٧

سبقها إلى شارع محمد علي. خلف وراءه جامع منصور. دفعه اكتظاظ البضاعة خارج الدكاكين، وعربات الخضر والفاكهة، والأجولة والأقفاص وبقايا الطعام، إلى النزول للرصيف. لزم الجانب الأيمن حتى الممر الصغير، المفضي إلى شارع العطار، حتى مع شارع الأزهر. اخترق المساحة الصغيرة إلى داخل بناية السوق. أبطأت خطواته بين الأجولة والأقفاص وطاولات السمك والذبائح المعلقة والظلمة الشفيفة.

تلفت بعفوية وراءه، مال — من اليسار — إلى شارع الأزهر. ظلت خطواته على بطئها.

اعتادت الوقوف على ناصية شارع بورسعيد، أو أمام جامع البنات، تومئ إليه بنظرة متواطئة، وتواصل السير، فيلحق بها. يعرف أنه إذا رأتهما عين من المناصرة فلن يلتقيا، لن يؤذن لها بأن تخرج إلى العمل، أو تترك البيت لأي سبب.

يتجاوران في السير، دون أن ينظر أحدهما إلى الآخر، أو يبادله الكلام، كأنهما يمضيان في تيار المارة، جزء من حركة الطريق، منفردان، لا تجمعهما صلة، يسيران باندفاع الزحام، يتواجهان بالنظرات في الأماكن التي تنشغل فيها الأعين، أماكن لا تثير ريبة ولا شكًّا: زحام شارع الغوري، خان الخليلي، مولد الحسين، الشوارع الضيقة لسوق حمام التلات، يتكلمان دون أن يلتفت أحدهما إلى الآخر، يتفقان على مكان لقائهما، وموعده.

ربما تهيَّآ للقاء عند اقترابهما من الشارع الجانبي، الموصل إلى الجامع الأزهر، الوكالات مغلقة، وحركة السير ساكنة، يبادر بسعلة خفيفة، تتوقف خطواتهما، يميلان ناحية جدار البناية المصمت.

ماذا لو أن أحدًا من المناصرة شاهدهما في شوارع الحي، أو في الشوارع البعيدة؟ كيف تتغلب على ارتباكها؟ بماذا تبرر سيرهما — خفية — عن الأعين الفضولية، والمتسائلة؟

بعد أن خلفا الميدان الصغير وراءهما، مالت بجانب رأسها لتواجهه. أهملت ارتباكه البادي، لتكتم الارتباك في داخلها. يتلفت حوله، كأنه يطمئن إلى غياب من يراهما.

غالبت الخوف حين تركت موضعها على باب جامع البنات. استعادت قول خالتها أم عطية: لذلك سُمِّي جامع البنات.

اخترقت — بنصيحة أمها — صفوف المصلين وقت السجود، ثم عادت. يشغلها الأمل أن ينصلح حالها، ويتقدم لها الشاب الذي تريده.

أعادت ما قالته أمها: الفارس الذي يطير بها على حصانه موجود في الحواديت وحدها، الرجل الحقيقي هو الذي امتلأ جيبه، إحساس الأمومة له وقت، قد يضيع ما لم يظل في وقته.

اعتادت الملاحظات المشفقة، أو التي تنطوي على معايرة، عن القطار الذي يجري، وبيت العدل، والعوض، وابن الناس الطيبين.

قالت هالة: لماذا قبلت الزواج مِن فاروق؟ ولماذا تكتمين علاقتكما؟

أغفلت تعدد رؤيتها لهما في الفحامين والأزهر والتربيعة والغورية والحمزاوي والصاغة والموسكي وبوابة المتولي. يسيران متجاورين، لا تنظر ناحيته، ولا تكلمه، تحرص أن تتأخر خطواتها عن خطواته.

هزت صفاء رأسها: الأسئلة!

وغلبها انفعال: لم يعُد لأمي سوى إلقاء الأسئلة، إن كنت أوقعت ابن الحلال؟!

واختنق صوتها: الزواج فرصتي للخروج من البيت.

أردفت للدهشة في عيني هالة: بدأ إحساس أمي بالزمن من قبل حصولي على الدبلوم. إذا تأخر زواج البنت فهو كارثة.

أرجعت اكتفاء صفاء بشهادة التجارة المتوسطة، إلى قول أمها إن البنت التي لا تستكمل دراستها، أولى بها البيت، هي تريد البيت، الزوج والأبناء. لم تناقش شوقية سالم اعتزام صفاء استكمال تعليمها الجامعي. قالت عند عودتها من آخر امتحان للتجارة المتوسطة: كفى!

فسَّرت شوقية سالم الكلمة بأنها إن لم تعمل بالشهادة، فستلزم البيت.

رفعت صفاء رأسها، وفي عينَيها ما يدل على أنها اتخذت قرارًا: فاروق وافق على أن أحتجب، كما وافق على أن أظل في العمل.

رسمت هالة ابتسامة سخرية: لماذا يعترض؟ … الحجاب لتظلي حريمه وحده، والعمل لتشاركيه الإنفاق!

وهي تعد نفسها للسفر، فاجأتها صفاء في لهجة حيادية: سأحتجب.

رمقتها بعينين متسائلتين: ماذا تقصدين؟

– سأرتدي الحجاب.

– لماذا؟

– هل لا بد من سبب؟

نقرت رأسها: طقت في مخك؟!

– قرار اتخذته دون نصيحة، وسأنفذه دون نصيحة.

لماذا تبدل حالها؟

كانت أمها تخفي بدل الرقص عن نظرها، توبخها حين ترقص على نغمات تسمعها: عاجبك ما نعيشه من غُلب؟

هل ارتدت الحجاب قبل أن تتعرف إلى الشاب؟ أو أنه هو الذي نصحها بارتدائه؟

– مشكلة حجابك أنه سيغطي مخك!

– كنت تحبين يسري … لماذا لم يتقدم لك؟

– أنفق على استكمال تعليمه من العمل في ورشة عبد السميع.

– هو الآن صحفي معروف.

– أيامها، هو مجرد صنايعي!

لجأت هالة إلى التعبير بيديها: وهو … هل؟

وهي تخفض رأسها: لم يتزوج إلى الآن!

– هل أنهى تعليمه؟

– ورث الدكان من والده … ترك الدراسة قبل الثانوية ليقف فيه.

وجرت على أنفها بعصبية: تجارته لا تحتاج إلى شهادة.

أهملت ملاحظة هالة أن مجموع درجات تخرجها في التجارة المتوسطة يتيح لها استكمال دراستها في كلية التجارة. اكتفت بالقول: تعلمت كفاية.

– هل اشترط عليك الإسدال؟

– لم يشترط أي شيء!

– وقعادك في البيت؟

– هذا إلزام الثانوية التجارية.

وحدجتها بنظرة مستاءة: أنت اخترت مستقبلك … لماذا لا أختار مستقبلي؟

– تعتبرين حياة أهل الكهف مستقبلًا؟

وسرت في صوتها رنة تهكم: هل قبلت به لأنه يطلق لحيته؟

– فاروق متدين ومستقبله مضمون!

قلبت هالة شفتيها: بالبيع في كشك الحسين؟!

– الدين أحل التجارة.

أضافت بلهجة مَن تريد أن تنهي المناقشة: هو يرفض حياة العوالم.

– معايرة؟! نسي صاحبك أنه يعيش في حي العوالم.

– هل نحاسبه على سنوات لم يعشها؟!

ونفضت رأسها إلى الخلف، تزيح خصلة شعر من فوق عينَيها: أين العوالم؟ ومن يريد أيامهم؟!

ظلت صامتة، دون أن ترفع عينيها. أطلقت هالة أف طويلة: غسل الولد مخك وانتهى الأمر.

انتزعها صوت شوقية سالم من دوامة في رأسها: لماذا لا تعملين بالتدريس؟

لوحت يدها بالمفاجأة: لا أريد.

– لماذا؟

– الدخل الأعلى لن يتحقق في الحكومة.

وكست وجهها حدة: مرتب الوظيفة يضمن العيش بالكاد، أريد عملًا له إيراد حقيقي.

– أين هذا العمل؟

– لا يوجد.

قالت أمها: ما نابه من غربته إلا عوجة ضبته!

رمقت أمها بنظرة غاضبة، في جلستها على الكنبة، تدلي ساقًا وتطوي الثانية تحتها، تلتقط حبات السوداني من الطبق البلاستيك الصغير فوق الترابيزة. قد تنتزع بملقاط صغير شعيرات أسفل ذقنها.

كل ما حولها يدعوها لأن ترحل، إلى أين؟

بدا الزواج احتمالًا، وإن لم تجد من يغذي ذلك الاحتمال. شغلتها المذاكرة عن الاستجابة لإلحاح أمها، أو ملاحظة الإيماءات الداعية من شبان، المذاكرة أولًا.

قالت بصوت متراخٍ: سأنشئ لنفسي شركة.

لم تكن تعني ما قالت، مجرد الكلام الذي يصرف أمها عن الكلمات الموجعة.

قضت أعوامًا بين المذاكرة والتدريس والسفر. ماذا عن المستقبل؟ ما ملامحه، إن بدت له ملامح؟

خيرية أبو الرضا — زميلتها في بيت المدرِّسات — اشترت شقة واسعة في عباس العقاد، واعتزمت الحياة من عائد شهري لوديعة البنك.

تملكها اليأس من شراء قطعة أرض في المناصرة أو حولها، البيوت تسقط، تظل متجاورة، متساندة، متلاصقة، حتى يتهاوى أحدها فتشمل أوامر الإزالة بيتين أو ثلاثة مجاورة. يبني الورثة طابقا أرضيا تشغله ورش النجارة ومعارض الموبيليا، من أثمانها تبني الطوابق الفوقية.

لم تتصور أن ما ادخرته في سِنِي غربتها يأخذه التجار والسماسرة ومالكو العمارات، يتابعون ما ضيعت لادخاره أجمل سني حياتها، حين كتب موجه اللغة العربية — في دفتر تحضيرها — ملاحظات قاسية، تبعها بنصيحة أن تعني بعملها، داخلها شعور كالندم، لأنها تركت القاهرة.

قالت أم عطية: أنت عائدة من الخليج … أنت إذن تملكين ثروة.

ونقرت على جبهتها: تأخرك في الزواج ينطوي على ذكاء.

وغمزت بعينها: الآن تفاضلين بين الباشا والباشا!

قالت هالة مستغربة: سافرت للعمل، وليس للحصول على عريس.

لم تتصور أنها تركب الطائرة بمفردها، تنطلق إلى بلد لم تره من قبل، تمارس أول وظيفة بعد التخرج.

تظاهرت بالنظر من النافذة المستديرة، الصغيرة، وإن انكمشت في نفسها، وشردت في رؤًى غير محددة.

قالت شوقية سالم: تعملين هناك، وتكسبين، وتحصلين هنا على الزوج المناسب.

ورنت إليها بنظرة متسائلة: ألم تجدي عريسًا مناسبًا في الخليج؟

ثم وهي تعد على أصابعها: أمير مهم؟ مالك آبار بترول؟ السلطان نفسه؟ … جمالك في ذاته له قيمة!

لو كفت أمها عن الكلام، بدا ذهنها مشتتًا، ولا تحسن وصل الكلمات.

قالت من بين أسنانها: ذهبت لأعمل لا لأبحث عن عريس!

– إنها ثماني سنوات!

– أليس في بقك غير حديث الزواج؟!

طالت حيرتها بين عروض شركات توظيف الأموال وسماسرة البورصة ومقاولي الأراضي والعقارات.

قلبت في ذهنها بين العقارات والسياحة. رفضت العمل في تقسيم الأراضي، وبيع العمارات. عادت بمال يكفي مشروعًا، لكن العقارات تطلب ما لا تملكه. أهملت العمل في السياحة، ما تحفظه من مفردات الإنجليزية يصعب أن تُجري به حوارات في شركة زبائنها من الأجانب.

كل الاقتراحات اصطدمت بالمبلغ الذي أودعته البنك، لا بد أن تحصل على عائد، إلى جانب عائد المشروع؛ إنتاج دواجن، سيارة نقل صغيرة، تاكسي، قطع غيار سيارات، ميني ماركت، صناعة ملابس داخلية، مطعم، تبوير أرض زراعية، ثم بيعها بسعر أعلى.

حدثها حسين عكاشة عن الشركات التي لا تعرف البين بين، هي مضمونة الربح لارتفاع أرباحها، ولأنها مما لا يستغني عنها الناس؛ شركات المعاملات الإسلامية، المطاعم، المخابز، المدارس الخاصة، المستشفيات الخاصة، شركات النقل السياحي، شركات تقسيم الأراضي والإسكان.

قالت في حيرة: لم أعد بكنز علي بابا!

فكرت في أن تشتري ثلاث سيارات، تنقل الأثاث من المحال إلى البيوت، داخل القاهرة وخارجها. لم تكن قد فكت الوديعة التي ادخرتها من سِنِي عملها في السلطنة. اكتفت بالعائد الشهري، تنفق منه، تضرب الريال العماني أو الدولار في سعر التحويل، تبدو لها النقود المصرية كثيرة، فتتردد في تحويلها، الريالات العشرة التي قد تنفقها في يوم، يتسع إنفاقها لأيام طويلة، في القاهرة.

رفض حسين عكاشة عرضًا بأن تشارك في مصنع صغير للملابس الجاهزة، في العاشر من رمضان، أو ستة أكتوبر. يثق أن إنشاء الورش، أو مصانع الموبيليا الصغيرة، مما تضيق به طبيعة المرأة.

– صواب الرأي لا صلة له بما نملك من مال.

ووشى صوته بنبرة تحذير، أنها لم تشر إلى عودتها للمناصرة بما يعينها على مشروع تحسن اختياره.

قالت شوقية سالم: لو أن العوالم ظلوا كما كانوا … هل كنت تخجلين؟

ورفعت صوتها لتدفعه للإنصات إليها: كان ماضيًا … لماذا لا ننساه؟

تباطأت في سيرها أمام المكتبات في نهاية الشارع، تمتد أمامها البواكي المتهدمة، بلا طوابق تعلوها.

أشارت إلى بيت متهدم في جانب الشارع: ربما شاركت في شراء هذا العقار.

زوى عطية ما بين حاجبيه: تشترينه؟!

– سأبني «مول» مكانه.

أردفت للبسمة التي حاول كتمها: ماذا؟

– ذكرتني بإسماعيل يس عندما اشتري ميدان العتبة!

لامَها حسين عكاشة: هل تعرفين شيئًا عن التجارة؟ هل تعرفين الاستيراد والتصدير وأسعار العملات والودائع والتحويل والمكسب والخسارة والفاقد والمصاريف غير المنظورة؟

ورمقها بنظرة مؤنبة: أنت مدرِّسة، افتحي مدرسة خاصة!

ومضت الفكرة كحلم: لماذا لا تنشئ مكتبًا لتشغيل العمالة في الخليج؟

عرفت الكثير عن الكفيل وعقود العمل وقواعد السفر وتصريح العمل والتأمين والظروف التي يعيشها المصريون في دول الخليج.

دهشت لقول الجارة حياة النفوس إنها تفضل هجر الرقص، والبقاء في البيت.

هل نتوقف عن ممارسة الرقص فنلغيه؟

هل تشهد مهنة العوالم نهايتها في المناصرة؟

مثلما أن الفتاة البدوية تولد للرعي، فإن الفتاة في المناصرة كانت تولد للرقص والغناء وإحياء الأفراح. تبدلت الأحوال. اتجهت البنات إلى المدارس والجامعات، وإلى العمل خارج المناصرة، وخارج البلاد.

قال عطية: المناصرة أُولى ضحايا الانفتاح. بدأ الأغنياء الجدد في إقامة حفلاتهم داخل فنادق النجوم الخمسة.

لاحظت أنه تثاءب، دون أن يضع يده على فمه: راحت على العوالم والفرق النحاسية، البركة في شرائط الكاسيت!

نقل عطية ما قاله الشيخ علي متولي إمام جامع منصور في خطبة الجمعة: بيع الآلات الموسيقية حرام.

لحساب مَن يخطب الرجل؟ لماذا لم يتحدث عن الموسيقى والغناء والرقص؟ هل تناسى أن جامعه في حي العوالم؟

رفض عطية فكرة مكتب تشغيل العاملين في الخليج. هل يكفي أن يقيم المرء في الخليج بضع سنوات، ليتولى مسئولية تنظيم العلاقة بينه وبين من يتطلعون للعمل فيه.

– العمل الحر يعلق الدخل في الهواء.

ثم وهو يتفَرَّس وجهها: الوظيفة تضمن لك دخلًا.

ومط شفته في تصعب: لو أنك كنت في وظيفة قبل السفر ربما عدت إلى وظيفتك!

قالت: هذا صحيح، لم نكن نفكر في غير التدريس، نأخذ راتبًا جيدًا، وسكنًا مناسبًا، ووسيلة مواصلات مريحة.

علا صوته: هل سمعت عن فتاة، امرأة، مارست مثل هذا النشاط؟

في نبرة تشي باطمئنانها إلى صواب ما تفعله: كل شيء له بداية.

– ستكون بداية خاطئة، والفشل نهايتها.

وحدجها بنظرة مؤنبة: نصيحتي أن تتجهي إلى نشاط آخر.

فاجأها رأيه، فاجأتها الكلمات التي عبرت عن رأيه. تشعر في صحبته بالطمأنينة، تبوح بما يشغلها من أفكار وتصورات، يناقشها، ربما خالفها الرأي، تقتنع أو لا تقتنع، تتخذ قرارها من رأسها.

اقتحمها شعور بأنه يسخف ما اقتنعت به، ولا يناقشها، كمن اتخذ القرار، وعليها أن تُحسن الإصغاء، لم تتصور أنه يكلمها بهذه اللهجة الآمرة.

لم تلحظ، ولا جاء في باله، أنه يملي عليها ما يجب عمله، يضمر لها مشاعر تملي عليه كلماته، تطالعه المناصرة: شوارعها وبيوتها ودكاكينها، بما لم يكن رآه قبل أن تعود هالة، الناس والشوارع والأبواب والنوافذ والورش وروائح النشارة والبخور وتعالي الأذان من مئذنة سيدي منصور والكلمات الهامسة والضحكات.

قال أحمد تاريخ: الأسطى نعناعة تمتلك شقة حجرة وصالة في الطابق الثاني فوق زنكوغراف الترقي بشارع محمد علي.

وغلبت التقريرية على كلماته: حالتها سيئة، لكننا نستطيع تجديدها!

ما يؤلمها شعور الغربة بين السكان الجدد في المناصرة، يشغلون البيوت والدكاكين والمقاهي والشوارع المتقابلة، تغيب الملامح التي ألفتها والصداقات والمؤانسة.

اعتادت — في تنقلها بين غرف سكن المدرسات — أحاديث الغربة واللهفة والحنين الدائم إلى الأهل خارج السلطنة. لم يذهب بها التصور إلى أبعد من أنها ستجد مالًا في البلد الذي تسافر إليه، يتيح لها حياة غير التي تحياها.

تبينت — في لحظة — أنها وحيدة، في مدينة لا تعرفها، ولا تعرف ناسَها، وأن المناصرة بعيدة بما يصعب عليها تصوُّره. داخَلَتها مشاعر متباينة باليُتم والفقد والخوف، وتوقُّع ما لا تدرك طبيعته.

يشتد بها الحنين، تنادي على تاكسي من أمام بيت المدرسات، تمضي إلى السنترال في أرض المطار القديم.

تعاني قلق الانتظار. المناصرة كانت هناك، تبعدها بحار ومدن وصحارٍ وجبال وما لا تعرفه.

تكرر محاولات الاتصال حتى يترامى صوت أمها، أو صفاء، من بيت المناصرة، وصوت خالتها حسنة من بيت الوايلي، تضع سماعة التليفون — بعد دقائق المكالمة — وفي داخلها شعور أنها قد غادرت القاهرة حالًا يلفها الإحساس — وهي تهبط إلى الطريق — كأنها ما زالت في القاهرة، وأن الاتصال التليفوني أعاد العد إلى رقم الصفر، يتنامى الحنين في الأيام التالية، يتزايد حتى ترفع سماعة التليفون، وتدير رقم البيت في المناصرة، وفي الوايلي. تكرر التصرف على فترات متقاربة، قبل أن تُعِدَّ حقائبها لقضاء الإجازة في القاهرة.

لم يعُد يثيرها أن تتعرف إلى مَن لا تتذكره، من لا تعرف أنها التقت به مِن قبل، تُفاجأ بمن يعرفها. يضيف إلى نظرتها المتسائلة: أنا فلان … حملتك بيدي وأنت طفلة.

عرفت الانتقال إلى الأماكن البعيدة داخل القاهرة. أجادت التعرف إلى الطريق من تقاطعات الشوارع، وواجهات البيوت، وأرقام الأوتوبيسات. يحركها ميل — تشعر به — إلى المغامرة.

لم تَعُد تلجأ إلى عطية، تسير بمفردها، أو تستقل الأوتوبيس، ربما نادت على تاكسي، يعلو صوتها — في ثقة — باسم المكان الذي تقصده، ما يشغلها أن تكون الشخصية التي تريدها، تفعل ما لا يفرضه عليها أحد. نحصل على النقود لنرفض الملاحظات والتوجيهات والأوامر.

– لا أريد الوظيفة، أفكر في مشروع صغير، أنفق عليه … وعلى نفسي.

قال عطية: محل للأدوات الموسيقية.

– الدكاكين المماثلة أغلقت أبوابها.

– ينتظرون العوالم … اقصري بضاعتك على ما يطلبه السياح، بدل رقص وأعواد وطبول للزينة.

هل العرض كي لا تبتعد عن المناصرة؟

وهي تميل من سكة المناصرة إلى درب الطاحون، شاهدت حركة أمام دكان خاطر الحانوتي. شكاير الأسمنت ورصات الطوب وقطع الرخام وبلوطات الخشب. وشت بما خمنت أنه عملية ترميم.

رد خاطر السلام، وقال لنظرة هالة المتسائلة: قلنا نشارك في المولد.

ثم وهو يضحك: الجميع تحولوا إلى باعة موبيليا … نفعل مثلهم!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤