عاشرًا: من الإيمان الفلسفي إلى الإيمان الديني

ظهر هذا التطوُّر من الإيمان الفلسفي إلى الإيمان الديني عن طريق مسار الفكر اليوناني وتطوُّره، من أرسطو إلى الشراح إلى الأفلاطونية المحدَثة خلال العصر الهلِّينستي، وقد تم ذلك بعدة طُرق:
  • (١)

    عَرضُ أفلوطين، الشيخ اليوناني دونما حاجةٍ إلى رفع.

  • (٢)

    رفعُ الطبيعة إلى مستوى ما بعد الطبيعة في علمٍ واحد، كما هو الحال في كتاب الآراء الطبيعية، المنسوب إلى فلوطرخس.

  • (٣)

    عَرضُ ما يتعلق بالنفس والأخلاق والسياسة من أجل الربط بين الطبيعيات والإلهيات. وقد نقَل الشراح المسلمون كتاب النفس من كتابٍ طبيعي إلى كتابٍ إلهي، أقرب إلى ما بعد الطبيعة.

(١) من الطبيعيات إلى الإلهيات

تدل ترجمة «الآراء الطبيعية المنسوبة إلى فلوطوخس» على تأكيد المذهب الطبيعي واختياره في الحضارة الإسلامية نظرًا لاستقلال الطبيعة وإطراد قوانينها، واعتبارها مقدمةً لِما بعد الطبيعة في علم أصول الدين؛١ إذ تشمل الآراء الطبيعية حديثًا عن الجوهر والعَرَض والجن والشياطين، كما هو الحال عند المُتكلمِين.٢ وفي علوم الحكمة تتحد لغة الطبيعيات والإلهيات؛ فالطبيعيات إلهياتٌ مقلوبة إلى أعلى، والإلهيات طبيعياتٌ مقلوبة إلى أسفل.٣ وفي علوم التصوف خاصةً في مذهب وحدة الوجود يصعب التمييز بين الحق والخلق. وفي علم أصول الفقه مقاصد الشارع المحافظة على الضروريات الخمس. أحكام الوضع، السبب والشرط والمانع والعزيمة والرخصة والصحة والبطلان، أوضاع في الطبيعة. وإذا كان الإسلام دينًا طبيعيًّا كما بدا في حي بن يقظان، فإن الآراء الطبيعية تصبح أحد مُقوماتِ ما بعد الطبيعة. وقد اعتنى الرازي بكتاب فلوطرخس، ولخصه الشهرستاني في العقائد، ويذكره ضمن الحكماء السبعة.٤ كما ذكره جابر بن حيان، وابن النديم، والمقدسي في «البدء والتاريخ». الدافع على الترجمة هنا ازدياد المعرفة بالطبيعة أحد الأبعاد الرئيسية في الفكر الإسلامي. وقد تمَّ تبويب الكتاب طبقًا للموضوعات، ومن خلالها يتم عرض الآراء وأسماء الفلاسفة؛ فالبنية تسبق التاريخ، والموضوع حامل لآراء السابقِين فيه، والاكتمال أو التحقُّق في الحاضر يعكس التطوُّر في الماضي، كما هو الحال في اكتمال النبوة، ثُم رصد تاريخها من مسارها في التاريخ. وتضمن موضوعاتٍ تشمل البيولوجيا والحيوانات والمني … إلى آخر موضوعات الطبيعة الحيوية.٥ وتكشف تساؤلات فلوطرخس عن الصلة بين الطبيعيات والإلهيات، بصرف النظر عن نظريات الخلق أو القِدم، عندما يتساءل عن أيِّ أسطقس ابتدأ الله عز وجل العالم من الأرض أو النار أو الأثير؟٦ فهل تحدَّث فلوطرخس عن الله عز وجل وخلق العالم، أم إن هذه إعادة إنتاج النص طبقًا لعقلية المترجم، وبدايةً بالعملية الحضارية للنقل والتمثُّل والاحتواء؟ فالمترجم ينتسب حضاريًّا إلى الحضارة المنقول إليها النص، وليس إلى الحضارة التي يفد منها النص، بعكس بعض مترجمي الشام والمغرب الآن، الذين ينتسبون إلى الحضارة الغربية لنشرها فوق الحضارة المحلية وطمس معالمها، فيُعربون المصطلحات، وينقلون ثقافتهم إلى لغة الأجنبي ومصطلحاته وأساليبه. يذكُر فلوطرخس ألفاظ الله صراحةً أو الإله بأنه مبدأ الأشياء قبيل الخلق، وبالتالي سهل نقله إلى الفكر الديني بلغة المترجم وفي حضارته.٧ كان المترجمون حريصِين على إرضاءِ النوازعِ الدينية، وإدخال اسم الله حيث يكون الأمر متصلًا بالمبدأ الأول، أو لعلَّة الأولى وما شاكل ذلك،٨ وليس في ذلك أيُّ تغييرٍ أو تحريفٍ للمعنى الأصلي في النص بل نقله حضاريًّا. وقد كان أغلبهم من رجال الدين أو ذوي النزعة الدينية. كان المترجم ينقل النص «العلماني» ويُعيد إنتاجه في نصٍّ ديني.٩
وذكر فلوطرخس الشعراء، ويستعمل المترجم لفظ الحنفاء، وهو لفظٌ إسلامي،١٠ كما يذكر الشاعر أربيدس الذي يصف السماء بأنها صنعةُ صانعٍ حكيم، ومن صفات الله في علم أصول الدين وفي علوم الحكمة،١١ كما هو الحال في وصف شيلر في شعر الفرح؛ فالشعراء متدينون مع الفلاسفة. وذكر الشاعر كليماخس الذي يصف الله بالقدرة على الفعل، ولكنه لا يقدر أيضًا على تغيير قوانين الطبيعة الثابتة وقوانين المنطق.١٢ وهي القضية التي أثارت الفكر الديني بعد ذلك في إعطاء الأولوية للقدرة على الحكمة؛ وبالتالي قدرة الله على كل شيء، كما هو الحال عند الأشاعرة، وإعطاء الأولوية للحكمة على القدرة، وبالتالي ثبات قوانين الطبيعة حتى يعيش الإنسان في عالمٍ يحكمه قانون، كما هو الحال عند المعتزلة والفلاسفة وابن رشد خاصة. كما ينكر فلوطرخس على الشعراء المُنكرِين لوجود الآلهة مثل دياغورس وثادورس وأويمارس.١٣
ويذكُر فلوطرخس فيثاغورس ورأيه في العلة الفاعلة، وهو العقل وهو الله. ويضع الناقل «عز وجل»؛ لأنه ينقل إلى بيئةٍ موحدة بتعبيراتها عن الله،١٤ وكذلك «الله عز وجل» عند الشعراء وأفلاطون. اعتبر أن الواحد من المبادئ، وهو الإله والخير، وأن العقل هو طبيعة الواحد، فالله مرتبط بأول المبادئ الرياضية وهو الواحد وبالخير.
ويذكُر فلوطرخس الطبائعيِّين الأوائل باعتبارهم أصحاب المبادئ الأولى للفلسفة الطبيعية؛ فطاليس كان يرى أن الله عز وجل عقل العالم كما هو الحال عند الفلاسفة والصوفية المُسلمِين.١٥ وأنكسماندريس كان يرى أن السموات إلى ما لا نهاية لها هي آلهة؛ إذ تشارك معها في اللانهائية، على ما هو معروف في دين الطبيعة.١٦ وديموقريطس كان يرى أن الإله هو العقل، طبقًا للحديث القدسي الشهور، وتعبيرًا عن الروح اليونانية،١٧ وقد جعل أناكساجوراس الله مُنظِّمًا للأشياء ومُرتِّبًا لها دون خلقها، وأنه محرك الأشياء الثابتة.١٨
ويذكُر الشهرستاني فلوطرخس بمناسبة سقراط وأفلاطون والاهتمام بالله. والله عند أفلاطون خالقٌ للعالم على مثالٍ تصوَّره، وعلى ما يقول الشعراء. هناك إذن اتفاق بين الشعر والفلسفة، بين الوثنية والحكمة كمرحلةٍ إلى الدين، والانتقال من التشبيه إلى التنزيه.١٩ والله مُنظِّم الأشياء ومُرتِّبها في نظام،٢٠ بل يدافع فلوطرخس عن قولِ أفلاطون بالعناية الإلهية، وعن تنزيه الله ضد المُنكرِين لها والقائلِين بالتشبيه؛٢١ فرفض أسبقية الأشياء على الله متفق مع الإيمان. الله هو الواحد البسيط الأزلي الذي لا علة له، واحدٌ عدل، موجود على الحقيقة. وهذه كلها صفاتٌ لأنه عقلٌ مفارق غير مختلط بالصور ولا يشارك في شيء ولا يتأثر بشيء.٢٢ وهي صفاتٌ تُشبِه الخطاب الفلسفي في علوم الحكمة. الصور عند سقراط وأفلاطون مفارقةٌ للعنصر، ثابتةٌ في الفكر والتخييلات الإلهية، أي العقل،٢٣ فالإلهي مفارق سواء كانت الصورة أو العقل أو الإله.٢٤
أمَّا عند أرسطو فإن الله أعلى من الصور وأعلى من العناصر، وكأنه بلغ قمة التوحيد. الإله إلهٌ مفارق للصور، ويحوي الأثيرة العنصر الخامس، كرة الكل، ليست الصور مفارقة للأثير الذي يحويه الإله.٢٥ أمَّا في موضوع الكهانة والرؤية وهو موضوع ديني بالأصالة، فإن النفس ميتة لكن بها شيء من الأمر الإلهي، يجعلها حسية عند أرسطو وريكارخس.٢٦
وذكر الرواقيِّين وقولهم في الفلسفة بأنها العلم بالأمور الإلهية والإنسانية، وأن العلم هو المعرفة الفاضلة وهي ثلاثٌ: طبيعةٌ وخلقية ومنطقية. وهي قسمة الحكماء الفلسفة إلى ثلاثٍ منطقيةٍ وطبيعية وإلهية، فالفلسفة مرتبطة بالدين والأخلاق عند الرواقية، تقوم مقام الإلهيات مع اختلاف الترتيب.٢٧ وهو ما سُمِّي أثَر الرواقية على المسلمِين وهو تمثُّل واحتواء، وإذا حدد الرواقيون الجوهر بأنه رُوحٌ عقلي فإن ذلك يكشف عن النزعة الدينية في النص،٢٨ ومن الرواقيِّين يذكر زينون الرواقي خاصة الذي كان يرى أن الله هو العلة الفاعلة في مقابل العنصر وهو العلة المنفعلة، وأن المبادئ هي الله لمُشاركتِها له في الخلق والتنظيم؛٢٩ لذلك كان من السهل على الحكماء القيام بعملية التشكُّل الكاذب، والتعبير عن الله بألفاظِ العلة الأولى والمبدأ الأول.
أمَّا أبيقورس فإنه يرى الآلهة في صورة الناس، وهي تُبصر بالعقل نظرًا لطبيعة جواهرهم اللطيفة، هناك طبائعُ أخرى غيرُ فاسدة في جنسها، الجزء الذي لا يتجزأ، والخلاء، وما لا نهاية له، والمتشابه وهذا تصوُّر للإله بين التشبُّه والتنزيه،٣٠ ولا فرق بين الإله Herwwn والشيطان Daimonon؛ فالأول جوهرٌ نفساني، والثاني نفسٌ مفارقة للبدن، خيِّر للنفس الفاضلة، وشِرِّير للنفس الرديئة؛ هذه هي تصوُّرات الله في أذهان البشر وصورته في وجدانهم، القوة العالية لا فرق في ذلك بين أنصاف الآلهة والشياطين.٣١
كما لاحظ فلوطرخس أن الحضارة اليونانية كانت على صلةٍ بالعهد القديم وبالتراث العبراني القديم، ويذكر الشاعر اليوناني ديانمورس المذكور في العهد القديم، والذي كان ينكر الآلهة ويسخر بالأسرار، ومذكور أيضًا عند شيشرون في «طبيعة الآلهة»، وعند اليهود والمسيحيِّين (يوسف وتاسيان)،٣٢ ولا ينسى فلوطرخس ذكر الأثر الشرقي للحضارة اليونانية، وهو ما افتقدناه نحن الآن في رؤيتنا لها، فقد تفلسف طاليس في مصر، وزارها وتعلم فيها؛ لذلك تظهر صورة مصر في الفلسفة اليونانية عندما يتحدث طاليس عن مصر وزيادة نهر النيل،٣٣ كما يُشير فلوطرخس إلى بعض الأسماء مثل بيروسسن وهو كاهن بابلي أيام الإسكندر عنى به اليهود والنَّصارى.٣٤
وفي «حُجج أبرقلس في قِدم العالم ترجمة حنين بن إسحاق» تظهر شجاعة المترجم في نقله إلى اللسان العربي نصًّا ضد تصوُّر البيئة الثقافية الجديدة، الذي يقوم على حدوث العالم وهي تسع حُجج: الأولى مأخوذة من وجود الباري فلا يصدر عن القديم إلا قديمٌ مثله؛ فالباري هو رب الأشياء والمالك لها. والثانية إذا كان مثال العالم أزليًّا فالعالم المادي أزليٌّ مثل مثاله، وهي حُجةٌ شبيهة بقِدم علم الله بخلق العالم. والثالثة أن الله قبل خلقِ الله تعالى العالم بالفعل كان خالقًا له بالقوة، والوجود بالقوة أحد أنماط الوجود. وقد اعترف أفلاطون بهذه الحجة في محاورة «فيليبس». والخامسة أن ما يُخلق من علةٍ غير متحركة يكون أيضًا غير متحرك. وهي حُجةٌ شبيهة بمشاركة العالم الله في صفة العلم، والثبات والديمومة مثل العلم. وهي مضادةٌ لحُجة إثبات الخلق عن طريقِ دليل الحركة المشهور عند أرسطو وفي العصر الوسيط المسيحي. والخامسة أن الكون في الزمانِ والزمانُ قديمٌ فلزِم أن يكون العالم قديمًا. والسادسة إن كان الله قادرًا على خلق العالم والقدرةُ قديمةٌ فالعالم قديم، وهي نفس حجة العلم والديمومة. وقد اعترف بذلك أيضًا أفلاطون. والسابعة إن كانت نفس الكل غير حادثة ولا فاسدة وكذلك العالم، وهي نفس الحجة السابقة ولكن هذه المرة مع روح العالم. والثامنة تفصيل على حُجة الفساد؛ فالفساد تحول عن شيءٍ إلى شيء ولا شيء، غريب على الكل، ولا تحوُّل خارجًا عليه، إذن فالعالم قديم لأنه هو الكل. وقد اعترف أفلاطون بذلك أيضًا في فيدون. والتاسعة الأخيرة أن الفساد يقع لآفة والعالم سعيد لا آفة فيه مثل الملائكة. وهو نوع من الإسقاط النفسي على العالم والانتقال من العالم الموضوعي إلى العالم الذاتي، من الخبر الإنشاء، ومما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون. وحُجج أبرقلس ثمان عشرة حُجة، نقلها حنين نقلًا رديئًا، ولم يَبقَ منها إلا هذه الحُجج التسع. وواضحٌ من هذه الصياغة الألفاظ الإسلامية مثل الله تعالى والخالق والباري والملائكة والوحي والكفر. كما يتضح إثبات شبهة أرسطو وقوله بقِدم العالم اعتمادًا على أفلاطون.٣٥
وفي «كلام لأبرقلس من كتابه أسطوخوسيس الصغرى» يعني اللفظ عناصر الطبيعة في مقابل عناصر الإلهيات. ويضم نفس الأفكار، فيض الخير من العلة الأولى. كما قال أفلاطون إن المبدأ الأول هو الإله الأول، والشمس بالنسبة للمحسوسات مثل الباري بالنسبة للمقولات، مصدر للمعرفة. وهو الله عز وجل بصفاته الإسلامية سبب كل الخيرات. والآراء التي يجب اعتقادها في الله، هي أنه جوادٌ معطي الخيرات وليس السيئات؛ لأن الله ليس سببًا للشرور، وأنه غير متغير؛ فالتغيُّر ضعف، والله ليس ضعيفًا بل في غاية القوة، وأنه عالم بالأشياء على حقائها علمًا لا خطأ فيه، وهي صفاتٌ ثلاث شبيهة بالعلم والقدرة والحياة التي تُعادِل الخير.٣٦

(٢) من دين الطبيعة إلى دين الوحي

كما تم التحوُّل من دين الطبيعة إلى دين الوحي في ترجمة «مسائل فرقليس في الأشياء الطبيعية» لأبرقلس بطريقة السؤال والجواب وبداية بالبسملة، قام بها إسحاق بن حنين مما يدل على أن الدافع على الترجمة لم يكن فقط الإلهيات، بل أيضًا الطبيعيات أي العلم الخالص. وهي مسائلُ تجمع بين الطبيعة والحرارة والبرودة والماء والنار والطب، مثل حساسية الإبطية والأقدم، والنوم والشعر، والصلة بين الخصي وعدم نبات اللحية.٣٧

كما ترجم كتاب «الصلاة لياسميتوس» أو ما تبقَّى منه مما يدُل على جرأة المسلمِين، على ترجمة الكتب الوثنية ونصوص الصائبة الذين ورد ذكرهم في القرآن، ووَضعِها في إطار أفلوطين، وقد كانت الثقافة الفلسفية الشائعة؛ فالوثنية هي دينٌ طبيعي، والله خالق الطبيعة؛ فالنقل الحضاري يضع دين الطبيعة داخل دين الوحي، ويُعبِّر عن الوحي بدين الطبيعة.

ولا فرق في الترجمة بين نصٍ ديني أو فلسفي أو علمي؛ فكلها تخضع لمنطقٍ واحد، ترجمة حرفية أو معنوية، حذف أو زيادة أو إعادة كتابة للنص واستبدال الأمثلة، وتعريب المصطلحات أو نقلها، ولكن النص العلمي الرياضي والطبيعي، في حاجةٍ إلى موقفٍ إنساني حتى يُخفِّف من مستوى تجريبه أو موضوعيته، وتحويله إلى مستوًى إنساني، بداية بحكاية ونهاية بشعر، بحيث يتحول النص العلمي في الحضارة المنقول منها إلى نصٍّ إنساني في الحضارة المنقول إليها، سواء كان هذا النقل الحضاري، كله أو بعضه، قد تم من قبلُ في النص اليوناني. وهذا السياق الحضاري للنقل أكثر دلالة من النص المنقول نفسه؛ فالخيال طريق العقل، والشعر مقدِّمة للرياضة وخاتمة لها، والبداية بمسائلَ علمية مثل بناءٍ قبر، وبتدخُّلِ وحي من دلفي، ربما من الأنبياء الذين لم يتم الإخبار بهم مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ.٣٨
وحَظيَت ترجمة النصوص السياسية بقدْرٍ كبير قدْر نصوص المنطق والطبيعيات والإلهيات والرياضيات، بالرغم من وجود الشريعة في الحضارة المنقول إليها. مثال ذلك «رسالة ثامسطيوس إلى يوليان الملك في السياسة وتدبير المملكة».٣٩ لم يكن ثامسطيوس (٣١٧–٣٨٨ق.م.) فقط شارح أرسطو؛ فقد لَقيَت شروحه ترحيبًا في العالم الإسلامي، بل كان مؤلفًا وصاحب مواقفَ سياسية، وكان من أفاضل الوثنيِّين الذين بقُوا على دين اليونان. نال الحظوة عند يوليانوس الذي ارتد من المسيحية، وكان يود إحياء الديانة اليونانية والحضارة الهلِّينية، مما يدُل على ثقة المترجم بنفسه وترجمة الوثنيِّين، وهو نصرانيٌّ يعيش في بيئةٍ إسلامية.٤٠ وقد رحب المسلمون بثامسطيوس؛ لأنه متدين على نحوٍ طبيعي، عقلاني يوناني. وقد يكون أفضلَ مسيحيةً من كثير من المسيحيِّين، يقترب من الأخلاق، ويبتعد عن العقائد، فكان أقرب إلى الإسلام، والدين الطبيعي كما يبدو ذلك من خطابه في حب الخير. ربما دخلت أشعاره وآراؤه المترجمة داخل الفكر الإسلامي، عن طريق الفارابي وابن سينا مثل «قلوب الحكماء هياكل الرب، فيجب أن تُنظَّف بيوت عبادته». وقد انتشر هذا النوع الأدبي في الحضارة الإسلامية، نصائح الملوك، وألَّف فيه المسلمون فيما بعدُ مثل الجويني والغزالي. واختيار ترجمة النص في حد ذاته يدُل على قصد نحو الموضوع؛ فالداخل هو الذي يُحدِّد كيفية الاختيار من الخارج، فالدين النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم.
وفي رسالة في التوحيد الطبيعي «أن الله خلق الإنسان أَكملَ الحيوان وأَتمَّه»، مثل: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وخلق النفس وحواسَّها. وإذا رفض الإنسان اللذات الجسمانية كان في سيرته سالكًا السبيل الذي يرتضيه الله؛ فكل شيء بيد الله، ويحفظ الإنسان من الوقوع في الشر. خلق فيه الشهوة والعفة، وهداه النجدَين، فالله بداية شيء، وخالق كل شيء، والحياة الفاضلة تبدأ بالنفس وطهارتها. ولمَّا كان الإنسان الواحد لا يمكن أن يعمل الصنائع كلها، احتاج الناس إلى بعضهم البعض، ولأن الله خلق الإنسان بالطبع يميل إلى الاجتماع والأنس، ووضع سننًا وفرائض يرجعون إليها ويقفون عندها. وكما أن الله واحد ولَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا؛ فإن رئيس المدينة واحد أيضًا، وكما هو الحال عند الفارابي. وهنا يبرُز فضل الملوك الذين يقومون بتدبير أمور الناس وسياستهم، يدفعون عنهم الأذى الذي قد يقع عليهم في الداخل أو في الخارج. وتبدأ الترجمة بالبسملة وتنتهي بالحمدلة في جوٍّ ديني، الله تبارك وتعالى جل ثناؤه، جل وعز؛ مما يوحي بسهولة النقل الحضاري من النص الأول في الحضارة المنقول منها إلى إعادة كتابته كنصٍّ ثان في الحضارة المنقول إليها.٤١ ويُوصف الله في بعض المخطوطات بأنه تبارك وتعالى، جل ثناؤه، سواء من المترجم أو الناسخ؛ مما يكشف علمًا أن الترجمة نقلٌ حضاري، من بيئةٍ ثقافية إلى بيئةٍ ثقافية أخرى.٤٢
١  فلوطرخس: الآراء الطبيعية، عبد الرحمن بدوي: أرسطاطاليس، في النفس، وكالة المطبوعات، الكويت، ١٩٨٠م.
٢  من العقيدة إلى الثورة، المجلد الأول، المقدمات النظرية، الفصل الرابع، نظرية الوجود.
٣  المصدر السابق، المجلد الثاني، التوحيد، إلهيات أم إنسانيات، ص٦٠٠–٦٦٤.
٤  السابق، تصدير عام، ص٢٤–٣١.
٥  السابق، ص١٨١.
٦  السابق، ص١٢٧؛ من أي أسطقس أول ابتدأ الله جل وعز خلق العالم؟ ص٩١.
٧  «وهو أن الله خلق العنصر الذي ليس مُصورًا أو الصورة التي نسميها كمالًا وعدمًا …» (فلوطرخس، في النفس، ص٩٦-٩٧).
٨  والمبدأ هو ما لم يكن شيءٌ قبله عنه تَولَّد، فيجب علينا ألا نطلق اسم المبدأ على ما يتولَّد عن غيره، بل الأحرى أن يُقال على ما يتولد عنه غيره.
٩  فلوطرخس، في النفس، ص٩٧، هامش ١.
١٠  كما قال الشاعر: يأيها الحنفاء المثلَّثون بالغبطة (فلوطرخس، في النفس، ص١٠١-١٠٢).
١١  «ولذلك قال أربيدس إن السماء المكوكبة نور على الزمان، ومجال سفير من صنعة صانع حكيم، فوقع من ذلك وجدان ولله في الأفكار» (السابق، ص١١٢).
١٢  «ذكر كليماخس إن كنت تعقل إلهًا فينبغي أن تعلم أنه قادر على أن يفعل (كل ما ينفعل)؛ وذلك أن الله عز وجل لا يفعل كل الأشياء؛ لأنه لا يجعل الثلج أسودًا ولا النار باردة، ولا الليل نهارًا، ولا ينبغي أن يكون القائم قاعدًا وعكس ذلك» (السابق، ص١١٢).
١٣  ما الإله؟ إن بعض الأولين مثل دياغورس وثادروس وأويمارس ينكرون وجود الآلهة إنكارًا مطلقًا، كذبوا في بطلان الآلهة (السابق، ص١١٠-١١١).
١٤  «ويرى فيثاغورس أن أحد هذه المبادئ هي العلة الفاعلة الخاصبة، وهي الله عز وجل والعقل» (السابق، ص١٠٠). وأمَّا فيثاغورس فكان يرى أن المبادئ منها الواحدة، وهي الإله والخير، وأنها طبيعة الواحد وهي العقل (ص١١٣). فأمَّا أفلاطون الكبير الصموت فإنه لمَّا قال إن الله عز وجل خلق العالم … (ص١١٢) … الله عز وجل أزلي والله عز وجل لا يُقال عليه إنه يقبل النوم (ص١١٣). «إن الله عز وجل هو الواحد البسيط الذي لا علة له، الذي هو واحد عدل، الذي وحده على الحقيقة موجود …» (ص١١٣-١١٤). «من أي أسطقس ابتداء الله عز وجل العالم» (ص١٢٧). «وذلك أن الله عز وجل …» (ص١١٢). فأمَّا طاليس فكان يرى أن الله عز وجل عقل العالم (ص١١٣).
١٥  فأمَّا طاليس فكان يرى أن الله عز وجل عقل العالم (السابق، ص١١٣).
١٦  وأمَّا أنكسماندريس فكان يرى أن السموات إلى ما لا نهايةَ لها هي آلهة (السابق، ص١١٣).
١٧  وأمَّا ديموقريطس فكان يرى أن الإله هو العقل (السابق، ص١١٣).
١٨  وأمَّا أناكساجوراس فإنه قال إن الأجسام كانت أولًا في المبدأ واقفة وإن العقل (وهو الإله) رتَّبها وجعل لها تولُّدًا على مثال ثامب (السابق، ص١١٢).
١٩  «وحكى فلوطرخس عنه في المبادئ أنه قال: أصول الأشياء ثلاثة: وهي العلة الفاعلة، والعنصر، والصورة؛ فالله تعالى هو الفاعل والعنصر هو الموضوع الأول للكون والفساد والصورة والجوهر لا كون» (السابق، ص٩٥). «وأمَّا سقراط وأفلاطون فيريان المبادئ الثلاثة وهي: الله، والعنصر، والصورة. والله هو العقل، والعنصر هو الموضوع الأول للكون والفساد، والصورة جوهرٌ لا جسم له في التخييلات، والأفكار المنسوبة إلى الله عز وجل. وأمَّا العلة الأولى فهو عقل هذا العالم (في النفس، تصدير، ص٢٩، ١٠٤).
٢٠  فأمَّا أفلاطون الكبير الصموت فإنه لمَّا قال إن الله عز وجل خلق العالم أوجب أنَّ خلقه إياه كان على مثالٍ تصوَّره على ما يقول الشعراء الأولون أصحاب القوموديا القديمة. ولو لم يكن فكيف كان يتهيأ أن يكون كونٌ على الصورة التي هو عليها؟ (السابق، ص١١٢).
٢١  وأمَّا أفلاطون فإنه لم يضع الأجسام الأُول واقفةً لكنه وضعها متحركةً حركةً غير منتظمة وأن الإله رتبها بالنظام (السابق، ص١١٢).
٢٢  «وقد وقع في القولَين جميعًا خَللٌ من قِبل أنه قال: إن الله مُدبِّر أمور الناس وأنه يُشبِههم صنع الخلق» كالصانع المصب والحمال المثقل والمهموم بما يعمل … يُقال لهم: هل الإله في قولكم لم يكن لمَّا كانت الأجسام غير متحركة، ولمَّا كانت متحركة على غير نظام أو كان نائمًا أو ساهيًا؟ … الله عز وجل أزليٌّ لا يُقال عليه إنه يقبل النوم …» (السابق، ص١٣).
٢٣  «وأمَّا سقراط وأفلاطون فإنهما يقولان إن الله عز وجل هو الواحد البسيط الذي لا علة له، الذي هو واحدٌ عدل، الذي وحده على الحقيقة موجود. وهذه الأسماء كلها تنتهي إلى العقل؛ فهو عقلٌ مفارق في الصور مخالط العنصر البتة ولا مشارك شيئًا، ولا مما يقبل التأثير» (السابق، ص١١٣-١١٤).
٢٤  «عند سقراط وأفلاطون الصور جواهر مفارقة للعنصر، ثابتة في الفكر والتخييلات المنسوبة إلى الإله أعني العقل» (في النفس، السابق، ص١٥٥–١١٦).
٢٥  «وأمَّا أرسطوطاليس فإنه يرى أن الإله الأعلى مفارق للصور، يحوي كرة الكل التي هي جسمٌ أثير، وهي العنصر الخامس الذي نُسمِّيه الأعظم» (في النفس، ص١١٤). وأمَّا أرسطوطاليس فإنه كان يرى وجود الأنواع والصور، إلا أنها لم تكن عنده مفارقة للعنصر الذي عنه كان ما يحويه الإله» (السابق، ص١١٦).
٢٦  أرسطوطاليس وريكارخس لا يرون أن النفس ليست ميتة، لكن منها شيء من الأمر الإلهي (السابق، ص١٧٢؛ في الكهانة وكيف تكون الرؤيا، ص٥٣).
٢٧  «قالوا في الفلسفة إنها العلم بالأمور الإلهية والإنسانية، وأن العلم هو المعرفة الفاضلة، وهي ثلاث: طبيعي وخلقي ومنطقي؛ فالطبيعي هو الذي يبحث عن العالم، والخلقي هو الذي يُعرِّف الإنسان أموره، والمنطقي هو الذي يُعنى بمنطق الإنسان، وهو الذي يُسمُّونه الخطابة» (السابق، ص٩٥).
٢٨  السابق، ص١٠٧.
٢٩  وأمَّا زينون … فإنه كان يرى أن المبادئ هي الله عز وجل، وهو العلة الفاعلة، والعنصر هو المنفصل، وأن الأسطقسات أربعة (السابق، ص١٠٤-١٠٥).
٣٠  «وأمَّا أبيقورس فإنه يرى أن الآلهة في صورة الناس، وأنهم مُبصِرون بالعقل للطافة طبيعة جواهرهم. وكان يقول بأربعة طبائعَ أخرى غير قابلة للفساد في جنسها: الأجزاء التي لا تتجزأ، والخلاء، وما لا نهاية له، والمتشابهات. وهي تُسمَّى متشابهات الأجزاء» (السابق، ص١١٤).
٣١  السابق، ص١١٥. كيف وقع في أفكار الناس في وجدان الله؟ ما الإله في القوة العالية التي يُسمِّيها اليونانيون ذا مريس وأراس، ذامونون وهيرون Peri Dimonov Kai Herwwn أي الجن وأنصاف الآلهة.
٣٢  السابق، ص١١٠-١١١.
٣٣  السابق، ص٩٧، ١٥٥-١٥٦.
٣٤  السابق، ص١٣٩، هامش ٤.
٣٥  الأفلاطونية المحدثة عند العرب، نصوص حققها وقدم لها عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، ١٩٧٧م، ص٣٤–٤٢.
٣٦  السابق، ص٢٥٧-٢٥٨.
٣٧  السابق، ص٣٦-٣٧.
٣٨  كلام لأرسطانس في عمل آلة يستخرج بها خطًّا بين خطين، تحقيق أمين معلوف، A. N. Philippo، مجلة تاريخ العلوم العربية، ج٥، العدد ١، ٢، ١٩٨١م، معهد التراث العربي، جامعة حلب، سوريا، ص١١٤–١١٦. يبدأ النص بتحية الملك ثم روايةِ حكايةِ أن أحد الشعراء دخل على الملك مينوس، الذي كان يُعِد قبرَ ولدِه غلوقس، ولم تعجبه المقاسات التي اقترحها مهندس الملك، فأشار عليه الشاعر أن يضاعف أبعاد القبر حتى يتضاعف حجمه، ثم حدث وباء أصاب أهل دلفي، فأشار عليه الوحي بإنشاء مذبح ضعف حجم أحد المذابح المكعبة فيزول الوباء، ثم عرض الأمر على أفلاطون والمهندسين المعاصرين، حتى تقدم أرسطانس بالحل، وهو إيجاد وسطَين متناسبَين بين خطَّين معلومَين، ووضَع آلة لذلك وقدَّم البرهان عليه.
٣٩  رسالة ثامسطيوس الحكيم إلى يوليان (اللبان) الملك في السياسة وتدبير المملكة نقلها ابن زرعة عن السريانية ثم الدمشقي إلى العربية، تحقيق محمد سليم سالم، مطبعة دار الكتب، القاهرة، ١٩٧٠م. وقد نشرها قبل ذلك الأب شيخو، مجلة المشرق، السنة ١٢، العدد ١١، عام ١٩٢٠م. وكان من كبار البلغاء في القرن الرابع الميلادي، لقي حظوة عند الأباطرة المسيحيِّين بالرغم من تعصبهم الديني، انتسب إلى الأفلاطونية بعد أن تحوَّلت إلى فلسفةٍ انتقائية.
٤٠  وكان يوليانوس بعد أن التقى بالفيلسوف ماكسيموس تزَعزعَت عقيدته وارتد إلى الوثنية، وأعلن عام ٣٦٢ إطلاق الحريات الدينية للجميع، وأعاد المطارنة الأرثوذكس الذين أبعدهم قسطنطينوس لاعتناقهم مذهب أريوس السكندري في الوحدانية؛ فالوثني أكثر تسامحًا مع المسيحيِّين من المسيحيِّين أنفسهم. تُوفي وعمره ثلاثة وثلاثون سنة، وضاعت كثيرٌ من كتبه التي ألفها ضد المسيحية.
٤١  تبدأ الرسالة ببسم الله الرحمن الرحيم وتنتهي بالسلام، تمَّت والحمد لله على نعمه كثيرًا وبالله التوفيق … والحمد لله رب العالمين (ص٢١–٢٤، ٣٣، ٣٥).
٤٢  السابق، ص٢١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤