الفصل التاسع

الحرب١

رُقعة من الأرض كأن فيها شيئًا من الطِّينة التي خُلق منها الإنسان، فهي تمطر من دمائه، وكأنما عرفته في سماء الله، فلا يكاد ينزل بها الجيشان حتى تعيد أرواح أكثرهم إلى سمائه؛ ينجذب إليها الجندي لأن فيها تُرابه بل لأن فيه من ترابها، وينطرح عليها لأن اقتراب مَنِيَّتِهِ في اقترابها، ولا تزال تصرعه وكأنها من شوقها تضمه، وتُلقيه على صدرها ميتًا أو جريحًا كأنها تُعْلمُه بذلك أن الأرض أمه، وهي مزرعة الموت، نباتُها الرءوس فمنها قائم وحصيد، وثمراتُها النفوس فمنها داني القطاف ومنها بعيد، وقد روَّاها بالدم الحي فنبت فيها العظم وأثمر فيها الحديد!

بل هي ساحة الحرب ترفع عليها القوة راية وتُنزِل راية، ويُحشَر إلى مسرحها الناس ليُمثِّل لهم الموت كل يوم روايةً، وقد اضطربت فيها الآجال فكأنها أمواج في بحر القدر زاخرة، وتناثَر فيها الرجال فكأنهم عظام في بعض المقابر ناخرة، وظهرت تلك الساحة وقد كَشَرَت عن أنيابٍ من السيوف وأسنانٍ من الأسنة كأنها لأهل الدنيا فم الآخرة!

أما الجنود فإذا رأيتهم يلتحمون قلتَ زلازلُ الأرض قد خُلِقت على ظهرها، وإذا شهدتهم يقتحمون خِلت نفوس الكرام قد حَملت على دهرها، وقد أيقنوا أنهم إن لم يكونوا للموت كانوا للأسر، ومَن لم يُبنَ منهم على «الفتح» بُنِيَ على «الكسر»، وما منهم إلا مَن يحمل رأسًا كأنه لا يملكه، على عنق لا يدري كيف يمسكه، في بدنٍ لا يعرف أيأخذه الموت أم يتركه؛ فهو لا يبالي أظلته الشمس أم أظلم عليه الرَّمس، ونهض للتاريخ مع الغد أم ذهب في التاريخ مع الأمس.

وإذا كان من صفة الميت أنه اسمٌ في الحياة بغير جسم، فمن صفة هذا الحي أنه جسمٌ يعيش بغير اسم، وما الجندي إلا عدد في حساب الحرب، فسيان قطعه «الطرح» أم أخذه «الضرب»، وإنما هو حيث يتهيَّأ له انتظار الأقدار؛ فليس إلا الصبر، ولو في بَطن القبر، وحيث يُطبَخ له النصر على «النار»، فثَمَّ المكان ولو في جوف البركان. وآية عقله أن يكون كالآلة المتقنةِ تعمل بلا عقلٍ فلا يخشى الحَيْف، ولا يسأل لماذا ولا كيف، ومن ذكائه أن يكون من صحة الذهن، بحيث لا يفرق في الموت بين الجمر والتمر، وأن يكون من «خفَّة الروح» بحيث تحمله اللفظة الخفيفة على جناح الأمر.

وما الحرب إلا أن يتنازع الناس على الحياة فيقيموا الموت قاضيًا، ويطلبوا من الشريعة المدونة في صفائح السيوف حكمًا على الحياة ماضيًا؛ فكلا الفريقين يقدِّم الحجج، من المُهج، ويتكلم بألسنة الروح، من أفواه الجروح، ويأتي من بلاغة الموت في خصامه بكل «ضرب»، ويُجري الحياة مجرى «الاستعارة» في «بيان» الحرب.

وقد تواقف الرجال في يومٍ أطول من يوم العرض، وتقاذفوا بالآجال حتى أوشكت السماء لكثرة ما ينزل منها أن تقع على الأرض؛ فالخيل مُنقضةٌ كأنها صواعق أرسلها الموتُ في أعنَّة، أو نوازع من السحاب بُروقها الصوارم والأسنة، مسرعةٌ كأنها تسابق تلك المنايا التي جرت بها الأقدار، جائلة كأنما تحيَّرت كيف تفرُّ من ساحة الموت بما حملت من الأعمار، وعلى ظهورها كل فارس كأنه بين الرماح أسدٌ في غاب، وكأن الموت من سيفه سمٌ خُلقَ في ناب، وكأن العنان في يده سوط ولكنه سوط عذاب، لم يُعَدَّ في الفرسان، حتى لم يَعُدْ من الإنسان، فإذا صاح بقرْنِه عرفت الوحوش ذلك الصوت، وإذا ماجته الحرب لم يفته من ضروب النقمة فوت، وإذا نظر إلى مقتل عدوِّهِ حسبتَ عينيه نقطتين على تاءِ الموت.

وقد ثار الغبار كأنه طريق يُمَد من الأرض إلى السماء، أو كأنما أراد أن يمثلَ السحاب وقد رأى المطر تمثِّله الدماء، أو كأنه أرض ثامنة بدأت تتخلق مبعثرةً في الفضاء، أو كأنه لما رأى الحرب تتوقد هبَّ مستجيرًا بالهواء من الرمضاء، أو هو قد فرَّ من الأرض لما خشي أن تنفلق الأرض من حوافر الخيل، أو كأنه أنِف أن يأتي الناس أعمال اللصوص في نور الشمس فضرب عليهم قبة من الليل، أو حسب عقول الجند في أيديهم وأرجلهم٢ فطار ينظر أين تلك الهام، أو هو لما رأى المطرَ أحمرَ خشي على الأرض فثار إلى السماء ينظر ماذا دهى الغَمَام.

وقد رمت الأرضَ تلك المدافع بزلزالها، وألقت على الجنود صُوَرًا من شر أفعالها، فتركتهم كالغابة الملتفةِ إذا استطار فيها الحريق، وانحطَّ فريق من أشجارها على فريق، وكأنما انقضَّ عليهم من قنابلها جدار من الجحيم، وكأن كلَّ مدفعٍ في صيحة الحرب إنما هو عنق شيطان رجيم.

تحمل في بطونها أجنةً من النار ترتعد الحصون لهول ميلادها، وتنحني القلاع مخافةً منها على أولادها،٣ ولها صوت بعيد كأنما تنادى به السماء لترسل المنايا الطارقة، أو لتستقبل الأرواح المفارقة، أو كأنه نشيدٌ فخمٌ تفتخر به الأرض على الرعد والصاعقة.
وهي القارعة، وما أدراك ما القارعة، أما يومها فيوم يكون الناس كالفراش المبثوث، وتكون الجبال كالعهن المنفوش،٤ وهو إن لم يكن يوم النفخ في الصور، فإنه يوم تحصيل ما في الصدور،٥ وإن لم يكن يوم يُبعثَر مَن في القبور، فإنه يوم يُبعثَر الناس في القبور.
وهو المِدْفع حسبه قوةً أنه من الحديد، وحسب ما يحويه قول الله — عز وجل: فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وحسبه رعبًا أنه شكلٌ «عصريٌّ» من عذاب الخسف القديم أعدَّه الله لهذا الإنسان الجديد. فكم من حصن منيع اعتز به أهله اعتصامًا، فتركهم فيه ترابًا وعظامًا، وكم من قلعةٍ شامخة اغترَّ الجند بقُواها، فدمدم عليهم بذنبهم فسواها.٦
وأما الرَّصاص فهو من سماء الموت حَبُّ غمامه، وله صفيرٌ كأنه ترنم الشيطان ببعض أنغامه، ولو أن عاصفة كنست أرض الجحيم لما شوت الوجوه بأشدَّ من ناره، ولا حملت من هناك إلا ما تحسب هذا الرصاص من حصاه وغباره، يثور كما تثور الأعاصير، ويندفع كما تندفع المقادير، ويقع على الأجسام بالأجل أو يطير، ويتناثر فكأن في السماء نجمًا تفتَّتَ فسقط، أو كأن قطعةً ذابت من الشمس فألقت على وجوه الناس هذه النقط، أو هو فوجٌ٧ من ذُباب النار، هبط إلى هذه الدار، فلا هَمَّ له إلا الجلود وإنضاجها بلذعه، والعيون وإخراجُها بنزعه، والعروق واستخلاصها، والدماء وامتصاصها، والأرواح بعد ذلك واقتناصُها.

وكأنه زفراتٌ غير أنها لا تخرجُ من الصدر بل تنزل فيه، ولولا أنها تشويه ولا تَشفيه، وهو أوقع في الرءوس من الأوهام، وأنفذ في الأغراض من مكايد الأفهام، وأحرُّ على الأكباد من كل ما يُضرِم غضبَ الجبار المَغيظ، وما هو إلا العذابُ الرفيع إن كان المدفعُ هو العذاب الغليظ.

•••

وهناك من الروع ما لا يحصيه الوصف ولا يحصِّله، وإن عرفتْ آلة التصوير كيف تجمله، فليس يعرف القلم كيف يفصِّلُه؛ ولعمري لو كان البحر الأسود في المحبرة، لما بلغ في وصف هذه المقبرة، غير أنها الحرب التي ابتدعها العلم لهلاك الإنسان، والقوة التي رُزِقها العقل فكانت بلاءً على الأبدان.

قوةُ المعجزات التي أركبت هذه الذبابةَ الإنسانية على متن الغمام، وطوت لها من السماء بين جَنَاحَي النور والظلام، فإذا سمت «الطيارة» خفضَ لها السحاب جناح الذل، وأقبلت الملائكة تسأل ربَّها ما هذا الجزء من العالم بل ما هذا الكل، وما هذه الجرادة التي رأسُها في ظهرها،٨ وسرها في جهرها، بل ما هذه الحياة الأرضية التي عرجت في السماء فخرجت من حدود دهرها، وما هذا العقل الإنساني الذي لا يوزَّع جاشه،٩ والذي يرفعه إلى السماء ارتعاشه، وهو مع ذلك يندفع على أهله بالويل اندفاع السيل، ويطلع نصفُه كالنور على الأرض١٠ ليطلع نصفه الآخَر كالليل؟

وهي الحرب العامة كأنها ثورةُ الدهر، وقد ضجر من هذا العلم وطغيانه، وملَّ من سماجة إنسانه، واشتاق إلى عصر حيوانه؛ فزفر زفرةً أيقظت الموت وكان نائمًا، وتركت هذا الإنسان من الفزع لجنبه أو قاعدًا أو قائمًا، واستنزلت من القضاء ما كان في علم الله غيبًا، واشتعل من هولها رأسُ الأرض ببياض السيوف شيبًا، وجعلت من البيوت قبورًا لأهلها، وساوت في معايش الناس بين صعبها وسهلها، وأظهرت لعقول العلماء أن أكثر علمها من فنون جهلها؛ فالأرض في بلاء منتشرٍ لا يُعرَف له حجم، والشعوب في ظلام من اليأس مُلتهب النجم، والدول في عصرٍ كليل الشياطين كلُّه رجم.

•••

قال «الشيخ علي»: تلك هي الحرب القائمة اليوم، ولكن كما ترى خيال النار في الماء، أما الحقيقةُ فكل حرف منها جيش، وكلُّ كلمةٍ أمَّةٌ، ووراء ذلك معنى رائعٌ هو استجماع الحياة الأرضية لمقابلة الموت، ولو أن لهذا الكون مرضًا يعتريه كما تعتري الناس أمراضُهم، لقلتُ إن شِقَّ الأرض قد ضُرِب بالفالج،١١ فأصبح شقُّها الآخَر لا يكاد يجرُّ ظله حول الشمس؛ لأن الحركة مقسومةٌ بينه وبين ذلك النصف الميت؛ فقد اشتبكت العلائق بين دول الأرض جميعًا؛ إذ لا تُعرَف دولة بين الناس ترعى شعبًا من البهائم، ولما بدأ الإنسان يعرف نفسه في عصر العلم والمدنية عرف أخاه؛ لأن أكثر حقيقته الإنسانية فيه، ومن ثَمَّ اتصل به اتصال اليد بأختها في المعاونة على ما يُسِّرتْ له كلتاهما، وجَمع العلم بين هذه الأمم لأنه لا ينتسبُ لواحدة منها، وليس له في الأرض خال ولا عم، ولا يُعرَف شيء يقول للعلم «يا بنيَّ.» ويقول له العلم «يا أبتِ.» إلا التاريخ الإنساني.

ولهذا سفر بين أمم الأرض كل ما يخرج من رأس الإنسان وما ينتج من يده، واتصل ذلك واستفاض حتى كأنما دارت الأرض دورة جديدة من داخلها، فما إن يقع الاضطراب في ناحية منها إلا دخلَها من الأثر في سائر نواحيها، من هزةٍ ترجف، إلى زلزلة تهدم، إلى الخسف الذي يجعل عاليها سافلها.

وإني باسطٌ لك شيئًا من الرأي في كلمات قليلة، ولكنها كالمعركة الأخيرة التي يحق بها النصر، فتكون هي تاريخ الحياة، ولا يكون ما سبقها إلا تاريخًا للموت.

أَلَا فَلْتعلم أنه لو كان لحوادث الدهر منذ نشأ الدهر تاريخٌ صحيحٌ يصف لنا ما كان سببًا في كل حادثة، وما صارت كل حادثة سببًا فيه؛ لأثبت يقينًا أن ليس في الأرض شيء من خير أو شر غيرَ ما يلزم لبناء هذا التاريخ الأرضيِّ على الوجه الذي يتفق مع بناء الإنسان، والتاريخ يَطرِدُ حينًا ثم ينعطف ههنا وههنا في مجراه من الغيب، فلا يتحوَّل إلا انشقت له ناحية من العالم.

فإن خربت دولة أو سقطت أمة فما هي بصاحبة الدهر كله، وقد كان لها قسمها منه، ثم عاد الدهر يطلب قِسمَه منها، ولن يُجدَّدَ البناء القديم حتى يكون الهدم أول العمل في تجديده.

فالحرب شر لا بد منه؛ لأنها من عوامل التحليل والتركيب في تاريخ الإنسانية، وهي بذلك سبب من أسباب استمراره، وكل شر لا بد منه فهو خيرٌ لا غنى عنه، وهل يبتغي الإنسان أن تُضرَب العصورُ والدول كما تُضرَب الدنانيرُ والدراهمُ من معدن معروفٍ على وجهٍ معروفٍ ولغايةٍ معروفةٍ؟ وإذا لم يكن لنا مستقبل التاريخ، وكنا في عمر محدود، فما نحن والرأي في بناء هذا المستقبل، وكيف نقدِّم لله آلات البناء، ثم نُحْكِم الشرط أن لا يكون في هذه الآلات ما يحتفرُ أو يكسر أو يرُضُّ.

إنما يجعل للحرب ذلك الوصف الذي يُطيرُ لها في كل أرض صوتًا١٢ بالذم والسوء، أنها لا تأتي إلا بغتةً، ولا تُطبِق إلا في غفلات العيش، وأنها تثور في بياض الأمن حمراء من لون الموت، وتطلع في خصب النعمة سوداء من لون القحط، وتنبثق بالشر من حيث يكون الشر مأمونًا، وتصب المحنة على مَن لا يطيقها، ثم لا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تلِفُّ من جانبي الحياة لفًّا، وهي في كل ذلك البلية المكشوفة التي تشتَهِرُها الأحاديث،١٣ وتضرب فيها الألسنة، وتسيل عليها الأوهام بما في طباع الناس من طبقات الأخلاق ضعفًا وشدة، وخوفًا وطمعًا، وبخلًا وكرمًا، وحذرًا واندفاعًا، بحيث تصبح وكأنما ترتمي على رأس كل إنسان بالموت، أو بالخوف من الموت، أو بالخبر عن الموت، أو بما يشبه الموت، أو بما يكون الموت خيرًا منه!
وإلا فكم يترضَرضُ الناس١٤ كل يوم، وكم يجدون من صنوف الدمار في الأعمار، ومن ضُروب الأرزاء في الأرزاق، ما لو جُمِع بعضُه إلى بعض في نسقٍ واحدٍ لطمَّ على هذه الحروب كلها، ولَأظهر لك أن في السِّلْمِ ما هو شر من الحرب، وإن لم يصرخ به صوتُ الموت.

وما البغي والظلم والكيد والفتنة والاستبداد ونحوها مما يشملُ أكثر وسائل الحياة الإنسانية إلا ضروبٌ من القتل الخفِيَّ، وربما عُدَّ الموت في بعضها راحةً من الموت، ولكن ذهب بإثمها في اصطلاح الناس أنها خططٌ موضوعة للمغالبة على الحياة، وأنها لا تنالهم إلا فردًا فردًا، وكأن باطل الأمم غيرُ باطل الأفراد؛ لأن الاجتماع قضى منذُ أول العهد به أن تكون الأمة مظهر الشرع، وأن يكون الفرد مظهر العقاب، ولكن ليت شعري لِمَ يكون الفرد كذلك من الأمة، ولا تكون الأمة كذلك من أمة غيرها؟

فالحرب هي عقاب الجماعات، وهي كذلك ضرورةٌ اجتماعية، ولن يخلو منها تاريخ الإنسان إلا إذا رجع الناس أمةً واحدةً في تركيبٍ مستحيلٍ لا يتهيَّأ معه أبدَ الدهر ما يقسم هذه الأمة على نفسها، ولعمري إن ذلك التركيب الاجتماعي الذي يخلو من الحروب، ليُزهِّد الناس في جنة الله، ولا يدع للأديان محلًّا على الأرض، ويحسبون أنه صلاح في الطبيعة وهو يفسد الطبيعة كلها، فما هو إلا خيال شعري في تاريخ الحقيقة الإنسانية، وما أرى الحرب إلا البرهان الذي تُقيمه الطبيعة أحيانًا على فساد ذلك الخيال كلما أوشك الضعف الإنساني أن يتوهمه حقيقةً.

وإذا كان الله لم يخلق إنسانًا من النور فلا تظلِمُ نفسُه، ولا من الثلج فلا يحمَى دمُه، ولا من الصخر فلا يَهِنُ كاهله، ولا من الحق فلا يحيف على غيره، ولا من الرضا فلا يطمعُ في سواه، ولا من الكتمان فلا تخرج أضغانه، ولا من السكون فلا يتحرك في نزاع؛ فكيف لعمري يخلقُ بعض الكتَّاب والفلاسفة هذا الإنسانَ الجديدَ من عناصر السِّلْمِ وحدها؟

أَلَا إن الإنسان لا يُولَد ساكنًا ولا نظيفًا، وإنما يخرج من بطن أمه في ثورة دمويةٍ تنفجر من حوله ههنا وههنا؛ وما أرى الحرب أكثر ما تكون لا ولادةً للتاريخ على هذا الأسلوب، فكأن من التاريخ ما يُولَد على أسلوب الحيوان في ثورةٍ من الدم، ومنه ما يوجد على أسلوب النبات في تحوُّلٍ ساكنٍ غير منظور.

قال «الشيخ علي»: والحركات المجهولة في نظام الأرض كثيرة، بعضها يجري على الطبيعة وبعضها يجري على الإنسان؛ فكما يُدَكُّ الجبل وتُخسَفُ الأرض ويطغَى الماء وتثورُ العواصف وتنفجر البراكين، يجري على الإنسان من مثل ذلك في القحط والوباء والحروب وغيرها؛ لأن الإنسان في الحقيقة هو الطبيعة الرفيعة، وما القوة المركبة فيه التي تخرج من مجموع غرائزه إلا تهيئةٌ حربية في نفسه.١٥

فلولا أن هذا الإنسان مهيَّأ للحروب بأدواتها الطبيعية، وأن هذه الأدواتِ هي كذلك من أسباب بقائه اللازمة له، لما قامت في الأرض حربٌ قطُّ، ولو أبعدنا في مطارح الفكر ونظرنا من وراء النفوس الإنسانية إلى ميادين القتال، لَرأينا أن الحرب التي تقوم بين الأحياء إنما هي حرب قائمة بين مذاهب الحياة.

وكما يجتمع العلماء وأهل السياسة لتنقيح الأنظمة والقوانين، تجتمع الأمم المتحاربة لتنقيح الطباع والعادات، وما أعجب أن يكون القتل تنقيحًا في قانون الحياة!١٦ فلا تنظر من الحروب إلى هؤلاء المساكين والمتوجعين والمحزونين؛ فذلك كله إلى نهاية، ولا يبقى منه على الأرض شيء قَلَّ أو كثُرَ، ولا أحمق ممَّن ينظر ساعة الهدم إلى آثار الهدم، ولا يعلم أن ذلك سبب لما بعده، وأنه إذا لم يهلك يومٌ في سبيل الغد هلك المستقبل كله.

ولكن متى تكون الحرب حقًّا، ومتى تكون باطلًا؟ فهذا ما لا سبيل إلى وجه الرأي فيه، وربما كان الجواب عليه سؤالًا آخَر، وهو: متى تعرِضُ في حياة الناس تلك المسائل التي لا يصلحون هم أنفسهم لحلها؟ ومتى تكون الحركة العنيفة التي يتحوَّل بها التاريخ الإنساني كلما وَجب أن يتحرَّف ليتَّبع مجراه من الغيب؟

أليس ذلك هو السبب في أن العقل أحيانًا يكون أول مَن ينهزمُ في الحرب كما تراه اليوم،١٧ فيصبح الفلاسفة والعلماء والمتفننون ولا همَّ لهم إلا إدارة حركة الموت هجومًا ودفاعًا، وترى الصلواتِ والأدعية والتسابيح تتصاعد إلى الله وفيها ريح الدم والنار والغازات، كأنها قنابل صُنِعتْ من العواطف؟

وقد يقول بعضهم: إن في الحرب إسرافًا اجتماعيًّا بما تأخذ من الموتى وما تترك من المرضى. ولكن كم من الإسراف الطبيعي والأخلاقي في بقاء الناس موفورين بعلومهم وفنونهم وشهواتهم ونَعَمِهم ومصائبهم ونحوها، مما يؤدي إلى انطواء هذا المجتمع الإنساني في الأدمغة والقلوب بما تبعث عليه تكاليف الحياة الاجتماعية السامية التي تحاول أن تجعل الإنسان حيوانًا على شكلٍ مخترَعٍ!

فلا تُرَينَّ يا بني هذه الوحشية التي تعتري الناس في حروبهم إلا سببًا في رجوعهم بعد ذلك إلى الإنسانية الخالصة التي أفسدوها بحضارتهم، وضربوا عليها الحدود من مصطلحات التمدن ومن أصول المعاملة، فأصبح الإنسان منهم يقضي العمر وهو يتعلم كيف يصير إنسانًا!

وأنا يا بني في خاصةِ نفسي أكره الحرب؛ لأني أراها تُصوِّر بكل ألوان الهلاك والخراب فكرةَ العدم المبهمة على قطعةٍ من أديم الأرض، وأمقتها لأنها تلوِّث الحياة بدماء الرجال ثم لا تغسلها إلا بدموع النساء والأطفال، وأبغضها لأنها تدفن تاريخَها الصحيح للمستقبل ولا تترك للحاضر إلا تاريخها المشوَّه في أعضاء الجرحى، ولكن البغض يا بني لا ينفي الحكمة مما تبغضه، وما سرور نصف الناس إلا بما يكره النصف الآخَر!

وأكبر شخصٍ اجتماعي وهو الأمة، كأصغر شخص اجتماعيٍّ وهو الطفل؛ كلاهما يبكي ويتألم حين يُضَرب لتأديبه.

قال «الشيخ علي»: وهذا آخِر قول الشيخ علي.

على الكوكب الهاوي

حسناء أفقرتها الحرب، وكيف تتلقاها الحقيقة؟

طَرِيدَةُ بُؤْسٍ مَلَّ مِنْ بُؤْسِهَا الصَّبْرُ
وَطَالَتْ عَلَى الْغَبْرَاءِ أَيَّامُهَا الْغُبْرُ
تَنَكَّرَتِ الدُّنْيَا لَهَا وَرَمَتْ بِهَا
عَلَى الْكَوْكَبِ الْهَاوِي حَوَاهُ فَضًا قَفْرُ
وَكَانَتْ كَمَا شَاءَتْ وَشَاءَ جَمَالُهَا
كَمَا اشْتَهَتِ الْعَلْيَا كَمَا وَصَفَ الشِّعْرُ
تَلَألَأُ فِي صَدْرِ الْمَكَارِمِ دُرَّةً
يُحِيطُ بِهَا مِنْ عِقْدِ أَنْسَابِهَا دُرُّ
وَمَا بَرِحَتْ تَرْقَى السِّنِينَ وَتَعْتَلِي
وَكُلُّ الْمَعَالِي فِي طُفُولَتِهَا حِجْرُ
فَكَانَتْ كَزَهْرٍ نَضَّرَ الْفَجْرُ حُسْنَهُ
وَلَمَّا عَلَتْ كَالنَّجْمِ أَطْفَأَهَا الْفَجْرُ

•••

رَمَى الدَّهْرُ أَهْلَيهَا بِحَرْبٍ وَلَمْ يُرِدْ
بِهَا الشَّرَّ لَكِنَّ الْحُرُوبَ هَيَ الشَّرُّ
وَمَنْ يَحْطِم الْكَأْسَ الرَّوِيَّةَ وَحْدَهَا
فَقَدْ ذَهَبَ اثْنَانِ الزُّجَاجَةُ وَالْخَمْرُ
تَقَاسَمَتِ الْحُسْنَ الْإِلَهِيَّ وَانْثَنَى
يُقَاسِمُهَا فَالْأَمْرُ بَيْنَهُمَا أَمْرُ
فَلِلشَّمْسِ مِنْهَا طَلْعَةُ الْحُسْنِ مُشْرِقًا
وَفِيهَا مِنَ الشَّمْسِ التَّوَقُّدُ وَالجَّمْرُ
وَلِلزَّهْرِ مِنْهَا نَفْحَةُ الْحُسْنِ عَاطِرًا
وَفِيهَا ذُبُولٌ مِثْلَمَا ذَبُلَ الزَّهْرُ
وَلِلظَّبْيِ مِنْهَا مُقْلَتَاهَا وَجِيدُهَا
وَفِيهَا مِنَ الظَّبْيِ التَّلَفُّتُ وَالذُّعْرُ
وَمَا قِيمَةُ الْحَسْنَاءِ يَقْبُحُ حَظُّهَا
وَتَذْوِي بَرَوْضِ الْحُبِّ أَيَّامُهَا الْخُضْرُ
مِنَ الْحُسْنِ مَعْنًى يَهْلَكُ الْحُسْنُ عِنْدَهُ
كَمَا أَهْلَكَ الْأَزْهَارَ أَنْ يُؤْخَذَ الْعِطْرُ
فَمَا الْحُسْنُ فَخْرٌ لِلْحِسَانِ وَإِنَّمَا
لِخَالِقِهِ فِيمَا يُرِيدُ بِهِ سِرُّ

•••

ضَعِيفَةُ أَنْفَاسِ الْمُنَى بَعْدَمَا غَدَتْ
رِقَابُ أَمَانِيهَا يُغَلِّلُهَا الْفَقْرُ
وَبَيْنَ خُطَى أَيَّامِهَا كُلُّ عَثْرَةٍ
يُزَلْزِلُ أَقْدَامَ الْحَيَاةِ بِهَا الْعُسْرُ
وَزَجَّتْ بِهَا الْأَحْزَانُ فِي بَحْرِ دَمْعِهَا
وَلَيْسَ لِبَحْرِ الدَّمْعِ فِي أَرْضِنَا بَرُّ
يُقَاذِفُهَا مَوْجُ اللَّيَالِي وَمَا لَهَا
سِوَى زَوْرَقٍ وَاهٍ يُقَالُ لَهُ الْعُمْرُ
وَمَا الْتَمَسَتْ رَأْسَ الرَّجَا عِنْدَ صَخْرَةٍ
فَكَانَ سِوَى رَأْسِ الرَّدَى ذَلِكَ الصَّخْرُ
إِذَا اسْتَنْبَئُوهَا أَرْسَلَتْ مِنْ دُمُوعِهَا
لَآلِئَ حُزْنٍ كُلُّ لُؤْلُؤَةٍ فِكْرُ
وَإِنْ سَأَلُوهَا لَجْلَجَتْ فَكَأَنَّمَا
عَرَا اللَّفْظَ لَمَّا مَرَّ مِنْ فَمِهَا سُكْرُ
مُشَرَّدَةٌ حَيْرَى تَنَازَعَ نَفْسَهَا
فَرِيقَانِ ذُلٌّ لَمْ تَعوَّدْهُ وَالْكِبْرُ
وَمَا قَتَلَ الذُّلُّ امْرَأً مِنْ عَبِيدِهِ
وَكَمْ مِنْ فَتًى يَرْمِي بِهَامَتِهِ الْفَخْرُ
وَلَوْ أَنْصَفَ الْإِنْسَانُ فِي قَدْرِ نَفْسِهِ
رَأَى قَدْرَهَا أَنْ لَا يَهُونَ لَهَا قَدْرُ
فَلَا تَتَسَاءَلْ كَيْفَ تَقْعُدُ وَادِعًا
وَلَكِنْ تَسَاءَلْ كَيْفَ يَسْعَى بِكَ الذِّكْرُ
وَكُنْ رَجُلًا كَالضِّرْسِ يَرْسُو مَكَانَهُ
لِيَطْحَنَ لَا يَعْنِيهِ حُلْوٌ وَلَا مُرُّ
وَلَا تَتَوَقَّعْ أَيُّ جَنْبَيْكَ وَاقِعٌ
إِذَا انْطَبَقَتْ يَوْمًا حَوَادِثُهَا النُّكْرُ
وَلَكِنْ تَلَقَّ الدَّهْرَ غَيْرَ مُفَزَّعٍ
بَصَدْرِكَ وَلْتَعْرُ الْخُطُوبُ كَمَا تَعْرُو
فَعِزُّ الْحُسَامِ الْهُنْدُوَانِيِّ صَدْرُهُ
وَذُلُّ الْعَصَا أَنَّ الْعَصَا كُلُّهَا ظَهْرُ
وَلَنْ يَهِنَ الْحُرُّ انْتَضَى عَزَمَاتِهِ
وَصَالَ بِهَا مِنْ صَبْرِهِ الْخُلُقُ الْحُرُّ
وَإِنْ تُغْلَبِ الْأَبْطَالُ فِي كُلِّ حَوْمَةٍ
فَمَا عُرِفَتْ حَرْبٌ بِهَا غُلِبَ الصَّبْرُ

•••

وَلَيْلَة هَمٍّ مَا يَطِيرُ غُرَابُهَا
وَلَا انْحَطَّ مِنْ وَكْرِ الصَّبَاحِ لَهُ نَسْرُ
تُطِلُّ عَلَيْهَا الشُّهْبُ أَعْيُنَ نِقْمَةٍ
تَطَايَرَ فِيمَا بَيْنَهَا النَّظَرُ الشَّزْرُ
وَيَزْفِرُ فِيهَا اللَّيْلُ زَفْرَةَ مَارِدٍ
تَطِيرُ لَهَا مِنْ بَرْقِهِ الشُّعَلُ الْحُمْرُ
وَيَخْفُقُ فِي أَحْنَائِهَا كُلُّ عَاصِفٍ
خُفُوقَ فُؤَادٍ بَاتَ يَسْلِمُهُ الصَّدْرُ
وَيَغْضَبُ مِنْ آثَامِهَا الْمَوْتُ غَضْبَةً
يُرَجُّ لَهَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ قَبْرُ
دُخَانِيَّةٌ هَوْجَاءُ لَوْ مُدَّ نَقْعُهَا
لَقَامَ عَلَى وَادِي الْجَحِيمِ بِهَا جِسْرُ
وَأَهَوْنُ مِا فِي أَرْضِهَا وَسَمَائِهَا
عَلَى النَّاسِ هَاتِيكَ الْحَزِينَةُ وَالْبَدْرُ١٨
ثَوَتْ تَحْتَهَا تَلْكَ الْفَتَاةُ عَلِيلَةً
تَئِزُّ كَمَا أَزَّتْ عَلَى نَارِهَا الْقِدْرُ
وَفِي غُرْفَةٍ مِمَّا بَنَى اللهُ لَا الْوَرَى
فَلَيْسَ عَلَى مَنْ حَلَّ سَاحَتَهَا أَجْرُ
جَوَانِبُهَا شَرْقُ الظَّلَامِ وَغَرْبُهُ
وَفِي سَقْفِهَا ضَاءَتْ كَوَاكِبُهُ الزُّهْرُ
مُمَدَّدَةً كَالسَّطْرِ فِي صَفْحَةِ الْمُنَى
وَأَطْمَارُهَا تَبْدُو كَمَا «شُطِبَ»١٩ السَّطْرُ
فَإِنْ يَكُ أَهْلُ الْأَرْضِ أَرْقَامَ حَاسِبٍ
فَتِلْكَ وَرَاءَ الْعَالَمِينَ هِيَ الصِّفْرُ

•••

رَمَتْ عَيْنَهَا يُمْنَى وَيُسْرَى فَلَمْ تَجِدْ
عَلَى الْأَرْضِ خُلْقًا لَيْسَ فِي جَنْبِهِ غَدْرُ
رَأَتْ كُلَّ مَخْزَاةٍ مِنَ الشَّرِّ تَلْتَوِي
وَيَهْرَبُ ذُعْرًا مِنْ جِنَايَتِهَا الْعُذْرُ
رَأَتْ أَثَرًا تَدْمِي بِهِ الْأَرْضُ وَالسَّمَا
وَلَيْسَ سِوَى الْإِنْسَانِ فِي جُرْحِهِ ظُفْرُ
رَأَتْ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ يَطْغَى بِعِلْمِهِ
وَيَجْهَلُ أَنَّ الْعِلْمَ عَنْ جَهْلِهِ زَجْرُ
أَلَيْسَ يَرَى الْإِنْسَانُ فِي الْقِرْدِ شِبْهَهُ
فَهَلْ ذَاكَ إِلَّا مِنْ تَكَبُّرِهِ سُخْرُ؟
كَمَا عَاقَبَ اللهُ الْأُسُودَ لِكِبْرِهَا
فَجَاءَ لَنَا فِي صُورَةِ الْأَسَدِ الْهِرُّ
رَأَتْ هَذِهِ الْحَرْبَ الضَّرُوسَ كَأَنَّهَا
مَرَاحِلُ يَطْوِيهَا مِنَ الزَّمَنِ الْحَشْرُ
وَمَا حَمِدَ الشَّيْطَانُ لِلنَّاسِ مِثْلَهَا
وَلَا كَانَ لِلشَّيْطَانِ فِي مِثْلِهَا شُكْرُ
وَمَا الْحَرْبُ إِلَّا رَجْفَةُ الْأَرْضِ رَجْفَةً
يَمُوتُ بِهَا عَصْرٌ لِيَحْيَا بِهَا عَصْرُ
وَمَا الْحَرْبُ إِلَّا مَطْرَةٌ دَمَوِيَّةٌ
إِذَا دَنِسَتْ رُوحُ الْوَرَى فَهِيَ الطُّهْرُ
وَمَا الْحَرْبُ إِلَّا غَضْبَةُ اللهِ لَامَسَتْ
مَخَازِيَ هَذَا الدَّهْرِ فَانْفَجَرَ الدَّهْرُ
فَيَا رَبِّ جَلَّتْ هَذِهِ الْحَرْبُ مِحْنَةً
عَلَى النَّاسِ لَا الْإِيمَانُ مِنْهَا وَلَا الْكُفْرُ
فَفِي كُلِّ نَفْسٍ غُصَّةٌ مَا تَسِيغُهَا
وَفِي كُلِّ قَلْبٍ كَسْرَةٌ مَا لَهَا جَبْرُ
وَبَيْنَ شِفَاهِ النَّاسِ لِلنَّاسِ لَعْنَةٌ
إِذَا لَمْ يُثِرْهَا الْحَقُّ ثَارَ بِهَا الْخُسْرُ
وَمَا لَوَتِ الْأَسْيَافُ فِي الْأَرْضِ عُرْوَةً
مِنَ الْبُغْضِ إِلَّا وَالرُّءُوسُ لَهَا زِرُّ
فَلَا تَخْدَعُوا الْإِنْسَانَ عَنْ نَزَغَاتِهِ
فَمَا النَّاسُ إِلَّا مَا أَسَاءُوا وَمَا سَرُّوا
وَكَمْ قِيلَ «إِنْسَانِيَّةٌ وَمَحَبَّةٌ
وَعِلْمٌ وَتَمْدِينٌ» وَأَشْبَاهُهَا الْكُثْرُ
فَيَا قَدَرًا يَجْرِي دِمَاءً وَيَلْتَظِي
سَعِيرًا أَذَاكَ الْحُبُّ أَنْتَ أَمْ الْهَجْرُ؟
وَيَا هَذِهِ لَا تَجْحَدِي إِنَّمَا الْوَرَى
كَمَا خُلِقُوا وَالْمُكْرُ بَعْدُ هُوَ الْمُكْرُ
وَأَيْنَ مِنَ النَّاسِ الْكَمَالُ وَلَمْ نَزَلْ
نَرَى السُّودَ سُودًا لَيْسَ يَغْسِلُهُمْ بَحْرُ
وَلَا بُدَّ مِنْ ضِدَّيْنِ فِي كُلِّ حَالَةٍ
وَبَيْنَهُمَا إِمَّا النَّجَاةُ أَوِ الْأَسْرُ
بِذَلِكَ يَجْرِي الْغَيْبُ إِنْ طَارَ أَوْ هَوَى
فَإِنَّ جَنَاحَيْهِ الْمَنَافِعُ وَالضُّرُّ
فَلَا تَطْمَعِي أَنْ تُغْفِلَ الْأَرْضُ أَهْلَهَا
وَلَا مَدَّ فَوْقَ الْأَرْضِ إِلَّا لَهُ جَزْرُ
وَلَا تَطْمَعِي أَنْ «يَرْفَعَ» الْمَالُ أَنْفُسًا
يُحَرِّكُهَا مِنْ ذُلِّ مَطْمَعِهَا «الْجَرُّ»
وَلَا تَأْمُلِي الْأَيَّامَ خُضْرًا عَلَى الْمَدَى
فَفِي كُلِّ حِينٍ يَسْقُطُ الْوَرَقُ النَّضْرُ
وَلَا تَسْأَلِي الزِّلْزَالَ تَرْقِيصَ طِفْلَةٍ
وَأَصْغَرُ مَا فِي كَفِّهِ الْجَبَلُ الْوَعْرُ

•••

أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا سَلَالِيمُ يَرْتَقِي
بِهَا النَّاسُ تُغْرِيهِمْ أَوَاخِرُهَا الْغرُّ
تَذَرَّوْا عُلَاهَا لِلْكَمَالِ وَعِنْدَهُمْ
مِنَ الْعِلْمِ أَسْبَابٌ يُقِرُّ لَهَا السِّحْرُ
فَمَا بَرِحُوا يَرْقَوْنَ كُلَّ بَعِيدَةٍ
وَلَمْ يَعْلَمُوا أَيْنَ الْكَمَالُ وَلَمْ يَدْرُوا
فَلَمَّا عَلَوْا وَاسْتَحْمَقُوا وَتَتَابَعُوا
وَغَرَّهُمُ بِاللهِ ذَلِكَ فَاغْتَرُّوا
تَهَاوَوْا عَلَى أَعْنَاقِهِمْ وَتَحَطَّمَتْ
بِهِمْ دَرَجَاتٌ كَانَ مِنْ فَوْقِهَا النَّصْرُ
كَذَاكَ سَلَالِيمُ الْحَيَاةِ فَكُلُّنَا
طَمُوحٌ لِأَعْلَاهَا وَفِي الْوَسَطِ الْكَسْرُ

هوامش

(١) هي الحرب العظمى التي ارتكس فيها العالم سنة ١٩١٤ للميلاد، وبلغ ما أنفقَتْه الدول عليها مائة ألف مليار ذهبًا، وهلك وتعطل بها نحو ثلاثين مليون نسمة، فكانت حصادًا للأرض وأهلها، عمل فيه الموت والفقر والخراب جميعًا؛ وقد كُتِب «المساكين» في سنة ١٩١٦ قبل الهدنة بسنتين.
(٢) لأن أعمالهم كلها من البطش والفتك بالأيدي والأرجل.
(٣) هم الجند.
(٤) العهن: الصوف، وهذه الكلمات اقتباس من القرآن الكريم.
(٥) المراد هنا تحصيل الأرواح، والكلمات أيضًا اقتباس.
(٦) دمدم عليهم: طحنهم فأهلكهم، والجملة اقتباس من قوله تعالى: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا.
(٧) الطائفة أو الجماعة.
(٨) المراد برأسها الطيار الذي يركبها؛ لأنه يكون في ظهر الطيارة.
(٩) كناية عن عدم الاضطراب والخوف.
(١٠) كناية عن المخترعات والأعمال النافعة مما به قوام العمران، ومنه قولهم «العلم نور».
(١١) هو المرض المعروف، وهو استرخاء لأحد شقي البدن.
(١٢) كناية عن تحدُّث الناس عنها بذمها.
(١٣) تذمها وتشهر بها.
(١٤) يتكسرون، يقال: ترضرض الحجر إذا تكسَّر.
(١٥) لو لبست الغرائز الإنسانية مادةً لما لبست إلا الأسلحة.
(١٦) من تمام هذا المعنى ما ذكرناه في كتابنا «تحت راية القرآن — المعركة بين القديم والجديد»، في كلامنا عن فساد الحضارة الغربية ننقله توفيةً للفائدة: «الروح الإنسانية متى أصبحت موتورة ساخطة متبرمة بأسباب مختلفة كأسباب هذه المدنية من سياسية واجتماعية ووطنية، لم تكن روح الحياة ولكن روح القتل وما في حكمه، ومن ثَمَّ فلا بد في هذه الحضارة من انفجارات حربية مستمرة، ولا بد لها أن تجد مَن تقتله ومَن تظلمه ومَن تستعبده! وإذا تحاجزت الدول وتتاركت زمنًا قائمًا يسمن بعضها بعضًا في مراعي السِّلْم والعيش وكل أمة عينها على شحم الأخرى!
ولقد كانت الحرب العظمى تنقيحًا إلهيًّا عنيفًا لهذه الحضارة الزائغة، فوضع الله يده عليها فمحت أكثر حسناتها ورقائقها وطرفها البديعة، وأميتت طباع الترف لتنبعث طباع القوة، وقر في الرجل معنى الرجل وفي المرأة معنى المرأة، وكانا قبل ذلك وإن الرجل نصف امرأة … وإن المرأة ضعف نفسها؛ فكأن الحرب كانت مصفاة للحضارة، ثقوبها الخرائب والخنادق والقبور، ومتى جمت الأوساخ بعد زمن فالمصفاة باقية …»
(١٧) كانت الحرب العظمى حرب مخترعات فاتكة جهنمية لم يعرفها تاريخ الإنسانية من قبلُ، كأنما كانوا يجربون أن يخترعوا جهنم.
(١٨) حتى البدر لا بهجة له إلا في ليالي الصفاء، وفي غيرها يتصعلك في سمائه!
(١٩) هذه الكلمة مما استعمله المولدون، وفصيحها الترميج، وهو إفساد الأسطر بعد كتابتها، وفي معناها ألفاظ أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤