٥

سبقته في اختراق شارع محمد علي إلى ميدان المنشية. عبرا الميدان إلى الشارع الفاصل بين جامعي الرفاعي والسلطان حسن.

أخذهما السير إلى ما حول القلعة. مالا في أوقات سابقة من «هضبة» السلطان حسن والرفاعي إلى الخيامية، ينتهيان إلى ميدان باب الخلق، يحاذران الشوارع المزدحمة، كل القاهرة زحام، زحام مسقط في مناطق ما بين الجبال: مسقط القديمة ومطرح وروي والحمرية والوادي الكبير، الجبال آفاق تحيط بها.

تترك له راحة يدها يضغط عليها بكفه، ترد على أسئلته وملاحظاته، بحيث لا تظل صامتة، مجرد كلمات قد لا تجيب عن الأسئلة، ولا تتصل بما يبديه من ملاحظات.

قال لمجرد أن يتكلم: العيش في الخليج يستدعي السُّكنَى — بعد العودة — في الزمالك أو المهندسين!

– لا أتصور الحياة بعيدًا عن المناصرة.

داعب دملًا أسفل ذقنه: مَن كانوا يسكنون المناصرة هجروها.

– أعرف! استُبدِلت المناصرة الاستيراد بالتصدير بعد أن استغنت الورش عن عمالها. توقف الحال!

أمَّن على قولها بنظرة حزينة: المناصرة الآن معارض لموبيليا دمياط.

أضاف في حزنه: معظم ما في المعارض من خشب السلوتكس، كرتون مضغوط تخفيه الفورمايكا.

– بضائع الصين تجمع بين أسواق مسقط والقاهرة!

حدق فيها كأنه يتأكد من استيعابها: الخوف من واردات الصين.

– ظروف الناس تدفعهم لشراء الأرخص وليس الأجود.

يكرر أبوها سخطه على أن البنايات الحديثة استبدلت بمحال الآلات الموسيقية معارض للموبيليا. لم يكن في الأمر ما يحزن لو أن الموبيليا من صنع ورش المناصرة، فالظروف واحدة، لكنها استوردت الموبيليا الصينية والتركية. تكلم عن الأسطى عبد الفضيل، على ناصية درب الفحم، بعد أن قلت فرص صناعة الأثاث، قصر عمله على إصلاح قطع الأثاث القديم.

ظلت صامتة لتلاقي رفع الأذان في الرفاعي والسلطان حسن، تنبهت إلى عطية يسير جوارها في الشارع الواصل بين المسجدين. المئذنتين. شردت، فتصورت نفسها في شارع روي، ما بعد العصر، أنقذتها الأردنية النداف من ملل الوقت، تدرك في تلك اللحظات غياب الصلة بين المدرسات، كل واحدة في حالها. وجدت في دعوة ميسون ما يقتل الوقت، لا تأخذها الهواجس إلى ما يحرك قلقها. غادرت ميسون بيت خالتها إلى المطار، لكن الحنين إلى المناصرة يشغلها.

غيبت نائلة أبو سمرة شعورها بالوحدة عقب العودة من المدرسة، في أيام متقاربة تنزلان معا في جولة للشراء، هي فرصتها في الفرجة على الشوارع والأسواق، التعرف إلى ما لا تعرفه من مسقط. تسيران في شارع روي حتى نهاياته، تتباطأ خطواتهما، تتأملان حركة الشارع أو واجهات المحال. تشيران — يوم الجمعة — إلى تاكسي، نائلة دائمة المسح بكفها على جبهتها، حتى لو خلت من العرق. تبدو عيناها صغيرتين من وراء النظارة الطبية المقعرة. أذهلت هالة بحفظها لقصائد كثيرة من الشعر العربي، ترفض أكل اللحم، تتصور الحيوان، أو الطير، حيا في فمها.

مجامر البخور في سوق نور الظلام تنقلها إلى البخور في الحسين، إلى دكان فاروق في نهاية شارع الموسكي. ربما نقلها السياح حولهما إلى اختلاف السحن والأزياء في مسقط، الدشاديش والعباءات والعقالات والعمائم والمسرات والنعال.

مع أنهما اعتادا الخروج معًا — حتى في أيام إجازتهما الصيفية — فإن القلق أربك خطواتها، وهي تسير إلى جواره في شوارع وسط البلد. تميل جولاتهما إلى اليسار، من محمد علي إلى ميدان العتبة، يخلفان عبد العزيز إلى عدلي حتى نهايته، ثم انحناءة عبد الخالق ثروت حتى يعودا إلى محمد علي، يتأملان فاترينات الدكاكين والإعلانات وزحام الطريق، ربما جلسا في الإكسلسيور، أو زينة، أو جروبي عدلي. استجابت لدعوته ذات عصر بدخول سينما ميامي.

رآهما — في المرات الماضية — ناس من المناصرة. يختلف الأمر هذه المرة، هي تشعر بما قد لا يشعرون به، أو يطرأ على أذهانهم، يتسلل إلى داخلها الخوف، والحرص على المداراة.

هي التي عرضت لقاءه بعيدًا عن البيت. تنبهت إلى أنها لم تجلس إلى عطية منذ عادت إلى القاهرة قبل أشهر، لا يتحدثان إذا التقيا مصادفة. ذلك ما كان يحدث قبل أن تعود، يكتفيان بابتسامة، وهزة رأس متبادلة.

المرات القليلة التي التقيا فيها اكتفيا بعبارات التحية، والسؤال الذي لا ينتظر إجابة، مجرد كلمات لا تعني شيئًا، أنا أكلمك، وأنت تكلمني، الكلام هدف في ذاته، بديل للصمت، يجد كل منهما راحة في رفقة الآخر، في استعادته ما جرى في محمد علي والمناصرة، وفي الصور التي عادت بها من الحياة في السلطنة.

التقيا في جروبي عبد الخالق ثروت.

جلسا في الحديقة، يجاورها صالة تناول المشروبات، والمطعم الكبير. يجدان دائمًا ما يتحدثان عنه؛ زحام القاهرة، وحر واختفاء العوالم، وزيادة معارض الموبيليا.

قال لنظرتها المتسائلة عن باعث استضافته لها في الشاي الهندي: أحببت أن تستعيدي أيام الخليج.

ومضت بسمة خفيفة على شفتيها: كنت تحب القراءة؟

في صوت حاول أن يكون هادئًا: على الكومودينو بجوار السرير كتابان لا أمل قراءتهما: ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ وقصائد صلاح جاهين.

اتسعت ابتسامتها: ألا تقرأ كتبًا أخرى؟

– سألتِني عما أحبه، لكنني أقرأ ما يصادفني.

لم يقترح مكانًا للذهاب إليه. أطالا التوقف على ناصية الرصيف أسفل جراج الأوبرا. مضى في هيئة من يعرف طريقه إلى نهاية شارع عدلي، ثم مالا إلى شارع طلعت حرب.

لمحت اللافتة، فحدست المكان الذي يقصده.

العفوية هي الفرق بين الشاي الهندي وما ألفته من المناطق هندية الطابع في مسقط: الأضواء الشاحبة، والستائر، والصالة المؤثثة، والموكيت، والجرسونات … ذلك كله، يختلف عن الأحياء العشوائية والبرياني والسالونا والرائحة المميزة للأجساد. جلسا في ريش وجروبي ولا باس وسفنكس، وفي النيل هيلتون وشبرد وسميراميس والكونتيننتال وهيلتون رمسيس. مسقط إنتركونتيننتال هو الفندق الوحيد الذي زارته، دعت الناظرة العُمانية ريم الحجري مدرسات الشيماء لحفل عيد ميلادها.

جلسا متجاورين في سينما ميامي، تكرر ترددهما — قبل أن تسافر إلى مسقط — على دور السينما القريبة، وفي وسط البلد: أولمبيا بشارع عبد العزيز، سينما إيديال بشارع عماد الدين. عرفت الطريق إلى دور العرض الأول: ميامي، مترو، ديانا، ريفولي، راديو، قصر النيل.

اكتفيا بتعليقات سريعة على أحداث الفيلم. أحست بالغربة، لعل ذلك هو ما أحست به اللبنانية مها الصبَّان، وصالة سينما «ستار» بالوادي الكبير خالية إلا من زوجين وثلاثة أبناء يشاهدون فيلم حسن يوسف وميرفت أمين «الجبان والحب».

قال الرجل — بلهجة خليجية — لنظرتهما المستغربة: طلب المصريون أفلامًا عربية … السيادة في مسقط للأفلام الهندية!

اجتذبتها لمة المدرسات الساكنة، النظرات تتجه إلى ما تبينته عند جلوسها، استدعت المشاهد في رقادها على السرير، فاجأها الصراخ، تلفتت خائفة، أدركت أن الصوت الملتذ تصاعد من داخلها، لم تتعمده. خشيت المفاجأة، يدخل الحجرة من يفضح الفعلة، غطت أسفل جسدها، ومالت ناحية الجدار.

سبقت تهيؤ عطية للمناداة على تاكسي. وافق أن يعودا — على أقدامهما — إلى المناصرة. اقتحمته نشوة لم يشعر بها من قبل، عبرا الطريق إلى شارع عدلي، سارا حتى ميدان الأوبرا، اخترقا الطريق الموازي لكوبري الأزهر، انتظر حتى اشترت شايًا وصابونًا من الباكية على يسار محمد علي، ثم مالا إلى الشارع.

في انحناءة الطريق، بدا سوق السيب — في شارع عبد العزيز — بناسه وباعته وبضائعه وزحامه، الاختلاف في تعدد الأزياء والزي الواحد، واللهجات التي يصعب فهمها — أحيانًا — واللهجة التي تعرفها، وتتكلم بها.

تعددت لقاءاتهما، قد لا يمر يوم دون أن يلتقي بها، ربما التقاها أكثر من مرة في اليوم الواحد. طلبت أن يدعوها إلى أكلة نيفة في الحسين، وشرب شاي بالنعناع في الفيشاوي، فطنت إلى أن معظم ثيابها صيفية. الجو في مسقط ما بين حر، وحر شديد.

تأتي أيام ربيعية، أو خريفية، لكن مسقط لا تعرف الشتاء، لم تعرض في أسواقها غير ثياب الصيف الدائم، طلبت أن يرافقها لشراء ملابس.

هذه المرة عانى ارتباكًا غابت أسبابه، التقيا من قبل بمفردهما، لم تتقاطع نظراتهما مع نظرات الآخرين، ولا تعددت الأصوات التي تشارك في الحديث. هي هالة، وهو عطية، لا أحد سواهما.

حارت في حقيقة شعورها نحوه: تكبره بثلاث سنوات، هل خرجت معه لأنها تحبه؟ أو لأنه لا يوجد في حياتها أصدقاء؟ أو الطبيعي أن يكون ابن خالتها هو الأقرب إليها؟

نظر إليها، ونظرت إليه. كأن كلًّا منهما يحاول اكتشاف الآخر. احتارا ماذا يقولان، ولا كيف يتصرفان، ظلا ساكنَين، صامتَين.

فاجأها بالقول: ماذا بقي في رأسك من الخليج؟

– مضى وقت قبل أن يزول إحساسي بالغربة.

ثم وهي تعد على أصابعها: مفردات الكلام … الطعام … العادات … كل شيء.

رائحة طشة الملوخية تعيدها إلى مسقط، ليست الرائحة نفسها، هي مزيج من روائح البرياني والمنسف والهيل والبهارات والكبة والتبولة والمقلوبة، والأرز بالكاري، والسالونا، والتكلم باللهجة الخليجية. اشترت من سوق باب اللوق سخانًا كهربائيًّا، وصلته بسلك إلى الفيشة على جدار غرفتها، اعتادت خيرية أبو الرضا إعداد الشاي على سخان مماثل، تقاسمها احتساءه.

نبهت إسلام ابن خالتها حسنة إلى خطأ فعله، كور الأرز في راحته، ضغط عليه، ثم قذف به في فمه.

– لماذا تأكل بأصابعك؟

قالت حسنة مستغربة: مَن لا يأكل بأصابعه؟!

فوتت الملاحظة، أردفت بنبرة مؤنبة: لا تأكل بيدك … كل بالملعقة.

شوح بيده: نسيت!

لم تكن تفعل ما أمرته به، تشارك المدرسات بيديها في تقطيع اللحم، والقبض براحة اليد على البرياني، والدفع به إلى الأفواه، قلدتهم حتى في ابتلاع الطعام، دون أن تمضغه.

قالت في لهجة معتذرة: في مصر نأكل بأصابعنا وليس براحة اليد.

قالت السورية ألفت وهي تشير إلى أصابعها المغموسة في الطبق: لهذا اخترعوا أدوات المائدة.

تخلت عن عادات كثيرة ومفردات كانت تمارسها بعفوية. أكلت الهريس والهريسة والمشاكيك والشوربة، والسمك المشوي مع الأرز، أو الخبز أو الخبز المظروف وخبز الرحال، والتمر العماني، والسالونة، والمشاكيك، البرياني طبق أرز باللحم، السمبوسة طعام رئيس في الوجبة العمانية، ربما الكلمة هندية، لكنها الأكلة العمانية المفضلة. تأملت واجهة مطعم يقتصر على تقديم لحم الكلاب، أصحابه وزبائنه فلبينيون.

أعلنت نائلة أبو سمرة اعتزامها فتح دكان لبيع الفول، والأطعمة المتداخلة فيه: الطعمية، البصارة، الفول النابت. ماكدونالد وكنتاكي وويمبي ومحال البيتزا لا تصمد أمام الفول المدمس.

بصقت هالة بقايا طعام علقت بأسنانها: الفول أكلة المصريين، والتبولة أكلة الشوام، والكسكسي أكلة المغاربة.

قالت معزوزة: البرياني أكلة العمانيين.

استطردت ميسون: هي وجبة هندية.

قالت هالة مداعبة: حصلت على الجنسية!

وأطلقت ضحكة مكتومة: على العرب من أبناء الخليج أن يطيلوا الصلوات فلا يجري استفتاء يؤدي إلى سيادة الآسيويين!

قالت لها: حتى أحدث الأزياء حصلت على الجنسية العمانية. تحت العباءات مودات من عواصم الدنيا!

حدجته بنظرة مستفهمة: هل تريد السفر إلى الخليج؟

نفض رأسه: لم أناقش الفكرة.

– لماذا؟

– أستطيع أن أحقق ما أريده في مصر، إلى جانب أني لا أضمن وجود فرصة عمل حقيقية في الخليج.

– وماذا يفعل مئات الألوف من المصريين هناك؟

أدركت أنه لكي تظل علاقتهما، يبتعدان عن المناصرة، ويعودان إليها، يلتقيان، يتناقشان، لا بد أن تتخلى عن كل ما يشغلها، التبدل الذي تريده.

وهو يحاول أن يلملم مشاعره: كنا نعتبر السفر من القاهرة إلى بنها غربة نرفضها!

اتسعت ابتسامتها، فتوضحت الغمازتان في وجنتيها: لا بد أن لك دخلًا لا نعرفه.

السلطنة، الخليج، الريال … كلمات مبهمة، لم تكن تثير خيالها إلا بما تقرؤه، أو تشاهده، من أخبار وتحقيقات وصور، أو العباءات والدشاديش والعقالات المتناثرة — أشهر الصيف — في شوارع القاهرة.

في اليوم التالي لنجاحها في الليسانس، أعلنت نيتها في السفر: لن أضيع عمري في مرتب لا يطعم دجاجة.

قالت شوقية سالم: أنت في الثانية والعشرين؟!

– يعني رشيدة، أستطيع أن أتكفل بنفسي!

بحلقت شوقية سالم بدهشة: لست أكثر من طفلة!

قالت هالة: ستظل هذه نظرتك ما لم أثبت لك أني لم أعد هذه الطفلة!

حين أظهرت اعتراضًا على بروفات الفرقة في الصالة، واجهتها أمها بالشتم.

مثلت تصرفات أمها، وكلماتها القاسية، دافعًا للرفض المعلن. لم تعد تكتفى بالتلميح، وزادت شوقية سالم من عباراتها القاسية. بدا السفر — عقب حصولها على الليسانس — حلًّا يريحها، ويريح أبويها. كان أبوها يناصر آراءها، لكن اختياره المسالمة والصمت، عمق إحساسها بالغربة، وبضرورة الرحيل.

قالت شوقية سالم: أنا مريضة، أخاف أن أتركك وحدك في الدنيا.

– كلام يصلح قبل سفري!

– هل سرت بمفردك إلى ما بعد العتبة؟

– هذه فرصتي لرؤية الدنيا … ما بعد العتبة، وكل شيء!

– لن تستطيعي تحمُّل مسئولية نفسك.

– هذا تصورك.

استطردت دون أن تنتظر إجابة منه: كيف تخرجت في الجامعة إذن؟

لم تكن المغامرة في داخلها، أن تصبح مستقلة هو ما غادر بها المناصرة إلى بيت حسنة، وإلى مسقط.

وشى صوته بتأثر: المناصرة الآن مجتمع سفر.

حدجته بنظرة متسائلة: ماذا تعني؟

– إنها تعكس تأثيرات الخليج على حياتنا!

تستغرب في نفسها تزايد الإحساس بالغربة، إذا رأت وجهًا مصريًّا لا تخطئه في شارع روي، أو سوق نور الظلام.

تطيل التوقف عند بائع أشرطة الكاسيت، بالقرب من سينما عمان بلازا. تشتري الأشرطة الحديثة، تبتسم — وإن اكتفت بكلمات مقتضبة — لأسئلة البائع عن أخبار أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وفايزة أحمد ووردة ونجاة، اسألني عن عوالم المناصرة وظروفهن القاسية، الاعتزال نهاية وحيدة في الأفق القريب.

قالت لنائلة أبو سمرة: ألاحظ أنك لا تسافرين إلى القاهرة حتى في الإجازة.

– لماذا أسافر؟

أهلك … وطنك …

– ابني في حضني … ووطني حيث توجد راحتي!

تتكلم وتتكلم، بينما يتمعن في ملامحها، وتعبيرات جسدها؛ العينَين الواسعتَين، العميقتَي النظرة، الأنف الدقيق، الشفتين الرقيقتين، الشعر الأسود الناعم المضفور في ضفيرة واحدة، ألقتها خلف ظهرها.

أول ما لاحظت في بيت المدرسات اختلاف اللهجات والعادات والتقاليد والأزياء، سكلانس هو التعبير الذي همست به لنفسها.

افترقا عند العودة في ميدان باب الخلق. مضى في حسن الأكبر، ومنه — في خطوات متمهلة — إلى الدروب والعطوف المتشابكة، يتيح لها الوصول إلى المناصرة قبله.

وهو يلتفت وراءه، أحس شعورًا بالفقد في متابعة صعودها السلم، يتمنى لو أن القرب ظل قائمًا، لو أنهما لا يفترقان.

شعور بالانتشاء يداخله وهي إلى جانبه، مجرد أن تكون إلى جانبه في بيته، أو بيت خالته، أو حين تزوره في الدكان. ربما يلتقيان بالقرب من المناصرة، يستكملان السير، يوصلها إلى البيت، ثم يمضي إلى درب الطاحون، يجتر شعور الانتشاء لفترة تطول أو تقصر، يستعيد طريقة كلامها، نبرات الصوت، ارتسامات المعاني في ملامحها.

قالت لأمها: في سكن المدرسات كنت أكتفي بالاستئذان في التأخر. توافق المشرفة، لم أكن أنتظر «سين وجيم» كما يحدث في هذا البيت.

تنهدت الأم: أخاف عليك.

ترامى رنين منبه، الموعد نفسه كل صباح، عرفت أن شخصًا ما يضبط وقت استيقاظه. الستارة الثقيلة — بامتداد النافذة — لا تشي بالوقت، إن كان نهارًا أم ليلًا، تشعر بطول الرقدة، تقرب ساعة اليد من عينيها، تتعرف إلى الوقت الذي هي فيه.

جذبت طرف الستارة، امتلأت الحجرة بنور دافق. فتحت النافذة، تناهى صخب الدرب في أسفل؛ النداءات والشتائم والدعوات. ثمة رائحةٌ ألفت تضوعها.

– سأبحث عن شقة قريبة من هنا …

استطردت دون أن تنتظر إجابة من أمها: لا أتصور الحياة بعيدًا عن المناصرة.

أهملت في إجازة صيف دعوة فادية القاضي أن تحمل لها أشياء إلى القاهرة: وزني أقل من المسموح، ووزنك زائد. تصورت فادية تأتي من مصر الجديدة إلى المناصرة، ما سافرت للابتعاد عنه، تقترب منه فادية، تراه، تكشف ما حرصت على إخفائه.

تبدلت مشاعرها، هي تنتمي إلى المناصرة، يأخذها السير في الشوارع والدروب والأزقة، تُحيِّي، تُسلم، تسأل، تجيب، تطيل الجلسة أو الوقفة في مداخل البيوت، ربما صعدت إلى صديقات في الطوابق العليا.

كانت السودانية معزوزة كريم الدين تفتح غرف بيت المدرسات، تكتفي بالتحية، أو تدخل للدردشة مع المقيمتَين في الغرفة.

قالت لها هالة مداعبة: أتصورك أحيانًا في ثلاث حجرات أو أكثر.

تبدي سعادتها للملاحظة: أنا صديقة الجميع.

تجولت في شوارع المناصرة. صحبها جيران وسماسرة. تأملت واجهات البيوت، رَقَت سلالم، عاينت شققًا. لم تعد الشقة ذات الحجرات الثلاث تناسبها، تقيم — بمفردها — في إحداها، تجعل الصالة للأنتريه، تخصص واحدة من الحجرتَين لأمها وأبيها، يتجاور الصالون ومائدة الطعام في الحجرة الثانية.

مضت إلى الأحياء والشوارع المجاورة؛ اعتادت اختراق الدروب والشوارع الضيقة والحواري والدكاكين ورصات الأثاث إلى الأحياء والشوارع المجاورة، تعبر لوكاندة البرلمان، ومبنى البوستة، والمطافي، ومسرح الأزبكية، تمضي إلى شوارع محمد علي، بورسعيد، عبد العزيز، الموسكي، الأزهر، الجيش، القلعة، الرفاعي، الدرب الأحمر، الجمهورية، تبطئ خطواتها — بالتأمل — في شوارع وسط البلد؛ قصر النيل وعبد الخالق ثروت وعدلي ومحمد فريد.

قبل أن تبدل طريقها بين المنيرة والوايلي، كانت قد سئمت المسافة من دار العلوم بالمنيرة حتى المناصرة، لا تلتفت، ولا يجذب انتباهها شيء، حتى مضايقات الطريق لا توقفها، كأنها مدفوعة بقوة، تمضي بها إلى الكلية، وتعيدها.

تمضي من محمد علي إلى ميدان السيدة زينب، تميل إلى خيرت والمبتديان حتى مبنى دار العلوم.

المسافة قريبة من المناصرة إلى شوارع وسط البلد. تخترق شارع محمد علي إلى أوله، المئات يجتازون ميدان العتبة. يمضون في تقاطعات الشوارع: الجيش، الأزهر، الموسكي، عبد العزيز، ومنها إلى الدروب والعطوف الملتفة، الملتوية، الشاحبة الضوء.

تجتاز الميدان، تدور حول الحديقة الصغيرة إلى الناحية اليسرى. تبطئ خطواتها، أو تتوقف تمامًا، عند باعة الكتب في المتبقي من سور الأزبكية، تكتفي بالفرجة، أو بتقليب الصفحات. في أحيان قليلة، تشتري كتابًا تجد فيه ما قد يهمها، تميل في اليسار ناحية ميدان الأوبرا، تطالعها نواصي الشوارع قبالة تمثال إبراهيم باشا فوق الجواد، يشير بإصبعه إلى حيث لا اتجاه، هل هو يتوعد؟ أو يفسح الطريق؟ أو يشير إلى هدف؟

المسافة ما بين العتبة وميدان الأوبرا، المسافة ما بين الحياة في الشوارع المحيطة بمحمد علي، والحياة في عبد الخالق ثروت وعدلي وقصر النيل، اختلاف الواجهات في هذه الشوارع يغريها بحبها، الشبابيك العالية والزخارف والمقرنصات، والهدوء في مداخل البيوت.

تتجه إلى شارع عدلي، البنايات على جانبَي الشارع الضيق نسبيًّا تتداخل ظلالها فتضفي عليه — معظم أوقات النهار — ضبابية باهتة، تسير في الاتجاه الموازي لحركة الطريق، البنوك والمعبد اليهودي والمكتبات والمطاعم ومحال الحقائب والقطع الأثرية والممر الواصل إلى شارع فؤاد.

وهي تشير بامتداد ذراعيها إلى ما حولها: لو أني أمتلك واحدًا من هذه البنوك، لن أكون في حاجة إلى عمل!

تميل إلى اليمين في شارع شريف، أو إلى اليسار في نهاية التقاطعات بشارع طلعت حرب، ثم إلى الميدان. ربما واصلت السير إلى قصر النيل والشواربي وجواد حسني وشامبليون وعماد الدين. لا تختار طريقًا محددًا، مجرد أن تتنفس القاهرة. ربما أخذت تاكسي إلى الوايلي، تستعيد أيام إقامتها في بيت خالتها حسنة.

لم يعد من مسقط في ذهنها سوى صور بلا قسمات ولا ملامح واضحة، يصعب أن تلتقط الذاكرة ومضاتها المتلاحقة.

قالت المُدرِّسة العمانية طيبة: أحب مسقط القديمة، البنايات الحديثة في كل مدن الدنيا.

صحبها عطية إلى المهندسين والزمالك والدقي. ركِبَا المترو إلى مصر الجديدة، هتفت أمها بالذهول لأثمان الشقق: لم نكن نعرف هذا … كنا نفاضل ونختار أنسب المواقع.

ولوت شفتها السفلى: على أيامكم عرفنا الخلو والتمليك!

قاومت شعورًا بأنها لا تريد بيتًا في أي حي، هي تريد بيتًا في المناصرة، أو بالقرب منها، الحياة التي اعتادتها فلا تتصور حياة غيرها.

أذهلتها السرعة التي تغيرت بها كل الأشياء، البشر والبنايات والميادين والشوارع الجديدة. في مرات قدومها السابقة إلى المناصرة، كان معظم بقائها في البيت، لا تغادره إلا إلى مشاوير آخرها شارع محمد علي أو شارع الأزهر أو ميدان العتبة.

لم تَعُد تخرج في مشاوير صغيرة وتعود، هي تمتلك القدرة على السير مسافات طويلة، تخترق الشوارع والميادين بلا تصوُّر مسبق، تتأمل المارة والبنايات وواجهات المحال، عرفت الأسماء والملامح، حتى ما يبتعد عن الطرق التي اعتادت السير فيها أثناء الكلية. تنطلق عبر شوارع وسط البلد. تمضي إلى الغورية والمغربلين والسكة الجديدة وباب النصر والفحامين، حتى الأزهر. قد تصعد إلى القلعة وسوق السلاح والمحجر وميدان السيدة عائشة.

قالت في لهجة مطمئنة: المواصلات تقرب البعيد.

وضح قلقه في التماع عينيه: والزحام؟

•••

لاحظت في أبيها كثرة نسيانه، وميله إلى الشرود. تعتريه نوبات نوم مفاجئة، ربما سقط ذقنه على صدره في إغفاءة تعزله عما حوله، يتنبه، يتلفت حوله كمن يتعرف إلى المكان. تذكر جلسته في ركن الصالة، يحتضن العود، يجري عليه بنغمات خافتة، ويدندن. له آلتان، من الأبنوس، ومن الساج الهندي.

لكي ينزل من البيت، رضي حسين عكاشة الجلوس في ورشة زنكوغراف الاعتماد بشارع محمد علي، عيناه وحدهما تراقبان الحركة — من موضعه داخل حجرة المكتب الزجاجية — في المدخل الذي يحتل مساحة صالة متوسطة الحجم. والورشة الصغيرة في الداخل.

تنبه إلى قلة المترددين، عرف أن حرفة الزنكوغراف — مثل العوالم — راحت عليها.

خافت أن يكون النسيان نذير تحلل الذاكرة، يفقد أبوها ما كان يعتز — وتعتز — به من ذاكرة تحرص على الاستعادة والحكي.

يظل في حجرته وحيدًا، لا يخالط، ولا يسأل، أو يجيب عن أسئلة، ويلزم الانطواء. إذا حاولت أمها مجالسته، تشاغل بالفرجة على التليفزيون، تسأله، أو تبدي رأيًا، فيكتفي بالغمغمة، ويصمت.

شعر أن تكرار اعتذارها عن المضاجعة بحجة التعب إهانة لا يستطيع قبولها، أومأ بأن يستقل كلٌّ منهما في نومه. لزم حجرته، واكتفت بالتنقل بين غرفة المسافرين والصالة.

أحس بفوات العمر، هو الآن يقف في الشيخوخة. خامره شعور أنه حين تبدأ الحياة في التلاشي، تبدأ الرغبة الجنسية في التلاشي. لم يَعُد للجنس موضع في علاقتهما، اقتصرت على الصداقة والرفقة واستدعاء الذكريات، يختلفان كثيرًا، وإن لم يتصور أحدهما حياته دون الآخر.

قال في نبرة تسليم: لما تزوجت أمك كنا في سن متقاربة … بلغنا الشيخوخة معًا.

هو يصغر عم مرهون بسنين كثيرة، الفرق عكسته خطوط التجاعيد المتعرجة في وجه العجوز، وبطء حركته، وصوته الشاحب. اجتذبتها ذاكرة عم مرهون الواعية، لا تفلت التواريخ ولا التفصيلات الصغيرة، ولا ملامح الأشخاص، يسند ظهره إلى الكرسي الذي صنعه بنفسه، صناديق خشبية قطعها إلى أجزاء، ووصلها، يشبك يديه خلف رأسه، ويشرد فيما لا تتبينه هي ولا المدرسات الجالسات في نصف دائرة أمامه، ينثر قطعًا من فسيفساء غير مكتملة، تصل المخيلة ما أسقطته الحكاية.

يتحدث عن أم علي، زوجته التي اصطحبها إلى مسقط، وإن ندر اصطحابه لها — متلفعة — إلى نِزوَى، حيث يقيم أبناؤه الستة وأحفاده، ويتحدث عن الحكايات القديمة وحكايات السحر والنخيل وأشجار الليمون والأفلاج والقلاع، وعن زيارات السلطان إلى مدن الداخل، وكيف تبدلت الحياة.

هل الشوق تبادلي؟

هل تسافر إلى مسقط لتحن إلى القاهرة، مثلما نحن الآن إلى مسقط؟

•••

أزمعت أن تصبح الشقة جميلة بما يعوض عدم انتقالها إلى حي آخر، الديكورات والأثاث وما اشترته في مسقط من التحف والسجاد والنجف والأجهزة الكهربائية.

اختارت ألوان الستائر والسجاجيد (عادت من مسقط بسجادة شيرازي) وألوان حجرات البيت.

شغلت أيامها بالتردد على شوارع وسط البلد، ومراقبة أعمال السباكة والدهان والكهرباء، وترتيب الأثاث، وتركيب الأجهزة الإلكترونية. تختصر الطريق من سكة المناصرة إلى شارع الأزهر، تخلف وراءها شبابيك جامع السبع بنات المغلقة، تميل من تقاطع الشارع إلى سوق حمام التلات، قصرت ما اشترته على الأطقم الصيني والأدوات المنزلية.

ترددت على خيَّاطة بشارع عبد الخالق ثروت، هزت كتفَيها لنصيحة أمها أن تلجأ إلى خالتها أم عطية في تفصيل ما حملته من أقمشة: اقتصرت خالتي على بِدَل الرقص، من الصعب أن تُبدِّل ما اعتادته.

تحدثت عن الأثاث من دمياط — لم تُشِر إلى ورش المناصرة — والسيارة، والرصيد في البنك. هذا مستقبل، يجب أن يقوم على أساس.

رفضت عرض أمها أن تشتري الأثاث من المناصرة، ورشها معارض للأثاث الدمياطي. تصفحت كتالوجات بالفرنسية والإنجليزية، تنتقي من الصور ما تطلب تصنيعه من الأثاث: لماذا لا أشتري ما أريده من دمياط؟

قال الأب: ورش النجارة في دمياط تغلق أبوابها.

وأطلت من عينيه نظرة أسًى: تعجز عن مواجهة الواردات الصينية.

قالت الأم: لا أحب الأثاث جاهزًا، أفضِّل المصنعية.

قال الأب في نفاد حيلة: احذري الموبيليا الصيني … من برة هالله هالله، من جوة يعلم الله!

– الأثاث التركي قضى على الصيني … لكن المصنعية أفضل.

أطلق تنهيدة: سبق العوالم إلى محمد علي قدوم محال بيع الآلات الموسيقية، والمطابع والزنكوغراف لطباعة دعوات الأفراح، والقهاوي لقعدات الفنانين والتعاقد على السهرات.

استطرد وهو يومئ ناحية النافذة: ثم جاءت ورش الأثاث لاستكمال الأفراح.

وخالط صوته حزن: تلاشى زمن العوالم في التسجيلات الغنائية واﻟ «دي جي».

قالت هالة: أعرف أن محمد علي كان شارعًا لثقافة العقل، ثم ضم إليها ثقافة القلب. السيادة الآن لورش الموبيليا.

قالت الأم: تجديد الموبيليا أفضل من شراء الصيني والتركي والماليزي!

رافقت عطية إلى سوق التلات وشوارع وسط البلد، تقضي يومها ما بين اختيار ألوان الستائر والسجاجيد والغرف، وزيارة الخياطة.

قال عطية: أحب الألوان المصرية …

استطرد لسؤال الدهشة في عينيها: أهمها الأخضر في الريف … والأصفر في الصحراء …

أردف بصوت هامس: واللوزي في عينيك.

قالت شوقية سالم: كل شيء تمام، لا ينقص إلا العريس!

أضافت في لهجة واثقة: لو زرت جامع البنات، فستضمنين ابن الحلال.

أخذتها الملاحظة من شرود الذهن، في ميدان العتبة، وسكة المناصرة، والطريق الصاعد إلى الدراسة، وشارع محمد علي، وحديقة الأزبكية، وباعة الكتب، وميدان الأوبرا، والجلوس فوق السطح، وتعالى الأذان من جامع الأزهر، وتمثال إبراهيم باشا، وعزف الآلات الموسيقية المترامي من النوافذ المفتوحة، ودقات المسامير في درب الطاحون، وجلسات القراءة في دار الكتب بباب الخلق.

لم تتصور أن الأردنية ميسون النداف تسافر — أول نهار الجمعة — إلى مدينة العين طلبًا للشفاء. ولي الله كعب الأحبار في طرف المدينة، عادت إلى البيت — آخر النهار — متعبة، روت عن نسوة كثيرات على باب الولي وحول ضريحه، يلتمسن فرج الإنجاب، ويُقدِّمن النذور.

تبدأ الكلام، يأخذها الاستطراد فلا تتوقف، ربما كررت المعنى بكلمات مغايرة. تجيد تقليد الآخرين، طريقة الكلام والتصرفات. لديها دائمًا مجموعة من الحكايات المسلية.

داخل هالة — ليلة العيد — حنين إلى أغنية أم كلثوم، واللمبات الملونة، وتكبيرات الجوامع، والسهر حتى الصباح في الشوارع المحيطة بالمناصرة، إلى ما بعد ميدان الحسين، وغناء الأولاد: بكرة العيد ونعيد، وندبحك يا شيخ سيد. تزداد حركة بيع الآلات الموسيقية في شارع محمد علي، ويضيق مقهى التجارة بأصحاب الأفراح والموسيقيين والمغنين والمقدم والمؤجل، وعزف الآلات وضربات القشاط.

رمقتها بنظرة غاضبةً: مَن تَكلَّم عن ابن الحلال؟

– كل بنت مصيرها الزواج.

– لا أحب هذا المصير، أنا راضية بحالي!

وزوت ما بين حاجبيها: لماذا لا تعرضين الزواج على صفاء؟

– الكبرى قبل الصغرى.

وهي تشير إلى نفسها: هل شكوت لأحد؟!

وشردت بعينين مغمضتين: الزواج آخر ما أفكر فيه!

– أتصور أحيانًا أنك ترفضين رأيي لأنه صدر عني.

تعمدت أن تكون لهجتها قاسية: ما أريده أن أكون نفسي، أرفض الوصاية من أحد.

أرهقتها عروض أمها بالزواج. يثيرها الكلام عن جهاز هالة، اقتراب موعدها مع الستر وتجهيز البيت.

هل الزواج مصير الأبناء، حتى لو رفضوا الفكرة؟

تظل مستلقية في السرير، تحدق في تكوينات النشع على السقف والجدران، تنصت إلى ترامي الأصوات المتصاعدة من الطريق، تعيد قراءة مجلة، تزفر: أف، تخرج إلى الصالة، أمها في جلستها التي لا تتبدل على الكنبة، تلمح تهيؤها للكلام، تعود إلى الداخل قبل أن تنفرج شفتا الأم.

صارت صفاء كثيرة النزول من البيت، تتذرع بالذهاب إلى الموسكي وسوق التلات لشراء احتياجاتها، غاب النزول لمحمد علي بانتهاء الدراسة، لم تعد تشتري الأقلام والكراريس والأدوات المدرسية، تمضي إلى ميدان الحسين، ترتجف شفتاها بابتسامة حزينة وهي تعبر جامع البنات، هل تنفذ نصيحة أمها: تنتظر — عند بدء الصلاة — في مؤخرة الصفوف، عند السجدة الأولى، تتسلل في المسافة الضيقة بين الجدار والمصلين، حتى الصف الأول، يتيسر لها الزواج بإذن الله.

الدكان الزجاجي يطل على الميدان، أرففُه ممتلئة بالعطور والعود وسيديهات القراء والوعاظ والإنشاد الديني.

هشت حسنة ذبابة ضايقها طنينها: لا شأن لهالة بوساخاتكم!

ثم وهي تضغط على الكلمات: كلموها عن مواصفات العريس الذي تطلبه.

اتهمت خالتها أم عطية الرقاقة شفاعات بأنها تتعمد إجهاد زوجها بما لا يقوى عليه قلبه المتعب، تثق أن الله جعل الشهوة في المرأة لإرضاء الرجل، ولأذيته إن أساء معاملتها. هي قوة سلحها بها الله لاجتذاب الرجل، أو لإنهاكه، فلا يجد نفسه.

قالت أم عطية: هل سيقوى على الاستمتاع بها؟!

قالت حسنة: لهذا توجد الصيدليات ودكاكين العطارة.

وتنهدت: حتى لو ضعفت قدرته، لا بد أن يجد ما يُرضي زوجته.

قالت الرقاقة شفاعات كأنها تستكمل نقاشًا: أريد الطلاق!

قالت أم عطية: الخلافات لها حل، الانفصال يزيد الخلافات ولا يحلها.

وهزت إصبعها: حل المشكلة بمواجهتها وليس بالفرار منها!

قالت شفاعات: للعلاقة بين الرجل وزوجته وضعها الطبيعي.

قالت أم عطية مهونة: من حق الرجل أن يستمتع بما يمتلك!

شكت إيقاظه لها في عز النوم، يصر على مضاجعتها. يدعوها إلى ارتداء بيجامته، قبل أن تصعد إلى جانبه على السرير، لا تنزعها وقت المضاجعة.

لم تتصور أن تحتل أحاديث الجنس تلك المساحة في بيت المدرسات. العراقية سعدية تكثر — أثناء القعاد أمام التليفزيون — من الاستئذان للتوجه إلى دورة المياه، همست — وهي تعاني ارتباكًا — أن كلمات الأفلام تثيرها، تغلق عليها دورة المياه لتهدأ.

الحنين، والعلاقات السوية والشاذة، وأفلام الفيديو، والقنوات الفضائية، والوصفات، والحقن المقوية، يطيل بها الرجال وقت الصحو في السرير، خيرية أبو الرضا، المدرِّسة بمدرسة شمساء، تتداخل في كلامها تعبيرات ذات إيحاءات جنسية، تروي — وهي تداري ابتسامة — حكاية امرأة قتلت زوجها بعد عودته من الخليج، ساعدها ابن عمها الذي نشأت بينها وبينه — في غياب الزوج — علاقة جسدية، أراد أن تستمر. تحدثت — في ابتسامتها — عن مدرِّسة طلب منها زوجها فرصة عمل في مسقط، ثم ألغى الطلب، أقام علاقة مع أخرى، سميت ثريا كونتيننتال لأنها لا تبدل تصرفها الوحيد؛ تجلس في القاعة الدائرية بفندق مسقط إنتركونتيننتال. النظرة التي تبادلها نظرة مماثلة. تبادل نظرات الخليجيين والأجانب، المصري يدفع عشرة ريالات تهلكني من أول الليل حتى الصبح.

صاروا جزءًا من حياتها، وإن كانت على ثقة أن الصلة ستنتهي عند عودتها إلى القاهرة، تطول الأحاديث عن الرسائل، والمكالمات، والأحوال الشخصية، هي علاقات أشبه بما يحدث في أماكن المصادفة، يأخذنا الكلام، تبين الصداقة عن ملامح واضحة، تضغط الأيدي، وتتكرر الإيماءات بأن ما نعيشه تواصل صداقة دائمة، لكن البعد عن المكان يمتص الوعود.

توافد الجيران إلى الشقة، من عرفوا بعودتها إلى القاهرة.

خالتها أم عطية تصمم بدل الرقص في بيت درب الدقاق، وتحمل تاريخ المناصرة في داخلها، زمن العوالم القديم، نظلة العدل راقصة الشمعدان، ونبوية مصطفى بأدائها المثير، وعبد العزيز محمود وشفيق جلال ومحمد رشدي وسمير سرور وشكوكو ومحمد العزبي وحسن أبو السعود. التقت — في حوش زوبة — نجيب السلحدار ويوسف كوهين وأحمد عدوية وصلاح عطية وسيد حنكش وكتكوت الأمير وضابط الإيقاع محمود حمودة.

استأجرت شقة في درب طاحون بالمناصرة، تجمع فيها بين الإقامة والعمل، جاوزتها عوالم المناصرة إلى الأحياء البعيدة. صممت بدل رقص لتحية كاريوكا ونبوية مصطفى وسامية جمال وزينات علوي وهدى شمس الدين وكيتي. لم تعد البدل تقتصر على التصميمات التقليدية، ابتكرت ما يحرض الراقصة على الإجادة، وعلى إبراز مفاتن جسدها، تعهد إلى متخصصة بتزيين البدلة بالترتر وخرج النجف والخرز. رفضت أن تفصِّل بدلة من قماش الاستريتش.

•••

التقت محفوظ سيد أحمد في ظل شاحنة هائلة، على ناصية تقاطع محمد علي وأرض شريف.

اكتفت بنظرة تساؤل.

كانت الشمس تتوسط السماء، الضوء ينكسر على زجاج النوافذ، الصهد يتصاعد من أسفلت الطريق، تمازُج الحر والرطوبة يجعل الجو خانقًا.

– أمس كانت آخر علاقتي بشركة الحديد والصلب، خرجت بمعاش مبكر.

واغتصب ابتسامة: أزمعت النزول في مولد الموبيليا، وتحويل الطابق الأول في البيت إلى معرض.

– تصر على مهنة بائرة؟!

هذه مهنة العائلة.

– لكل وقت أذان.

أشار بإصبعه إلى رأسه، دلالة أنه يفكر: السوق تطلب الأكثر متانة والأقل سعرًا.

ألقى بالسيجارة من يده على الأرض، سحقها بحذائه، وأضاف: الأكثر متانة يصنعه أسطوات المناصرة، والأقل سعرًا خسارة في المدى القريب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤