الفصل الأول

الشيخ علي١

هو رجلٌ تراه في ظاهره من الدنيا ولكن باطنه يلتحق بما وراءَ الطبيعة، وكان ينبغي أن لا يقوم مثلُه على مسرح الخَلق إلا ممثِّلًا، وأن لا يمثِّل إلا الوجه المطلَق من الحياة، بعد أن استقصى الفلاسفةُ إلى تمثيله كلَّ ذريعة، فلم يستوِ لهم أن يمرُّوا فيه، وقصَّر بهم التكلُّفُ، وقطعتهم دونه تلك الفلسفة التي حملتهم عليه؛ فخُلِقَ الرجلُ نشيطًا مهزوزًا راميًا بصدره ونحره، معترضًا في زمام القدَر كأنه صورةُ الفكر الذي يُمثِّله، وكأنه أسلوبٌ قائم بنفسه في بلاغة الطبيعة.

وأحسِبُهُ في نظره إلى الخَلق يتوهَّم أنه رَحَّالة خرج من بعض الأفلاك التي تُعْرَفُ «بالعقول العشرة»،٢ فهبط من أشعته على الدنيا؛ فهذا العالم شيءٌ جديدٌ في نفسه، وهو شيء جديد في العالم.
ينظر إليك كما تنظر إليه، فأنت تتبيَّن في سَحْنَتِه٣ الواضحة أوصافَ الجنون الهادئ، وتُعْجَب من منظر تلك العاصفة النائمة في عينيه، وهو يستجلي منك معنى الغرابة في قدرة الله إذ أنشأك مثالًا غير مفهوم، ويُطيل عجبه منك أنك على ما فيك تتعجب منه؛ فكلُّ رجل في رأيه إنما هو صورةٌ من الرجل الصحيح الذي لم تُزوِّر فيه حرفةُ العيش ومطالبُ الحياة شيئًا على الله.
ولكلِّ امرئ سؤالٌ يتردد بين نفسه وبين السماء؛ فرجل يقول: اللهم هذه القوة فأين الرزق؟ وآخَر يقول: وهذا الرزق فأين القوة؟ وثالثٌ يصيح: هذه هي العافية وهذا الرزق فأين السعادة؟ والشيخ علي كأنه يقول: اللهم إنه لم يَبْقَ من الإنسانية إلا حُشاشةٌ تسوق بنفسها.٤ وكل رجل من هؤلاء صورةٌ مقلَّدةٌ، فأين الأصل؟
لما وُلِد هذا الرجلُ، ولعلَّ الطبيعة يومئذٍ كانت في صميم الخريف ثائرةً مجرودةً غبراء،٥ قامت أمه عن نجم منطفئ لا تعرفُه الأرض وقد زَهَدَت فيه السماء، فكان رضيعًا، ثم فطيمًا، ثم جَحَشَ، ثم ترَعرعَ، ثم صار يافعًا، وعاد فتًى، وانقلب كهلًا، وهو اليوم يَحْطِمُ الخمسين٦ وكأنه لم يكن في كل ذلك شيئًا، ومتى سُوِّيَتْ عليه الأرضُ لم يترك وراءه إلا سطرًا ضئيلًا في سجل الموتى،٧ فكأن الخيرَ والشرَّ لم يُدركا هذا الرجل، وكأنه رُوح كُتِبَ عليها الحبسُ في جسمها، فلا تشهد أمرًا من ورائه حتى تنطلق، وكأنه حي على رغم الحياة!

وتُرى أي عقلٍ يعيش به؟ بل أي عقل وأي جنون ليس من أثرهما الخير والشر؟ إن أكبر مَن تُنجِبه الفلسفة ويُخرِجه الأدب؛ لَيَطوي عمره طيًّا وراء هذه الغاية البعيدة، وما حياةُ الفلاسفة إلا اختيارٌ للموت، فهم يُمِيتون في أنفسهم كلَّ سبب إلى الشهوة، وكلَّ داعية إلى اللذة، يَحيَوْن بالقسم الأعلى، وتبقى مادة الأرض فيهم كأنها أرض بورٌ عارية المحاسر لا تُخصِب ولا تنبت. وهذا «الشيخ علي» كله أرض بور؛ فهو عصر برأسه من تاريخ الأخلاق، وعلى أي الوجوه اعتبرتَه رأيتَه كشيوخ الفلاسفة وحكماء الدنيا، يعيش في الناس بعقلٍ غيرِ العقل.

ولو تنفس به العمر فبلغ المائة وجاوز العصرين،٨ ما زاد كلُّ عمله على أن يُشبه نفسَه؛ فهو حليم لنفسه غضوب لنفسه، وكذلك هو في الخفة والوقار، والضَّحِك والعبوس، والزُّهوِّ والانقباض، وفي كل ضدين منهما لذةٌ وألم، كأنه جزيرة قائمة في بحر لا يحيط بها إلا الماء، فلا صلة بينهما في المادة وإنْ كانت هي فيه؛ فالناس كما هم، وهو كما هو، يرونه من جفوة الزمان أضعف من أن يصاب بأذًى، ويرى نفسه من دهره أقوى من أن يصيبَ بأذًى، ويتحاشونه رأفةً ورحمة، ويتحاماهم أنفةً واستغناءً، ثم إنْ مسَّه الأذى من رقيع أو سقيط، أحسن إلى الفضيلة بنسيان مَن أساء إليه، فيألم وكأنَّ ألمه مرضٌ طبيعي يعتريه، ولا فرق عنده في هذه الحال بين أن يُمغص بطنه بالداء أو يُمغص ظهره بالعصا …!

وهو والدنيا خصمان في ميدان الحياة، غير أن أمرهما مختلف جدًّا؛ فلم تقهره الدنيا لأنه لم يطمح إليها ولم يقع فيها، وقهَرَها هو لأنها لم تظفر به!

وإني لَأرى في اللغة كلماتٍ لم تقع على معانيها، ولم تجتمع اللفظةُ منها بمدلولها؛ فكلمة السعادة تبحث عن معناها في الناس وأهوائهم وشهواتهم، ومعنى السعادة يبحث الناس عنه في هذه الكلمة وحدودها وحقائقها، وربما كان هذا المعنى بجملته مُلقًى تحت الشمس في زاوية من زوايا القرى، أو متفيئًا ظلَّ شجرة من شجر الجُمَّيز، أو نائمًا تحت سقف معروش من حطب القطن، أو جالسًا يضحك في ندوة الحي، أو قائمًا يتأمل مجرى النهر، أو مضطجعًا يقلِّب وجهه في السماء، أو هو الذي يُسمَّى «الشيخ علي»!

وماذا في السعادة أهنأ من أن تُوقى شرَّ هذه السعادة فلا تتطلَّع نفسُك إليها، ولا ينالك إلا ما تحبُّ أن ينالكَ، فأنت بعدُ وادعٌ قارٌّ آمِن في سِرْبِكَ، مُعافًى في بدنك، خارجٌ من سلطان ما بينك وبين الناس من خلقٍ مستبدٍّ، أو رغبة ظالمة، أو صلة عاتية، ولا حُكْمَ عليك إلا لمالِكِ المُلْك … ولم يفتُقِ اللهُ لكَ من فنون اللَّذَّات ما ينغِّصُه عليك، ولا ضرب منك مثلًا، ولا نصَّ لك عقابًا، ولا جعلك مرآة عدوٍّ يصلح فيها نفسه،٩ ولا نصبك لمجاراةٍ أو مباراة، وقد جنَّبك فُضوحَ هذه الدنيا، والدنيا من السوء بحيث يفضَحُ فيها بعضُ الخير ما لا يفضَحُ بعضُ الشر.
ثم ماذا أنت طالبٌ من السعادة إذا هانت الحياةُ فلم تَضْعُف عن احتمالها، ولم تَرْمِكَ بداءٍ في مرض العيش إلا قُمْتَ له، ولم تحملك على أمرٍ إلا تحملتَ عليه، وقويتَ على نفسك فلم تكذبك أملًا، ولم تخدعك في باطل، ولم تجاذبك إلى موردٍ لا تصدر عنه إلا آثمًا أو نادِمًا، وكنتَ من نعمة الله مخفًّا لا تحمل إلا رأسك، ولا تجوع إلا ببطنك،١٠ وقد كُفِيتَ أن تصرعك نزغاتُ هذا الرأس، وأَمِنتَ أن يقتلك داءُ هذا البطن، ولم يضربك الله بشيء من هذه النِّعَم المنافقة التي يأتي بها المال حين يأتيك بالجاه وأصحاب الجاه ومَن يريدك لمالك وجاهك؛ وأعوذ بالله من النفاق١١ ومن نفاق النعمة خاصةً، فبينا هي لك إذا هي عليك، وبينا هي متاعٌ إذا هي الْتِيَاعٌ، وبينا هي في طعامك شيء إذا هي من طعامك قيْء.

وهل في النعمة خيرٌ من الكَفَاف حاضرًا، ومن الصحة فارهةً، ومن قرة العين وضحك السنِّ واستطلاق الوجه، وأن يكون القلب في حجابٍ من نور السماء لا تهتِك عنه رذائلُ النفس، ولا يعلَق به غبارُ الأرض، ولا يتغشَّاه ظلام الحياة، ولا يزال هذا القلب في نضرته وصفائه كأنه سعادة مخبوءة في غيب الله لم يُخلَق بعدُ مَن خُبئت له؟

كذلك أعرف «الشيخ علي»، فهو رجل سُدَّتْ في وجهه منافذُ الجهات كلها إلا جهةَ السماء، فكأنه في الأرض بطلٌ خياليٌّ يُرِينا من نفسه إحدى خرافات الحياة، ولكنه مع ذلك يكاد يُخرِج للدنيا تلك الحقيقة الإلهية التي لا تغذوها مادة الأرض ولا مادة الجسم، فهي تزدري كلَّ ما على الأرض من متاع وزينة وزُخرُف، وكلَّ ما ردَّت عليك الغِبطة من بَسْطةٍ في الجسم، أو سَعَةٍ في المال، أو فضلٍ في المنزلة؛ وكلَّ ما أنت من إقباله على طمعٍ ومن فوته على خوفٍ؛ تلك الحقيقة الطاهرة التي تكون أعظم ما أنت واجدُها في سير الأنبياء والصدِّيقين والشهداء، أو حيث يكون ذلك العقل الجبَّار الذي لا يُشبِه عقولَ الناس من نبوغٍ يخرِق العادة أو جنونٍ تخرقه العادة، وما الجنون إلا نبوغ فوق الطاقة، ولا النبوغ إلا جنون رقيق!

وكذلك أعرف «الشيخ علي»، فهو أجهل الناس في الدنيا، وأجهل الناس بالدنيا؛ كأنه من هذه الجهة ممتلَخُ العقل،١٢ وأنت إذا سطعتَ له بالجوهرة الكريمة النادرة، فلا يعدو أن يراها حَصاةً جميلة تتألق، وإنْ هوَّلْتَ عليه بألوانِ الخَزِّ والديباج حَسِبكَ مائقًا لم تَرَ قطُّ نضارة البرسيم وألوان الربيع، وكأني بك لو وصفتَ له الذهب وما أضرمَتْ نارُه في الأرض وهي بردٌ وسلام، وما أيقظ جماله من الفتنة التي استحال عليها أن تنام، ثم أريته شعلةً من هذه النار في غُرَّة الدينار؛ لَتَضاحَكَ منكَ إذ تريد أن تُوهِمه — بما أعظمتَ من ذلك الشأن — أنك سلبتَ مُلكَ الله قطعةً من الشمس، التي غربت أمس؛ ولرأيتَ من زِرايتِه عليك ما يُعلِمكَ أنه ما أكْبَرَ هذا الدينارَ في عينك إلا صِغَرٌ في نفسك، ولا ملأ يدك بالحرص عليه إلا فراغ ما بينك وبين الله، ولا كدَّكَ في طلبه إلا أنك مُسخَّر، ولا أذَلَّكَ للمال إلا خضوعُكَ للآمال، وما أنتَ إلا في قيد من الهمِّ حبَّبه إليكَ أن قُفله هذه القطعة من الذهب!
وإذا أحضرتَه ألوانَ الطعام وجلوتَ عليه أبَّهة الخِوان، وقلتَ له: هلمَّ فارتَعْ وأصب حتى تنتأ رُمانتُكَ.١٣ رأيت من نفوره واحتجازه كأنه يقول لك: ويحك! وهل للبطن كبرياء وهو ستار على أقذار! وهل يسع كل هذا وما هو بالعريض الطويل، ولا سلامة له إلا بالقليل لأنه قليل! وهل تحتمل ما في العنقود حبةٌ واحدة، ويحتمل الغنيُّ أن يكون في صندوقه الإلهي١٤ حاجة زائدة! ويبلغ الحمق من هذا الإنسان أن يُمِيت قلبه لأنه وجد النعش من المائدة!

وكذلك أعرف «الشيخ علي»، فهو لا يرى في الأشياء غير ما خصتها به الطبيعة؛ ولا يرسل عليها إلا أشعة صافية من عينيه الضاحكتين لم تخالطها ألوان النفس، ولا زفرت عليها أنفاس القلب؛ وما ثَمَّ غير الانقباض والنفور أو الاستئناس والانبساط؛ فإما رآها قبيحة وإما رآها جميلة، ومتى قُسِمَتْ الأشياء عنده إلى قبيح وجميل، فليس وراء هذين ثالثٌ في التقسيم، وليس إلا جميلٌ جميل وقبيحٌ قبيح؛ فأما المأمول والمرغوب والمتنافَس فيه، والمتبرَّم به والمسخوط عليه، وما جاء بالشِّقوة وما جاءت به السعادة، وما كان من ورائه حبذا وليت، وما أعانت عليه لعل وعسى، ثم كان وأخواتها، وإن وبناتها، ثم أنا وأنت وهو، ثم ما انعطف على هذا النحو أو انفرَعَ منه؛ فكل ذلك تقسيم لا يفهمه شيخنا، وما هو من جدِّه ولا لعبه؛ لأن صفحة نفسه ليست كألواح الأطفال يثبتون فيها ما لا بد من محوه، ويمحون ما يعودون إلى إثباته، ليتعرَّفوا ما أصابوا مما أخطئوا، وليتعلموا كيف ينبغي أن يتعلموا.

وهل تجد — أعَزَّك الله — في هذا الناس مَن يحسن أن يوقِّرك، إلا وهو يحسن أن يحقِّرك، ومَن يعرف كيف يشكرك، إلا وهو يعرف كيف يكفرك، ومَن يقول لك حفظك الله، إلا وهو قادر أن يقول أخزاك الله؟ فالناس عبيد أهوائهم، وأينما يكن محلك من هذه الأهواء فهناك محل اللفظة التي أنت خليقٌ بها، وهناك يتلقاك ما أنت أهله أو ما يريدون أن تكون أهله؛ وليس في الناس شيء يزيدك كمالًا من غير أن يزيدك نقصًا، حتى إيمانك فإنه كفرٌ عند قوم، وحتى عقلك فإنه سفهٌ لطائفة، وحتى فضلك فإنه حسدٌ من جماعة؛ وحتى أدبك فإنه غيظٌ لفئة.

أما شيخنا فقد مسح الله نفسه ومسح ما به من الناس؛ فليس في صدره ولا في صدر أحد حَسِيكةٌ١٥ عليه، وهو أبدًا في صمتٍ بليغ كصمت الطبيعة، وكأن فهمه شيء من هذا الصمت، فلا يتصل بفهمه ولا يُداخِل فكرَه إلا الجمالُ والقبحُ. والطبيعة نفسها تخرج الجميلَ تفسيرًا للقبيح، وتُظهِر القبيحَ تعليقًا على الجميل، وكذلك الشيخ في إدراكه.

وأجملُ ما يرى من وجوه الحياة وجهُ السماء الصافية، ووجهُ النهر الجاري، ووجهُ الأرض المخضرة، ووجهُ الرجل الطيب، ووجهُ المرأة الجميلة؛ كلُّ أولئك عنده سواء، فليس وجه خيرًا من وجه؛ لأنه لا يُحسِن أن يئوِّل لغة الطبيعة فلا ريبةَ فيه، ولا يتزيَّد في معانيها فلا كذبَ في حواسه، ولا تُخاطِبه الطبيعة فيما توحي إليه إلا بأسهل ألفاظها وأطهرها وبمقدار ما خُلِق له؛ إذ لا ترى فيه غيرَ تلك الحيوانية الضعيفة التي هي ضرورية لحيٍّ منقطع مثله، وما كانت لُوثَةُ عقلِه إلا فصلًا بينه وبين الإنسان في حيوانيته؛ وإنَّ شر ما تكون هذه الحيوانية حين تكون عقليةً محضةً وراءَها عقلُ العالِم واختراعُ المخترع وفنُّ المتفنن.

وقد يكون «الشيخ علي» رجلًا تَعِسًا في رأي الناس؛ لأنه حيوان ضعيف وإنسان أضعف، ولكنها تعاسة بالغة؛ فهي من تلك الآلام الحادة التي بالغت الطبيعة في تكوينها لتُخرِج منها ذلك النوعَ الشديدَ الحادَّ الذي يسمُّونه اللَّذَّةَ، وربما كانت التعاسةُ السامية خيرًا من سعادة سافلة!

إن المجنونَ لم يَزِلَّ عن منهج الحياة بجنونه، ولكنه يَتْبع سنَّة هذه الحياة على طريقةٍ خاصةٍ غير ما ألِفَه الناسُ أو تواضعوا عليه؛ ليرى في كل شيء أثرَ جنونه، فهو حيٌّ مع الأحياء، بَيْدَ أنه يُشبِه أن يكون تفسيرًا للحياة الغامضة التي تَلُوذ بكل جانبٍ مهجورٍ على وجه الأرض، وبكل رأس تحتسبه جانبًا مهجورًا؛ لأن الناس لا يفهمونها ولا يتسعون لفهمها.

وهذا «الشيخ علي» رجل غامض متلفِّفٌ بحقيقته العجيبة، كدُهَاة السياسة في شباكهم التي يأخذون بها الأممَ والشعوبَ، فلا تبرحُ تَرْتَبِكُ فيها ارتباكَ الصيد في الحبالة؛ وأولئك الفلاسفة الذين يعيشون في السُّحُب العالية من فضائلهم، فيُمطرون الكون مرةً ويرجمونه مرةً … إلى غيرهم من روابي الخلق،١٦ ومن كل رجل عظيم أظلَّه أحدُ الجناحين المنبسطين على الأرض والسماء: جَنَاحِ الوحي أو جَنَاحِ التاريخ، ولكن «الشيخ» على غموضه من كل جهاته واضحٌ من جهة واحدة، هي جهة الجنون في اصطلاحنا، وتلك هي جهةُ الفضيلة الخالصة فيه؛ إذ قطعتْ ما بينه وبين الرذيلة، وجعلت له في الناس رذيلةً مجنونةً مثله، فكانت سُبَّتُه أنه رجلٌ مُطْلقٌ لا ينزل على حكم، ولا يتحمُّلُ على أمر، ولا ينازِع إلى عادة معروفة، بل هو قد نجا بنفسه من هموم الناس، وأصبح كالروح الوثَّابة التي لا يمسكها قيدٌ ولا يُخضِعها زِمام، والتي هي فيه كما هي في موجة البحر وعاصفة الريح؛ فكل مخلوق يَحْجِلُ في الحياة لمكان القيود منه، وهذا يُجمع الوثبةَ العالية ثم يَثبُ مُقبِلًا ومُدبِرًا، ويتخطى مدَّ بصره في الحياة كأنه بُرَاقُ الأنبياء!

وليت شعري هل يأملُ الناس أن يشهدوا الحقيقة مغلوبةً على أمرها، وما كانت الحقيقةُ أحدَ الخصمين قطُّ إلا كانت الهزيمة على الآخَر، ولو أن هذا الآخَر عصرٌ من تاريخ الأرض. ثم ما هي الحقيقة إلا أن تكون عقلًا مطلقًا لا زيغ فيه، أو حقًّا مطلقًا لا كذب فيه، أو يقينًا مطلقًا لا شك فيه؟

وهذا «الشيخ علي»، أما عقله فعند الله، وأما حقه فقد أوجبَه الله، وأما يقينه فلا يعلمه إلا الله؛ فكيف يُرَى مغلوبًا لاصطلاح أو عادةٍ وأكثره راسخ في السماء؟

إنه ليجوع ويظمأ ويَعرَى، ولكن كما يجوع الطير وتظمأ الأرض ويعرى الشجر، ليس من حَلَّةٍ إلا وسبيلها من رحمة الله، فإن تَخلَّت عنه السماء مرةً، وقُطِعتْ مقاوده من الغيب، وخذلته الوسيلة؛ فما تغمز منه الحاجة إلا حجرًا صلدًا يقع على أي جانب ترميه ثم لا يقع إلا حجرًا؛ لأن آلام هذا الرجل من الألم القفر الذي لا يَنبتُ فيه شيء من الخوف، ولا يهتدي إليه وهمٌ من الحياة، ولا مجرى فيه للدمع، ولا ظلَّ للحسرة، وهو ألم إن أفضى إلى الموت أفضى إليه برجلٍ لا يعرف الموتَ ما هو، وإنْ أبقى على الحياة أبقى عليها في رجل عرفت الحياةُ مَن هو.

رجل حطَّ الله أوزاره، وكتب عليه أن يكون فقيرًا من المال وحب المال وذل المال؛ فخرج وليس له في أفئدة الناس إلا الرأفة والحنان، وجاء وليس له من الناس حاسدٌ أو عدوٌّ، وخُلقَ ذا حدين من نفسه الماضية لا يكتنفه ذلٌّ أو همٌّ إلا قطعهما وانطلق كالفرس العتيق في ميعة حُضْرِه،١٧ وماذا يبغض الناس منه وماذا يعادون وهو في ذلك البحر زورقٌ قد سقط مِجذافه فليس له ما يضرب به وما يُسخر به، وإنما تدافعه رحمة الله حيث اندفع، والبحر لا يعادي الزورقَ الذي يجري فوقه، ولكن يعادي المجذافَ الذي يُديره ههنا وههنا.

رجلٌ كأنه قطعةٌ من الأبد، لا أمس له يتعقبه، ولا غد له يترقَّبه، بل الحياة عنده يقظةٌ طويلة، والموت نوم أطول.

«والشيخ علي» متى أحسَّ الجوعَ ولج الباب الذي يصيبه مفتوحًا، فلا يقع على الناس إلا متطرِّئًا، وهو مع ذلك لا يحطُّ في الطعام ولكن يخُطُّ فيه خطًّا،١٨ وما هو إلا أن يستقرَّ شيء في جوفه مما يقيم صُلبه حتى ينفر نفور الطائر، لا يرى إلا أنه قد استوفى حقَّ طبيعته من خادم طبيعي، فلا جزاءً ولا شكورًا؛ ولهذا لا يبرح أبدًا على الحد الذي يصلحه لنفسه فلا يتجاوزه، وأعجب ما يروعني من فضيلته أن هذا الحدَّ عينَه هو الذي لا يفسد ما بينه وبين الناس.
وهو إذا تكلَّم فإنما يترمرم١٩ من طول السكوت؛ فإما أن يغمغم حروفًا وأصواتًا، وإما أن يَلوثَ بعض كلماتٍ غير مفهومة كأنه يُسِرُّها في أُذن الدهر الذي لم يفهمه، ولكن لهذا الرجل كلمةً في الشتاء وكلمةً في الصيف؛ فأما الأولى: فأن يسأل دِثارًا يستدفع به أذى البرد، ولا معنى لكلمة «هات» عنده غير هذه الضرورة، وأما الثانية: فإن يَهِبَ الدِّثار لغيره، ولا معنى لكلمة «خذ» عنده غير هذا الاستغناء، على أنك واجدٌ أكثرَ ما في هذا العالَم من شرٍّ وفسادٍ إنما يرتطم في هذين الحرفين: «هات، وخذ».

هذا هو «الشيخ علي»: رأيته فرأيتُ في بُردِه ثورةً على العالَم الإنساني، وعرفته فأصبت في ضميره قطعةً مجهولة من هذه المسكونة، واستجليتُ نفسَه فإذا هو أُفُقٌ فوق الأرض، وطالَعتُه فكأني رأيت في جملته النقطة الأرضية التي يبدأ من ورائها ارتفاع السماء، وبلَوتُه فإذا هو حَصَاةٌ تحت ضرس الدنيا والناس هنالك يُمضَغون؛ فلم أملك أن غمست قلمي من نظراته في مجرى من أشعة الوحي، ووضعت الاعتبار من هذا الرجل وحقيقتِه ما عرفت من الناس وحقائقهم، فخرجت لي من المقابلة هذه الصفحات؛ ولذا كان القول في «المساكين» ما قال «الشيخ علي».

على أني إن كنتُ لم أُحسن وصفَ الرجل أو كنتُ لم أبلُغْ في وصفه؛ فذلك لأن هذه الحقيقة في هذا القلم كالثمر الحلو في العود المرِّ، والرجل مما أنضجه القدَر وحده، وليس لنا من حقيقته الغامضة إلا الصفاتُ التي تُثبت أنها غامضة.

وهل في الحياة أشدُّ غموضًا من رجل يرى، أو كأنه يرى، أن كل نعمة لم ينلها فهي مصيبةٌ لم تنله، وكل ما يعرفه من هذه الدنيا أنه يعرفُ كيف يتركها مطمئنًا وعلى شفتيه من الابتسام تحية السماء لاستقباله، ومتى هو فارقها انكشف موتُه عن حياته، وصرحت هذه الحياة عن ضميره، وخلُصَتْ من هذا الضمير كلمةٌ هي معنى الرجل الذي انطوى عليه، وكانت هذه الكلمة هي «الحمد لله»!

هوامش

(١) هذا الرجل من قرية يقال لها «منية جناج» من أعمال مركز دسوق أحد مراكز مديرية الغربية، وقد توفي في سنة ١٩١٩، ولما وضعنا كتاب «السحاب الأحمر» في سنة ١٩٢٤ جعلنا فيه فصلًا على لسان الشيخ علي، وسنلحقه بهذه الطبعة من «المساكين».
(٢) من وساوس الفلسفة اليونانية القديمة أنهم يجعلون الأفلاك عشرة، ويسمون كلًّا منها عقلًا، وقد أخذها عنهم فلاسفة العرب، وزعموا العقل الإنساني من تحتها كلها …
(٣) أي هيئته.
(٤) يقال: رأيته يسوق بنفسه، إذا كان في الموت.
(٥) أي لا نبات فيها.
(٦) كان هذا في سنة ١٩١٧، ويقال: حطمته السن، إذا كبر وضعف، وكأن هذا على العكس فهو يحطم السن. وقد شاع هذا الاستعمال في أقلام الكتَّاب دون أن يتنبَّهوا إلى أنه لا يجوز أن يقال إلا في مثل هذه النكتة.
(٧) كناية عن اسمه، وكان اسمه الشيخ علي جمعة.
(٨) توفي رحمه الله في سنة ١٩١٩ للميلاد كما تقدَّم — بعد ظهور الطبعة الأولى بسنتين.
(٩) يرى غلطاتك فيتَّقِي على نفسه من مثلها، فكأنك مرآته.
(١٠) يقال: فلان يجوع بخمسة بطون مثلًا، إذا كان يكدح لمعاش خمسة.
(١١) انظر: فصل النفاق، في كتاب «السحاب الأحمر» وتصويره وفلسفته.
(١٢) أي مسلوب العقل ذاهبه.
(١٣) أي السرة وما حولها، وذلك من الشبع والكظة.
(١٤) كناية عن البطن، ويقال: الشبع مكسلة، والبطنة تُذهِب الفطنة.
(١٥) أي عداوة وغيظ.
(١٦) أي هاماتهم وعظمائهم، جمع رابية؛ لظهورهم وعُلُوِّهم.
(١٧) أي في أول نشاطه وجريه.
(١٨) المتطرئ: الذي يأتي من غير دعاء، وحطَّ في الطعام: أكْثَرَ منه، وخط بالخاء: إذا نال شيئًا يسيرًا.
(١٩) يقال كان ساكتًا فترمرم: أي حرَّك فاه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤