تاسعًا: تدوين المصطلحات

ونظرًا لأهمية المصطلح الفلسفي تحول إلى موضوع لعلوم الحكمة، تم فيه التدوين من الفلاسفة أنفسهم لضبط مصطلحاتهم دون تركها لاجتهاد النقَلة والشراح.١ ودوَّن الفلاسفة حدودهم ورسومهم وتعريفاتهم ومصطلحاتهم، وجمع أهمَّها أحد الباحثين المعاصرين؛ مما يدل على تخلُّق الموضوع في الوعي الحضاري القديم والحديث، طبقًا لمخطوطٍ قديم في قابل.٢ ولم يدون الفارابي رسالة في الموضوع، مع أن كل فكره في هذا الإطار نظرًا لبداية الفلسفة لديه بعد الكندي؛٣ فالمصطلح الفلسفي جزء من الفلسفة عند الخوارزمي؛ نظرًا لكثرة استعمال المصطلحات في الفلسفة والمنطق.٤
وتتشابه المدونات فيما بينها أكثر مما تختلف، مما يدل على وحدة الموضوع واستقراء اللغة الفلسفية، وأن تطور المصطلحات لا يكشف تحولًا جذريًّا؛ فهي أقرب إلى التواصُل منها إلى الانقطاع قبيل المعاجم والقواميس الحديثة، بعد تقليدها للمعاجم والقواميس الأوروبية، وحيرتها بين مادة القدماء ومادة المحدثين، وأولوية الوافد الغربي الحديث على الموروث القديم، على عكس ما هو كائنٌ سائد عند القدماء من أولوية الموروث على الوافد، والقدرة على تمثُّل الوافد داخل الموروث.٥
كتب ابن سينا رسالة «الحدود» بناء على طلب أصدقائه، الذين سألوه أن يملي عليهم حدود الأشياء، مع أنه متعذر على البشر حدًّا أو رسمًا، ويحتاج إلى جرأة وثقة تمنعه من الجهل. فأصرُّوا على أن يدلهم على مواطن الزلل في الحدود. وبالرغم من قصوره فإنه أقدم على الكتابة مستعينًا بواهب العقل.٦
ودوافع الآمدي لتأليف «الكتاب المبين في شرح ألفاظ الحكمة الحكماء والمتكلمين»، كما هو الحال في العصور المتأخرة، هو خدمة السلطان بعد توقف الدافع العلمي.٧ ودافع التهانوي هو رفع الاشتباه عن الاصطلاح، وإلا وقع سوء الفهم، ومادته الرجوع إلى الكتب والمصادر؛ لذلك غلب عليه الاقتباس من الشروح والمتون والتخريجات، كما هو متبع في عصر الشروح والملخصات، وعدم وجود كتابٍ جامع لذلك.

وابن خلدون وحده هو الذي لا يجعل المصطلحات جزءًا من العلم «الاصطلاح ليس من العلم»، ويجعلها أقرب إلى مشاهير العلماء؛ فلو كانت المصطلحات من العلم لكانت واحدة. تختلف المصطلحات من عالمٍ لآخر، كما تختلف بين المتقدمين والمتأخرين، كما هو واضح في علم الأصول. ويعتبر المحدثون المصطلحات أقرب إلى الأيديولوجيا منها إلى العلم والتاريخ، وإلى الفكر منها إلى الرؤية العلمية للعالم. وهو تصورٌ حديث يفصل بين لغة العلم وبناء العلم، والحقيقة أن لغة العلم جزء من بنائه، وأن العلم لغة.

  • (١)
    فأول نص في المصطلحات هو «الحدود» لجابر بن حيان، يتعلق بنشأة العلوم، وكلها عربية، ولا يوجد أي منها معرب، ومع ذلك بين تجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا، بين الشرعي والعقلي؛ أي المنقول والمعقول، الطبيعي والروحاني، الفلسفي والإلهي، الحروف والمعاني، وكلاهما يخضع لثنائيةٍ واحدة في العلم أو الدين: نوراني وظلماني، روحاني وطبيعي، باطن وظاهر، دين ودنيا، شريف ووضيع، جواني وبراني، فاعل ومنفعل، حار وبارد، صفة لنفسه وصفة لغيره، جمعًا بين الطبيعة والطب والكيمياء، والدين أقله. وتخلو من أيِّ إشارةٍ إلى أسماء أعلام من الوافد أو الموروث.٨
    والرسالة إبداعٌ فلسفي خالص، تقوم على درجةٍ عالية من التنظير والتجريد مثل رسالة الكندي. تُحدِّد الفلسفة بأنها علم بالأمور الطبيعية وعللها القريبة، فالفلسفة علمٌ طبيعي وليست أخلاقًا أو إلهيات أو إشراقيات. ويتم تحديد المصطلحات على الاتساع دون إدخاله في علمٍ بعينه؛ نظرًا لوحدة الفكر ونسق العلوم؛ فهناك لغةٌ واحدة للطبيعة ولما بعد الطبيعة. والأسلوب عربيٌّ إنساني موجه إلى القارئ كعادة الحكماء «انظر يا أخي».٩
  • (٢)
    ومن أجل ضبط المصطلح الفلسفي دوَّنَ الكندي «رسالة في حدود الأشياء ورسومها»، والتي تُعتبر أول محاولةٍ لإنشاء معجم للمصطلحات الفلسفية، حتى القواميس المدرسية والجامعية والمجمعية المعاصرة،١٠ الغاية منها توضيح معاني المصطلحات وإحكامها حتى لا يقع اللبس في استخدامها. وهي الألفاظ التي يكثر استعمالها في كتب الفلاسفة، وتعتمد في معظم الأحيان على التحليل العقلي الخالص، دون وافدٍ أو موروث أو ذكر أعمال أو أعلام، مع درجةٍ عالية من التنظير والتجريد، بالرغم مما يبدو على المادة من تجميعٍ أقرب منها إلى النحت، ويتم الحديث عن القدماء بطريقةٍ لا شخصية، وكأنهم تراثٌ ماضٍ، وعن الحكماء دون تمييز بين وافد وموروث، ودون استقرار على لفظ الحكماء أو الفلاسفة للوافد أو للموروث. ويدل العنوان على الدقة في التمييز بين الحد والرسم؛ الحد تعريفٌ تام بالجنس القريب والفصل المميز، والرسم تعريف الشيء بالجنس والعرض المميز، أكبرها حد الفلسفة والفضائل الإنسانية. وتتكرر بعض المصطلحات مثل المحبة والغيرية والطبيعية والإرادة والعمل؛ مما يدل على أن المصطلح في بدايته كان مجرد لغة الكلام. ولا يستقر ترتيب المصطلحات موضوعيًّا أو أبجديًّا كما هو الحال في المعاجم الحديثة. ويمكن تجميع المصطلحات وإعادة تبويبها طبقًا للعلوم، المنطق والطبيعيات والرياضيات والإلهيات، خاصةً أنه أول من قسم الحكمة إلى علم الربوبية والعلم الرياضي والعلم الطبيعي. وبعض المصطلحات من نفس الاشتقاق وبعضها متضاد.١١ وبعض الألفاظ لم تعد مستعملة مثل الذهل، والبعض الآخر غير فلسفي مثل الضحك. وبعض الألفاظ المشتقة تجعل مصطلحات المنطق أقرب إلى اللغة العادية مثل الصدق والصديق، والوهم والتوهم، والإرادة وإرادة المخلوق. والبعض منها غير فلسفي بل عام مثل الكتاب بالرغم من دلالته على الوجود في الأعيان أو الأذهان أو اللفظ أو الخط.١٢
  • (٣)
    أما رسالة «الحدود الفلسفية» للخوارزمي (٣٨٧ﻫ) فإنها تعطي مجالًا أكثر للتعريب على الترجمة،١٣ ومعظم التعريب لأسماء كتب منطق أرسطو. وكل التعريب يوناني باستثناء مرتين: سرياني الكيان أي الطبع وبالسريانية شمع كيانا أي سمع الكيان، ومليوتا كما هو الحال عند جابر بن حيان. ولا يعتمد الخوارزمي على أسماء الأعلام، باستثناء أرسطو الذي ذُكر مرتين وابن المقفع مرةً واحدة. وهناك إحساس بالتقابُل بين الوافد والموروث، بين منطق اليونان ولغة العرب، كما هو الحال في المناظرة الشهيرة بين السيرافي ومتى بن يونس حول النحو والمنطق.١٤ ويظهر هذا التقابل بين ثقافة الآخر وثقافة الأنا في كثيرٍ من العبارات مثل علم الأمور الإلهية، ويُسمَّى باليونانية ثالوجيا، وهذا العلم، المنطق، يُسمى باليونانية لوقيا، بالسريانية مليلوثا، وبالعربية المنطق، ومعنى قاطيغورياس باليونانية ويقع على المقولات. وأحيانًا يظهر الوافد اليوناني بمفرده،١٥ فالموضوع والمحول في المنطق هما المبتدأ والخبر في النحو.١٦ والكم عرض في المنطق واسم ناقص في النحو، والكلية في المنطق هي الفعل في النحو، والرباطات في المنطق هي حروف المعاني أو الأدوات في النحو، والخوالف في المنطق هي الأسماء المبهمة والمضمرة وإبدال الأسماء في النحو.
  • (٤)
    ورسالة ابن سينا (٤٢٨ﻫ) «في الحدود» أقرب إلى مقالٍ في فلسفة المصطلحات قبل القائمة الأبجدية للمصطلحات؛١٧ فموضوع الحدود جزء من صناعة المنطق، والحد الحقيقي يكون دالًّا على ماهية الشيء بالتمييز الذاتي، وبالجنس القريب والفصل البعيد، ويُفرِّق بين الحد التام والحد الناقص، ويبين عيوب الحدود الناقصة ويستعمل الأسماء الخمسة والقوة والفعل في المنطق. وينقد فرفوريوس لظنه أن الجنس يدخل في النوع، وأن النوع يدخل في الجنس. ويذكر الحكيم ويعتمد عليه في كتاب طوبيقا، وفي استعمال اسم الجوهر، كما يذكر كتاب النفس وكتاب البرهان. ويتحدث عن الفلاسفة القدماء والحكماء والفيلسوف الحكيم.
  • (٥)
    ويذكر الغزالي (٥٠٥ﻫ) في الحدود ٧٦ مصطلحًا في الحد الأول من «معيار العلم». ويمكن قراءته قراءةً مستقلة كما لاحظ الرازي، بالرغم من عدم جواز أخذ جزء من معيار العلم، وجَعلِه رسالةً خاصة في الحدود؛ فالحدود هنا جزء من معيار العلم؛ أي من المنطق وليست موضوعًا مستقلًّا. وتغلب عليها المصطلحات الطبيعية ثم الإلهية ثم الرياضية.١٨ ولا يذكر من الوافد إلا أرسطو، ومن الموروث إلا الباقلاني في تحديد معاني العقل. ويشير إلى كتاب النفس مرتَين وإلى البرهان مرةً واحدة. ويُقسِّم الغزالي قوانين الحدود إلى كلية ومُفصلة، وفي القوانين الكلية يتحدث عن الحاجة إلى الحد، مادته وصورته، وترتيب طلبه بالسؤال، وأقسامه، وطرق تحصيله، ومثارات الغلط فيه واستعصاره. وتتوزع الحدود المفصلة بين الإلهيات والطبيعيات والرياضيات، بالرغم من صعوبة الفصل بينها نظرًا لدخول بعض المصطلحات الرياضية في الإلهيات والطبيعيات. مطلب الإلهيات على الإطلاق، ومطلب الرياضيات عقليٌّ خالص، ومطلب الطبيعيات حسي، وأطول الحدود حد العقل. ويحيل الغزالي إلى «تهافُت الفلاسفة» وخُلُوه من الرياضيات.
  • (٦)
    أمَّا «الكتاب المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين»، للآمدي (٦٣١ﻫ)،١٩ فهو أكبر كتب المصطلحات، كتاب وليس رسالة، يتكون من فصلَين: الأول الألفاظ المشهورة وهو الأصغر، والثاني شرح معانيها وهو الأكبر. كما يدل العنوان على بداية عصر الشروح والملخصات واجترار الحضارة لذاتها، والعيش على نقل الذاكرة بعد توقُّف العقل عن الإبداع. وتغلب مصطلحات المنطق على الحكمة، مع تفصيل القياسات وكأنه كتاب في المنطق، وتتشابك الرياضيات مع الطبيعيات. ويغلب عليه الطابع المنطقي المجرد، لا يحيل إلى وافدٍ أو موروث.
  • (٧)
    وكتاب «التعريفات» للجرجاني (٨١٦ﻫ) نموذج التحول كليةً من الوافد إلى الموروث، واختفاء اليونان لحساب القرآن. ويمثل كتاب المصطلحات بعد فترة الانهيار في عصر الشروح والملخصات، مصادره العقائد وليست كتب الحكمة بالرغم من الاعتراف بأنها مأخوذة من كتب القوم، ومرتبة ترتيبًا أبجديًّا إيذانًا بالمعاجم والقواميس الحديثة، معظمها تجميع أقوالٍ مأخوذة عن العلماء والفقهاء والمتكلمين والصوفية، وعلماء النحو والصرف والبلاغة. ولا يظهر أي وافد باستثناء تعريف النفس بأنها كمال أول لجسمٍ طبيعي آلي.٢٠ وفي تعريف المصطلحات يُبيِّن الجرجاني من أيِّ علم. يوافق على بعضها ويختلف مع البعض الآخر، ويكون محايدًا مع مجموعةٍ ثالثة. يحكم على بعض التعريفات بالزيادة وعلى البعض الآخر بالنقصان.
  • (٨)
    وقد وضع ابن عربي (٦٣٨ﻫ) لنفسه «معجم اصطلاحات الصوفية الواردة في الفتوحات المكية». ولأول مرة يضع مؤلف معجمًا لكتاب بمفرده من تأليفه؛ مما يدل على أن معاجم المصطلحات موضوعٌ فلسفي وليس تاريخيًّا. المصطلحات عربية ولا يُوجد مصطلحٌ واحد مُعرَّب. ولا يذكر من أسماء الأعلام إلا علي بن أبي طالب بمناسبة الجبروت. وتُذكر طريقةٌ صوفية واحدة هي الملامتية تعريفًا للأمناء، وآيةٌ قرآنية واحدة كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ.٢١
  • (٩)
    ويعتبر «كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي (القرن الثاني عشر)، آخر معجم ما زال يمثل رؤية لتدوين المصطلح الفلسفي.٢٢ وهو أشبه بدائرة معارفَ مكونة من مقالاتٍ مطولة، وليس مجرد معجم مصطلحات للتعريفات، وهي مرتبة ترتيبًا أبجديًّا كما هو الحال في المعاجم الحديثة. وتضطرب المقدمة «في بيان العلوم المدونة وما يتعلق بها» فمدخلها تقسيم العلوم، ويختلف عرض الأقسام إجمالًا وتفصيلًا. وتتدخل موضوعاتٌ أخرى داخل تقسيم العلوم مثل أجزاء العلوم، الموضوع والمسائل والمبادئ مع عرض الفرق بين المتقدمين والمتأخرين نظرًا لتطور العلوم، ثم تعرض الرءوس الثمانية للحديث عن كل علم: الغاية والمنفعة، والسمة (اسم الكتاب) والمؤلف، والعلم، والمرتبة، والقسمة، والأنحاء التعليمية (التقسيم والتحليل)، والتحديد والبرهان، ويعرض أحد جانبَي القسمة دون الآخر؛ فتُعرض العلوم العربية دون غير العربية، والشرعية دون غير الشرعية، والحقيقية دون غير الحقيقية. ويتم الاعتماد على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
  • (١٠)
    وخُصِّص صدر الدين الشيرازي (١٠٥٠ﻫ) في آخر الجزء الثالث من السفر الأول من «الحكمة المتعالية»، خاتمة «في شرح الألفاظ المستعملة في هذا الكتاب»، وكما وضع ابن عربي لنفسه مصطلحات «الفتوحات المكية». وتضم خمسًا وعشرين مصطلحًا، كلها من الموروث في نظرية المعرفة. لا تعتمد إلا على الداخل مثل الرازي صاحب المباحث الشرقية، والشيخ الرئيس والمعتزلة من المتكلمين، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية.٢٣ وهناك تجميع من مصادرَ أخرى غيرِ معلنة، مثل الفارابي في رسالة «معاني العقل»، لتحديد الشيرازي معاني العقل المختلفة.٢٤ ويظن أنها مترادفة مع أنها متمايزة؛ فالغاية التمييز بين معاني المصطلحات المتشابهة.٢٥ ويتكرر لفظ الذكر مرتَين: الأولى كصورةٍ محفوظة والثانية كصورةٍ زائلة. وقد يذكر في تحديد كل لفظٍ عدة آراء واعتراضات وردود؛ فالمصطلح عليه خلاف في المعنى حتى بعد استقرائه كلفظ.٢٦
  • (١١)
    وتنتهي معاجم المصطلحات الفلسفية في العصور المتأخرة بغياب الرؤية والهدف فكان المصير. مثال ذلك «الكليات» لأبي البقاء (١٠٩٤ﻫ). وهو معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أبجدي الترتيب، يطغى فيه الموروث كليةً على الوافد، فهارس ألفاظ وآيات قرآنية وأحاديث نبوية، وأبيات شعر عودًا إلى أصول الثقافة العربية قبل الإسلام وبعده، الشعر واللغة، والقرآن والحديث، وكأن الوافد اليوناني أصبح في الماضي البعيد، والحضارة الإسلامية في حاجةٍ إلى رؤيةٍ جديدة، ودمٍ جديد، ووافدٍ جديد.٢٧
  • (١٢)
    ومثل ذلك «جامع العلوم في اصطلاحات الفنون الملقب بدستور العلماء» للقاضي عبد الرسول في القرن الثاني عشر. وهو معجمٌ أبجدي مثل الكليات، يغلب عليه السجع والتكلُّف، وخالٍ من أيِّ مقدمةٍ نظرية مثل الكليات، بالرغم من الإعلان عن الجمع بين العلوم العقلية والنقلية، وإنه مكتوبٌ ضد المتعصبين «مصونًا عن نظر المتعصبين المتفلسفين، محفوظًا عن مطالعة المتغلبين المتعصبين». كما أنه يخلو من الفهارس الحديثة للمصطلحات أو لأسماء الكلام. وواضح أيضًا أن الدافع الحيوي الأول قد توقف، وأن الوافد القديم من العرب أو الشرق قد طواه النسيان.٢٨
  • (١٣)
    وفي «مصطلحات الفلسفة باللغات الفرنسية والإنجليزية والعربية» يبدو أثر الوافد الغربي الحديث على الموروث القديم؛ فاللغات المعتمدة هي اللغات الأوروبية الثلاث الحديثة، والأولوية للفرنسية على الإنجليزية والعربية؛ فالترتيب الأبجدي للمصطلحات فرنسي والمعجم كله من اليسار إلى اليمين، والاعتماد الرئيسي على معجم لالاند، وكلها ترجمة أكثر منها صياغات تعريفات جديدة، مع الاستفادة على استيحاء من المصطلحات العربية القديمة عند المترجمين والمؤلفين، واستعملت المذاهب المشتقة من أسماء الأعلام كمصطلحات، والشرق لا يتجاوز تمثيله بمصطلحين، مما يُبيِّن التوجه الغربي شبه الكلي للمعجم.٢٩
  • (١٤)
    ثم ظهر وافدٌ غربي حديث، فازدَوجَت الثقافة بين موروثٍ قديم احتوى الوافد القديم، ووافدٍ حديث من الغرب، فغلب الوافد الحديث على الموروث القديم، دون أخذ اللحظة الأولى كنموذج لاسترشاد، فظهرت مجموعة من القواميس والمعاجم المدرسية والجامعية والمجمعية والحكومية، مهمتها إعطاء المعلومات التجميعية من القدماء والمحدثين، دون رؤية أو استئناف للدور الحضاري الأول، فما أصدرته المؤسسات مثل «المعجم الفلسفي».٣٠ وقد قام على مبادئَ عامةٍ ستة:
    الأول: الاقتصار على المصطلحات دون العلوم، باستثناء تلك التي تحولت إلى أسماءِ مذاهبَ كالأفلاطونية والأرسطية. والثاني: الاقتصار على الميتافيزيقا والأخلاق والمنطق والجمال دون علم النفس والاجتماع، فصلًا بين الفلسفة والعلوم الإنسانية. والثالث: الجمع بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية، القديمة والوسطى والحديثة دون فسلفات الشرق، مما يدل على بداية إيثار الجناح الغربي على الجناح الشرقي في الوعي التاريخي، على عكس توازنهما في الوعي التاريخي القديم، باستثناء بعض مصطلحات الفلسفة الهندية المُؤثِّرة في تاريخ الفكر الإنساني الإسلامي في لغتها الأصلية؛ نظرًا لبداية ظهور الشرق خاصة الهند أثناء حركة التحرر الوطني المعاصرة. والرابع: إحياء المصطلح العربي القديم، إلا إذا توارى أمام الحديث، واستعمال الحديث الذي أصبح شائعًا ومتناولًا. ولا يتم اللجوء إلى التعريب إلا في حدودٍ ضئيلة، وبمادةٍ من المصطلحات الغربية. والخامس: وضع المقابل الفرنسي والإنجليزي بعد أن حلَّتِ اللغتان الحديثتان محل اليونانية واللاتينية القديمة، ووضع لفظٍ عربي واحد من مقابل الأجنبي. والسادس: التركيز وعرض الأفكار الرئيسية دون الإسهاب والتطويل على عكس إسهاب القدماء.٣١
  • (١٥)
    وكتب المحدثون أيضًا مجموعة أو أفرادًا مثل «المعجم الفلسفي»، نقلًا لبعض المعاجم الفلسفية الغربية المبسطة بالإضافة إلى تجميعٍ من معاجمَ أخرى. ويتبع الترتيب الأبجدي العربي، ويضع أمام المصطلحات المرادفات الفرنسية والإنجليزية، مع فهارس إنجليزية وفرنسية في النهاية دون العربية، ودون ذكر للأصل اليوناني أو اللاتيني، ويُفرِّق بين المصطلح واسم العلم، ويذكر مع المصطلح أهم فلسفة دارت حوله. كما يُفرِّق بين مصطلحات الفلسفة وعلم النفس واللغة العامة، ويدعم المصطلح بمجموعةٍ من النصوص من القدماء ومن المحدثين، والمصادر، وفي النهاية كما هو الحال في دوائر المعارف. ويغلب الوافد الغربي على الوافد الشرقي فيه؛ مما يدل على ضعف حضور الجناح الشرقي للفكر الإسلامي المعاصر في الوعي التاريخي للمؤلفين لمسيحية البعض وغربية البعض الآخر. وبالرغم من صدوره في عصر التحرر الوطني وريح الشرق ومؤتمر باندونج، بدأ التعريب من الوافد الغربي الحديث، بعد أن كان قد انتهى تمامًا مع الوافد اليوناني القديم.٣٢
  • (١٦)
    وكثرت مثل هذه القواميس المحدثة حتى أصبحت سباقًا على العلم وربما التعالُم، ومزاحمةً في النشر، وسعيًّا وراء الرزق وسدًّا للفراغ الاصطلاحي في المدارس والجامعات، بدعوى الموضوعية والحياد، وجمع المادة التاريخية، والحقيقة بسبب غياب الرؤية الحضارية عند المحدثين؛ ومن ثَمَّ ازدَوجَت الأزمة، أزمة نهاية اللحظة الحضارية الأولى مع الوافد اليوناني والشرقي، وعدم بداية اللحظة الحضارية الثانية مع الوافد الغربي وغياب الشرقي.٣٣
١  يقسم الخوارزمي باب الفلسفة إلى ثلاثة أقسام، أقسامها وأصنافها جمل ونكات في العالم الإلهي، ألفاظ في كتب الفلسفة.
٢  جمع د. عبد الأمير الأعسم هذه المؤلفات في المصطلح الفلسفي عند العرب، نصوص من التراث الفلسفي في حدود الأشياء ورسومها، دراسة وتحقيق، القاهرة، ١٩٨٩م.
٣  للفارابي: رسائل مشابهة مثل الألفاظ المستعملة في المنطق، وبدرجةٍ أقل فصوص الحكم، عيون المسائل، معاني العقل.
٤  تم عرض من قبل في (٦) نشأة المصطلح الفلسفي وتطوره (٦-٢) تطور المصطلح الفلسفي بعض هذه المصادر فقط من أجل معرفة نسبة المُعرَّب للمترجم، وعرض البعض منها أيضًا في ثانيًا – المصطلحات الإسلامية من أجل معرفة المصادر الإسلامية للمصطلحات.
٥  ويقول الخوارزمي: «بينتُ ما هو مشهورٌ عندهم» (الحدود الفلسفية، المصطلح الفلسفي، ص٢١٧).
٦  ابن سينا: رسالة في الحدود، المصطلح الفلسفي، ص٢٣١–٢٦٣، ابن خلدون: المقدمة، ص٤٣٠.
٧  خدمة الوالي الصدر الفاضل الكامل رئيس العلماء سيد الفضلاء جمال الإسلام، شرف الآنام، أسد الشريعة، ولي المنزلة الرفيعة، مرتضى الدين، خاصة أمير المؤمنين، جمع الله به شمل العلوم والمناصب، كما أحله منها أعلى الأماكن والمراتب، لشرف إحسانه إليَّ وكرمه وامتنانه عليَّ، بخدمة سمية، وهدية سندية من العلوم العلوية والآثار النفسية، وما عساه أن يكون هو أسه ومبناه، ومنه مبدؤه وإليه منتهاه حتى أشار أعلى الله مراتبه … (الكتاب المبين، ص٣٠٦-٣٠٧).
٨  المصطلح الفلسفي، ص١٦٤–١٨٥، ٩٤، مصطلح، ٤٦، مصطلح علمي.
٩  السابق، ص١٨٣.
١٠  الكندي: رسالة في حدود الأشياء ورسومها، المصطلح، ١٨٩، ١٩٧-١٩٨، ٢٠٣، وتُعد السابعة من حيث الحجم من رسائل الكندي الفلسفية، ص١٦٥–١٧٩.
١١  وذلك مثل الحاس والحس والقوة الحاسة للمحسوس، الإضافة والمضاف والمتضاد مثل: الجزء والكل، الجميع والبعض، اليقين والظن، الحرارة والبرودة، اليبوسة والرطوبة، الانثناء والكسر، الضغذ والانجذاب، العلم والشك، الانفصال والاتصال.
١٢  السابق: الحدود، ص٧٠.
١٣  المصطلح الفلسفي، ص٢٠٦–٢٢٨؛ فمن مجموع ١٣٨ مصطلحًا ٢٢ معرَّبًا منها أربعةٌ مزدوجة، تصنيف الترجمة إلى التعريب.
١٤  انظر دراستنا: جدل الوافد والموروث، قراءة في المناظرة بين المنطق والنحو بين متى بن يونس وأبي سعيد السيرافي، هموم الفكر والوطن، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨م، ج١، ص١٠٧–١١٨.
١٥  مثل ويُسمى باليونانية سوفسطيقي، ويُسمى باليونانية ريطوريقي، ويُسمى باليونانية بيوطيقي (ص٢٢٤–٢٢٨).
١٦  الموضوع الذي يسميه النحويون المبتدأ وهو الذي يقتضي خبرًا وهو الموصوف، والمحمول هو الذي يسميه النحويون خبر المبتدأ وهو الصفة (ص٢١٦).
١٧  ابن سينا، رسالة في الحدود، المصطلح الفلسفي، ص٢٣١–٢٦٣، ويذكر كل من أرسطو وفروفوريوس مرةً واحدة، وتتوزع مصطلحات ابن سينا (٧٤ مصطلحًا) بين المنطق والطبيعة وما بعد الطبيعة وأكثرها في الطبيعة (٦٨ مصطلحًا).
١٨  الغزالي: «الحدود»، في المصطلح الفلسفي، ص٢٦٦–٣٠١، المصطلحات الطبيعية «٥٥»، الإلهية «١٥»، الرياضية «٦».
١٩  الآمدي: الكتاب المبين في شرح ألفاظ الحكمة والمتكلمين، المصطلح الفلسفي، ص٣٠٥–٣٨٨، الأول «٦ ص»، والثاني «٧٥ ص».
٢٠  الجرجاني: التعريفات، ص٢١٨، وذكر أفلاطون ٣، أرسطو ١، في حين ذكر من الفقهاء والعلماء ما يزيد على الثلاثين في مقدمتهم ابن عباس.
٢١  السابق، ص٢٣٣–٢٤٤، يضم ١٨٨ مصطلحًا.
٢٢  محمد علي الفاروقي التهانوي: كشاف اصطلاحات الفنون، تحقيق لطفي عبد البديع، ترجمة النصوص الفارسية، عبد المنعم محمد حسنين، مراجعة أمين الخولي، الهيئة العامة للتأليف والنشر، دار الكتاب العربي، القاهرة، ١٩٨٦م (الأجزاء الأربعة الأولى)، كتب عام ١١٥٨م، الآيات القرآنية «٨»، الأحاديث النبوية «٤».
٢٣  صدر الدين الشيرازي: الحكمة المتعالية، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الرابعة، ١٩٩٠م، ج٣، ص٥٠٧–٥١٩، خاتمة: البحث في شرح ألفاظٍ مستعملة في هذا الباب متقاربة المفهوم، يظن بها أنها مترادفة، وهي كثيرة (ص٥٠٧).
٢٤  الرازي (٢)، ابن سينا (١)، المعتزلة (١)، الآيات (٣)، الأحاديث (٤).
٢٥  الحكمة المتعالية، ص٥١٣.
٢٦  وهي: الإدراك، الشعور، التصور، الحفظ، الذكر، المعرفة، الفهم، الفقه، العقل، الحكمة، الدراية، الذهن، الفكر، الحدس، الذكاء، الفطنة، الخاطر، الوهم، الظن، الرؤية، الكياسة، الخبر، الرأي، الفراسة.
٢٧  أبو البقاء أبو سيف موسى الحسيني اللكنوي: الكليات، معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، عدنان درويش، محمد المصري، دمشق، ١٩٨١-١٩٨٢م، (٥ مجلدات).
٢٨  القاضي عبد النبي بن عبد الرسول، الأحمد نكري: جامع العلوم في اصطلاحات الفنون الملقب بدستور العلماء، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ١٩٧٥م، نسخة مصورة من دائرة المعارف النظامية، حيدر أباد، الدكن، ج١، ص٣.
٢٩  مصطلحات الفلسفة باللغات الفرنسية والإنجليزية والعربية، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، عمل أبو العلا عفيفي، زكي نجيب محمود، عبد الرحمن بدوي، محمد ثابت الفندي، القاهرة، ١٩٦٤م.
٣٠  المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، الهيئة العامة للمطابع الأميرية، جمهورية مصر العربية، ١٤٠٣ﻫ/١٩٨٣م، مقدمة إبراهيم بيومي مدكور، وقد ساعد في إخراجه محمود الخضيري، محمد يوسف موسى، أحمد فؤاد الأهواني، محمود قاسم، عثمان أمين، توفيق الطويل، سعد زيدان.
٣١  من ١٥٥٦ مصطلحًا، المعرب فيها منها ١١٥؛ مما يدل على زيادة التعريب في الفكر الإسلامي قبل بداية عصر الشروح والملخصات، ومنها ٣٥ علمًا غربيًّا مما يدل على بداية ازدواجية الثقافة، ومزاحمة الوافد الغربي الحديث للموروث القديم، ١١ علمًا شرقيًّا مما يبدل على بداية الانفتاح على الشرق في مرحلة التحرر من الاستعمار، ٤ أعلام شرقية (أبهيدا، أجاما)، ٤ أعلام إسلامية مما يدل على تواري الأعلام أمام المصطلحات.
٣٢  يوسف كرم، مراد وهبة، يوسف شلالة: المعجم الفلسفي، القاهرة، مكتبة يوليو، ١٩٦٧م، هو تعريب لمصطلحات المعجم الفلسفي البسيط مع إضافات من لالاند Runes, Cuvillier, Lalande من ١٠٧٢ مصطلحات، ٢٨ مصطلحًا معربة بالكامل، ٨ وافد معرب، ٧ نصف معرب، ١٩ اسم علمٍ غربي، ٣ اسم علمٍ شرقي.
٣٣  مثال ذلك جميل صليبا: المعجم الفلسفي، بيروت، ١٩٧٨-١٩٧٩م، ومعاجم أخرى لمحمد عزيز الحبابي ويوسف الخياط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤