١

نزلَت من التاكسي عند انحناءة سكة السويقة من شارع محمد علي. واءمَتْ بين عد النقود للسائق ومسح الشارع بنظرات سريعة. اختفاء القضبان الحديدية في أسفلت الطريق يشي بتوقف الترام عن السير، البنايات الحديثة يكسوها التراب فلا تفترق إلا بنموذجها المعماري عن البيوت القديمة، القصيرة، والواجهات المتآكلة بالنشع، والشبابيك العالية، والكرانيش في أفاريز الشرفات، والبواكي التي بظَّت واجهاتها ببضائع محال بيع الآلات الموسيقية والأدوات الكهربائية والزنكوغراف والمطابع اليدوية والمجلدين والخطاطين والمكتبات والصيدليات والمقاهي والمطاعم ومحال المشروبات الباردة والبوتيكات ودكاكين المانيفاتورة والبلاستيك وأكشاك الصحف والسجائر والباعة الجائلين، والسلالم الحجرية الصاعدة على جانبَي البنايات.

مضت — تحمل الحقيبتين، كل واحدة في يد — إلى سكة المناصرة. على الناصية مسجد الشيخ منصور، بنوافذه الخشبية المخروطة، ومئذنته القصيرة.

الدماء لطخت الباب، تشي حمرتها الداكنة باحتفال، أو نذر، مضى عليه فترة طويلة. شقة الطابق الأرضي المفتوحة صارت مخزنًا للخشب.

ترامَى في صعودها السلم — هو السلم ذو الدرابزين، يهتز بمجرد استنادها إليه — اختلاط روائح الغسيل وقَليِ السمك والعطن. جالت بعينيها في المكان، تحاول أن تكتشف ما طرأ في سنِي غيابها، كل شيء كما تذكره، لم يحدث ما لفت انتباهها. حتى صورة أمها وهي ترتدي بذلة الرقص، تسند ركبتَيها إلى الأرض، وتضع الشمعدان فوق رأسها، معلقة في إطارها على الجدار، طاولة المائدة تتوسط الصالة، وفي موازاتها — من الجانبين — كنبتان متقابلتان. كُسِيت الجدران بأوراق، بهتت ألوان زهورها الصغيرة، وتآكلت — في مواضع — ربما بتأثير الرطوبة.

بدت شوقية سالم متهدلة الكتفين، وأقصر قليلًا عن ذي قبل، ربما لتقدم السن. التأثيرات واضحة على وجهها، حتى التماعة العينين لم تعُد كما كانت، وحول العينين والفم دوائر رفيعة من التجاعيد.

قالت وهي تشد الإيشارب — بتلقائية — فوق رأسها: كنت أدعو الله بالنبي وآل البيت أن يعيدك سالمة، غانمة، من رحلة الغربة.

أهملت حزنها مِن أن حياةَ هالة في مسقط تحولت إلى إقامة، لا يتكلمان في الهاتف — ولو بالتلميح — عن العودة إلى مصر.

لم تبدل شوقية قطعة أثاث واحدة مما خلفته قبل رحيل هالة من القاهرة، كل شيء في مكانه، الكِليم الأسيوطي — وسط الصالة — تهرَّأ بفعل الدوس عليه، لكنه ظل في موضعه. النظافة البادية تشي بالأيدي التي عنيت بالكنس والمسح والتنفيض والترتيب، ما رُفِع أعيد إلى موضعه، على الجدار صورة لأبيها عُلِّقت على الجدار في برواز مذهب كبير. لم تكن موجودة، وضح أنها مكبرة عن صورة قديمة.

– أين بابا؟

شَكَت لها من أنه يغلق عليه باب حجرته معظم ساعات اليوم. يتسرب الضوء من تحت الباب، وأصوات هامسة، متلاغطة، وموسيقى. وضع الدش أعلى البيت ليشاهد أفلام القنوات الفضائية.

قالت شوقية سالم: أحمد تاريخ يتكلم عن موت زمن العوالم … نحن نداري ما حدث في بيوتنا.

لم تكن العبارة جديدة على أذنيها، استمعت إليها من قبل أن تنطقها المدرسة ميسون النداف. اعتادتها في المناصرة ومحمد علي ودار العلوم، ربما نطقتها هي إن ضايقها الكلام. بدت العبارة — تلك المرة — كأنها تقصدها، كأن المدرسة تعرف المناصرة وشوقية سالم وحسين عكاشة وأحمد تاريخ. كتمت الرد فلا تبين مشاعرها، ربما العبارة عفو الخاطر، حتى إن كانت مقصودة، فسينقل ردها العبارة القاسية، وما يغيب توقعه، إلى غرف المدرسات.

هل الرقصات في ساحة ريام هي البديل لحفلات العوالم. تختلف الرقصات خلف فندق روي في اقتصارها على الشبان، يضعون المساحيق الملونة على الوجوه، يطيلون الشعور، يتثنون، يتأودون، يرتفع التصفيق وقرع الطبول والدفوف والأغنيات.

أشارت شوقية ناحية الحجرة المغلقة: العوالم راحت عليهم، أبوك يستعيد أيامهم بالفرجة على التليفزيون!

وداخل صوتها حزن: الناس الآن يكتفون بالدي جي، حتى موسيقى الزفة يضعونها على الدي جي!

كانت الفنادق تأخذ حفلات عقد القران والزفاف من السرادقات والأسطح، يُحيِي الحفلات متباينو المكانة، وإن غاب عوالم المناصرة ومحمد علي.

أقنع كلٌّ منهما نفسَه بأن شيئًا لم يتغير في حياته، غابت الليالي وحفلات عقد القران والزفاف والختان، لكن ما استطاعا ادخاره يكفل انتظام أيامهما.

آخر عهدها برقصة الشمعدان، حين عجزت عن التصرف على أي نحو أن تزيل مضايقة نزول اللبن من حلمتَي ثديَيها. أزمعت — من يومها — أن تهجر الشمعدان، تكتفي بالأداء الذي لا يعوزه مجهود.

هجرت الرقص، لما عرض عليها الخواجة بنايوتي مدرب الراقصات في كازينو صفية حلمي أن يتشاركا في إنشاء مدرسة لتعليم الرقص، يستعيد بها فن الرقص على أصوله.

اصطدما برفض القانون. سافر الرجل — مثل سواه — إلى الخارج، وأنشأ مدرسة تُصدِّر الراقصات إلى دول العالم.

فرضت الأوضاع الجديدة ظلها على الحياة في البيت، وفي كل الحي، انعكست في العلاقة بين أمها وأبيها، فطنت هالة إلى الأمر من تعبيرات شوقية سالم بيديها وملامح وجهها، كانت تستغني عن سيم العوالم بكلمات عبرية، حفظتها من راقصة يهودية سكنت المناصرة، لقنتها لزوجها، صارت لهما لغة سيم يعرفانها وحدهما.

بدا المجهول ماثلًا في الأفق، أضافت إليه رغبة هالة في السفر، حلًّا شبه وحيد لمجاوزة الاحتمالات القاسية.

قالت شوقية سالم: المناصرة الآن حاجة ثانية … العاقل يلم حاله!

يعرفون الأحوال جيدًا، وما يواجهونه من مشكلات، لكنهم يهملون الرفض والمقاومة، كأنهم يتلذذون بالتخاذل، أيام العوالم راحت في كلام أمها، أبوها يصالح الموت، وينتظره، ينتظر القادم الذي يعرف فعله، وإن لم يرسم له صورة محددة: ما جدوى الحياة؟ ما معناها إن كانت تنتهي بالموت؟

وداخل صوته طمأنينة: المرض وسيلة الموت لاجتذابنا!

فطن حسين عكاشة إلى أنه عاش أكثر مما يجب. رحل الكثيرون من أقاربه وأصدقائه، حتى الرقاق طاطا الذي يصغره بثلاثة أعوام، مات قبل عامين، غابت عن حياته وجوه ألفها، ولاحظ في نفسه ترديده لصفة المرحوم تسبق أسماء ذكرها، الانتظار هو ما يجب أن يشغله، يجب أن ينسى صداقات قديمة، ويهمل إنشاء صداقات جديدة، لا يعرف موعد الرحيل، لكنه يثق في قربه، وعليه أن يعد له نفسه.

وشى صوت شوقية سالم بتأثر وهي تتحدث عن الجلطة التي ألزمت زوجها البيت، لا يكاد يغادره، جلطة خفيفة فاجأته في قهوة التجارة. ترك حسين عكاشة المستشفى إلى البيت، لم يعد يغادره. حتى بعد أن تحسنت صحته، ولم يعد إلا اعوجاج بسيط في شفته السفلى، فإنه انقطع عن القهوة، واكتفى بالتليفزيون، يدير الريموت كونترول بين قنواته. تبدَّلت طبيعته، هو دائم الملاحظات والسخط والعراك.

ثار عليها لأنها حاولت أن تطيب خاطره: هذا حزني الخاص، ما شأنك أنت؟!

لم تعد ذاكرته كما كانت من قبل. كان يحفظ الكثير من الأغنيات وأسماء المغنين والراقصات، ويفرق بين التقاسيم. مال — في الأشهر الأخيرة — إلى الشرود، ونسيان أسماء ووقائع وأماكن.

لاحظت هالة أن أباها يعاني كثرة الفراغات في ذاكرته، يطيل التفكير، ومحاولات الاستدعاء، وذكر أسماء ليست لأصحابها، وغاب الترابط بين الروايات المختلفة. يعيد الواقعة الواحدة، لا يضيف إليها، أو يحذف منها، يعيدها كما رواها في مرات سابقة.

تقدمه في العمر بَدَا كالمفاجأة، ستُّ سنواتٍ آخرُ فترات غيابها عن المناصرة، كأنها — في ملامح أبيها — عمرٌ طويل.

وهو يرنو إلى عينيها: كبرت …

وقطب حاجبيه: تقدُّم السن شيء مقلق.

ونظر أمامه بعينَين غائمتَين: لا أحب أن يطول بي العمر حتى أتبول على روحي.

وران على صوته بطء: أعرف أن الموت يلامسني، مجرد لكزة خفيفة وأرحل.

واحتضنها بعينيه: بلغت السن التي يزيد فيها إشفاقنا على مَن نحبهم.

وبنظرة متأمِّلة: لكنك الآن ناضجة بما يجعلك في غير حاجة إلى نصائحي.

لم يفقد حسين عكاشة — برغم دخوله الشيخوخة — شيئًا من وسامته، العينَين الواسعتَين، الأنف الدقيق، الشعر الكثيف وإنْ غَزاه الشيب.

أزاحت الستارة بظهر يدها، واقتربت من النافذة الزجاجية، المطلة على الشارع. يميل، وينحني، ويلتوي، ويصعد، ويهبط، ثم ما يلبث أن يستقيم، نهايته — كما في بالها — شارع بورسعيد.

أصحاب البيت المواجه أضافوا إلى طابقيه طابقًا ثالثًا، وأعادوا طلاءه. تترامى — من شارع خلفي — أصوات أغنيات عمال بناء.

ابتسمت لاستعادة ما كانت تراه من زيق الشباك. ضارب الطبلة علي السروجي يدعو زوجته فلا تستجيب. يعلو صوته، ويعلو صوته. تعايره، ويشتمها. تتحول تهديداته إلى ضرب حقيقي. يرتفع صراخها المستغيث. هو مشهد كل ليلة، إن تأخَّر فيومين أو ثلاثة، ثم يتكرر ما اعتادت رؤيته.

تملكها شعور بالتعب، تريد أن تجلس، أو تنام، هي الآن في بيتها.

قالت شوقية سالم: الآن، أجد من تشاركني الأكل.

– وبابا؟

– يأكل في حجرته.

وأشارت إلى الكنبة: أنام هنا.

– لماذا؟

– هذا أفضل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤