلب الظن أنه كان يطاوع ملَكة الشعر، فينظم القصيد كما نظمه أمثاله من الموهوبين، ويبلغ فيه غاية ما بلغه من الإبداع في مقطوعات الأغاني والموشحات أو في أقاصيص الغزل وتراجم الأساطير، وغاية ما بلغه في هذا الفن يسلكه في عداد المئات، أو الألوف، من شعراء الأمم في مختلف اللغات، ولكنه لا يرفعه إلى منزلة الآحاد الذين لا تنطبق على عدهم أصابع اليدين، كما ارتفع — بموازين النقد جميعًا — في فن الرواية المسرحية: فن الخلق والإبداع في تصوير النفوس وتصوير العلاقات بينها على السواء.

أما أن يلحق بالفرق الجزالة ويُوطِّن النفس على عيشة كعيشة الطرداء والشذاذ فليس بالمستحيل ولكنه بعيد، وأبعد منه أن يرتقي في صناعة المسرح الجوال إلى مكان يحتفل به تاريخ الآداب.

إن القائلين: «إن السبب يبطل العجب.» يقولون صوابًا إذا أرادوا بمقالتهم أن عرفان السبب يريح من حيرة الأعجوبة التي تبده الذهن بما يذهله ويخالف مألوفه.

ولكنهم لا يقولون صوابًا إذا وقع في ظنهم أن الأعاجيب بغير أسباب، فإن أعجب الأعاجيب له سببه كهذه الحوادث التي تشيع بيننا كل يوم وكل ساعة فيما نسمعه أو نراه.

وليس بطلان الحيرة وبطلان العجب بسواء، فإن الحيرة قد تبطل في أمر نعرفه وننفذ إلى سره أو نحسب أننا قادرون على النفاذ إليه، ويظل الأمر بعد ذلك عجبًا نادرًا كأندر ما تكون الأعاجيب.

فربما كان شكسبير قد أحس في صباه قدرة على النظم ورَاقَهُ بعض ما اطَّلع عليه من مناظر التمثيل في المدرسة أو في أحاديث قرائها من أبناء قريته، وفيها من قراء اللاتينية غير قليل.

وربما استمع إلى أحاديث أبناء القرية العائدين من العاصمة يتندَّرون بفتنة لندن وفتنة هذا الفن الجديد الذي يناهض سلطان مجلسها ويقهره على قبول ما يأباه في عقر داره؛ فلا يملك أن يشوقه فن العاصمة الفاتن من بعيد، وإن فتنته للمستعدين لأقوى سحرًا وأعمق أثرًا من فتنته لمن يأنسون به ولا يزيدون على النظر إليه.

ولكنه كان ينبغي أن يُولَد حين وُلِد، وأن تدركه العسرة حين أدركته وأن يهجر وطنه حين اضطر إلى الهجرة، لينبغ في العمل الوحيد الذي كان نبوغه فيه أعجوبة الأعاجيب.

وهذه العبقرية على عظمتها إحدى عبقريات لا تُحصَى نعلم منها أن هذه الهبة العالية قد يوافقها زمان دون زمان، وقد تصلح لها حالة دون حالة، ولكنها تعمُّ البيئاتِ جميعًا في الريف والحضر، وفي الرخاء أو الشدة، وفي شواغل العلم أو العمل.

•••

كان مولد شكسبير في ولاية وارويك بقرية ستراتفورد على أصغر الأنهار التي تُعرَف باسم «أڨون»، وهي كلمة قلتية تقابل كلمة «نهير» باللغة الإنجليزية.

واسم شكسبير قديم في الولاية يتركَّب من كلمتين بمعنى: هزَّاز الرمح، ولعله كان في أصل التسمية لقبًا مقصودًا بهذا المعنى؛ لأن بحوث العلَّامة شيمبرز انتهت إلى رجل كان يُسمَّى وليام شكسبير — كاسم الشاعر — قُضِيَ عليه بالموت في سنة ١٢٤٨؛ لأنه كان يسطو على الأطراف يوم كان غزو الولايات والخروج على أمرائها آية من آيات النخوة والمخاطرة، وليس في الأسانيد التاريخية ما يدل على صلة بين وليام شكسبير هذا ووليام شكسبير الشاعر.

أما أقدم المعروفين باسم شكسبير من المتصلين بنسب الشاعر فهو جده ريتشارد شكسبير المتوفى سنة ١٥٦١ قبل مولد حفيده بثلاث سنوات، وكان يزرع الأرض ويستأجرها ويرعى الماشية كما يؤخذ من حكم محفوظ بتغريمه اثني عشر بنسًا لتسريحه في مراعي القرية قطيعًا يزيد على مائة رأس في الرعية الواحدة.

وقد استقصى الباحثون في سيرة الشاعر تراجم ثلاثة يُدعَون باسم جون شكسبير بين منتصف القرن ونهايته، وهم غير جون ريتشارد أبيه الذي تكرر ذكره في سجلات القرية، وكان يختار له توقيعًا يشبه رسم القفاز لأنه يجهل الكتابة، وقد التبس الأمر على بعض الذين تصدوا لترجمته بعد اشتهار ولده فذكروا مرة أنه كان يحترف الجزارة ومرة أخرى أنه كان يحترف الدباغة، وربما اشتغل بذبح الماشية ودبغ الجلود لاستخدامها في صناعة القفازات التي جعلها في توقيعه شارة صناعته، ومن جراء هذا التوسع في أعماله تعرض للحكم عليه بغرامة «اثني عشر بنسًا»؛ لأنه ترك القمامة في الطريق، وهو إهمال لا يسلم منه من يحتاج في عمله إلى رعي الماشية وذبحها ودبغ جلودها، وله في هذه المخالفة شركاء مذكورون في سجلات القرية.

وليس لترجمة جون شكسبير مصادر يوثق بها غير التوقيعات والعقود المحفوظة في تلك السجلات، ومنها يُعلَم أنه ظل على حالة محمودة من اليسر والكفاية بعد وفاة أبيه، فاشترى في سنة ١٥٥٦ بيتين من بيوت القرية الحسنة، وتزوج في السنة التي تليها بماري آردن بنت روبرت آردن صاحب الأرض التي كان يستأجرها ريتشارد شكسبير ويعيش من غلتها ومن رعي الماشية وبيعها، وهي فتاة متعلمة تنتمي إلى أسرة عريقة أغنى من أسرة زوجها؛ إذ كان أبوها يملك البيوت والأرض ويخص ماري وحدها بعد وفاته بستين فدانًا غير بعض الحصص الموزَّعة في ميراث الأرض والمال، ولا شك أنه آثرها بأفضل الحصص بين أخواتها الثمان، إما لأنها كانت أصغرهن أو لأنه كان يأنس فيها النجابة والتفوق في الذكاء والمودة على أخواتها.

ووَلَدت ماري لجون شكسبير طفلتَهما حنةَ (١٥٥٨) التي ماتت في طفولتها، ثم طفلةً أخرى سمياها مرجريت (١٥٦٢) ماتت بعد خمسة أشهر، ثم ولدت أولَ أبنائها وليام (٢٣ أبريل سنة ١٥٦٤)، ورُزقا بعده بثلاثة أبناء هم: جلبرت، وريتشارد، وإدموند. وبنتين هما: حنة، وآن. وتُوفِّيت ماري سنة ١٦٠٨ بعد وفاة زوجها جون بستِّ سنوات.

وكانت حالة جون قد اطردت في التقدم والرخاء بعد زواجه إلى سنة ١٥٧٥ حين اشترى منزلين آخرين غير منازله التي كانت له قبل الزواج، ثم تقلبت به صروف التجارة والصناعة في أيام التحول الاقتصادي الذي طرأ في البلاد الإنجليزية على تجارة الداخل والخارج ونظام التصدير والاستيراد وتداول المراكز التجارية بين القرى والحواضر ومدن السواحل، فطاحت الأزمة بعتاده وعتاد زوجته وأثقلت كاهله بالمتاعب والهموم حتى شغلته عن وظائفه العامة في القرية، وكان قد تولى منها عدة وظائف هامة كأمانة الخزانة ووكالة الدعاوى ورئاسة المشايخ فاعتزلها أو عُزِل منها، وعيَّن مجلسُ القرية بديلًا له لانقطاعه عن جلساته.

ويجهل التاريخ تفصيلات هذه المحنة لأنها لم ترد في سجلات القرية المحفوظة، إلا ما كان من خبر هنا وخبر هناك عن القضايا التي رُفِعت عليه والديون التي طُولِب بها والعقود التي دُوِّنت فيها الرهون أو الإجارات، ولكن الخطأ في محنته إنما كان من أخطاء الضرورة التي أوقعه فيها التوسع في أعماله بين صناعة القفازات وزراعة الأرض وتجارة المبيعات من محصول الزراعة والصناعة ومباشرة الوظائف المتعددة في مجلس القرية، وغير ذلك من متاعب البيت ومطالب البنين والبنات، ولم يثبت في تاريخه المسجل ما يدينه بسيئة من سيئات الخلق أو سيئات الخطل العيب.

ويظهر من أسماء ذرية شكسبير أن الأبناء والبنات من هذه الذرية كانوا يُسمَّون بأسماء أقربائهم وقريباتهم من العمومة والخؤولة، وأنهم كانوا يقيمون في قراهم ولا يطلبون الاغتراب عنها، وأن إخوة شكسبير الذكور لم يعمروا ولم يخلفوه؛ إذ مات جلبرت في السادسة والأربعين ومات إدموند في السابعة والعشرين ومات ريتشارد في التاسعة والثلاثين، ولم يشتغل منهم غير واحد بصناعة التمثيل وهو أصغرهم إدموند الذي وُلد سنة ١٥٨٠ وتُوفي سنة ١٦٠٧.

وقد توفيت البنات صغيرات، فماتت حنة الأولى وأختها مرجريت في سن الرضاع، وماتت آن أصغرهن في الثامنة من عمرها، ولم تبلغ منهن سن الشيخوخة غير حنة الثانية التي سُمِّيَت على اسم أختها المتوفاة، فإنها وُلدت سنة ١٥٦٩ وتوفيت سنة ١٦٤٦.

•••

في هذه الأسرة الريفية نشأ وليام شكسبير بن جون بن ريتشارد شكسبير، ويُخيَّل إلينا الآن أنه يحل منها في مكان ناشز غير مُعَدٍّ لأمثاله؛ لأنها في جميع سماتها وعاداتها تطَّرد على شاكلة الأسر الريفية التي تتطلع إلى الستر أو الوجاهة ولا تطمح إلى مكان في العالم فوق ذلك أو وراء ذلك، ثم يصعد من بينها هذا الاسم الذي لا يدانيه في آفاق الشهرة الإنسانية غير آحاد معدودين، فليس في أبناء الأسر المالكة ولا في أبناء العروش الإمبراطورية من اشتهروا مثل شهرته وعُني الناس بأقوالهم وأخبارهم عنايتهم بأقواله وأخباره، وإذا استثنينا الرسل والأنبياء من أصحاب الأديان الكبرى فليس في أصحاب الأقلام منذ كتب الإنسان بالقلم عشرة يُعَدُّون معه في الصف الأول الذي تقدم إليه بين الصفوف العباقرة العالميين. لا جرم يتخيل المتخيل حين ينتقل من سيرة ذويه إلى سيرته أنه ينتقل من جو إلى جو ومن عالم إلى عالم، وأن هذه الشهرة الضافية نشوز في تلك الرقعة الضيقة من تلك القرية المنزوية في بعض الطريق.

لكن الواقع أن وليام شكسبير — قبل اشتهاره وبعد اشتهاره — هو ابن تلك الأسرة في الصميم، وهو سليلها الذي نعرفه ونعرفها فلا ندري كيف ينشأ في غيرها، وهو بتلك الخلائق وتلك المشارب وتلك السيرة من المولد إلى الممات.

وما من علَم من أعلام التاريخ يغنينا العلم به عن العلم بكل صغيرة وكبيرة من شئون أسرته إذا استطعنا النفاذ إلى بواطنها وأسرارها؛ لأننا نفهمه كلما فهمنا كيف نشأ ومن أين أتى وماذا أخذ وماذا ترك من طبائع وسمات تظهر في قومه أو لا تظهر، ولكننا أحوج ما نكون إلى العلم بتاريخ الأسرة في هذا المقام؛ لأن القليل الذي علمناه منه يفسر لنا الكثير مما يحسبه المترجمون ألغازًا في حياة الشاعر والفنان، ولو ازددنا علمًا بتاريخه في قريته وفي بيته لما بقي في سيرته ما يُحسَب في عداد الألغاز.

وُلد وليام في الثالث والعشرين من شهر أبريل سنة ١٥٦٤، وعمد في السادس والعشرين من ذلك الشهر في كنيسة القرية، فكتب اسمه في دفاترها كما يكتب بالصيغة اللاتينية، وتولى تعميده فيها القس برتشجيردل Bretchgirdle المشهور بحماسته للدعوة البروتستانتية، وكان قس الكنيسة يوم كان جون شكسبير من أمناء مجلسها.

ولا يُعرَف — على التحقيق — شيءٌ عن تعليم وليام قبل سن التلمذة في مدرسة القرية، فربما تعلم مبادئ الهجاء والمطالعة في البيت قبل الثامنة من عمره: تعلمها من أمه إذا صح أنها كانت على معرفة حسنة بالكتابة كغيرها من بنات أغنياء الريف، أو تعلمها من مدرس يزورهم بين زوار أبيه، وكان يومئذ من وجوه القرية المقصودين.

وحانت سن القبول في مدرسة القرية فدخلها وانتظم في فصولها نحو خمس سنوات، وقد كان لهذه المدرسة نظار من خريجي جامعة أكسفورد يُذكَرون بأسمائهم في سجلات المجلس والكنيسة، وكان برنامج الدراسة في هذه المدارس التي اشتُهِرت باسم مدارس الأجرومية الحرة متفقًا على دروس مقررة في أنحاء البلاد الإنجليزية، يتلقى التلاميذ بعد مبادئ القراءة والحساب طرفًا من اللغة اللاتينية، ويقرؤون فيها حكايات إيسوب ومختارات من شيشرون وفرجيل وهوراس وأوفيد، ويمثلون بعض مناظر بلوتس وسينكا ويستظهرون نبذًا من كتابات البلغاء في القرون الوسطى، ولا يدرسون من الإغريقية إلا ما يمكنهم من مراجعة الآيات في الكتب الدينية.

وحلت الضائقة بوالد وليام وهو في نحو الثانية عشرة، فترك المدرسة في هذه السن أو بعدها بقليل، وعكف على مساعدة أبيه في صناعته وتجارته ورعي ماشيته، وهي أعمال يستفيد منها الصبي الناشئ خبرة بالناس وبالطبيعة قلما تتيسر له في كتبه المدرسية.

وفي الثامنة عشرة تزوج ﺑ «آن» كبرى بنات أبيها من أسرة هاثواي الريفية، وكانت تكبره بثماني سنوات؛ لأنها توفيت سنة ١٦٢٣ وهي في السابعة والستين، فكان مولدها بين سنة ١٥٥٥ وسنة ١٥٥٦، ويُفهَم من صيغة وثيقة الزواج أنه تم بعد تردد من الأسقف المنوط به تدوين هذه العقود؛ فإن الوثيقة كُتِبت في السابع والعشرين من شهر نوفمبر سنة ١٥٨٢، وفي الثامن والعشرين منه كُتِبت وثيقةٌ أخرى يشهد فيها رجلان من مقدَّمي الفلاحين أنهما مسئولان عن كل طعن في الوثيقة يعرِّض الأسقفَّ لتبعة المخالفة لحكم القانون.

ويظهر بعد ذلك من تاريخ ولادة البنت الكبرى «سوسن» وليام شكسبير أن أسقف التعميد داخلته الشبهةُ لسبب لا يخفى؛ فإن الطفلة عُمِّدت في السادس والعشرين من شهر مايو من السنة التالية — أي بعد ستة أشهر من تاريخ وثيقة الزواج — ووجب الاعتراف بهذه الشبهة التي بادرت الأسرتان إلى الاتفاق على تصحيحها؛ إثباتًا للعلاقة الشرعية دون مساس بصحة التسجيلات في تاريخ الزواج أو تاريخ الولادة.

•••

وبعد ولادة سوسن بسنتين (في الثاني من شهر فبراير سنة ١٥٨٥) وُلِد له توأمان — ذكر وأنثى — سُمِّي الذكر هامنت والأنثى جوديث، وأصبح لزامًا عليه أن يبحث عن مورد للرزق غير مورده النزر المضطرب الذي يأتيه من معونة أبيه في متجره ومصنعه، وكانت الضائقة التي حلت بأسرته تستحكم وتتأزم ولا تؤذن بانفراج قريب، ففي السنة التي وُلد فيها هذان التوأمان اضطر أبوه إلى التخلف عن أعماله بمجلس القرية ودواوينها؛ فخسر وظائفه في الحكومة كما خسر ثروته في التجارة والصناعة، وأصبح لزامًا على وليام أكبر أبنائه ورب الأسرة الوحيد بينهم أن يستقل بعمل يكفيه أو يهجر القرية ليعول نفسه وأهله ما استطاع.

ومرَّت من أواخر هذه السنة إلى سنة ١٥٩١ فترةُ فراغ في ترجمة وليام لم يُسمع فيها خبر عنه في القرية ولا في لندن؛ حيث يغلب على الظن أنه أقام في هجرته الأولى، وكثرت الأقاويل عن هذه الفترة على غير هدى لملء هذا الفراغ.

ولإيضاح الغوامض والشبهات التي أثارتها بحوث النقاد وشكوك المعترضين والمعجبين معًا بعد استفاضة ذكره وتشعب الآراء في نسبة أعماله إليه أو إلى غيره.

ويذهب الأكثرون من أصحاب الأقاويل المختلفة في ملء فراغ هذه السنوات مذاهب من الظن أو التخمين لا سند لها من الوقائع ولا من الشهادات المسلَّمة أو الوثائق المتفق عليها، وإنما يأخذون فيها بالقرينة والاحتمال القريب قياسًا على المعهود من أحوال العصر أو أحوال المترجم وأمثاله، وبعضها رجم بالظن لا يرجع إلى شهادة عيان ولا إلى شهادة سماع مقبول، وقد تكون القرينة في نفيه أقوى من القرينة في ترجيحه.

فمن قائل إنه هجر القرية هربًا من القصاص الذي أنذره به أحد النبلاء في الإقليم — سير توماس لوسي — لأنه علم أن وليام يطارد الصيد خلسة في أرضه بجوار ستراتفورد، ومن قائل إنه هرب من القرية على غير علم من أهله ليلحق بفرقة من فرق التمثيل الجوالة في الريف، ومن قائل إنه خرج من الجزيرة البريطانية كلها في رحلة من رحلات البعوث العسكرية التي كانت تتردد ذهابًا وجيئة بين إنجلترا وشواطئ أوروبة الغربية، ويعتقد صاحب كتاب «شكسبير الحق» أنه لم يقصد إلى لندن عندما هجر قريته على أثر مولد طفليه، بل قصد توًّا إلى بليموث وركب البحر منها إلى بلاد المشرق بعد زيارة البلاد الإيطالية؛ لأن أوصافه لهذه البلاد أحجى أن تكون أوصاف خبرة عيان.١
ويعتقد صاحب كتاب «شكسبير بين الصدق والرواية» أنه كان يختلف إلى جامعة أكسفورد قبل زواجه بسنوات، وأنه لم ينقطع عنها إلا بعد عقد الزواج وإلحاح الحاجة عليه بالتماس وجوه العمل لتدبير نفقات البيت، وأنه عمل بمدرسة القرية في هذه الفترة كما جاء في بعض أنبائه، ولا يتشكك صاحب هذه الرواية في احتمالها لخلو دفاتر القيد بالجامعة والمدرسة من اسم شكسبير؛ إذ كانت هذه الدفاتر خلوًّا من بعض الأعلام الذين حضروا دروس الجامعة باتفاق المؤرخين وأشهر هؤلاء الأعلام «أوليفر كرمويل» زعيم الثورة بعد جيل شكسبير.٢

ويتساوى ملء الفراغ بهذه الأقاويل وترك الفراغ لمن يشاء أن يملأه بأمثالها من التخمينات التي لا تقطع فيها الحجة بنقض ولا بتوكيد.

قال الشاعر الناقد جون ماسفيلد في كتابه عن شكسبير بعد الإلمام بطائفة من هذه الأقاويل: «كل هذا ليس بالبينة ولا بالرواية ولكنه تخمين جامح، وقد يُقَال مثله إنه ارتقى عرشًا أو صار من قدماء الرومان أو عمل في صناعة النسيج أو افتتح حانة شراب، ولا فرق في السند بين ما قيل وما يُقَال على هذا المثال.»

•••

هذه قيمة التخمينات والفروض التي تواترت في أقوال الشراح والنقاد لملء فراغ هذه السنوات في ميزان ناقد مُلهَم مُعجَب أيما إعجاب بالشاعر الكبير، وليس في كلامه عن تلك الفروض مبالغة في جوهر الحقيقة، إلا أن تكون مبالغة السخرية والتعميم، يستدركها من شاء بالتفرقة بين الفروض التي تركن إلى سند من الواقع وصدق الظن والفروض التي لا تركن إلى شيء غير الوهم وخبط عشواء.

وبعد هذه الفترة من الفراغ في سيرة وليام نسمع به في سنة ١٥٩١، ونعلم أن هذه السنة كانت نهاية السنوات العجاف في حياته، وأنه قد انتظم في صناعة التمثيل والتأليف، وعمل في أكبر الفرق التمثيلية وهي فرقة الإيرل أﭫ لسيستر التي من أجلها أباحت الملكة اليصابات إقامة المسارح في العاصمة.

وهنا محل لاستقصاء فرض من الفروض التي ذهب إليها مؤرخوه ليملأوا به فراغ السيرة في السنوات الخالية، ولكنه فرض له سند من الواقع والاحتمال جدير بالالتفات إليه من طرفيه.

فمن المحقَّق أن وليام لم يشتغل بالتمثيل في تلك الفرقة إلا بعد تمهيد طريقه إلى قصر آل لسيستر للظفر بالشهادة التي لا غنى عنها لمن يريد أن يشتغل بالتمثيل ولا يُحسَب — في رأي الشرطة — من طغمة الشذاذ والأفاقين.

ومن المحقَّق أن «لسيستر» غادر لندن على رأس بعثة عسكرية إلى الأرض الواطئة لمؤازرة الهولنديين في حربهم للدولة الإسبانية، وكانت مغادرته للعاصمة في سنة ١٥٨٥ التي انقطعت فيها أخبار وليام من القرية ومن العاصمة ومن كل مكان في الجزيرة البريطانية.

ومن المحقَّق أن لسيستر قد استدعى للسفر في حاشيته الممثِّلَ الهزليَّ كمبس Kemps الذي كان نديمه المختار من رجال فرقته وكان في قصره بمثابة «المضحك» الخاص في قصور الملوك الأقدمين، ولا يبعد أن يكون قد صاحبه في تلك البعثة أيضًا خمسةٌ من مُمَثِّليه الذين زاملهم شكسبير بعد ذلك في الفرقة التمثيلية؛ لأن هؤلاء الممثلين الخمسة — وبينهم أشهرهم جورج بريان — كانوا يُستَدعون للتمثيل في القصور الملكية بين سنتي ١٥٨٦، ١٥٨٧ ويقيمون الحفلات في بلاط الدانمرك وبلاط سكسونية، كما جاء في أخبار دعوات البلاط بالمملكتين.
ويُلاحَظ أن «كمبس» الذي لا شك في سفره مع لسيستر في بعثته إلى هولندة كان مقيدًا في هذه البعثة باسم دون جولهلم Gulihelmo ولم يُقيَّد باسمه المشهور بين رواد المسرح؛ فلا يبعد أن يكون وليام وزملاؤه — في المستقبل — قد دخلوا هذه البعثة بأسماء غير أسمائهم المتداولة في غير السجلات العسكرية، وأنه مهَّد طريقَه إلى صحبة لسيستر أثناء غيابه عن البلاد الإنجليزية؛ لأن التعرُّف إلى هذا القائد النبيل صاحب المقام الأول والحظوة الأثيرة في البلاط لا يتم بعد عودته من القارة في وقت قصير.

والمعروف من سيرة وليام بعد سنة (١٥٩١) قليل بالقياس إلى أخبار نظرائه وإن لم يكن أقل من أخبار معاصريه، ولكن هذا القليل كافٍ للعلم بنجاحه وارتفاع شأنه، وانصراف همته إلى تعزيز مكانته في المجتمع ورد المفقود من تراث أهله في قريته، فحصل على حلة من حلل التشريف «الرسمية» تخوِّله التلقب بلقب السيد أو الجنتلمان، وسُجل أداء الرسوم لهذه الحلة في شهر أكتوبر سنة (١٥٩٦)، وشارك في مسارح العاصمة مع انتمائه إلى فرقة لسيستر إلى آخر أيامه في التمثيل، وحاول جهده أن يستعيد حصص الأرض التي ضاعت من أسرته بالرهن أو البيع، واستعاد منها ما ارتضى مالكوها أن يبيعوه، واقتنى البيوت والأكواخ لسكنه وسكن أقربائه، واشترى في سنة ١٦٠٢ مائة وسبعة وعشرين فدانًا في ستراتفورد القديمة، ثم عاد إلى مسقط رأسه ليقيم فيه سنة ١٦١١، وبقي ثمة إلى أن أدركته الوفاة سنة ١٦١٦ في الثانية والخمسين من عمره، لا يفارق بلدته إلا لينظر في بعض أعماله بالعاصمة، ثم يكر إليها راجعًا متزودًا له ولأقربائه فيها بما تتطلبه حياة المستورين من أهل الريف.

وفي أوائل سنة ١٦١٦ أحس الشاعر بدنو أجله؛ فكتب وصيَّتَه في شهر يناير من تلك السنة ونقَّحها في الخامس والعشرين من شهر مارس قبل وفاته بأقل من شهر، وأوصى فيها بحصص مقدَّرة من المال والأرض والعقار وبقايا الأثاث والعتاد لزوجته ومن بقي من ذريته بقيد الحياة، وهنَّ: سوسن بنته الكبرى، وجوديث بنته الصغرى، وحفيدته اليصابات. لأن ابنه الوحيد «هامنت» كان قد مات صغيرًا سنة ١٥٩٦ في الحادية عشرة من عمره؛ وأوصى ببعض الهبات والهدايا لفقراء القرية ولأفراد من مساعديه وصحبه، ولم يذكر شيئًا في الوصية عن حصصه في المسرحين اللذين كان شريكًا فيهما إلى ما بعد سفره من لندن، كأنه كان قد باع ما يملكه في غير قريته حين شعر باقتراب أجله.

ومات في الثالث والعشرين من شهر أبريل، أي في نفس اليوم الذي وُلِد فيه، وأعد قبيل وفاته أسطرًا من الشعر أوصى بكتابتها على ضريحه في مقبرة الكنيسة، فحواها التذكير بحرمة العظام المطوية في رجامها، ودعاء بالبركة لمن يرعاها وباللعنة لمن يحركها من مكانها.

وقد كُتِبت الأسطرُ المنظومةُ بلغة ساذجة تشبه لغة العامة، واستدل بعض المتأخرين بهذه السذاجة على أن الأسطر المنظومة وأشعار الروايات والدواوين لم يُكتَبا بقلم واحد، ولكن الأسطر — ولا شك — كانت مكتوبة باللغة الشائعة في القبريات التي تعوَّدها أبناء الريف، ولم يكن من السائغ أن تُكتَب بالأسلوب الفخم الذي يتخيره الشعراء لمنظوماتهم الأديبة.

ونسي أناس آخرون من الشراح والمعقبين زمانَ الشاعر ومكانَه في موطنَه، فوهموا أنه كتب تلك القبرية لأنه توقع أن تحتفي الأمة بذكراه وتنقل رفاته إلى المكان الذي جعلوه بعد ذلك مثوى للعلية من النوابغ والعظماء في كنيسة وستمنستر، ولكن القبرية تُفهَم على وجهها الصحيح من حيث الأسلوب والمعنى إذا فُهِمت على أنها «وصية محلية» يقرأها أبناء تلك الجيرة ممن يطيفون بالمقبرة ويباشرون دفن موتاهم بين جدرانها، وقد زار ستراتفورد قبل نهاية القرن السابع عشر (١٦٩٤) أديب من خريجي أكسفورد يُسمَّى وليام هول، فقال في رسالة كتبها إلى صديق: «إنني ذهبت في اليوم التالي لزيارة رفات شكسبير العظيم المدفون في الكنيسة، فقرأت الأسطر التي أمر في حياته بحفرها على شاهد قبره، وفيها من قلة الدلائل على العلم ما قد يبين عن قلته في غيرها لولا أنها تنطوي على شيء يحتاج إلى تعقيب، فإن في الكنيسة موضعًا يطلقون عليه اسم (منزل العظام) ويُودِعونه بقايا العظام المستخرَجة من حفائر المقبرة، وهي من الكثرة بحيث تملأ المركباتِ الكثيرة، وقد أراد الشاعر أن تُترَك عظامُه آمنةً في مثواها؛ فلعن من ينبش عنها ترابها، ووجَّه الخطابَ إلى عمال الكنيسة وخدمتها، وهم على الأغلب الأعم شرذمة من أجهل الناس …»

•••

وليست هذه الصفحة الأخيرة بالصفحة الوحيدة التي نفهمها حق فهمها حين نفهم وليام شكسبير في قريته وبين آله وعشيرته؛ فإن السيرة كلها صفحات لا نفهم سطورها ولا ما بين سطورها بمعزل عن بيئة القرية وما احتوته من بيئة الأسرة بين جوانبها.

فينبغي أن نحضر في أخلادنا أن وليام شكسبير — في أخلاقه وعاداته — وريث أسرة ريفية حريصة جد الحرص على السمت والسمعة وكرامة الجاه على سنة أهل الريف في عصره، وأنه كان بين إخوته سليل جيل قصير الأعمار يندر بين رجاله خاصة من كان يناهز سن الشيخوخة أو يقارب الستين.

ويغنينا إحضار هذه الصفة في أخلادنا عن أسئلة كثيرة سألها المترجمون والشراح، ونظروا فيها إلى سيرته العالمية دون أن يرجعوا بها إلى سيرته في أسرته وقريته؛ فضلُّوا عن جوابها في متاهة الظنون، وإن جوابها لعلى منال اليد منهم لو التفتوا إليه.

لماذا هاجر من قريته؟ ولماذا توارى عن الأعين والأسماع ست سنوات أو سبعًا بعد هذه الهجرة؟ لماذا كف عن الكتابة بعد الأربعين بقليل؟ لماذا ترك لندن وانزوى في قريته ولما يجاوز الخامسة والأربعين؟ من أين جاءه العلم بمراسم الشريعة وإجراءات الدعاوى ومصطلحات المحاكم والقضاة؟ ومن أين جاءه العلم برياضة الصيد وطبائع الحيوان؟

أسئلة لا يسألها من عرفه متصلًا بمسقط رأسه مشاركًا لآله وعشيرته في عاداته وشمائله ومعايير السمعة والشرف في نظره.

فهجرته من قريته في الموعد الذي هاجر فيه بعد أن عال وثقلت نفقته على أهله وثقلت نفقتهم عليه، ووُلِد له في سنة الهجرة توأمان، وأبوه يخسر جاه الوظيفة وجاه التجارة في تلك السنة ولا يحسن بابنه الشاب في نحو العشرين أن يبقى كلًّا عليه، وباب الهجرة مفتوح على مصراعيه أمام شبان القرى والعواصم مع بعوث السلم والحرب في المشرق والمغرب.

وكما هجر قريته يوم اضطر إلى الهجرة عاد إلى الظهور يوم استطاع أن يظهر بعمل مرضي موفور الكرامة لا يخجله أن ينتسب إليه إذا استعان بمورده منه على معونة أهله.

ولقد كف عن الكتابة قبل الخامسة والأربعين، فكان قعوده عن عمله الناجح من غرائب سيرته التي لا بد لها من تأويل لا يستغربونه كما يُستغرَب من المؤلف الناجح هذا القعود في عنفوان قواه، فلماذا لا يكون هذا التأويل أنه لم يكتب ولم يقعد عن الكتابة، وإنما كُتِبت له الروايات والقصائد ومات كاتبها المزعوم فانقطع في وسط الطريق.

ولكن الخامسة والأربعين، أو نحوها، ليست بمنتصف الطريق عند من يبلغ أمده في الثانية والخمسين، وليس المضي في الكتابة بالعمل الميسر لمن يشرف على مسرحه ويشرف معه على مسرحين كبيرين له فيهما حصة الشريك وحصة الخبير بشئون التمثيل والإخراج، وقد تشغله من قبل أسرته وعشيرته أعمال تتجدد وتتكاثر عامًا بعد عام، على قلة المعين وشدة العناية بمن يعولهم هنالك من صغار أو كبار.

ونجاح المؤلف في كتابة الروايات لا يعني أنه يملك باختياره أن يمضي في كتابتها إلى غير انتهاء، فربما كان الانتهاء إلى القمة غاية شوط النجاح، وربما كان المؤلف قد استنفد حاجته وحاجة عصره إلى هذا النمط من الروايات كما ظهر من هبوط منزلة المسرح بعد عهد الملكة اليصابات بقليل.

وقد أقام الشاعر في لندن ما أقام فلا نخال أن مقامه بها زهده في معيشة الاستقرار والسكينة بين أحضان الطبيعة؛ إذ كانت لندن في أوائل القرن السابع عشر تستهل عهد العظمة والصولة ولكنها كانت أبعد شيء عن الطمأنينة والدعة، وكانت تجتذب إليها طلاب المغامرة والمخاطرة وتضطرب بلواعج النزاع على مذاهب الدين ومذاهب الفكر ومآرب السياسة بين بيوت الملك وأشياع المتألبين لها من أصحاب الدولة الدائلة أو أصحاب السلطان القائم، وقد رأى شكسبير فيها مصارع خمسة أو ستة من أصدقائه النبلاء والمتأدبين، طاحت رؤوسهم أو نكبوا في مناصبهم وأموالهم، ولم يسلم صاحبه لسيستر من بينهم بعد الحكم عليه بالموت إلا لما صادفه من الحظ والحظوة في أعين الملكة التي كانت تدنيه وتقصيه على حكم الدسيسة والفتنة، ولم يسلم صديقه الشاعر مارلو من الاتهام بالكفر ولا من الاغتيال المريب مع اتصاله الخفي بعيون الدولة وجواسيسها، وليس من شأن هذه الحياة القلقة أن تصرف رجلًا في مزاج شكسبير عن الحنين إلى قريته ومآلف صباه، بل لعلها عجلت بعزيمة العودة إليها وجعلت هذه الراحة أمنية من أماني النجاح في عمله، وقد يحن مثله إلى اللياذ بأحضان الطبيعة ولو لم تربطه بها مآلف الصبا وأواصر الجيرة والقرابة.

وقد تقدم أن المتشككين حسبوا من غرائب هذا القروي الذي خرج من مدارس الريف قبل أن يكمل تعليمه فيها أنه يعرف من مراسم القضاء ومصطلحات المحاكم ما تحتويه الروايات المنسوبة إليه، ولكن هذه النشأة القروية — نشأة شكسبير خاصة — أحجى أن تمنع العجب وإن كانت لا تمنع الإعجاب، فإنه نشأ في بيت يكثر فيه الكلام عن القضايا والدعاوى ويعمل أبوه في مجالسها ومنتدياتها، وما لم يعرفه من وظيفة المجلس فهو خليق أن يعرفه من عقود الصفقات والمعاملات التي سيق إليها في حالتي رواجه وكساده، وخليق بابنه الأكبر أن يزداد علمًا بأحاديث القضايا والذرائع القانونية بعد هجرته من القرية إلى عاصمة المملكة في عصر المحاكمات والتهم والوشايات، وهي من ضروب الأحاديث التي تطول جرائرها إلى زمن بعيد، ولا تخلو حواشي النبلاء وحلقات الأدب والفن من اللغط بها والتشدق بعباراتها وادعاء العلم بخفاياها والتشيع لهذا أو ذاك من المدعين أو المدينين فيها.

أما العلم برياضة الصيد فلا يستغرب من القروي المقيم في الريف، ولا سيما الريف الذي ولد فيه الشاعر واشتغل فيه بتربية الحيوان ورعايته على مقربة من مروج الصيد المشهورة في الأقاليم الإنجليزية، ومن عادة المشاهدين للصيد أن يشهدوه في الخلاء وعند أرباض المدن ولا يشهدوه حيث يقيم النبلاء في عمائرهم وقصورهم، ومنها ما لم يكن محجوبًا عن شكسبير أيام انتمائه إلى رعاة المسرح من أولئك النبلاء.

ولنسأل ما شئنا أن نسأل عن غرائب هذه العبقرية العالمية فإننا لا نهتدي إلى جواب سؤال منها إذا ابتعدنا بها عن قريته وأسرته، ولعلنا حين نقترب بها من القرية والأسرة لا نحتاج إلى سؤال.

١  The Real Shakespeare by William Bills.
٢  Shakespeare Truth and Tradition by John Simple Smart.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤