الفصل السادس

وهم الحياة والسعادة

قال «الشيخ علي»: ولقد عرفنا الحياة ما هي لأننا نحن أمثلة عليها، ولكن البحث في معنى هذه الحياة لم ينتهِ بعدُ؛ لأن هذا المعنى لا يزال كما كان فوق السموات، ولو استطاع الكاتبون من أهل العلم أن يخُطُّوا في كتبهم بمدادٍ من أضواء النجوم التي يسكبها الخلود كلَّ ليلة على الأرض ملءَ محبرة الليل، لكان عسى أن تستنير مباحثهم في ظلمات الحياة، وأنَّى لهم ذلك وليس وراء النفس الإنسانية إلا الذي هو وراء السماء، ولا وراء السماء إلا الذي هو وراء النفس؟

أَلَا فاعلم يا بني أنه ما دام هؤلاء العلماء يتعاقبون على تفسير المعاني الإلهية ولم ينتهوا بعدُ، فمعنى ذلك عندنا نحن الجهلاء أنهم لم يبدءوا بعدُ.

وما هي الحياة؟ أما إنها ليست طريقًا مسافته كذا، ولا قياسًا ذَرْعُه كذا، ولا وزنًا مبلغه كذا، ولا شيئًا من هذه المعاني التي تضربُ الأقلام والألسنة في مفاصلها، بل هي فيما وراء ذلك من عالٍ إلى بعيدٍ إلى غامض إلى مبهم، حتى تنتهي إلى منبع النور الذي تلتطم على ساحله موجةُ الأبد.

وإن أبيتَ إلا ما هو دون ذلك وضوحًا وانكشافًا وبسطًا في التأويل، فقُلْ إنها في كلمة واحدة: فتحُ السماء بفكرة واحدة.١

وَلْتدعني يا بني من لغة هذه الكتب، فإنها متى انتهت إلى السماء رأيتها أكثرَ ما تراها ألفاظًا لا معنى لها؛ إذ ليس هناك من جلال الله إلا ما يشبه أن يكون معنًى لا ألفاظ له.

ودعني أُحدِّثك عن الحياة بما أفهمه — أنا الرجل الطبيعيَّ — من فَلَقِ الصبح ومن روعة الشمس، ومن إقبال الليل وإدباره؛ وبما أعرفه من هذه اللغة التي تُنزل بها السماء ما يتصل بنا من معانيها، لغة القضاء حين يسأل ولغة القدَر حين يجيب؛ وبما أستوحيه من معاني هذه الإشارات التي تتحرك بها جوارحُ الطبيعة، وهي مزيج من لغة البقاء الأرضي الذي يريد أن ينتهيَ، ولغة الخلود السماوي الذي يريد أن لا يفنى؛ فالحياة يا شاعري العزيز لا تخرج من الدواة ولا تقطر من القلم، بل أنا أحسب هذا المداد الكثير الذي أراقه عليها الناس هو الذي جعلها كما يقول الناس سوداء.

ولا يكفي أن يعلم الرجل كيف يسوق المقدمات، وكيف يحسِن القياسَ، وكيف يُخرِج معنى من معنى؛ حتى تكون النتيجة على ما توهَّم، والحقيقة على ما يقيس، والصواب كما يستخرج. وفي علم الحياة خاصةً — وهو العلم الذي لا مادة له إلا من الحوادث — أن بناءً من المنطق لا يتخذه بيتًا إلا ساكنٌ من الخيالات!

لست أعرف الناس قد غالوا بشيء قطُّ مغالاتهم في قيمة هذه الحياة، فقد والله استجمعوا لها كلَّ ما في الرغبة من الحرص، وكلَّ ما في الخوف من الحذر، وكل ما في الأمَل من الترقُّب، وكلَّ ما في الحب من الخيال؛ واستجمعوا فوق ذلك تلك المعاني التي لا قرار لها في الأرض ولا في السماء، معاني النظرات الوهمية التي يرسلها المخلوق من أرضه إلى عرش الله، كأنه لا يجرؤ على أن يشك في نهاية الحياة إذ هي تنتهي على أعين الناس، ولا أن يجزم بهذه النهاية إذ هو لا يريد الموت، وكأن الحياة لا تكفيه.

وما دام للحياة غدٌ يُرتقَب وهو الذي يسمونه المستقبل، فكلُّ وَهْم يسهل على الحقيقة أن تهلكه أو تُمرضه أو تُضعِف منه، إلا تلك المغالاة الممقوتة، فإنها أبدًا في خصبٍ وعافية ما بقي لها غذاءٌ من ذلك المستقبل المحجوب.

قال «الشيخ علي»: وأنت إذا سألتَ رجلًا عن مسألة، فسدَّد الجوابَ وأحكم الصواب، قلتَ: هذا جوابٌ يحسن السكوت عليه. ولكنك إذا سألتني أنا ما هي الحياة كما يفهم الناس؟ قلتُ لك: هذا سؤال يحسن السكوت عليه! لأن اللغة هي هي التي أسمتها «الحياة» واستخرجت لهذا الاسم العذب معانيه من أوهام الأحياء، وكم فيما وراء السماء من معانيَ تملأ الأبد، ولعلها لا تملأ سطرًا أو سطرين في معاجم اللغة!

ولكن دَعْ هذا وسَلْني ما هو الزمن الذي يقضيه الإنسان من يوم يُولَد، فلا يقدر أن يرفض هذه الدنيا إلى يوم يموت، فلا تستطيع هذه الدنيا إلا أن ترفضه؟ وما هو هذا المهد الذي يكبُر شيئًا فشيئًا حتى يصيرَ في الآخِر قبرًا؟ وما هو هذا العمر الذي يمتلئ قليلًا قليلًا حتى ينتهيَ إلى الفراغ فيغيب فيه؟ وما هي هذه الحوادث التي تزلزلُ الناس٢ في طريق القدر حتى يخرُّوا على وجوههم فتتحوَّل أجسامهم في الأرض إلى تراب في طريق المنفعة، ويتحول تاريخهم ترابًا على طريق الموعظة؟

سَلْني كذلك يا بني أُجِبْكَ: هذا الفناء المحتوم، وهذا الشقاء المقضيُّ، وهذا الأمل الباطل، وهذا النصَب الضائع، وهذا العمل الذي لا يراد لنفسه ولكن لما بعده؛ كل ذلك هو الحياة، أَفَلَا ترانا نخادع أنفسنا إذا سألنا عن الحقيقة التي يسوءنا أن نعرفها، فنحرف السؤال إلى جهة بعيدة لكيلا نرى الجواب الصحيح مُقبِلًا علينا، ولكن مُدبِرًا عنَّا؟

فما عسى أن تكون هذه الآمال، وهذه المنافسات، وهذا النزاع، وهذا الصراع، وهذه الأفراح، وهذه الأتراح، وكل ما إلى ذلك مما هو من مدلول الحياة؛ إلا باطلًا نستمتع به قليلًا، ثم يظهر أنه متاع الغرور؟

ما عسى أن تكون الحياة بكل ما فيها إلا مدة محدودة على ظهر الأرض، تجعلها أوهام الإنسان ومطامعه وحماقته وجهله وكبرياؤه كأنها الأبد كله؛ فيكدُّ ويكيد، ويعمل ويدَّخِر، ويهنأ ويحزن، ويطمع ويحرص؛ على نسبة من ذلك لا من نفسه، أيْ نسبةٍ أبديةٍ لا إنسانية.

أَلَا إنما مَثل هذا الإنسان المغرور مَثل رجل جمع الله عليه المصيبتين في باصرته وبصيرته؛ فضلَّ في مكان، فهو يقبل ويدبر في دائرة من فضاء الأرض لا يهتدي إلى الوجه ولا يذهب على السَّمت، فيتوهم أن الطريق لا ينتهي، وأنه وقع في صحراء لم تدرسها عكَّازته، وليست مِن عِلم رجليه في جغرافية هذه «المسكونة»، وكما لا تكون الطرق عند هذا الأعمى إلا من علم رجليه، فأكثر طرق الحياة عند هؤلاء المغفلين الذين يطمس الله على بصائرهم هي من علم بطونهم، وما أدراك ما علمُ بطونهم؟ وما رأت الحكماء أحدًا قطُّ جهل حقيقةَ معنى الحياة إلا وجدوا هذه الحقيقة في بطنه؛ ولذلك قالوا: مَن كانت همَّته ما يدخل جوفه كانت قيمته ما يخرج منه. وإنما البطن جوع فشبع وشبع فجوع، وعلى هذا القياس لا تكون حياة هؤلاء إلا جوعًا في الشهوات والآمال، فلا يطفئه إلا ما يُسعِّره، ولا يجلب الراحة فيه إلا ما لا بد أن يُرجِع التعب به، جوع في الشهوات والآمال بالعقل لا بالبطن؛ لأن علم الحياة عندهم علم بالبطن لا بالعقل، وكلاهما مُثْلةٌ بهذا الإنسان،٣ ويا لله كيف يريد الإنسان أن يحيا كما يحبُّ، ثم يحب ما لا يتفق مع سنن الحياة؟
من أجل ذلك شقي أكثر الناس بالعقل؛ إذ يقلبون به الأمور، ويحتالون منه الحيل، ويُكرِهونه أن يعمل على السخرة في لذة الجسم، ويحضرونه من همِّ الشهوات الحيوانية ما لا قِبَل لهذا الروح الإلهي أن يستكلب فيه،٤ وإذ يُخضِعونه بدلًا من أن يخضعوا له، ويسيرون به بدلًا من أن يسير بهم؛ فكان من ذلك طغيان الحواس وطمسها على الروح وتعفيتها على آثارها الإنسانية، ولا جَرَم كان من وراء ذلك طغيان هذه الفوضى المترامية في الاجتماع، وانبثاقها بالشر من كل ناحية، وتداخلت حدود المطامع بعضها في بعض فصار الناس كالأمواج، لا تقوم القائمة إلا من سقوط الساقطة.
وكان الناس يتعلمون كيف يسبحون في بحر الدموع ليأمنوا الغرق فيه، وليستنقذوا الغرقى منه،٥ فجدَّت بهم الحوادث حتى تعلموا القتال عليه، وصار مَن لم يستطع أن يُنقِذ نفسه يجتهد أن يُغرِق غيره!

الإنسان حيوانٌ لولا العقل، فلما أخضع لشهواته العقلَ صار إنسانًا لا حد له في الحيوانية، فهو من هذه الجهة لا إنسان ولا حيوان، وإن كان الشيطان مطرودًا من رحمة الله، فخير ما يقال في هذا الإنسان أنه شيطانٌ فيه موضع للرحمة!

ولقد خلق الله هذه الحواس ولا ضابط لها إلا العقل يُحكم تحديدها، ويتولى تسديدها، ويستعين في أمرها بكلٍّ على كلٍّ، ومن ثَمَّ يستقيم من هذا الإنسان شيء معقول، ويصبح قد ضُرِبت عليه الحدود لا يتعداها، ورُسِمت له دائرةٌ في الإنسانية لا يجاوزها، فيقرُّ كلُّ امرئٍ في حيزه وقد صار عنده من الناس وعند الناس منه وثائقُ من العقل وبيناتٌ من الحق، إذا هو حاكَم إليهم ضلالة منهم، أو حاكموا إليه ضلالةً منه،٦ وهنالك يرى كلَّ عمل طيب ثواب نفسه؛ لأنه هو من فضائله كأنه شريعة لنفسه، ومتى كان العمل الطيب مما يُجزِئ في ثوابه عند الرجل من الناس أنه عملٌ طيب، فقد أصبح ولا غرو من سعادته؛ إذ لو لم يجد به سعادة لما لقي منه ثوابًا، وبذلك — بذلك وحده من دون كل الوسائل الأخرى — تصبح السعادة عملًا من الأعمال يمكن أن يمارسه الإنسان فيسعد ما شاء الله أن يَسعد، ثم تكون الحياة على ذلك واجباتٍ يقضيها، فإنْ تحققت أو لم تتحقق فإما دخلت على نفسه بسرورها، وإما خرج منها بعذره وقد أبلى عُذْرًا.

ومتى صارت حياة رجل من الناس إلى أن تكون واجباتٍ يتنجَّزها ويستقضيها من نفسه، فما ثَمَّ لشهوات البدن موضع إلا كموضع النار من يَدَي المصطلي؛ لا يراد منها إلا حرُّها، ولا يُطلَب من حرها إلا قدر معلوم، ولا يُبتغَى هذا القدر إلا مدةً بعينها، ولا تكون هذه المدة إلا بمقدار ما يُصلِحُ أو يدفع الأذى، لا سَرَف في كل ذلك ولا هوانَ ولا مضيعة.

قال «الشيخ علي»: ولكن كل شر العالم يا بني في لفظ واحدٍ هو طغيان الحواس، وبمعنى واحدٍ هو إذلال العقل، ولغرضٍ واحد هو هذا الموت الأدبي الذي يسميه المغفَّلون سعادةَ الحياة.

منذ طغت الحواس أصبحت الحدود بين مطالب الإنسان من فضائله إلى رذائله ولا أثر لها؛ لأن الشاطئ لا يُعرَف تحت السيل إذ طَمَّ عليه،٧ فما أنت ولا أنا ولا أحدٌ يدري ما هو حدُّ الكفاية في رغبات هذا الإنسان وأهوائه، بل صارت هذه الكفاية وما ينطوي تحتها من ألفاظ القصد والقناعة والرضا وما إليها؛ ألفاظًا خيالية يساير ظلها ظلَّ الإنسان، فلا حد لها ما دام هو لا يُثبت لنفسه حدَّا، ولا تتأخر ما دام هو يتقدم، وأصبح أكثر الناس في رغباتهم الخيالية وما يعملون لها مدةَ الحياة كرجل ائتلى٨ أن يخطَّ دائرةً مركزُها ليس في محيطها، فكلما رسم دائرةً رأى المركز في داخلها، فيجتاز به وراء المحيط، ثم يدير يده فإذا واحدةٌ أخرى تقاطع الأولى، ولم يصنع شيئًا صحيحًا مما يحاوله، ويمضي على ذلك ما شاء الله ولا يصنع شيئًا، فلا هو يخطِّئ رأيه، ولا هو يرى من عمله شيئًا صحيحًا؛ وما بقي من الأرض فضاءٌ لم يخطَّ عليه بعدُ فهناك … هناك يرى هذا الأحمق الدائرة المتوهَّمة التي يخرج مركزها عن محيطها!

من هذا ونحوه أصبحت السعادةُ وهمًا من الأوهام؛ إذ لم تَعُدْ في إشباع العواطف وتغذية الشعور، وليست في موضعها الذي هو بين الضمير والعقل، ولكنها في إشباع جسدٍ لا يشبع ما دام حيًّا، وفي تغذية حاسة لا يزيدها الغذاء إلا شرهًا وضراوةً، فلن تكتفي إلا إذا بَطلت، وفي موضع مجهولٍ بين هذه الحواس لا حد له إلا كالحد بين ما يجد المعدم وما يتمنى؛ فالسعادة على ذلك هي دائمًا في الاستعداد للسعادة، وكفى بهذا عبثًا!

ولعمري ماذا تكون الحياة، بل كيف تكون؟ أليس يعلم الإنسان أنه سائر إلى الموت، ويعلم كذلك أنه طالب ما لا يموت؟ فلا جَرَمَ كان شعوره بهذا التناقض مؤلمًا، وكان هذا الألم هو منشأ الهموم التي لا تدعه لنفسه ولا تدع نفسه له، وكانت حقيقةُ هذه الهموم التي يجمعها كلَّها هي شعور الإنسان — شعورًا فطريًّا جرى منه مجرى العادة — بالمنازعة بين ما يطلبه هو في الحياة، وبين الحقيقة التي تطلبه هو من الحياة — أي الموت — ومن ثَمَّ يضطرب كيانه العقلي، فيؤثِّر كلُّ شيء في نفس هذا الإنسان تأثيرًا أكبر من حقيقته؛ لأن حقيقة هذا الإنسان لم تَعُدْ في نفسه بل في مطامعه، فهو يا بني كالوعاء المثقوب، تصبُّ فيه البحر ولا يزال فارغًا! والحياة عنده دائمًا هي طلب الحياة، وكفى بهذا عبثا!

ولا تحسبن أنه لا يبالي بما مضى من عمره، بل هو يستشعر فوق ذلك الخوفَ من أن يكون الذي مضى هو أكثر العمر وأطيبه؛ ولذلك لا يبرح شقيًّا بما يحاول، إذ يحاول أن يجمع طيبات الحياة، ويَستَحوز عليها في القليل من عمره، ليستمتع بها فيما وراء ذلك، كأن الحياة التي قِوامُها من الغذاء لا تفارق الإنسان ما دام الغذاء في بيته، وكأن الله يبيع المستقبلَ لمَن اجتمع له من الدنيا ما يتوهم أنه يقوم ثمنًا للمستقبل.

لا يبرح هذا الإنسان شقيًّا، وهو أبدًا من الهمَّ والغيظ والتوقد واشتعال الأمل والاضطراب في أسباب الحياة كالسِّكة المحماة؛٩ يحسب ذلك من نفسه قوةً وفضلًا وسعة في الحيلة، ولا يدري أن هذه النار المشبوبة في صدره تقطع منه أكثر مما تقطع به، وأنها كما تُعطيه قوةَ المضي في هنات الحياة وهيِّناتها، تعطي الأقدار الصلبة مثل هذه القوة عليه؛ فلا تكاد تصدمه من أي أقطاره١٠ حتى يتثلَّم ويتفلَّل.

وهل تحسبُ مثل هذا يكونُ عدادُه في أهل السعادة، وهو من الحرص على الحياة يكاد يشمُّ ترابَ قبره في كل حادثة تُلمُّ به، ولا يزال يُصلَب على كل باب من أبواب الأيام حين يفتحها الصباح وحين يُغلقها الليل، ويُرمَى بالنبل المسموم من فُضُوح الدنيا وشهوات النفس الدنيئة، ويقتل ضميرُه كل يوم قِتْلَة الكذب والغدر والإثم؛ لأن ذلك من وسائل الحياة التي تبسط عليه الدنيا؟

وما ظنك بسعادة أولها حبُّ النفس وآخِرها بغضُ الناس؛ ومن مقدماتها منازعة الفرد للمجموع، ومن نتائجها منازعة المجموع للفرد، ومن مبدئها درس الشر علمًا، ومن غايتها مزاولة الخبث عملًا، ولها اسم السعادة وفيها معنى الشقاء، ومن شروطها على صاحبها أنها لا تمتعه إلا بما يَمله، ولا تتبرج له إلا فيما لا يناله، ولا تظهره للناس أبدًا إلا ليرَوا فيه رذيلة من الرذائل، ثم لا تكون مع ذلك في موضعها إلا كالفقر في موضعه؛ هذا يوازن بين نِعَم السماء التي تنزل على الضمير وبين هموم الأرض، وتلك توازن بين هموم السماء التي تنزل على الضمير وبين نعم الأرض، وآخِر أمرها أن لا يعرفها صاحبها إلا على الضد مما يعرفها الناس، فهم يسمعون لها الأصوات العالية من الأمر والنهي والجاه وما إليها، وهو يعلم أن هذه الأصوات لم تخرج منها إلا لأنها كبيرة فارغة.

قال «الشيخ علي»: وبذلك يا بني خسر الناس لذة الحياة، فلا أدري أهم بشر أم آلهة؛ لأني أرى كل حي كأنما يريد أن يَرمَّ صدعًا في الكون، وأن يصلح من هذه الدنيا ونظامها ما لم يصلح له، ولماذا؟ لأن الدينار الواحد نواة ذهبية، ولكن هذه النواة لا تُخرِج لكل إنسان نخلة من الذهب.

ولماذا أيضًا؟ ولأن أُكل هذه النخلةِ حين تُؤتي أكلها لا يكون إلا مُرًّا.

ولكن أليس في الأرض غير المال ما يمكن أن يُسْتَلَذَّ وأن يسمى نعمة؟ وأين هي تلك السوق التي تعرض فيها النعم الهنيئة، ويقف على جانبيها ملائكة الله يبيعون بالدرهم والدينار؛ يبيعون المريض من أولئك الأغنياء عافية، والضعيف قوَّة، والحزين مسرةً، والخائف أمنًا، والفَزِعَ اطمئنانًا، والهَرِم شبابًا، والمهزول جسمًا رويًّا، والميت رجعةً أخرى …؟

أَلَا فَليْعلم الإنسان أن هذا العالم لا يصلح على غير ما هو عليه وما لا بد منه لنظام الحياة، فسيأتي إن خيرًا وإن شرًّا؛ فكلنا يسمي الصعاب التي تَعرض له في طريق الحياة عقباتٍ؛ لأننا لا نبصر ما وراءها، ولا نعرف في أي موضع تقر من نظام الحاضر أو نظام المستقبل، وهي لو تعلمون وسائل لما بعدها، فما تراد لنفسها أكثر مما تراد لغيرها، وهي بأن تكون مقيَّدةً بهذا أحرى من أن تكون مقيَّدة بذاك، ورُبَّ صخرةٍ حالت في طريقك لتلفتك إلى هاوية من ورائها، أو لتتقي بها عدوًّا يَدْلف إليك من ورائك!

والأعرجُ الذي يتأبَّط سناده١١ ويتخذ منه رجلًا تبدأ من الكتف، لا يكاد يعرج بضع سنين حتى يستفيض صدرُه ويكتنز عضله ويتفتل ويصبح لحيمًا بادنًا، كأنما جمع في زنده حجم يده إلى حجم رجله التي رُمي فيها، وكان مرهفًا دقيقًا متهدَّم الصدر بارز الأضلاع خاوي العروق ممسوحًا في جملته، ثم أنت لا تراه إلا ساخطًا متبرمًا يكاد يتحطم غيظًا، وهو يلعن سِناَدَهُ وما حمل … واليوم الذي حمله فيه، والسبب الذي حمله به، ويرى كأن العرج هو الذي قطعه عن شأو المعالي وكان سبَّاقًا، ويظن عند نفسه أن هذا العرج قد جعله في مشيته الممثل المضحك على مسرح الحياة!
ولا كلَّ هذا يا رجل؛ فهل نسيتَ — ويحك — أن السُّعال كان ينفضُك نفضة الموت، وأن البرد كان قد اتخذ من أضلاعك سقفًا يأوي إليه، وأن الأمراض لم تبرح ترميك آونةً بعد أخرى كأنها تُليِّن عظامك القاسية للضجعة الأخيرة، وأنك كنتَ لا محالة هالكًا تنفُثُ رئتيك من شفتيك، وتبصق روحك تحت رجليك، وأنه لولا الداء الذي يُسمَّى العرج لهلكت بالداء الذي يُسمَّى السل؟١٢

هذه واحدة يا بني، وما من واحدةٍ إلا هي أختها، وحكمة الله لا تختلف، بل هي هي في كل شيء وإنْ كنا لا نعلم، وما خُلِق شيء عبثًا، فتعالى الله الملك الحق. ولقد أعرف أن ما لم يُقضَ لي فهو مقضيٌّ لغيري، وأنه لا بد أن أذهب في هذه الحياة بقِسْط من مصائبها؛ لأنه جزء من نظامها يتوقف على وجودي ويتوقف وجودي عليه، وهل أنا بدنٌ يملأ الأرض، ورأس طبَّق السماء، فيكون الفَلك عمامتي، والقضاء غمامتي، وكل خير لهامتي؟ إنْ أنا يا بني من هذا الناس في أقدار الحياة المكتوبة إلا كالجندي في العسكر، نصبته الحرب آلةً حيةً تحركها الألفاظ والإشارات من حيث تأتي؛ فهو يندفع إلى الموت ويشوي من لحمه على النار متى أرادت خطة الحرب أن تنبعث وتتحرك، وإنما هو بجسمه وروحه وعقله نقطةٌ صغيرةٌ في خط صغير من خطط كثيرة مثله رُسمت بها فكرة أمير الجيش على صفحة الميدان؛ فليس للجندي أن يسأل عند الحركة: لماذا …؟ إذ هو لا يجد عندئذ من يقول له: لأن …! ولكن متى أزفت الآزفة وحُقت النهاية بالنصر أو الهزيمة، رأى العمل الذي وراءه كأنما انقلب أحرفًا وكلماتٍ يستوضح منها فكرةَ القائد كما رسمها!

قال «الشيخ علي»: ومن الأسئلة في هذه الحياة ما يُولَد حين يموت جوابه كما رأيتَ،١٣ فهو حمقٌ من السائل ومضيعة؛ لأنه لا جواب عليه، وربما اعتدَّه الأحمق معضلةً من المعضلات، وكدَّ ذهنه فيه، وقصر همَّه عليه، وجعل يلقى به الناس ويفتح له الأحاديث، وذلك سُخف لا يوجد به الجواب الصحيح ولكن يضيع فيه السائل؛ إذ يستنفد من وُسْعِه وعمله وحيلته، ثم لا يرد عليه من كل ذلك سوى الخيبة، وهذا — أعزَّكَ الله — سر من أسرار ضيق الناس بالحياة وتبرُّمهم بأقدارها؛ لأن أكثر أعمالهم وآمالهم من جنس ذلك السؤال، فما أقل مَن ينتهز من يومه قبل أن يذهب يومه، وما أكثر مَن يريد غدًا قبل غدٍ!

ولكأني بهذا الإنسان يودُّ لو أسرع الفَلَك في دَوْرَته، وجعل يرتمي به المراميَ البعيدة لينهب ما في الغيب نهبًا، ولينال الممكن كله وشيئًا من المستحيل أيضًا؛ فيحيا بعد ذلك حياةً طيبةً عذراء لا تلد لياليها من مواليد الغيب قليلًا ولا كثيرًا.

دونك آمال الناس فانظر هل تجد في هؤلاء الحمقى مَن يصبُّ آماله إلا في قالبٍ يسَعُ ضِعفَيْها على الأقل، وهو يحسب أنه بتوسيعه لها يخفي جانب الاستحالة فيها، ولا يدري أنه يخفي جانب الممكن المعقول أيضًا! يصبُّها في قالَبِ التمني، وما موضع التمني في عالم الحس وفي هذه الحياة الأرضية التي لا تزال تضرب جيلًا بجيل، وتدفن قبيلًا بأيدي قبيل، ويُهملُها الإنسان في الكثير وهي لا تهمله في القليل؟ وهل التمني أن تكون حوادث الحياة ما أريد أنا وما تريد أنت وما يريد فلان، إلا كما يتمنى كلُّ إنسان من هؤلاء أن يكون غيرَ نفسه، وكما يتمنى الطفل حين يُجيب معلمه خطأً ويعلم أنه أخطأ؛ أن يكون الجواب حقيقةً كما أخطأ؟

وقد يقال إنه ليس في العلماء أحمق ممَّن يَكِدُّ ذهنه في ابتكار جواب غريبٍ لمسألة لا تقع لإنسان ولا يحتاج أحد إلى جوابها؛ فكذلك لم أَرَ في الجهلاء أحمق ممَّن يسأل الحياة سؤالًا لا جواب عليه، أو لا يفهم الجواب عليه؛ كل ذلك حمق، وكل ذلك سخف، وكل ذلك عبث وباطل، ولكن يا أسَفَا على الناس! كل ذلك أيضًا من مذاهب الحياة، وكل ذلك من الواقع!

فالناس من بين طامع جريءٍ إن نفعته الجراءة ذهب بمنفعتها الطمع، وقانعٍ ساكنٍ إن أفادته القناعة ذهب بفائدتها السكون، ومتحيِّل على الغيب يستجمع له والواقع قد نفَذَ فيه، ومتبرمٍ بحاضره يبني على السماء والأرضُ تَهدم منه، وقليلٌ من الناس المؤمن الوثيق الذي يشعر بقوة الله في كل ضيق؛ فإن لم ينصره الله على الحياة لا يخذله فيها، وتراه لا يشك فيما يعرف ولا يريد أن يعرف ما يشك فيه، وهو يعلم أنه ليس شيء من المصائب والنِّعَم يمكن أن ينزل في غير موضعه المهيَّأ له؛ إذ ليس في هندسة الله مكان مختل،١٤ وأن النعمة الصحيحة ليست في لذَّات الإنسان الحي ولكن في حياة هذا الإنسان؛ إذ الحياة الصحيحة هي التي توجِد اللذة، وأن القوة التي تسمو بالحياة حتى تسخِّر لها الطبيعة تسخيرًا إنما هي قوة العقل، فإن وهن العقل صارت الحياة طبيعيةً حيوانيةً لا لذَّة فيها مما خُصَّ به الإنسان دون الحيوان من رَوْح الله، بل تكون اللذة كل اللذة هي فقدان الألم أو إطفاءه إن تسعَّر.١٥

وتالله لو أُفرِغتْ طيبات الدنيا في جوف هذا الحيوان الإنساني الذي وصفتُ لكَ ممَّن يسمونهم الأغنياء والمستمتعين وأهل الحظ والهناءة؛ ما زادت في لذته على ما يكون من إفراغ حقلٍ من البرسيم في جوف حمار!

قال «الشيخ علي»: وكما يفقد أكثر الناس السعادة في كثرة الاستعداد لها والإغراق في وسائلها، يجدها بعضهم في إهمالها حين لا يبحث عنها، ويذهب باحثًا عن حقيقة الحياة.

ويا عجبًا للناس! كأنهم ملكوا الأعمار، وضمنوا لأنفسهم دولتي الليل والنهار؛ فقلَّما يفكِّر أحدهم إلا في زاد الدهر البعيد والحياة المتطاولة والأمد الواسع، وهو لا يرتاب في أنه لا يعيش غير عمرٍ واحد محدود، ولكنه لا يدري أنه يحمل على نفسه من تلك الأطماع شقاءَ بضعة أعمارٍ طويلةٍ عالية السن، ويسوقها بين يديه ظالعةً عرجاء تطلب السعادة في طريق لا آخرةَ له، فهي تسير لأن بين يديها غرضًا ما ينفك ماثلًا على بُعْد منها، ثم تنبعث لأن الطريق لا تنتهي، ثم تقف عاجزةً لأن الحياة قد كلت، ثم تقع وما بها حركة لأنها انتهت إلى الحفرة المجهولة التي تنشق تحت قدمَيْ كل إنسان في الساعة التي هو رهن بها، ولو كان طريقه في النعم واللذات على وادي الجنة بين الشمس والقمر!

كل شيء هو ما شئتَ أن تتوهم، ولكن الحياة هي الحياة: هي الحقيقة التي تريد أن تُعرَف، والمدة التي تعمل على أن تنقضي، والمعنى الذي تطير حوله الأقدار وتقع لتلفتَ الناسَ إليه؛ هي الحياة التي لا تتسع لأكثر من قضاء الواجبات، ولا تحمل جسدها إلا ريثما نبليه، واسمها الحياة ومعناها النجاح، وهي الحياة لا المال، والحياة لا الشهوات، والحياة لا المطامع، وإنما قيمة الحياة فيما تذهب فيه لا فيما يذهب بها؛ فكل لذة لا تجد لروحك أثرًا فيها لذةٌ ميتة، وحقيق بك عندها أن تحسب أن شيئًا من عقلك أو من فضيلتك قد مات فيها.١٦
ولقد نقلوا في أساطير الأولين عن «ميداس» أنه بلغ من فَرْط الغنى أن لا يلمس بيده شيئًا إلا استحال ذهبًا، فأرادت آلهة الخرافات أن لا ينخدع الناس فيه ولا يسحر أعينهم أو يسترهبهم، وأن يعلموا أنه إنسان، وأن فرط الغني مُثلةٌ به، فمسخ «أپولون» أذنيه فكانتا أذنَيْ حمار، ولعل فرط الغنى يا بنيَّ لا يكون في الأعم الأغلب إلا مع هذه الآذان! وما أملحها نادرة وأبدعها إشارة وأحكمها مُلحةً! فإن كل ما في الحمار لا بد منه لتكوينه حمارًا سويًّا، إلا أذنيه الطويلتين،١٧ فلو حملهما إنسان كميداس رُزِق غنى الحيوانية، فهما برهانان على أنه ليس بإنسانٍ صحيح، ولم يستطع أن يكون شيئًا حتى ولا حمارًا من الحمير.
وأي شيء هذا الغنيُّ الذي يأكل ويتمتع ولا يرتعي من لذات الحياة إلا الخضراء الناضرة، وقد سُلِّط على هلكة ماله أو سُلِّط ماله على هلكته،١٨ فإن ذهبتَ تعتبره إنسانًا لم تَرَ فيه من الإنسان إلا النصفَ الأسفل.
أهو حيوان؟ فأين عمله الطبيعي إذن؛ فإني لا أرى هذه الحيوانات١٩ كلها إلا عاملة لنظام الطبيعة كما تعمل الطبيعة لها.

أم هو إنسان؟ فأين عمله الاجتماعي الذي يُسنِي منزلته إذا أصبح الناس على منازلهم، وأين الحدُّ الإنساني الذي يصله بمجد الماضي، أو يدلُّ عليه في عمل الحاضر، أو يلحقه بأمل المستقبل؟

إن الطبيعة يا بنيَّ لا تُغفلُ خطأ ولا تنسى مذنبًا ولا تصفح عن إساءة، ولكنها تضرب بيدٍ ألطف مسًّا من الهواء وأخفَّ موقعًا من الضوء، على حين أن صفعتها زلزلة لا يقوم لها بناءٌ حي؛ فلو أن مثل هذا الغني قد أُعطي معدةَ حمارٍ أو أعصاب بغل أو قوة فيل أو نحو ذلك؛ لتمَّ تمامه بالمال، فوجد في هذا المال مَسَدَّ حاجته كيف مسَّتْ، غير أنه أُعطيَ شَرَه الحمار دون معدته، وأُعطي في هذا الباب من البغل والفيل، وغير البغل والفيل دون ما يحمل ذلك وما يبعث عليه، فكأنما مُسِخَ من باطنه مسخًا، على حين أن طبيعته الإنسانية لا تخلو على هذه الأبواب من هذه الشهوات،٢٠ ولا تصلح بها ولا تطعم فيها من الحياة، وقد حدَّثوا عن امرأة من ذوات النعمة الفاشية في أمريكا اتخذت كلبًا، فوقع منها بموضع محبةٍ شديدةٍ، فاستصفته وتحفَّتْ به وذهبت كلَّ مذاهبها في ترفيهه، وفتحت عليه من دنياها العريضة، فنصَّت له السرير، وفرشت له الحرير، وأبدلته سماع الموسيقى من سماع الهرير، ومنعته العظم يعالجه ويقرضه، وحرمته على الجوع يُقعِده ويُنهِضه، وما زالت به تَرْأَمُه وتحنو عليه، فإذا هو يذوِي ثم يضعف ثم يمرض ثم هلك؛ وكانت المرأة كأنما تقتله بالنعمة شر قِتْلة، وتصب عليه العذاب صبًّا من ألوان ذلك النعيم؛ فكيف بصاحبنا الغني حين تبالغ الطبيعة في ترفيهه على ما يشاء له الهوى من سنة الحمار والبغل والفيل وجماعتها، كما بالغت صاحبةُ الكلب في ترفيه كلبها على سنة الإنسان؟
قال «الشيخ علي»: الحياة يا بني مدة، والمدة ضائعة لولا العمل، والعمل على مقدار المنفعة، والمنفعة بآثارها، وهذه الآثار هي تاريخ الحياة؛ فالأحمق الشَّرِه الذي يعيش مقبورًا في بطنه، والغني اللئيم الذي يعيش مقبورًا في خزانته، والفاسق العاهر الذي يعيش مقبورًا في رذائله ومخازيه، والدنيء السِّفْلةُ الذي يعيش مقبورًا في جرائمه وآثامه؛ كل أولئك لا تاريخ لحياتهم ولا حياةَ لتاريخهم، فهم أناسٌ خُلِقوا بخصائصهم لتمثيل ألوان العذاب وأصناف العقاب، يقع ذلك عليهم من الله ثم يقع منهم على الناس، وإنما يُعانُ المخذول منهم على احتمال أمره بما هو فيه من الغرور وما يطوِّع له، وما كان الغرور وصاحبه في عاقبة الحياة ورَجْعِ الأمر إلا كرجلين من الحمقى ضمهما طريقٌ فاصطحبا، ثم أفضى بهما السير إلى جبلٍ قطع عليهما، فقال أحدهما لصاحبه: إني أراكَ شديد الأسر قويَّ البِضعة، وما أرى إلا أن تحمل هذا الجبل وتلقيه بعيدًا من هنا، فلا مذهب لنا إلا من ورائه. قال له صاحبه: أما إني كما وصفتَ، وإن بي لقدرة على حمله، فما عليك أنت إلا أن تضعه على ظهري!٢١ فلا الحامل أطاق فحمل، ولا المعين استطاع فأعان، وإنما هما كحمارَي العِبادِيِّ الذي قيل له: أي حماريك شر؟ فقال: هذا ثم هذا.
وهكذا يعين الغرور على طلب الدنيا، ويزيِّن للمغرور فلا تراه أبدًا إلا على زينة من أمره،٢٢ حتى تذهب الحياة في باطلٍ كالحق أو حق كالباطل، فإذا حسم الموت عنه مادة غروره وجاءه باليقين الذي لا مرية فيه، قال: ويحي! لو رجعت لعلي أعمل صالحًا فيما تركت! وآه لو عرفت حقيقة الحياة قبل الموت، أو عرفت حقيقة الموت وأنا بعدُ في الحياة!

أيها المغرور! ما أراك إلا دائبًا في طلب الحياة حتى تفقدها من شدة الطلب، فلا تكاد تستوضح ما هي؟ فإياك وإياها، لا تأخذ معنى الحياة من نفسك؛ وإن لنفسك أغراضًا حيةً تريد أن تكونَ هي الحياة، ولا من الناس؛ إن فيهم أغراض نفسك، ولا من مدة عمرك؛ فإنها لا تبلغُ طرفةً واحدة من عين التاريخ.

ولكن أَعِدْ نظرًا على ما وراءك، وخُذْ معنى الحياة من ستة آلاف سنة عُرِفت من تاريخ الحياة نفسها،٢٣ ثم من عمر الأرض كله، ثم من تاريخ الموت المجهول أوله وآخِره؛ خُذْ معنى الحياة من هذه الأفواه الصامتة التي لا تكذب لأنها تحفظ الحقيقة الإنسانية، من هذه القبور التي تملأ الرَّحْب، من هذه الهاوية التي ينصبُّ فيها فراغ الحياة دائمًا دائمًا؛ لأن تحتها مجرى التيار المتدفِّع من النهاية الأرضية المعروفة إلى الأبد الذي لا تُعرَف له نهاية. خُذْها من هذه الكلمة التي وضعتها السماء للأرض، هذه الكلمة الأزلية التي تحقِّق الإخاء والمساواة في الناس جميعًا بلا شذوذ ولا تأويل، الكلمة التي يكون القبر زاويةً في معناها، كلمةُ الله — عز وجل — في قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ.

أيها المغرور! خُذِ الحياة حقيقةً لا وهمًا، وعملًا لا علمًا، واسمع للحياة إنْ كنتَ تعرف لغتها، أو اسمع للموت الذي يعرف كل إنسان لغته؛ فإن كل ذلك يُعلِمُك أن الرجل الحر لا يعرفُ على أيِّ حالةٍ يعيش إلا إذا قرَّر لنفسه على أي حالة يموت، وأن الحياة ليست في الوجه الذي توجد عليه من الغنى إلى الفقر، ولكن في الوجه الذي تنتهي عليه من العمل الصالح إلى العمل السيئ، وليست في ترفيه الحواس الغليظة ولكن في النفس والضمير: الضمير النقيِّ، لثواب الدنيا وجمال الحياة ولذة الخير؛ والنفس الطاهرة، لثواب الآخِرة ونضرة الخلود ورحمة الله.

قال «الشيخ علي»: فلا تسأل يا بني ما هي الحياة؟ ولكن سَلْ هؤلاء الأحياء: أيُّكم الحي؟

هوامش

(١) يكاد يكون المخ مادة سماوية أودعتها السماء هذا الإنسان، تصل روحه بها وتصله هو بروحه؛ فلو وقف على سر الحياة لَفتح السماء، ولكنه يتقدم أبدًا ليكشف عن الروح والروح من ورائه! فهيهات.
(٢) تسوقهم بعنف، يقال: جاء بالإبل يزلزلها.
(٣) المُثلة: التنكيل.
(٤) أي يظهر من الحدة الحيوانية كأنما أصابه الكَلَب — بفتح اللام — وهو جنون الكلاب.
(٥) كناية عن المواساة في الأحداث والمصائب والأحزان ومساعفة بعضهم بعضًا، وهي من شروط الإيمان.
(٦) متى لم يكن إنسان في حيزه وطغت به شهواته، وأسرفت عليه حواسه، انقطعت الصلة بينه وبين الناس من جهةٍ أو من جهات، وحينئذٍ لا يجد في الرذيلة معناها؛ إذ هي رذيلة في تحديد الناس وفيما تواضعوا عليه من معناها وحدها، فيضع هو لها تعريفًا جديدًا تكون الرذيلة كل ما لا يوافِق هواه ولا يساعف أغراضه، ويصبح كأنه وحده دنيا، وكأن الناس دنيا أخرى، فكل ما اعترضه أو صادمه من مصالحهم ومراشد أمورهم عدَّه عند نفسه رذيلة! ومن هنا ترى بعض «فلاسفة الشهوات» في التمدن الأوروبي الفاسد يعدون حياء المرأة المحصنة ضعفًا، وعفافها مرضًا من أمراض النفاق، ووفاءها لزوجها أثرًا من العبودية؛ ثم يرون الأديان كلها أوهامًا يقيِّد بها الأنسان نفسه، ويتتابعون بمثل هذه الآراء في كل ما اصطلح الناس على أنه فضيلة أو إنسانية، ولو هم حقَّقوا ورجعوا إلى مأتى ذلك في أنفسهم؛ لَرأوه أثرًا من أعصابهم المريضة، وَلَرأوا أنفسهم في جنون الشهوات صورة أخرى من مجانين العقول.
(٧) كل الشر في هذه الدنيا أو ما نعتبره شرًّا يرجع إليه نكد الإنسان وبلاؤه، إنما يأتي من زيغ الحاسة في فرد فرد من الناس، فتكون الطاقة محدودة بحدود كثيرة من قوة صاحبها، ومن أحوال الناس ومصالحهم، ولكن الرغبة تجري مطلقة متخطية كل هذه الحدود؛ ومن ثَمَّ يقع الاختلال بين مقدار القوة وغاية القوة، وبين الحقيقة الواقعة التي لا تتغير والحقيقة المتوهمة التي لا تتحقق، ولا يبالي الناس من ذلك شيئًا؛ لأن الحدود قائمة بينهم برسومها، والحقائق مقدَّرة بمقاديرها، فلا يحل ضرر ذلك إلا بصاحبه لا يعدوه، وهذه مادة السخط والهم والنكد والتعاسة في أكثر الناس حين لا يتحقق لصاحب الدرهم من قوة الملك في درهمه ما يتحقق لصاحب الدينار من ديناره، ومتى ما طغت الحاسة، وفاتت مقدار الجهد والطاقة، وترامت إلى البعيد البعيد منهما، كان هذا البعد هو بعينه مسافة انحراف الفصيلة عن نهجها وسبيلها؛ فتخلعها الرذيلة على مكانها، وهنا عمل الإيمان وفائدته؛ فهو تحديد الشهوات والرغبات، والتخلية بين كل إنسان وحدوده التي بلغت إليها فصائله ومواهبه، ففلسفة الإيمان والسعادة والفصيلة تجدها كلها في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ.
(٨) حلف وآلى.
(٩) نصل يُحمَى في النار فيكون ذلك أشد لمضائه.
(١٠) أي من أي جهاته في الحياة، كالصحة والغنى والأمن ونحوها.
(١١) وضعناها لهذه الحمالة التي يعرج عليها مَن أُصِيب في رجله؛ لأنها تسانده.
(١٢) انتهى الطب اليوم إلى معالجة الشلل بأحداث الملاريا.
(١٣) أي في مثل الجندي وسؤاله «لماذا؟» عندما يُؤمَر بالحركة الحربية.
(١٤) لو أن الله تعالى مدَّ في نظر الإنسان فاخترق الكون كله، وأصبح إن يرم بعينيه يبصر كل ما وسعته الأرض، ثم بسط من سمعه مثل ذلك فعادت الأذن الإنسانية وعاءً لكل صوت يتكلم به متكلم أو يصيح به صائح في كل ما وسعت الأرض؛ لو كان ذلك لما عاش الإنسان لحظة واحدةً، ولو عاش لكان من كثرة ما يرى ويسمع لا يرى ولا يسمع؛ فكذلك هو في الشهوات، يحدها الله بحدود من رحمته فيما يوسع أو يضيق، وما يعطي وما يمنع، ويأبى الإنسان لحماقته وجهله إلا أن يمدها ويبسط منها أنواعًا وفنونًا، وما يدري أنه بذلك يزحزح الحجر الذي هو أساس بنائه شيئًا فشيئًا، فيهلك نفسه، ويفقد سعادته، ويضيع إنسانيته، ويخر أعلاه على أسفله.
(١٥) من سنن الطبيعة أنها تجعل اللذة شرطًا في كل عمل لا يقوم الكيان إلا به، فإذا لم يحدث هذا العمل ضربت الآلام على الجسم؛ فالطعام ضرورة من ضرورات الحياة، إذا فُقِد كانت آلام الجوع، وإذا تيَّسَر كانت لذة الأكل، فكأن هذه اللذة ليست في حقيقتها شيئًا غير انطفاء الألم. وقِسْ على ذلك.
(١٦) السعادة في رأينا: هي كل ما استشعرت النفس أنها زادت به أو زادت فيه. وهذا التعريف يجمع كل أنواعها لا يشذ منه شيء؛ فهي على ذلك تكون في الأخذ وتكون في العطاء، أَلَا ترى الأصل الطبيعي في الحب يجعل سعادة ما يناله المحب من حبيبه كسعادة ما يبذله له، حتى إنه ليبذل روحه في ذلك إذا علم أن نفسه تزيد بها شأنًا عند مَن يهواه؟
ومن هذا فالتعاسة في كل ما استشعرت النفس أنها نقصت به أو نقصت فيه، ومن ثَمَّ فكل فضيلة هي من السعادة، وكل رذيلة هي من ضدها، ولو كان الألم والحرمان في الأولى وكانت اللذة والمنالة في الثانية، هكذا قال «الشيخ علي».
(١٧) يتنابز الناس بأذني الحمار الطويلتين، ويجعلون طولهما مسبة، ويقولون مثلًا: فلان حمار بأربعة آذان. وماذا لو نقص الحمار طول الأذنين؟ لا شيء إلا اعتبارًا أدبيًّا يخدع الناس فيوهمهم بأذنيه القصيرتين المرهفتين أنه يشبه الجواد الكريم، في حين هو لا يشبه إلا … إلا البغل العقيم!
(١٨) يريد أنه متلاف أو شحيح.
(١٩) لم يعرف العرب الحيوان بالمعنى الذي نعرفه به، ولم يجمعوه على حيوانات، وإنما ذلك على قياس كلامهم فهو إذن من كلامهم.
(٢٠) أي لا تقوم عليها ولا تصح بها.
(٢١) سألنا بعضهم عن هذا المثل ومأخذه يظنه منقولًا؛ فهو من كلام «الشيخ علي»، وقد وضعنا أمثالًا عدة في كتابنا «المعركة».
(٢٢) أي فرحًا بما لديه.
(٢٣) الغرض: من تاريخ العمران، وهو فيما كشفوا لا يتجاوز هذا الدهر، أما مدة ما قبل التاريخ فيقدرونها في الحياة الإنسانية بنحو مئتَيْ ألف سنة، أكل إنسانها التاريخ فيما أكل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤