٨

رأته في وقفته خلف البنك، في الورشة. ثَمة رائحة نشارة الخشب، تطغى على ما عداها، البنوك الخشبية، لصق الجدران، السراق يقطع الألواح، تمتد إلى أرض الطريق، انشغل الأسطوات والصبيان بتشطيف الخشب بالفارة، تسوية أسطح الأثاث بالسنفرة، وتنعيمها، تحريك الغراء في الأوعية الحديدية، خرط أرجل الكراسي ومساندها، وصل أجزاء قطع الأثاث بالمسامير، واللصق، وثمة المبارد والمطارق والقواديم والمخارز ومتر القياس والمناشير والأزاميل.

آخر رؤيتها للأسطى حكيم، قبل أن تسافر. طرأ تبدُّل يصعب تحديده، لعله ما تسلل إلى ملامحه من تجاعيد، والشحوب في الوجه، والذبول في العينين، تخللت نشارة الخشب شعر رأسه، تناثرت على وجهه وملابسه، بدت بشرته أقرب إلى الصُّفرة.

فاجأها بالقول: هل عدت إلى الوظيفة؟

– أفكر في العمل الحر.

في دهشة: معرض موبيليا؟

– عمل لا يضايقني فيه الناس!

تأمل يدَيها: لك أظافر طويلة … لماذا لا تخمشين بها من يحاول مضايقتك؟

التقط نظراتها تجول في الورشة: وحدك؟

ألقى بقايا السيجارة على الأرض، تأمل اشتعالها، ثم داسها بقدمه: قلَّ الزبائن، لم أعد في حاجة إلى صنايعية.

قال إن الموبيليا الجاهزة هي السبب في أزمة الصنايعية بالمناصرة. لم يعد الزبائن يقبلون على البضاعة الحاضرة. يستوردها التجار من دمياط، لا يشغلهم متانتها ولا ذوقها، يحرصون على السعر الأقل. غاب عن الحي آلاف النجارين والكرسجية والأويمجية والقشرجية والأسترجية والمذهباتية والمنجدين.

زوت ما بين حاجبيها: لماذا لا تتحول إلى تجارة الموبيليا؟

وشى صوته بسخرية: أفضِّل تجارة العملة.

صمت فجأة، كأنه تنبه إلى ثرثرته بما لا ينبغي قوله، استطرد لنظرتها المستغربة: ربحها يستحق هذا الخطر.

لم يكن يقبل في ورشته إلا ما يوافق ذوقه وموهبته، هو فنان، يرفض تسمية الأسطى أو الصنايعي، يرفض أن يُعطِي فنه إلا لأشغال محددة، يرفض ما يسميه عمليات الترقيع كإصلاح الكراسي والكنب البلدي والدواليب والصناديق، يصنع حجرات النوم والسفرة والأبواب والشبابيك. حتى خشب الخرط يجيد التعامل معه، يشكله على الهيئة التي يريدها، يعيب من يستخدم أشجار السنط والجميز والتوت، يستخدم — بكميات أقل — خشب الزان والسويدي والبياض، ربما استخدم أخشاب السنديان والصنوبر والأرو والساج، يرفض التعامل مع خشب الشجر أو الصناديق، هذا ما يحتاجه نجارو السواقي والطبالي والدكك.

يقتصر على الماهوجني، الورد، الزان، البلوط، الموسكي، الشقارة، الأبنوس، الأرو. كلها مستوردة وغالية الثمن. يتردد بين مغلق الخشب في بولاق، وماكينات الخرط في داخل المناصرة، وفي خان الخليلي، ربما أضاف إلى الأرو قشرة ورد، أو قشرة عين الكتكوت، يشرف بنفسه على عمليات تذهيب الأثاث، والتطعيم بالعاج والأبنوس، والزخرفة بالسدايب، الطاولات من الرخام الفينو، والمرايات بلجيكي.

يتقن صناعة منابر المساجد والأبواب والنوافذ والمشربيات، يشتري قطع الموبيليا المستعملة، يعيد إصلاحها وطلاءَها، يعرضها خلف الواجهة الزجاجية للدكان، يصنع الأطباق الخشبية المنقوشة، والأدوات المنزلية كالمغارف والأوعية.

– ورش كثيرة تستخدم السلوتكس.

أردف للتساؤل في عينيها: كرتون مضغوط تغطيه الفورمايكا.

استعاد نبرة السخرية: لعل الموبيليا الصيني هي الحل … شكلها جميل، ورخيصة.

ثم وهو يحك ظهر يده: تجار المناصرة يعرفون الفارق بين المصري والصيني، المصري إن انكسر تعالجه، خشب حقيقي، أما الصيني فترميه في الزبالة، خشب مفروم.

ما يصنعه يختلف عن سلق المناصرة، كلها بضاعة للسوق، يرفض استخدام المسامير في الموبيليا، يقصرها على العاشق والمعشوق، ولصق الغراء. يستطيع تحويل أية قطعة خشب إلى تكوين جميل، تحفة تسُرُّ العين لرؤيتها، يبيع ما ينهيه لمعارض الأثاث في وسط البلد.

– عندما أغلقت قهوة النجارين على ناصية حارة العوالم أبوابها، عرفت أن نهاية ورش النجارة بدأت!

وتحسس نعومة قطعة الخشب: الزبون لا يشتري طبق فول، هذه موبيليا يستخدمها طول العمر.

وبتر ضحكة قصيرة: ستين مقاس ولا قطعية منشار.

أدار وجهه ليعطس، ثم أردف قائلًا: التدقيق مطلوب.

يجيد صناعة الأبواب والشبابيك والأسرة والطاولات والصناديق. يختار قطع الخشب المجردة من العيوب، يعيب على أسطوات في المناصرة وقوفهم بالساعات داخل المغالق، يختارون الأخشاب المعرقة، المليئة بالعقد، من أشجار السنط والجميز، يقلبون في كومات المخزون الذي أصابه التسوس.

يعرف الفرق بين العقد الصلبة التي تشوه، والتعريق الذي يُضفِي على سطح الخشب تكوينات جميلة، يحتفظ في المخزن الملاصق للدكان، بقطع من خشب الجوز، أفضل ما يصنع منه العود، يظل الخشب في موضعه ما يقرب من السنوات العشر، عملية تجفيف ضرورية، قبل أن يبدأ في تجهيز ظهر العود، أو القصعة كما جرت التسمية.

هل كانت قبل سبعة أعوام تتخيل ما صار إليه إيقاع الحياة في المناصرة والشوارع المحيطة بها؟

لم يعُد سكان المناصرة في حاجة للسفر إلى الخليج كي يتعرفوا إلى الدولار والإسترليني والفيديو والمحمول والدش، قلبت تجارة، الموبيليا حياتهم، نشطت حركة البيع والشراء، واتسع الرواج في المعارض المتجاورة على جانبَي الشوارع الرئيسة والجانبية.

عرفت من أحمد تاريخ ما حدث.

أرجأت الكلام حتى تملك القلق تصرفات صفاء، انتظرته أول شارع الأزهر، أمام جامع السبع بنات، في انحناءة سوق التلات. نظرت إلى الدكان من الرصيف المقابل، انتظرت حتى انتهى رنين التليفون، كأن الأرض انشقت وابتلعته. لاحظت انعكاس القلق على تصرفات صفاء، حتى أمها تطلعت إليها في حيرة يمازجها خوف.

قالت في لهجة مشفقة: فاروق في حجز قسم الجمالية.

تخلت عن انتظارها له، فطنت إلى التوقعات المقبلة.

أشار إلى تمثال صغير في مدخل الدكان لقروية تحمل جرة: هذا التمثال … التجسيد حرام.

قال صاحب الدكان: عندك تمثال إبراهيم باشا … لماذا لا تهدمه؟!

فاجأ الجميع بما حدث. هوى بقطعة حديد على التمثال، تناثر التمثال قطعًا على أرضية الدكان. قال إن ما فعله هو لنصرة الدين.

قال أحمد نبوي إن الشاب دخل — من قبل قسم الموسكي — شكا التماثيل العارية في محال وسط البلد: هذه تماثيل عارية، حرام أن تعرض للناس في دولة مسلمة.

وُلِد في المناصرة، أمه راقصة، وأبوه عازف عود. دفع حجرة أبويه ذات صباح وهتف في أمه التي لم تكن أفاقت من النوم: تعرية الجسد ليست فنًّا!

لزمت صفاء حجرتها وحيدة، لا تغادرها إلا لدورة المياه. قاسمتها هالة الحجرة، قبل أن تسافر إلى مسقط.

يعروها إحساس بأنها تريد أن تكون وحدها، تختلي بنفسها، لا تتكلم مع أحد، حتى خروجها لتناول الطعام على طاولة السفرة، يطول إلحاح أمها قبل أن توافق.

قالت لأحمد تاريخ: لماذا تترك شقتك مفتوحة؟

– ربما لا يفطن أحد إلى موتي إن ظلت الشقة مغلقة.

وخفض عينيه ليخفي تأثره: أعرف أني سأموت وحيدًا.

بدأ انشغالها به لمَّا اختفى من المناصرة. لم تعد تراه في محمد علي ولا الشوارع المحيطة، حتى قهوة التجارة غاب عن الموضع الذي ألفت رؤيته فيه. زارت شقته في أرض شريف، عرفت أنه يسكنها من قبل أن تزال سراي محمد شريف باشا، وتتحول إلى حي أرض شريف الحالي.

عادت دون أن تضع في بالها خططًا للمستقبل، التدريس هو العمل الذي مارسته بعد تخرجها، لكنها الآن لا تريده، ولا تريد الوظيفة، الحضور والغياب والإجازات والتقارير السرية والجزاءات ومكافأة نهاية الخدمة.

تلفتت حولها، تبحث عمن يشير عليها بما يجب أن تفعله. تناست أمها الحرص على الأسئلة وإبداء الملاحظات، تناست حتى ميلها إلى المرح والفكاهة وإلقاء النكت. حدقت في أبيها، بعد أن غادر صمته، وكلمها عن مشروع باستعادة ما كان لعماد الدين وروض الفرج من مكانة فنية، محمد علي هو الأولى باستعادة الزمن الجميل. استغرقت صفاء في دنياها الخاصة، امتد تأثير الإسدال، فشمل حياتها. قصر عطية انشغاله في الدكان، حتى نصائحه حاصرتها بالضيق، لم يعُد ثمة ما يقوله أحدهما للآخر.

تاريخ بنظرة مستاءة لما نادته: عم مرهون. رمقها أحمد.

– هل نسيت اسمي يا هالة؟!

روى عم مرهون عن سِنِي إقامته الطويلة داخل أبواب مسقط: الباب الكبير، الباب الصغير، باب المثاعيب. أحكمت تطويق المدينة، يقتصر دخول المدينة منها، حياة قاسية، وإن بقي في نفسه ما يؤنسه استعادته. روى العجوز عن الحياة أيام السلطان السابق: الأقدام وسيلة السير، يليها ركوب الجمال والحمير، الممنوعات كثيرة؛ لبس البدلة، ولبس الحذاء، وبناء البيت من الحجارة، أو الأسمنت، حتى الصفير أو الدندنة في الطريق يدخل في إطار الممنوعات، وارتكاب الممنوع يفضي إلى السجن، قصر بقاء المرأة داخل البيوت، عدم الخروج عقب صلاة المغرب، تتعالى دقات النوبة من قلعة الميراني، يعود الجميع إلى بيوتهم حالًا، من تأخرت به العودة يحمل فانوسًا بمفرده، أو يسبق من خلت أيديهم من الفوانيس، يستأذنون حراس الأبواب الثلاثة، يفتحون الباب الذي يغلق مع دقات النوبة، تستمر حركة السير إلى منتصف الليل، ثم تغلق الأبواب، من يلح في الدخول يأذن له الحراس، يودعونه الحبس — لصق البوابة — حتى طلوع الصباح. استعاد الشيخ سِنِي منع السفر إلى الخارج للدراسة أو للعلاج، مَن يغادر قريته فإن عليه أن يودع أهله، فرض تصريح — من السلطان نفسه — بالتنقل بين مناطق البلاد.

قالت الأردنية ميسون لعم مرهون: الأولى أن تكون القائمة للمسموحات، ما عداها ممنوع.

يستعيد السنين الفائتة كذكريات جميلة، لا تشغله الأيام القادمة، وما تحمله. قدم من نزوى — أوائل السبعينيات — ليحرس البيت في أثناء إنشائه، ثم بعد أن قدمت المدرسات. الدشداشة على جسده نظيفة دومًا، يعوج وضع العمة على رأسه، يطل من تحتها شعر أبيض، وصبغ ذقنه بحناء أقرب إلى الحمرة، عيناه صغيرتان، ماكرتان، كأنهما اندفستا في الوجه، تفاحة آدم بارزة في عنقه النحيل، إن خلع أسنانه تداخلت وجنتاه، وصعب فهم كلماته.

عبَّر أحمد تاريخ — في كلمات متباطئة — عن إحساسه بالتعب، حركته تعاني البطء. ينتابه الألم إن جلس، أو وقف، أو حاول المشي، ألم حاد ينخر في فخذه، ربما تصاعد إلى وسطه، يسند رأسه إلى موضع الألم، ويتأوه.

– أمس، كنت طفلًا … وفي اليوم التالي، هذا اليوم، أدركتني الشيخوخة!

وفاضت ملامحه بالأسى: لم يعد الزمن زمني!

لاحظت أنه يستعيد الكلمة، أو العبارة، أكثر من مرة، عرفت أن سمعه ثقيل، لجأت إلى رفع صوتها: أريد أن تعيد إلى محمد علي أيامه الجميلة.

ظل صامتًا بوجه ساكن، ثم رفع عينَين تفيضان بالتأثر: الرقص الحقيقي اختفى، ما نراه الآن هز بطن. مَن تستطيع أداء رقصة الشمعدان؟!

وشى صوته بالحسرة وهو يتحدث عن شوقية سالم في عزها، كل أعصابها وخلاياها تتفاعل في أداء الرقصة، اختلفت عن رقص كاريوكا الباهت، واكتفاء نبوية مصطفى برعشة البطن.

طافت على المكان بنظرة دائرية: السقف مرتفع، تتدلى من منتصفه لمبة وحيدة. النشع احتل مساحات من الجدران، الأرضية الخشبية تخللتها ثقوب سوداء، وشقوق، السرير المعدني في زاوية الحجرة، يقابله مكتب صغير، تعلوه مرآة مستديرة، مهشمة، يسبح في المكان اختلاط روائح البخور والمعسل والتمباك، جعل من الكرسي الخيزران — إلى جانب السرير — شماعة يعلق عليها ملابسَه، استبدل بزجاج أحد مصراعي النافذة كرتونة نتيجة بلا أوراق.

التقط نظرتها المشفقة إلى ورقة الجريدة فوق الطاولة، عليها أرغفة خبز وأطباق فول وطعمية وسلاطة وباذنجان مخلل.

وهو يغالب الحرج: عانيت كثيرًا بعد أن أغلقت قهوة التجارة.

وبلهجة واشية بالألم: اعتدت البقاء فيها إلى ما بعد الفجر.

– القهاوي كثيرة.

قطبت حاجبَيها في محاولة للتذكر: توجد قهوة المشير.

– لي في قهوة التجارة أصدقاء.

صمت لحظة، ثم استدرك قائلًا: أطيل السهر حتى لا أظل في هذه الحجرة.

وران على صوته تخاذل: أدخلها عندما يغلبني النوم.

كان أبوه — نبوي أبو إسماعيل — عضوًا في فرقة حسب الله القديمة. لأنه يحب رواية الأحداث في المناصرة وشارع محمد علي وميدان العتبة والمنطقة المحيطة، سماه رواد قهوة التجارة «أحمد تاريخ». هو راوية التاريخ في الأحداث التي عاشتها المنطقة منذ أوائل القرن. ما شاهده الناس، وما سمعوا عنه، وما يتعرفون إليه للمرة الأولى. ما يبدو قابلًا للتصديق، وما ينسبونه إلى هواجس الخمر وضباب الكيف.

له خبرة واسعة بالملاهي الليلية وسهرات العوالم وأماكن الأفراح وغُرَز المخدرات. يجلس على قهوة التجارة من زمان منشئها اليوناني، وانتقال ملكيتها إلى صاحبها المصري هشام سليمان مزهري. يعتز بأنه جلس إلى زكي مراد والد ليلى مراد، في قعداته على قهوة التجارة.

لم يكن الرواد يملون أحاديثه عن المقامات: النهاوند، والحجاز كار، والبياتي، والسيكا، والرست، ولا حكاياته التي لا تنتهي عن عوالم وراقصات الزمن القديم؛ أسما الكمسارية وزوبة الكلوباتية ونبوية مصطفى، والأفراح والليالي الملاح والأدوار الطقاطيق والموشحات والألحان والمواويل والأشعار. يواصلون وضع أكواب الخمر الصغيرة أمامه. يدفع بها إلى حلقه، حتى يلطشه السكر، وتنفك عقدة لسانه. يتكلم ويتكلم، جعبته لا تفرغ من الحكايات والطرائف والنوادر، لا يشغله إن لم يستمع إليه أحد. يتحدث عن مقامات الربع تون، وعن الفرق بين أنغام البشرف واللونجة والدولاب والسماعي والبلبل، والنوبات الأندلسية بداية من التوشية، وانتهاء بالخلاص، بينهما الكرسي والبطايحي والدرج والانصراف. ربما يثقل عليه الشرب، فيغني. يفتح عينيه، ليجد نفسه مُلقًى على الأرض في شارع جانبي، أو في مدخل بيت، أو لصق جدار. أيقظته ذات صباح حركةُ المرور في ميدان العتبة. وجد نفسه على الجزيرة التي تتوسط الميدان، قبالة مركز المطافئ.

لم تضع تصوُّرًا، أي تصور، لمستقبلها. النقود تسيل من بين يديها، دون أن تفعل بها شيئًا حقيقيًّا، ما تطمئن به إلى المستقبل.

لاحظت أنه يبذل جهدًا في انتقاء الكلمات المناسبة: افتتاح مكتب يحتاج إلى فرقة عوالم.

وفي لهجة معتذرة: لم تكن تُفارِق جيبي قائمة بكل الفرق التي تُحيِي الأفراح.

وشى صوتها بإشفاق: لا أتكلم عن العوالم.

واغتصبت ضحكة: العوالم راحت عليهم!

هز رأسه مؤمِّنًا على قولها: قبل أن تزول دولة العوالم كنت الواسطة في قهوة التجارة بين العوالم وأصحاب الأفراح.

وبدت الكلمات كأنها تتساقط من فمه: اختفت حارة العوالم لأن العوالم أنفسهم اختفوا.

وشوح بيده: زمان انتهى!

عمل «صييتًا»، مهمته إظهار الإعجاب بالآهات والعبارات المستحسنة، والتصفيق الذي يحرض بقية الأيدي. أحب منيرة المهدية لصوتها الجميل، سمعها في حفل زفاف بالحسينية، تبعها في كل الحفلات التي غنت فيها، يطلق الآهات وصيحات الإعجاب، ظنه أصحاب الأفراح مطيباتيًّا للمهدية، يحسبونه على الفرقة في تناول الطعام وتوزيع الإكراميات.

تصر الأسطى على أن يكون طعام المرافقين لها — وإقامتهم إن كان الحفل في مدينة أخرى — على نفقة أصحاب الفرح. تعتز بأنها مطربة مزاجية، تغني ما تريد غنائه، لا ما يطلبه الجمهور طردت أعضاء فرقتها الموسيقية، لاحظت أنهم ينشزون عن اللحن الأصلي.

قد يعيب على المغني أنه لا يحسن الانتقال من مقام إلى مقام، ينقصه تعلم أصول الغناء، ربما لاحظ على المغني أن صوته من طبقة واحدة.

لما قال حسين عكاشة في نبرة إعجاب: في صوت هذا المغني بحة تعجبني!

واجهه العجوز بنظرة ساخرة: هذا تأثير الحشيش يا مغفل!

وحين رأى عازفة الرق لحيمة الجسد، قال في تلقائية: أجدر بها أن تكون ضاربة طرمبيطة!

يجد نفسه في موالد آل البيت، حلقات الذكر والإنشاد الديني، ودقات الطبول والدفوف، سهرات رمضان بسرادقات حي الحسين، ومولد النبي، وموالد السيدة زينب والسيدة فاطمة النبوية والسيدة نفيسة والسيدة عائشة، وحفلات عقد القرآن والزفاف وحفلات الختان والسبوع، معظمها يعتمد على الابتهالات والتواشيح. حاول تقليد مونولوجات شكوكو وإسماعيل يس والجيزاوي، يضيف إلى مقاطعها نكاتا التقطها من جلساء قهوة التجارة. ربما انضم إلى بطانة الشيخ الشرقاوي قارئ مسجد الشيخ منصور في سرادقاته بموالد البدوي والدسوقي والمرسي أبو العباس. لم تكن الموالد تنتهي في شياخات الموسكي الست: المناصرة ودرب المهابيل والعشماوي ودرب البرابرة وكوم الشيخ سلامة ودرب الحنفية. اعتاد البحث عن حفلات الختان، وعقد القران، والزفاف. تجول قدماه في شوارع القاهرة، يتنقل بين سرادقات الأفراح والبارات والساحات، يتردد على ملاهي وبارات وجه البركة وروض الفرج وحديقة الأزبكية وكازينوهات الهمبرا والبوسفور ونزهة النفوس وألف ليلة وليلة.

رتيبة أحمد هي أول من يذكر من مغنيات الصالات، استمع إليها قبل منيرة المهدية وأم كلثوم وفتحية أحمد، ربما سبقنها، لكنها أطربت بأغنياتها رواد الملاهي بوسط البلد.

يتحسس جرحًا قديمًا في جبهته، أحدثته ضربة كرسي في معركة تراشق بالكراسي. هدد البلطجي جاد الرب بتقفيل الفرح ما لم يحصل على فِردة. اعتبر الأسطى مهدي صبرة والد العروس رضوخه للفِردة إهانة، فرفض. ارتفعت الكراسي، هبطت على الرءوس والصدور والأكتاف، تعالى الصراخ والصياح، وتهاوت الأجساد، وانبثق الدم. غادر مستشفى القصر العيني، بعد أن أسكت جرح الجبهة بست غرز.

لحق أواخر أيام فرقة حسب الله، الطبلة تتدلى من عنقه على صدره، يرفع العصا، ينزل بها، يمسكها قبل أن تلامس الطبلة، يلامس المزمار بشفتيه، هذا ما يفعله معظم أعضاء الفرقة، عدا أربعة: طبال حقيقي، عازف طرومبيطة، آلة منفاخ، آلة نحاسية.

لم يلحق الفرقة في عزها، بدأت أيام الخديوي عباس، أحد عشر عازفًا على الآلات النحاسية والطبل المحلي والنقرزان، عزف أمام السلطان فؤاد — الملك فؤاد فيما بعد — والملك فاروق، يحفظ — حتى الآن — السلام الخديوي القديم: أفندينا دخل الديوان … والعسكر ضربوا له سلام.

روى عن توقف موكب الملك فاروق وجمال عبد الناصر لمفاجأة عزف السلام الوطني بآلات فرقة حسب الله.

طالت وقفتها أمام صف البنات، على جانب طريق السلطان قابوس، يلوحن بأعلام السلطنة، ترقُّبًا لقدوم ملك السعودية.

نطقت الملامح بالتعب، وتدلت الأيدي مسترخية.

وهو يشير إلى الصورة المعلقة على الجدار: سعد الشريطي مطرب محمد علي.

وعلا صوته في تأكيد للمعنى: يستحق أن يكون مطرب هذا الزمان.

ووشى صوته بالأسى: ظل محل أسطوانات كولومبيا بسليمان باشا يسجل أغنياته، حتى ظهرت الشرائط فأغلق أبوابه.

وهز راحته: مِنُّه لله عبد الوهاب!

روى عن مؤامرات محمد عبد الوهاب لمنع سعد الشريطي من أن يحصل على فرصته. غنى مرة وحيدة في واحدة من الإذاعات الأهلية. لم تتكرر دعوته للغناء، واكتفت الإذاعات الأخرى بما لديها من مطربين. قال رومة العازف في فرقة حسب الله إنه شاهد عبد الوهاب في مكتب مأمور قسم الموسكي، في اليوم التالي اقتيد الرجل إلى القسم بتهمة النشل. أمضى أربعة أيام بلياليها، ثم عاد إلى فرقة حسب الله واحدًا من عازفيها.

تقلصت الفرقة، صار معظم أفرادها من لابسي المزيكا، ضاقت به الحال، فرضِيَ بارتداء المزيكا، يُدني من شفتَيه مزمارًا يتظاهر بالنفخ فيه، يتظاهر بضرب الطبلة، يضمن — في نهاية السهرة — عشاءً به لحم، ومبلغًا يُنفَق على وجبتين أو ثلاث، وربما اشترى علبة سجائر. واجهت الفرقة — فيما بعد — منافسات الراديو والفونوغراف وفرق الآلات الغربية وفرق الموسيقى الشعبية وأولاد عبد السلام. اقتصرت الفرقة على مَن يعزفون بالفعل.

يهز كتفيه لقول رواد قهوة التجارة إنه لا يفهم الموسيقى الغربية، ولا يحاول فهمها. أخذه الربع تون والبشارف، فنسي أن الموسيقى الحقيقية تختلف عما سمعه. يحب الآلات الموسيقية الشرقية؛ الناي والقانون والعود والطبلة والرق. المقامات الشرقية تطريب؛ الرست والبياتي والسيكا والصبا والحجاز، أما الموسيقى الغربية فتعبير.

يبدي ضيقه بالآلات التي تستخدمها الفرق الجديدة: الجيتار، البيانو، الأورج، الدرام، الجيتار الإلكتروني، الإكسيليفون، هي آلات زاعقة. عاب انجراف المغنين وراء موسيقى اللحن، يرددون الكلمات مغناة، دون أن يتنبهوا إلى المعنى الذي تحمله.

وهو يقلص ملامحه تأثرًا: كانت آخر حفلات أم كلثوم نهاية عصر من الفن الجميل.

قالت مداعبة: والآن؟

– صراخ بلا معنًى!

وتغيرت ملامحه بالأسى: راحت أيام الطرب.

أضاف وهو يعبر بيديه: المغني الذي لا يجيد القفلة، أولى به أن يبحث عن مهنة أخرى!

– أنت — في رأي عطية — تعتبر الألحان الجديدة إساءةً لفن الموسيقى!

ودارت ابتسامة: قال إن آخر ما تعترف به ألحان عبد الوهاب القديمة، وربما أغنيات السنباطي لأم كلثوم!

ارتعشت أرنبة أنفه، انبجست فيها قطرات عرق.

– أنا من جيل السهر لسماع أم كلثوم، هذا الزمن لألحان السندوتشات.

استعادت ابتسامتها: لكن الأذن لم تعد تتحمل التكرار والرتابة والملل، الإيقاع السريع بديل لإيقاع الزمان القديم البطيء.

وهي تضغط على شفتها السفلى كأنها تمضغها: لم يَعُد السهر يطول، كان يطول في سماع الأغنيات، لا بد للأغنية أن تقصر.

قال في هيئة مَن لم يُصغِ إلى كلماتها: كان المطرب زمان مطربًا فقط، يقف ليغني. نحن الآن في زمن المطرب الراقص أو الراقص المطرب … لا يغني قدر ما يرقص! وقال: أغنيات هذه الأيام ينقصها السلطنة! وقال: إنهم يعزفون على آلات تحدث صوتًا، ولا يقدمون طربًا، الطرب تجده في ألحان سيد درويش وداود حسني وزكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي. وقال: رياض السنباطي هو أعظم عازف على العود في تاريخ الموسيقى الشرقية، يجيد التحكم بالريشة في عزفه.

– وفريد الأطرش؟

– يصلح للبس المزيكا وراء السنباطي!

يرى أن عبد الحليم حافظ كان نهاية رحلة، أخذت معها حتى الأصوات التي كانت تجد في عبد الحليم منافسًا شرسًا، وقال: جواب السيكا، ذروة إمكانات الصوت البشري. تعلو طبقات الصوت، وتخفت، وتمتد، وتقصر، وتداخلها بحة.

– مِن حق عوالم محمد علي أن يستردوا صيتهم القديم. راح عبد الحليم وجيله، ويبقى عدوية ونبيلة السيد وشفيق جلال وغيرهم من أبناء محمد علي.

وهز راحته في تأكيد: عبد المطلب هو الأستاذ الحقيقي لمحمد رشدي ومحمد العزبي وشفيق جلال وعشرات غيرهم.

رسمت على شفتَيها ابتسامة واسعة لتشجعه على مواصلة الكلام.

مصمص شفتَيه: مسكين … لم ينَل حقه.

ومسد صدره براحة يده: لو أني صرت مغنيًا ما كان نافسني أحد.

يعتز بأنه أدخل تعديلات لحنية على أغنيات لمحمد رشدي ومحمد عبد المطلب وشفيق جلال وسيد مكاوي وحلمي أمين، جميعهم أكلت كراسي المقهى من أبدانهم، يحتفظ في جيبه بصورة متآكلة، وهو يجالس يحيى حقي على قهوة التجارة، عيناه تتجهان إلى الكاميرا، وعينَا حقي تتأملان المكان.

إحراق الأوبرا — أُحرِقت بفعل فاعل — هو أسوأ أيام حياته، أسوأ حتى من نهاية العوالم، وصعوبة لقمة العيش، قطعة من جسدي احترقت، قتلني احتراقها دون أن أملك دفعًا للنيران، مَن لم أستطع مشاهدتهم في مسارح عماد الدين وروض الفرج، شاهدتهم في الأوبرا، أسماء لها وزنها: أم كلثوم، فريد الأطرش، جورج أبيض، يوسف وهبي، زكي طليمات، أحمد علام، وغيرهم.

ظل على ارتدائه بذلة العمل السوداء، وياقة القميص البيضاء، يطيل جلوسه في مقهى التجارة. تلجأ عوالم المناصرة إليه لسد النواقص في حفلات الزفاف: عازف قانون، عازف كمان، ضارب طبلة، أو رق، مطيباتي. تردد على قهوة أم كلثوم بالتوفيقية، أخفق في أن يكون متعهد أفراح وموالد. وضع في جيبه قائمة بالأسماء والأجور والعناوين والفقرات، لكن الظروف بقيت على حالها.

أخذت الأيامُ عوالِمَ المناصرة ومحمد علي، لم يعُد يحتكم على ما يشتري به قوت يومه، اعتاد التنقل بين بارات محمد علي وشارع الألفي وسليمان باشا. يسمح له صاحب كل بار بكأس واحدة. لا يشترط مشروبًا محددًا، مجرد أن يبل ريقه. يعرف مواعيد البارات، ما يغلق أبوابه في منتصف الليل، وما يظل مفتوحًا إلى الصباح، يواصل الشرب حتى تدور الدنيا في عينيه، يحس جسده خفيفًا يعلو فوق المكان، والنشوة تجتاحه، تدفعه إلى فعل ما لا يتوقع هو أن يفعله.

آخر الليل، يعود إلى حجرته. يكتفي بنزع حذائه، قبل أن يطفئ النور، يتمدد على السرير، ويروح في النوم.

تنبه على صيحات الأولاد وهم يضربونه، ويجرونه من بذلته، اتسخت، وتمزقت. تحول كتفاها إلى مزق. لم يتمالك نفسه من تأثير الشراب، مالت المرئيات، اعتدلت، تكورت، استطالت، انبعجت، تشابكت الملامح واختلطت.

خذلته ركبتاه، فسقط، تخلص من أيديهم، زحف على يديه ورجليه، زحف بطول جسده حتى بلغ الرصيف، استند عليه، بكوعيه، وجلس. فسَّر أبوها احمرار وجه أحمد تاريخ الدائم بإدمانه الخمر، تبكُّ في وجهه.

رآه حسين عكاشة.

لاحظ الأولاد اهتزاز مشية أحمد تاريخ، خمنوا سُكرَه، قذفوه بالحجارة. لما تطوحت ساقاه في السير، عرف الأولاد أنه أسرف في شرب الخمر، قرن سيره بالدندنة والغناء والتصرُّف بغير المتوقع.

أدرك حسين عكاشة أن أحمد تاريخ لا يقوى على التحرك من موضعه. وضع يديه تحت إبطيه، ورفعه: ماذا تفعل هنا؟

وهو يتلفت حوله: أين أنا؟

– قلل من السكر يا عم أحمد!

– لا شأن للسكر بما حدث.

أردف وهو يغتصب ضحكة: نمت على علقة لا أذكر ظروفها … ثم صحوت الآن!

حاولت هالة — في انتظارها لأبيها على ناصية محمد علي — أن تخمن ما حدث، لكن الزحام الذي شكل دائرة أخفى ما يتوسطها. لم تعرف أن أحمد تاريخ هو مصدر الزحام، هو الذي استدعاه.

تبدلت تعبيرات وجهها وهو يستعيد — بتلقائية — ما فعله الأولاد.

تصيدت الفرصة لتسأله: هل هو عشقك القديم للتمثيل؟

– الأولاد ملاعين!

– حرضتهم بإدمانك!

وهزت إصبعها محذرة: لم تعُد صغيرًا يا عم أحمد، إن تكرر ما حدث، لا تترك البيت! ووشى صوتها بلهجة مداعبة: ألم تنضم لنقابة الموسيقيين يا عم أحمد؟

– فتحت النقابة باب العضوية وأغلقته دون أن أعرف!

وهو يربت صدره: تأخذينني؟!

هتفت بعفوية: أنت؟!

ولان صوتها بلهجة معتذرة: عملي لا شأن له بالموسيقى والغناء.

– لا يهم … أقضي المشاوير … أقف على الباب …

وهي تربت كتفه: ربنا يفعل الخير!

شعر أنه تسرع بما لم يتدبره، التقط انفعالها الوامض، وإن سكت عن الرد، تملكته — في الأيام التالية — حيرة: هل يعتذر لها؟ وماذا لو أنها لم تفطن إلى ما يغضبها؟ يغادر الدكان إلى معهد الموسيقى بشارع رمسيس، ربما أمضى وقتًا في أكاديمية الفنون، تظل خواطره مشدودة إلى شقة درب الطاحون، إلى الحجرة المطلة على الدرب، لا يتخيلها في هيئة محددة، وإن بدت له حزينة، غاضبة. استعاد قصة لتشيخوف، توهم الموظف أنه أساء إلى رئيسه في العمل، حين عطس في قفاه. أهمل الرئيس توالي اعتذاراته، لكنه واصل الاعتذار في لقاءاتهما حتى نهره الرجل، عاد إلى بيته ذليلًا، تمدد على فراشه، ومات.

هو يحب هالة، لا بد أنها تعرف ذلك، لو أنه أومأ إلى المعنى السخيف، فستصفح، تعفو، تظل علاقتهما على توثُّقها.

كيف يلتقيان، ماذا يقول أحدهما للآخر؟

خطر له أن يراقبها ليعرف أين تذهب. يتمازج التوقُّع والتمني في أن يراها في سكة المناصرة، أو في الشوارع المفضية إليها. يعيد النظر في مفردات حركة الطريق: الدكاكين، مداخل البيوت، محطة الأوتوبيس، عربات الباعة، سور الأزبكية، بناية المسرح القومي، فاترينات أحمد حلاوة، معرض ويلسون الحلواني، محل بريموس بواجهته العريضة، واللافتة الممتدة بالمساحة نفسها.

بدا في علاقتهما ما لم يكن لاحظه من قبل، ما دفعه إلى استعادة البدايات القديمة، وصلها بما طرأ عقب عودة هالة إلى حياته، وتصورات المستقبل. كأن الأعوام التي سبقت عودتها فترة انحباس، لم يتخيَّل ردود الأفعال، ولا أعدَّ نفسه لها، تأخذ الرعشة جسده في توقعه أن خيالها هو ما يراه خلف ستارة النافذة، ارتباكه عند جلوسهما، اتجاه عينَيه إلى الشرود فلا يواجه نظراتها، ما لم يكن يشعر به، حتى في ترددهما على شوارع وأماكن خارج المناصرة.

التقاها في تقاطع سكة المناصرة وشارع محمد علي، تظاهر — عند قدومها — بلقاء المصادفة، صافحها، وسار — في صمت — إلى جوارها، ضبط إيقاع خطواته فلا تتقدم أو تتأخر.

حاول أن يفض ما بنفسه، يقول شيئًا مما يشغله من علاقتهما، لكنه لزم الصمت، اكتفى بالسير إلى جوارها، يتابع بجانب عينه اتجاه نظراتها، وإن كانت تلتفت ناحيته. يتوقع أن تشتبك نظراتهما في لحظة، يعقبها فعل من أي نوع: تحية، سؤال، ملاحظة …

هذا التغير في تصرفاتها، والذي يصعب تفسيره. كمن تلبستها روح متمردة، لا تريد أن تفارقها، ويتعذر ترويضها.

حدس أن ما تعيشه انعكاس للتغيُّرات التي دخلت حياتها في الفترة الماضية. لم يتغير ظنه أنه لا يزال من الممكن استمرار علاقتهما. أكثر ما يشغله في الحياة هو: كيف يستردها؟

استقبلته في البيت، يسلم على خالته، يجلس إليهما في الحجرة المطلة على سكة المناصرة، يتبادلون الكلمات، أو يلفهم الصمت. يتمنى لو أن اللحظة تجمدت، لا تتحرك، لا شأن له بالدنيا في الخارج، يشعر أنه قريب منها، يعيش دفء اللحظة. تداخله نشوة لمجرد أن يلتصق كتفه بكتفها، أو تلامس أصابعه ظهر يدها، أو ساعدها.

قالت أم عطية: أحببت العيش معنا.

رفعت أمامها قبضة مضمومة: أنا لم أسافر حبًّا في السفر، ولا بحثًا عن المال.

احتضنتها أم عطية بنظرة مشفقة: أمك تريد مصلحتك.

في نبرة حاسمة: أعرف.

تتكلم مع خالتها، تأخذ وتعطي، تستعيد أيام السلطنة، تتحدث عن المستقبل، لا تلتفت ناحيته، كأن حضوره لا يعنيها.

حين يخلو إلى نفسه — ليلًا — في حجرته، يستعيد طيفها: عينيها اللوزتين، شعرها الأسود المنسدل إلى كتفَيها، شفتَيها الرقيقتَين، أنفَها الدقيق. يناجي الطيف، يأخذ منه ويعطي، يوضح لها ما يعانيه فتُظهِر فهمها وتأثرها، يقفزان من النافذة إلى أجواء — يتخيلها — من العذوبة والسحر، يتنقلان بين الطريق الصاعدة إلى القلعة، وبواكي محمد علي، وزحام شارع الأزهر، وساحة الحسين، وباعة كتب سور الأزبكية، وشوارع وسط البلد.

هل تُظهِر الملامح ما يحرصان على إخفائه؟ وإلى متى هذا الحرص؟ هل تقبله زوجًا؟ هل ترضى مَن يتقاضى العاملون معها رواتب أعلى من راتبه؟ هل تفطن خالته إلى ما يعانيه؟

تقاربت زياراتها له في هدأة الليل، تلزم جلستها على طرف السرير، ترنو إليه، وتحكي، تختلط حكاياتها بما قرأه عن الحياة في مسقط، بما كان يحرص — أثناء سفرها — على قراءته في الإنترنت والفيسبوك والتويتر.

كنت أنتظرك كل تلك السنوات، لكنك عُدتِ فتاةً أخرى غير التي كنت أنتظرها. تتحدثين عن شراء الشقة، وحجز السيارة، وإيداع النقود في البنك، وعن الستائر والنجف والموكيت وما ينبغي فعله لتعويض أيام الغربة.

اشترى من سور الأزبكية كتابًا في الرسائل الغرامية. أخفق في اختيار الكلمات التي تعبر عن حبه. فضل أن يحاول الالتقاء بها، يكلمها، يصارحها بمشاعره، تبدي اهتمامًا، يواصل البوح. يلوح الضيق في ملامحها، فيبتعد، ينسى الأمر، كأنه لم يكن.

لاحظت الارتباك الذي لا يستطيع السيطرة عليه، حين يزور البيت، أو يلتقيها مصادفة. يراقبها، يكتفي بالنظر. أومأت له كي يتكلم، لكنه ظل صامتًا يغالب الحيرة. لم يعرف كيف يبدأ، نسي أن يدير — بينه وبين نفسه — ماذا يقول لها، وبماذا ينتظر أن ترد عليه. زارته — في أحلامه — مرات كثيرة، التكوين الجسدي، الملامح التي ألفها، أطياف يسهل نسبتها، ومضة خاطفة، كلمات يعرف صاحبتها، وإن لم يعرف مصدرها.

لمحها — ذات صباح — في فنجان القهوة، عاود النظر، لكن الومضة اختفت.

– هل ستظلين في المناصرة، أم تنتقلين إلى حي آخر؟

– سأشتري سيارة … لو سكنت آخر الدنيا أكون قريبة من المناصرة.

يشعر أن شيئًا ينقصه بدونها، يفتقدها، يغمض عينيه على صورتها، لا يستطيع أن يبعدها عن مخيلته، تظل في باله.

ربما افتعل مشوارًا يخترق المناصرة، من محمد علي أو إليه، يتجه إلى درب الطاحون، يُمنِّي النفس بأمل رؤيتها تطل من النافذة، تدعوه فيلبي، يكتشف خطأ تصوره، أو يعاتبه فيعتذر، ينتهي عذابه.

يرى خيالات تتحرك من خلف النافذة المضاءة، الجسد الفارع لأبيها، أمها ممتلئة الجسد، حتى صفاء — برغم امتلائها — يختلف تكوينها الجسدي عما يراه خلف النافذة. يغالب تردده في الصعود. يضايقه أنها تسأل وتجيب وتناقش وتنظر، دون أن تلتفت ناحيته، كأنها لا تحس به، كأنه ليس موجودًا.

يعيد طرح ما يجري على نفسه، ما يجعل من الصداقة أمرًا متاحًا، أو ضروريًّا. القرابة، والنشأة الواحدة، وتواصل العلاقة، حتى بعد عودتها إلى القاهرة: التمشِّي في الشوارع، التردد على دور السينما والكازينوهات والمطاعم.

لماذا اهتز ما كان ثابتًا؟ ما الذي رفع القضبان من مكانها؟

لا يعرف ما ينبغي عليه فعله كي تعود إليه، يستعيدان علاقتهما القديمة. يتمنى أن يجد القدرة التي تمكنه من أن ينظر في عينيها، ويصارحها بما في نفسه.

يبحث عن الجرأة في داخله، يهم بمصارحتها، لكن الحاجز — الذي لا يراه — يحول بينه وبين الفعل.

لم يكن متأكدًا ما إذا كانت تبادله الشعور نفسه الذي كان يعانيه، هي ترد على أسئلته بأجوبة غامضة المعنى، تكتفي بالبسمة المحايدة، الغامضة.

يحرص — إن مرت به — على ابتسامة تملأ وجهه، ينتظر كلامًا، أو حتى إشارة أو إيماءة. تتظاهر بأنها لم تره، وتواصل السير.

لو أنه رآها فسيتجاهلها. تعرف أنه هو، وأنه رآها، تبادله التجاهل نفسه، كأن أحدهما لا يعرف الآخر، ولا التقى به من قبل.

تعمد ألا يلتقيها حتى لا تلتقي أعينهما، اعتاد التهرب من رؤيتها، فلا يخضع لتأثير نظراتها.

تجنب السير في شوارع المناصرة، يخترق شوارع أخرى تفضي إلى محمد علي، أو الأزهر، أو ميدان العتبة.

حرص — هذه المرة — على أن يواجهها، يحدق في ملامحها، يقاوم رغبة في أن يلمس بشرتها، يدها، خدها، عنقها، يمسد شعر رأسها.

لاحظت نظرته المتسللة، فابتسمت، لما تلاقت الأعين اتجه بنظرته — مرتبكًا — إلى الناحية المقابلة. توقع أن تنادي عليه، تقف، أو تبطئ، تسلم، تسأله عن أحواله، يجرهما الكلام إلى ما يشغله. يعروه الإخفاق لإدراكه أنها لم تلحظ محاولاته كي يلفت نظرها.

هي أجمل شيء في حياته كلها.

تمنى لقاءها، يحكي لها معاناته، وما بداخله من أسئلة، آلمه — حين التقيا في بيت خالته — أنه لم يكن أعدَّ ما يقوله، لفه الارتباك، وظل صامتًا.

لو أنها تبقى جانبه، لو أنها تزوره في الدكان، وتطيل وقفتها، لو أن الجمود البادي — في الحياة داخل بيت المناصرة — يتيح له زيارتها.

تمنى أن يفعل شيئًا، أي شيء، يجتذب نظرها، تطلق صيحة الدهشة، أو الإعجاب، تناوشته الفكرة، لكنه لم يستطع تصور الفعل الذي يرضيها، تبدو منشغلة بما تكرره في كلامها.

لم يعد لديه قدرة على مقاومة ما يشعر به ناحيتها. يأخذه التمني، فيفعل لها — في تصوره — ما لا يقدر عليه أحد، تعلو يداه إلى السماء، تنزلان بالنجوم، ينثرها تحت قدميها. أزمع أن يبوح بما يعانيه، وإن بدا الأمر صعبًا، يمنعه الخجل من أن يبوح بمشاعره. تتحرك الكلمات في فمه، تكاد تلتصق بحلقه، لكنه يعجز عن نطقها.

ردت تحية مَن لا يعرفه. لامها — بينه وبين نفسه — كيف تكلم من تلقاه في الطريق، سائرًا، أو جالسًا على باب دكان، أو مطلًّا من نافذة. خشي — لو أنه صارحها بما يضايقه — أن ترفض تدخُّله في حياتها.

زاد ابتعادها عنه في الفترة الأخيرة، وتتحاشى الكلام عندما يكونان بمفردهما. تتصرف بما يشي أنه لا يلفت انتباهها، ولا تلحظ وجوده.

لم تعد تنظر ناحيته، كي لا تواجه عينَيه، إن تكلمت لا توجه إليه كلمات من أي نوع، لا تخصه حتى بنظرة يشعر معها بتوثُّق علاقتهما.

شعر أن العفوية غابت عن تصرفاتها، وبدت كلماتها محسوبة. يسأل نفسه قبل كل لقاء، وفي أثنائه: كيف يتصرف؟ كيف يبدأ الكلام معها؟ ماذا يقول لها؟ هل يسأل أو يكتفي بالإجابة عن أسئلتها؟ وإن بادرته بسؤال: بماذا يرد عليها؟ هل ينظر إليها، أو إلى ما لا يتبينه هو نفسه؟

حين يدخل الشقة، يبحث عن عينيها، ترتد نظراته حين تلحظ اتجاهها، يداهمه ارتباك. يلاحظ تبدُّل ملامحها، كأنه يخشى أن تغضب لرؤيته. فات أوان كان كل منهما ينظر للآخر بنظرة تخصهما، وتلغي الآخرين. تتصنع عدم الانتباه، أو الشرود، فلا تعطي الفرصة لعينيه كي يثبتان عليها.

سألت عن عطية ليلة عودتها إلى المناصرة، كان تصورها أنها في حاجة إليه، مثلما هو في حاجة إليها، ثم تبينت — فيما بعد — خطأ التصور. أدركت أن مشاعرها إزاءه غير مستقرة.

قالت لأمها وهي تعد نفسها للخروج: أنا مشغولة لحد عدم التفكير في الزواج.

داهمها — في كلماته المتعثرة — شعور بالمفاجأة.

لا تتصوره زوجًا.

ألفت نظراته الحانية، والكلمات التي لا يلغي ما قد يتخللها من الحدة إشفاقها، واللمسات العفوية من يده، حتى عندما كان يحتضن يدها في عبور الطريق، لم يكن يضغط عليها بما يلفت انتباهها.

لا تأخذ عليه معنًى ما، ولا تكرهه. البساطة في كلماته وتصرفاته تبعد التصور عن المعاني التي تعرفها، وترفضها، التقت أصحابها في المناصرة ودار العلوم والوايلي ومسقط، أومئوا بدعوات مضمرة وإشارات وتلميحات، قالوا كلمات صريحة. لم يصدر عن عطية شيء من ذلك، لكنها لا تشعر تجاهه بأي مشاعر، لا تتصوره حبيبًا ولا زوجًا، لا تتخيله في علاقة حسية، ولا تتخيل أنه يلامسها على أي نحو. حرصت على أن تضع مسافة بينها وبينه. لم تكن مشاعرها عدائية بقدر ما شغلها أن توضح له طبيعة العلاقة بينهما.

أراد أن يقول شيئًا، خذله افتقاد لسانه. أطال التحديق في وجهها، كمن يستوعب ما يصدر عنها من انفعالات، لمح في عينيها ما يشجعه على الكلام.

– إما أن توافقي على عرضي بالزواج، أو لا يرى أحدنا الآخر.

أضاف في لهجة تذكيرية: تعاهدنا على الزواج.

لا تذكُر أنهما تعاهَدَا على أي شيء. فتحت عينيها على الدنيا لتعرف أن عطية ابن خالتها، يثيرها تصوُّره أن ارتباطهما أمر مفروغ منه.

– تعرف أني أكبر منك بثلاث سنوات؟

نكس رأسه، وزم على شفتيه: لو أنك وافقت فلا مشكلة.

المسافة بينهما اتسعت، لا يسمع أحدهما الآخر، وقد لا يراه جيدًا. جعل كلٌّ منهما نفسه في جزيرة منعزلة، لا صلة لها بالجزر الأخرى من حوله. هي لم تكن قريبة منه ذات يوم، ولا عرف هو على نحو حقيقي، مشاعره لم تتبدل، لكنه أخفق في أن يعيد، تعيد، علاقتهما إلى ما كانت عليه. يهم أن يحدثها عن مشاعره، لكن لسانه يقف في حلقه.

وهي تُغالب إحساسًا بالارتباك: أنت إنسان طيب، لكنك لن توافق أن يكون مرتبك كزوج أقل مما تكسبه زوجتك.

ثم بجرأة لم تتوقعها في نفسها: أظلمك وأظلم نفسي لو قبلت الزواج منك.

وأحست بالملل، وعدم الرغبة في الكلام: أنت بالنسبة لي أخ، لا أشعر نحوك بغير عاطفة الأخوة!

عرف أنه لن يصل في حبه لها إلى شيء، لن تقابل النظرات المتحيرة بغير الصمت واللامبالاة، وربما التسخيف إن جاوزت النظرة حد الإيماء، لا سبيل إلى ردم الهوة الواسعة التي تفصل بينهما.

أزمع أن يكتم حبه، حب صامت يصعب التعبير عنه بالكلمات. يؤمن أنهما خُلِقا ليحب أحدهما الآخر، ضبط نفسه، وهو يردد اسمها.

تملكه الشك أنه ربما يفقدها في عملها الجديد، لم يشغله الأمر عند سفرها إلى مسقط، ولا حين إقامتها في بيت خالته بالوايلي، ولا ابتعادها الطويل عن المناصرة. لم يزايله الاطمئنان في أنها ستعود ذات يوم.

هذه المرة فرض الشك نفسه بما لا يستطيع إغفاله، لم تبتعد عن الحي، وإن تبدَّل شيء فيها، ربما تعبيراتها أو حركاتها، والملاحظات، والآراء الساخطة، والانزواء فيما تحجبه.

نظرت إليه.

لم ترَ فيه — للمرة الأولى — سوى النظرة العاجزة، ربما لامس عاطفتها نحوه، لكنه أهمل النظر إلى أبعد من المناصرة، المناصرة حياته.

– ما أريده أن تتركني في حالي.

حدجته بنظرة مستغربة، لغياب رد فعله على كلماتها، وأعرضت بعينَين غاضبتَين، تنظران إلى نقطة بعيدة: سنظل أولاد خالة … لكن صداقتنا انتهت.

وأشاحت بيدها في إنهاء للمناقشة: كيف تتزوج وأنت لا تملك إيرادًا ثابتًا؟

أحست أنها لم تعُد تحتمل، وأن عليها أن تصارحه بما في نفسها، مشاعرها الحقيقية. تُنهي الموقف على أي نحو. يضايقها أنه جعل من مسئوليته مراقبتها وملاحقتها، وإشعارها أنه مسئول عنها. لاحظت افتعاله المشكلات، وتصيُّده الأخطاء، مهما كانت عفوية أو تافهة. لم تعُد تعنيه أسئلتها المعلنة، ولا مشاعرها.

حسمت الأمر، شعرت براحة لأنها أظهرت ما حرصت على إخفائه، لم يعُد يشغلها إن أغضبته برأيها، تستطيع أن تتصرف كما يحلو لها، لا تتلقى ملاحظات، ولا أوامر، ولا تقدم تنازلات.

تهيأ لهذه اللحظة، وإن شعر كأن شيئًا ما — لم يستطع تبينه — قد انكسر في داخله، ما أحزنه أنه — حين جاءت — لم يدرِ كيف يتصرف. أدرك أنه لم يعُد لديه — في مواجهة كلماتها القاسية — ما يقوله. فسَّر الأمر بأنها لا تعاني ما يعانيه. أسلمت نفسها لدوامة العمل، لا تهبها وقتًا للتلفت.

قال ليستثير مشاعرها: أعرف أني لم أعُد زوجًا مناسبًا.

ثم في لهجة متذللة: أقسى شيء أن تحب إنسانًا لا يحبك!

أطلقت أففف طويلة: لا تدفعني إلى رفع صوتي!

لم تستوقفها الكلمات، ولا أغضبتها، ما أثارها حرصه أن يكون في الصورة التي لا تريدها، يلح في تأكيد المعنى، والاعتذار.

آن لهذه العلاقة أن تنتهي.

ظل في وقفته، يأمل في كلمة أو إيماءة، لكنها اخترقت الزحام، غابت فيه.

لا يعرف إن كان سيراها ثانيةً، أم أنها لن تعود إلى حياته.

حين كلمها أحمد تاريخ عن مجدي مخيمر، فطنت إلى أنه لاحظ ارتباكها، زكَّاه بشركته التي لا يقتصر نشاطها على الاستيراد والتصدير، يمتد إلى كل ما ينمي المال.

تفحَّصته بجانب عينها: القامة الطويلة، البشرة السمراء اللامعة، الفكان العريضان، الشارب النحيل كخط فوق الفم. يضع عطرًا نفاذ الرائحة.

تعددت الصفات التي قدم بها الرجل نفسه: أستاذ في دراسات الجدوى، عضو مؤسس في وكالات دولية، خبير في المؤسسات العالمية الأجنبية.

عهدت إلى أحمد تاريخ بالوقوف على باب المكتب الخارجي، حدست أنه غير قادر على أداء أي عمل آخر. لم تكن تثق في قدرته على التصرف، واتخاذ القرار الصحيح.

قال أحمد تاريخ: الزمن دوار … كنت أقف أمام قهوة الست منيرة المهدية نزهة النفوس … الآن سأقف أمام شركة محترمة!

اكتفت بالجلوس وراء المكتب في الحجرة الوحيدة. ترتدي فستانًا واسعًا، ياقته منشاة، وأكمامه تصل إلى رسغَيها. تحيط رأسها بإيشارب رقيق، غطى شعرها وعنقها وأعلى كتفيها.

قصرت تعاملها على الشركات التي تطلب جماعات من العمال والموظفين، يرهقها الأفراد الباحثون عن فرص العمل. تغيظها النظرات التي تعكس رغبة في الحصول عليها، لا الحصول على عمل، هي أنثى، وهو رجل، شاب، ما عليه إلا أن يطيل التحديق في عينَيها!

لم تعُد تتوه في شوارع الحي ودروبه وأزقته. أضافت التعرف إلى النواصي والمسارب والبنايات، والجالسات في مداخل البيوت، والأخشاب المكومة أمام الدكاكين، والوجوه التي اعتادت إطلالها من النوافذ، وروائح الكارينا والغراء والأستر ونشارة الخشب. وصلت ما كانت قد ألفته — قبل سفرها — بالملامح الجديدة، هي ما تسير بجواره الآن، ولا تلقى غربة.

تصورت الأمر سهلًا حين أمسكت أوراق الاستبيان، وبدأت في طرق أبواب الحمرية، تسأل عن الاسم، والمهنة، والحالة الاجتماعية، والإيراد الشهري، وغيرها من الأسئلة التي ملأت ثلاث ورقات، تسلمتها كما تسلمها مَن وافق على المشاركة في عمليات الاستبيان من المدرسات. ارتفاع المكافأة أغراها بالقبول.

بدا الأمر سهلًا، كل ما عليها أن تُعنَى بشقة أحمد تاريخ، وبتأثيثها، وتترك بقية الخطوات لمجدي مخيمر، يتولى — بما تحدث به عن نفوذه — تيسير فرص العمل في الخليج.

قال حسين عكاشة: التعامل مع التلاميذ يختلف عن التعامل في السوق.

تأملت نصيحة مجدي مخيمر أن تفتح مكتبة لبيع الأدوات المدرسية، وبطاقات التهنئة، والمفكرات، والنتائج، وأوراق الزينة.

وهو يزكي فكرته: المشروع — ولو كان صغيرًا — أفضل من الإيداع في البنك.

وارتفع صوته بالتحمس: تصوري بعد عشر سنوات ماذا ستكون عليه القيمة الفعلية لنقود هذه الأيام؟!

رفعت رأسها، رأت عيناه مشدودتَين إليها.

قال كالمتنبه: لماذا لا نضارب في البورصة؟

استوقفتها نون الجماعة في عبارته.

– لم أدخلها.

فوت الملاحظة: من يحسن المضاربة يجني أرباحًا هائلة!

أضاف بنبرة ذات معنًى: إذا توافر المال، فإن كل شيء يصبح سهلًا.

حكى عن تجار موبيليا في المناصرة، استثمروا نقودهم في البورصة، حققوا ثراءً أغناهم عن تجارة الموبيليا.

وفاجأها باحتضان يده أصابعها: الطرق الحقيقية في التجارة تنتهي إلى البورصة.

وهي تسحب أصابعها من ضغطة يده: معرفتي بالبورصة لغز لم أحاول أن أفهمه!

ثبت على فمه بسمة استخفاف: الاقتصادي الشاطر فرصته هنا أفضل من الخارج.

عرض عليها ما لم تتصور أنها تفعله. تخلف مبنى البورصة وهي تمضي من شارع طلعت حرب إلى شارع قصر النيل، لم تحاول تصوُّر ما بذهنه، هزت رأسها برفض الفكرة، وهزت رأسها لفكرة أن تشتري هدايا خان الخليلي، ومعروضات دكاكين الأنتيكات في شارعي هدى شعراوي وقصر النيل. رفضت أفكارًا أخرى بشركات لا تعرف أنشطتها، وجدت في مكتب التشغيل ما يدعو إلى التأمُّل، جربت السفر، وتعرفت إلى مَن كانت مكاسب التشغيل واسطتهم.

لماذا لا تجرب؟

قالت كمَن حسمت أمرها: كيف؟

فكرت في أن تعمل بالاستيراد والتوكيلات، تقرأ في الصحف «الوكيل الوحيد»، لماذا لا تكون وكيلًا وحيدًا لبضاعة ما؟

قفز إلى ذهنها أن تفعل مثلما كان يفعل حمود نصيب كفيل العمال بمسقط. يستقدم العمال من الهند وبنجلاديش والفلبين، يعطي العامل ما حدده له من أجر، ويحتفظ بالباقي. هذا هو عمله، هذه هي حياته. فكرت في الأمر، لكنها تنبهت إلى أن الكفالة مهنة شخص آخر، مكانه في مسقط وليس القاهرة. عرفت مشكلة الكفيل، عمله الوحيد استخراج الكفالات للوافدين، كفيلها وزارة التربية والتعليم. ظروف سفرها تختلف، لا مكاتب للتسفير، أو تشغيل العمالة، التقت اللجنة العمانية، وسلمت أوراقها.

كتب مجدي مخيمر وهو يعلو بصوته، عن شركة «النجوم الخمسة لتوظيف العمالة» — هو الذي اختار الاسم — لتوفير تأشيرات الزيارة، والتأشيرات التجارية والسياحية لدول الخليج.

بدا كمن يبحث عن الكلمات، ثم أضاف: «يُسعدنا خدمتكم، لا تترددوا في الاتصال بنا.»

المكتب في الطابق الأول من بناية بشارع بورسعيد. الباب يُفضي إلى صالة، فرشت أرضيتها بالموكيت، وعلى الجانبين كراس من الجلد، ينتظر فيها المترددون على المكان. غرفة المكتب في المواجهة، وإلى يمين المدخل طرقة طويلة، تُفضي إلى المطبخ ودورة المياه.

صحبها أحمد تاريخ إلى مكاتب العمالة، تصعد إلى الطابق الذي تشير إليه اللافتة، يسألان، هو الأب، وهي الابنة، يتعرفان إلى طبيعة العمل، منذ كتابة العقود حتى تسلم تذكرة الطائرة.

أتاح لها التنقل بين السفارات والإدارات الحكومية، استعادة ما تذكره من العيش خارج مصر، صور الحياة في عمان هي التي تقفز إلى ذاكرتها؛ الجبل الأخضر، القلاع، الأبراج، سوق السمك بمطرح، شارع نور الظلام، الطريق الصاعد إلى المدينة القديمة، الأفلاج، أبواب مسقط الثلاثة، جامع قابوس، مرتفعات القرم، حي اللواتيا، الوادي الكبير، سينما عمان بلازا، دوار الوطية، قرية صيادي سداب، الرقصات في ساحة ريام.

حاولت أن تكون سيدة أعمال حقيقية، لا تكتفي بالجلوس وراء مكتبها، لكنها تستقبل الزوار، تناقشهم، تشارك في ملء استماراتهم، تشير عليهم بالعمل المناسب. طبعت الكثير من الكراسات والكتيبات وأدلة الخطوات وأوراق الدعاية. ترددت على السفارات والقنصليات والفنادق وشركات الطيران وشركات السياحة.

فاجأها بالسؤال: لا بد من صلات بعملاء المكتب.

قال أحمد تاريخ: طالبو الوظائف على قفا من يشيل.

قال مجدي: هؤلاء طرف. مهمتنا هي البحث عن الطرف الآخر، الشركات التي ترحب بالعمالة!

ثالث يوم، أشرف بنفسه على وضع الشانون المعدني في زاوية المكتب. دعاها إلى مشاركته تسجيل قاعدة بيانات، تضم طبيعة المؤسسة، وأنواع المهن، والتخصصات، والمقابلات، وطرق الاختبار والاختيار، والتأشيرات.

عرفت — في وقت قصير — ما لم تكن تعرفه من أصول العمل. تقضي معظم اليوم تستقبل المترددين على المكتب، تملأ الاستمارات، تناقش، تنصح، تدل على العمل المناسب، تشرف على إنهاء إجراءات السفر، تُيَسِّر إنهاء التعامل مع التأمينات، استخراج جواز السفر، والشهادة الصحية، نقل الكفالة، تجديد تصريح العمل، استخراج تذكرة الطائرة. شعرت أنها قد وجدت نفسها تمامًا، وأن ما سافرت من أجله، وعادت لإنجازه، هو ما تنشغل به. تحلم بأن تكبر، وتتوسع.

قال مجدي مخيمر: كان لا بد — قبل أن نبدأ — بدراسة جدوى؟

– ماذا تقصد؟

– لا بد — لضمان الحد الأدنى لنجاح أي مشروع — أن نُعِد له دراسة جدوى، أي احتمالات المكسب والخسارة.

وفي صوت مُتحفِّظ: لم نعد هذه الدراسة.

– هل فعل ذلك أصحاب المكاتب المماثلة؟

– لا أعرف … ما أعرفه أنه لا بد من دراسة جدوى.

– لكن المكتب بدأ عمله … لن أوقفه لأجري هذه الدراسة.

– نستطيع أن نوائم بين العمل والدراسة!

وتحسس ذقنه متأملًا: ما يحدث الآن نذير أشياء ليست جيدة!

ركزت نظرتها في عينيه، تحاول أن تستبين ما يخفيه هدوء ملامحه. تذكر أنها وقعت على شيكات بدون رصيد، أو إيصالات أمانة.

– ربما لن أستطيع دفع قيمة هذه الشيكات في الموعد المحدد.

– إنها مجرد إجراء شكلي ليحتفظ الرجل بحقه!

وحاول أن يكسو صوته نبرة مطمئنة: ما دامت النيات طيبة فلا قلق.

ضغطت بأصابعها على جبهتها، كأنها تعاني صداعًا، ساورها الشك في موقفه، سر ما ينطوي عليه اهتمامه وتصرفاته.

حدست أنه يستعير صوتًا غير صوته، هي تكره نظراته التي تلاحقها، لا تفارق وجهها، تتسلل إلى ساقيها. تعاني ارتباكًا إن لامس يدها، يتعمد ملامسة يدها.

أيقظ في نفسها — بكلماته وإيماءاته والمعاني التي تحملها عيناه — مشاعر لم تلتفت إليها من قبل، ولا عرفت أنها موجودة.

تراجعت — بعفوية — لما احتوى كفها في راحتيه، قربهما مفتوحتَين من فمه، وقبلهما.

ما بذلناه من جهد يستحق أكلةً من محمود السماك.

بدا صوته ممتلئًا بمعانٍ لم تفهمها.

تكرر شعورها بالدوار، تستند إلى ما يُعينها على الوقوف. تثيرها الروائح، فتشعر بالغثيان. خشيت أن تبوح لأمها، فتسيء الظن.

لم تعُد تجد — وسط انشغالها — لحظات، تختار ما تحبه من الطعام. تكتفي — وقت الغداء — بطلب ساندوتشات من شارع محمد علي، لا تشترط نوعية الساندوتشات؛ أي شيء لإسكات الجوع!

اكتفت بالقول: لا أحب السمك.

أدركت أنه أجاد التسلل إلى رأسها، والتعرف إلى ما يشغلها. مع أنها لم تكن رأته من قبل، فقد تبينت أنه يعرف عنها أشياء كثيرة.

– هل تأذنين أن أناديك هالة؟

أومأت بالموافقة، وظلت صامتة.

مد يده لمصافحتها، ضغط على أصابعها، لم يفلتها إلا بعد أن حدجته بنظرة مؤنبة.

كيف واتتها الجرأة لتبعد عطية عن حياتها؟ هي الجرأة التي تفتقدها في مواجهة تصرفات مجدي مخيمر؛ اقترابه — بلا مناسبة — منها، تعمده ملامسة اليدين، استعارة صوت — لم تألف سماعه — في وجود المترددين على المكتب أوقات العمل، لا هو صوت رجل ولا صوت امرأة.

تشعر — عند تهيؤها للنزول من السرير — بما يشبه الغثيان، تعاني — أثناء اليوم — هبات سخونة في رأسها، تفاجئها نوبات دوار شديدة. عافت نفسها الطعام، لا تأكل، وإن أكلت لا يستقر الطعام في جوفها، ترفض حتى أن تنظر إليه. ربما يفاجئها صداع مؤلم في جانب الرأس، يضغط على أذنها ووجنتها، يحرك القيء في بطنها. اعتادت الشعور بالغثيان والدوار والزغللة والرغبة في التهاوي إلى الأرض.

تقرأ صفاء ما تعانيه، تترك لها الحجرة، تغلق الباب، تلقي نفسها على السرير، وتبكي.

فطنت إلى اقترابه منها، اقترب إلى حد شم عطره، عندما شعرت بأنفاسه تلسع رقبتها. أحاطها بساعده، أطل على الأوراق من فوق كتفها، اصطدمت — في التفاتتها الغاضبة — بوجهه.

أهمل ارتباكها، وحاول أن يواصل كلامه، لكزته بكوعها في جنبه، وتراجعت إلى الوراء.

هل أساء فهمها؟

ومضت في ذهنها إيماءات ودعوات مضمرة وكلمات صريحة ووجوه نسيتها، عبرت حياتها، أو ظلت ثابتة في الذاكرة.

قال لها الرجل العماني وهو يداعب الشرشابة المتدلية من دشداشته: هذا البحث الذي تجرينه، أنا أولى به!

في البيت العماني أسفل الجبل، بدا الرجل ذو الدشداشة البالية، والقدمان الحافيتان، شاردًا عن الأسئلة.

وافقت على عرض وزارة الشئون الاجتماعية، لزيادة دخلها، وللتخلص من العيش ما بين المدرسة وبيت المدرسات.

– تتزوجينني يا حلوة؟

لاحظت في ملامحه وتصرفاته شيئًا أنثويًّا، الشعر الناعم المنسدل إلى الكتفين، العينين الواسعتين، الأنف الدقيق، الشفتين الرقيقتين، الصوت الناعم، اليدين المعبرتين بالميل إلى أسفل.

فاجأها القول، تلفتت في المكان بعفوية، تطمئن إلى وجود أسرة.

بدا الطريق الترابي، القريب من سوق السيب، خاليًا، كان الوقت ظهرًا، وما يشبه الألق يتصاعد فوق تراب الطريق، أمام الباب المفتوح.

شعرت أن روحها تتسرب منها.

التفتت — بتلقائية — ناحية محمد علي؛ الشارع يشغي بالزحام، الرؤية تشحب في غلالات الأتربة، أذان العصر يرفع في جامع سيدي منصور، الأصوات تترامى بالنداءات والأدعية والصراخ والشتائم، وثمة عصفور تراقص أمام الباب المفتوح، ثم فزَّ طائرًا.

انزلقت يده، تراجع بأعلى صدره: ماذا حدث؟

أنت …

وحاولت التعبير بيدَيها، ثم ظلت صامتة.

– أناقشك.

أحست بيده تقترب من صدرها، أجفلت ومالت إلى الوراء.

– بالكلام.

دون أن يبدو عليه ضيق: أنا مثل أبيك.

– بابا لا يفعل هذا.

كتمت في نفسها مشاعر القلق والخوف، تعاني التوقع أن يقدم على ما لا تتصوره، كلماته وتصرفاته كأنها تمهيد لأفعال تالية. تحاول إنهاء الموقف: الكلام فيما يجب إعداده، الشكوى من إلحاح المتعاملين، الاتصال بشركات الطيران والفنادق والسفارات. نفضت رأسها بهاجس عناقه لها، ذراعه التي تكاد تلامسها، تحيط خصرها، تعانقها بما لا تملك رده. يظل التوقع قائمًا، يغذيه إلحاح الكلمات والإيماءات وتعمُّد الملامسة.

بدا أبوها منشغلًا بسرحاته، وأهملت مصارحة أمها، لن تجد ما تقنعها به في المأزق الذي يحاصرها، ستجاوز أمها النصيحة إلى اللوم والتوبيخ، لماذا تصر على ما في دماغها؟!

تراجعت بظهرها فلا يراها عطية وهو يهبط سلالم حارة قلعة طياب العريضة، المتآكلة. الدكاكين — على جانبَي الحارة — مغلقة، أو مواربة. ظلت في ارتباكها، حتى مال ناحية اليمين، ومضى في شارع محمد علي إلى ميدان العتبة.

أسقطت علاقتهما من نفسها، هل تظل على حالها، أو تمضي إلى نهاية لا تتصورها؟

لم تعُد قادرة على استرجاع ما مضى، ولا التآلف مع أحوالها الجديدة، كمن تسقط ثمرة من كيس يحمله، ينحني لالتقاطها، تسقط ثمرة ثانية، وثالثة، يخلي الكيس من يديه فتسقط كل الثمار. فقدت القدرة على التواصل، حتى مع القريبين، مَن كانوا أصدقاءها بالفعل؟

تنبهت — وهي تخترق الأرض الخلاء المفضية إلى طريق السلطان قابوس — أنها صارت مسئولة عن نفسها، لا تنتظر رأيًا، ولا مشورة، ولا أمرًا. تختار الطريق التي تطمئن إليها.

كل ما بذلته كأنه يتلاشى.

تكاثرت الهمسات والنظرات المستريبة والشامتة. زادت الشائعات بما لا قِبَل لها على تكذيبه، كأنها الأصوات المتلاغطة، الصاخبة، تعجز الأذنان عن سماعها، فيصمهما المرء عن كل ما حوله.

الحجرة المظلمة، الحجرة المغلقة، تثير الخيال والفضول، والرغبة في معرفة ما يجري، الناس أميَل إلى تصديق ما يسهل تكذيبه.

لا تعرف من ألقى حجر الدائرة الأولى، الدوامة الأولى، جاورتها دوائر أخرى، دوامات أخرى، تقاربت، التصقت، تحولت إلى دائرة واسعة، دوامة هائلة أحاطت بالمدرسة أُمَيمة خفاجي، حاصرتها. من التي اختلقت الشائعة، وسربتها.

تنقلت بين أفواه المدرسات في تصديق، أو لأنها ترددت بالهمسات. قالت مها الصبان إن نفي الشائعة يثبته فحص طبي في مستشفى خولة، يؤكد الأطباء إن أُمَيمة على عذريتها، لم تصل علاقتها بالشاب العماني حد الخطر.

تهامست الأفواه — في البداية — بالشائعة، نقلتها عن حسن سكركر سائق الباص الهندي، نقلتها إلى إدارة مدرسة شمساء، وبيت المدرسات، انتهت إلى مكتب وزير التربية والتعليم.

بصقت معزوزة كريم الدين في عِبِّها، واستعاذت من الشيطان: شائعة للتشويه.

وهزت إصبعها مذكرة: ذلك ما حدث مع أخريات.

قال الأسطى حكيم: دكاكين المناصرة معارض، لا تسبب إزعاجًا أو تلوثًا أو تشويهًا!

ومصمص شفتيه في تصعب: الحال واقف ونحن في وسط البلد، ماذا سيحدث لو انتقلنا إلى الأطراف؟!

لشائعة نقل المحال سبب آخر: تريد الحكومة توسعة سجن الاستئناف، خلف مديرية الأمن.

قالت أم عطية: لماذا لا ينقلون السجن؟

وتغلف وجهها بالاستياء: السجن لا يكون وسط البيوت!

تمنَّت بينها وبين نفسها أن تذهب المناصرة في الماضي.

لم تعد المناصرة هي المناصرة، ولا ناسها هم الذين كانت تعرفهم، أو تصورت أنها تعرفهم. الحياة أسوأ ما يمكن تصوره، الناس غير الناس، والدنيا غير الدنيا. هذه الدكاكين والمقاهي ومعارض الموبيليا — لا تذكر ما كان قبلها — يأتي في بالها كالومضات، وإن تقلصت ورش النجارة. حلت بدلًا منها معارض للموبيليا، ومخازن تُفتَح حتى ينتهي العمال من نقل قطع الأثاث إليها، ثم تُغلَق.

لم تعُد الأخشاب ولا أدوات النجارة ولا صناعة الموبيليا هي صورة الحياة — وحدها — في المناصرة. زاحمتها آلات البناء الضخمة؛ الكسَّارات، الهراسات، الخلاطات، الرافعات البرجية، الرافعات الشوكية، الشاحنات القلابة.

حتى عادات الناس تغيرت. أصبحوا أكثر استعدادًا للسفر، ما رفضه أبواها حين عرضت الفكرة، بدوا أكثر ميلًا إلى تبادل الأحاديث، يتسولفوا حسب التعبير الخليجي، ولعله تعبير هندي!

أبدت ملاحظة عن الجالسين في المقاهي ساعات الصباح، متى يعمل كل هؤلاء؟

المقاهي ظاهرة تغيب عن مسقط. المطاعم كثيرة، أطعمة من كل الدنيا، عرفت أسماء البرياني والسالونا والمشاكيك والحلوى العمانية، معظمها لم تتذوقه من قبل.

قرب الطبيب اللمبة المضاءة من أنفها، وسع بالجفت فتحتَي الأنف: هذا ليس مجرد زكام، إنها لحمية سدت الأنف!

أطلقت آهة ممطوطة: يصعب عليَّ النوم تمامًا.

– كيف تنامين دون تنفس؟!

وأطرق برأسه وهو يقضم شفته السفلى: لا بد من عملية بسيطة، وأيضًا إجراء اختبار حساسية كي لا تعود اللحمية!

نحَّى الطبيب — في زيارتها التالية — نتيجة الأشعة على مكتبه: اللحمية ستعود … سببها تراب الموكيت!

وحدجها بنظرة مستغربة: في بيتك؟!

غطت حجرات الشقة، والصالة، بالموكيت المشجر. أغواها الخصم الهائل في أسعار الموكيت بمخزن العاصمة. اشترت مثلما اشترت غالبية المدرسات.

وهي تغطي أنفها بورقة كلينكس: أتيت به من الخليج!

– لا أعرف ظروف استعماله هناك، لكن المناخ هنا معظم السنة حار ومترب.

آخر النهار تعود إلى البيت، تلزم حجرتها، لا تلتفت إلى صفاء إن كانت نائمة، أو تصلي، أو تقرأ القرآن، أو تتحرك لعمل البيت، يشغلها تناسي تعب النهار، يشمل جسدها، وأعصابها، وما يرهق رأسها.

تغمض عينيها، لا تريد أن ترى أحدًا، لا صفاء ولا أمها ولا أبيها، ولا أي أحد، لا تريد الكلام ولا الإصغاء. فقدت القدرة على التواصل، حتى مع القريبين، مَن كانوا أهلها وأصدقاءَها بالفعل.

لم تعد تملك وقتًا للبحث عن شقة جديدة، الخروج من المناصرة وارد، وتتمنى حدوثه. أزمعت أن تظل في سكة المناصرة على أن تعيد طلاء الشقة وتأثيثها. انشغلت بمتابعة عمليات الدهان في الشقة، واستبدال السيراميك بالبلاط في أرضيات الغرف، واختيار المفروشات والستائر …

تشعر— أحيانًا — أنها لا تنتمي إلى المناصرة، ولا حتى إلى هذه الشقة التي تقاسم صفاء إحدى غرفها. هي ليست جزءًا من دنيا المناصرة، ما تعيشه، وتتطلع إليه، يختلف عن حياة الذين يخالطونها. يملأها الشعور بأنها لن تفك حبسها إلا بالخروج إلى الدنيا الواسعة، بعيدًا عن محمد علي والعتبة وكوم سلامة وسوق الخضار وسوق التلات وشوارع الأزهر وعبد العزيز والموسكي والجيش.

لماذا عادت؟

غنى المدرسات لمحمد فوزي في عيد ميلادها، تذكرت أغنية من طفولتها، فغنتها:

العفو يا سِيد المِلاحْ
جسمي صَبَح مُضْنى سقيمْ
جد بالوصالْ يِشفِي الجراحْ
يا مُنْيتي أنتَ الحكيمْ

رنت ميسون النداف ناحيتها بنظرة متفحصة: هذه أغنية عوالم استمعت إليها في القاهرة.

القاهرة!

قفز الاسم إلى ذهنها.

أحست كأن شيئًا يتحطم داخلها.

هل تأخرت في العودة؟ وهل كان عليها أن تعود من زمن؟

ربما اتخذت قرارها — في تلك اللحظة — بالرحيل عن مسقط.

كان قد استقر عزمها على البقاء في مسقط، تقطع صلتها بكل شيء، تنسى ماله علاقة بالمناصرة، لم يعد في المناصرة شيء تحزن على فقده. لم تعُد هي الحي الذي تستطيع أن تعيش فيه، ليس فيها من عادت إليهم، ليست الصداقة ولا الجيرة ولا المفردات ولا التصرفات التي تؤذي مشاعرها. ثمة خطأ في علاقتها بمن حولها، كل من حولها، حتى هؤلاء الذين أهملوا ما كانوا يوجهونه إليها — في أيام عودتها الأولى — من كلمات الترحيب. تبدل كل شيء، فغلبها الإحساس بالغربة، أقسى ما في الأمر أنها كانت تحيا في غربة الخليج على أمل العودة إلى ناسها.

لون مجدي مخيمر صوته: كل نجاح مرهون بثمنه.

لاحظت نظرته المتجهة إلى ما بين ساقيها، فضمتهما.

تحرك فمها بكلمات لم تتدبرها، ولا حتى فهمت ما عبرت عنه. ألغى الغضب قدرتها على الكلام بصورة صحيحة، ما جاء على لسانها تركت شفتيها تنطقانه.

تناقص رصيدها في البنك بما أخافها. وقعت على مستندات دين، وعلى إيصالات أمانة، وشيكات، قل أعداد المترددين على المكتب، تقلص حجم التعاملات بما يقلق. حتى العملاء الذين نشأت بينهم وبينها ثقة وصداقات أوقفوا التعامل مع المكتب. خامرها قلق أن تتصل بالبنك — ذات يوم — لتعرف أن رصيدها نفد. تصورت أن ما عندها من المال يكفي، تستطيع أن تنفق طول العمر، دون أن تحتاج إلى عون أحد.

شغلها ما يجب أن تفعله.

ترفض الفشل، الفشل معناه الموت.

كيف؟ لماذا؟ ما الحل؟

الأمور لا تسير كما خططت لها. تمنت فكرة تخلصها من الحيرة التي تتملكها. لم تعُد تفرق بين الصواب والخطأ، ما إذا كان عليها السير في الطريق إلى نهايته، أم اختصاره.

أحست بالعجز عن الحركة تحت ظل أمها، وعن تملك حرية الاختيار، ما تريده، وما لا تريده. لا تعرف حتى ما الذي ينقصها.

– تزوجت النجاح، أخشى أن يشغلني الزواج عن مسئوليات عملي.

قالت شوقية سالم: مصير البنت لبيتها.

– الدنيا تشغي بالمتزوجين.

أخاف أن يفوتك القطار.

هزت كتفيها: أحسن، لا أحب القطارات!

هي لا ترفض الزواج … لكن: من هو؟

لما تكرر التباطؤ والإيماءة الداعية، هزت رأسها تنفض الهاجس الذي دار في ذهنها كالومضة: ماذا يحدث لو أنها دخلت السيارة؟ التفتت إلى الأمام، وواصلت السير.

إن روت لأمها ما حدث، ربما تموت.

قالت المدرسة معزوزة كريم الدين في اليوم الثالث لغياب الطالبة خولة الرحبي: شائعة صغيرة تكفي لمنع الشبان الذين يتصورونها زوجة مناسبة من زيارة أبيها.

لكزتها مها الصبان في كتفها: لكنها فائقة الجمال.

كانت على ثقة من أن المعرفة لا تكتسب من الكتب، هي نتيجة الخبرات التي يحصل عليها بنفسه، أو يتعرف إليها بالمشاهدة أو السماع. تجد في التقاليد التي يصر الناس على احترامها في العلاقة بين الرجل والمرأة، اختراعات يمكن إغفالها، إهمالها.

فاجأت المدرسات — ليلةً — بالقول: إذا كان للرجل حق الزواج بأربع نساء، فمن حق المرأة أن تتزوج بأربعة رجال.

رمقتها معزوزة بعينَين غاضبَتين: ولمن يُنسَب المولود؟

– لأمه! … هي التي أنجبته!

قالت معزوزة في نبرة متكسرة: فقدان الشرف موت!

ناوشتها أسئلة عن أسباب اهتمام مجدي مخيمر بها، وما إذا كان يشغله ما يريد تحقيقه.

أثار في داخلها شعورًا بعدم الثقة، ساورها الشك في أن اهتمامه بها ليس للمساعدة، هو يقصد ما لا تعرفه.

تومض أمامها رؤًى، لا تذكر إن كانت عاشتها، أو شاهدتها، من قبل، كلهن بنات في مثل سنها: سيدة تخترق شارع الأزهر، وعلى صدرها طفل تحتضنه، تسير إلى جوار شاب، تلاصقه تمامًا، وأيديهما متشابكة، ونظراتهما كأنهما فقَدَا الصلة بالعالم، تطيل فِصال بائع الشاي تحت الباكية المطلة على ميدان العتبة، تحمل أكياس فاكهة في هيئة العودة من السوق، يحملها الرجل بين يديه في قلب الغابة، تواجه الأخطار المحيطة … مشاهد كثيرة، ومضات، تلح على ذهنها في الصحو والمنام، كأنها مؤشر لما تخفق في تبين أسبابه.

كل شيء يتآمر لهزيمتها. لو أن ما تواجهه ظل كما هو، فستطالعها الهزيمة في نهاية الأفق.

استعادت كلمات أمها: تقولين الرجل غني … ويحبك.

– لكنني لا أحبه!

– من أجبرك؟! … ضعي خطًّا أحمر، امنعيه من تجاوزه، اتركيه في وهمه يحب ويعشق، العبي معه لعبة القط والفأر … هل ينهزم الفأر في أفلام الكارتون؟

– لعبة سخيفة!

– ظروفنا كلها سخيفة، حياتنا كلها سخيفة!

وعيها تعطل، لا يتيح لها التعامل مع الناس من حولها، تغير شيء ما أخفقت في فهمه. أحست أنها تفتقد ما لا تعرفه، وأنها، فقدت اتجاهها، لم تعُد تعرف إلى أين، ولا خطواتها التالية، واجهها أفق غير محدود من الفراغ، لا تعرف كيف تتحرك فيه، كيف تشغل مساحته الممتدة، اختلطت الأسماء والأماكن والتواريخ.

بدا المستقبل ضبابيًّا، لا تستطيع تبيُّن ملامحه. هل ينقضي العمر دون أن تبلغ ما أجهدها السير في اتجاهه؟

قالت كمن تهمس لنفسها: لا أعرف مَن المخطئ: أنا … أم الظروف؟

تداخل الأسى والإشفاق في صوت شوقية سالم: يكفي أنك عانيت الغربة!

لماذا تبدلت الأمور إلى هذه الدرجة؟

كل شيء تغيَّر، لم تعد الدنيا على ما كانت عليه. شعرت بالغربة عن كل ما حولها، وأنها تعاني عزلة حقيقية. لم يتغير المكان، وإن أحست بالغربة عنه. كل ما حولها لا ينتمي إليها.

المشاعر نفسها ناوشتها في صالة الدخول بمطار السيب، وفي صالة الخروج، التخلي عن أصدقاء ومعارف، ومواجهة ما يرسمه الخيال.

لم تعد — كما كانت — جزءًا من الحياة في المناصرة، اختيارها العزلة تحول إلى قيد يصعب الفكاك منه.

ثبتت نظرها — في رحلة العودة — على جانبَي الطريق، تلتقط ما لن تشاهده ثانيةً، ما يصير إلى الماضي.

فكرت في العودة إلى مسقط، تمضي إلى المطار، تركب الطائرة، تنزل في مطار السيب، تعود إلى الحياة التي اعتادتها.

ارتسمت على وجهها خيبة أمل واضحة: يبدو أنه لم يَعُد لي في المناصرة إلا الذكريات!

قالت شوقية سالم: ونحن؟ … صرنا ذكريات؟ متنا؟!

– لم تعد المناصرة التي تركتها … تغيرت تمامًا!

قالت شوقية سالم: لو أن خلفتي كانت ولدين بدلًا من الشيخة، والتي لا يعجبها العجب؟!

شعرت أنها صارت إنسانة أخرى غير نفسها.

إذا كانت المناصرة قد تغيرت، فقد تغيرت هي أيضًا. هي لا تنتمي إلى العالم الذي تعيش فيه. اختلفت نظرتها — في سِنِي غيابها — إلى الناس والأشياء، الحياة في المناصرة فصلتها عنهم، بما يصعب تعويضه. غاب ما اعتادته من الصداقات والجيرة وورش النجارة وأغنيات العوالم. مفردات جديدة تطالعها، لا تفهمها، تختلف حتى عن سيم العوالم الذي حفظته تمامًا. المفردات الجديدة مغايرة لكل ما اعتادت سماعه وقوله في سكة المناصرة.

تبلورت أمنياتها في أن تفر من المناصرة، لم تعد قادرة على تحمل ما تراه، ما تعيشه، الحياة في الشوارع الضيقة، المتداخلة، المنطقة ما بين ميدان العتبة وميدان القلعة، شوارع ودروب وعطوف وسلالم حجرية صاعدة وهابطة، ألفت اختراقها، ورؤية ما تشغي به. لا توجد قوة تستطيع أن تقيد حركتها، تمنعها من السير في الطريق التي اختارتها.

رفضت صفاء أن تقيم معها في شقة جديدة: لا أتصور أني أبتعد عن المناصرة.

تلفتت بالارتباك والخوف في الحجرة الخالية. تشاركت الرؤى واختلطت. تجاورت الأزمنة، تلاصقت، لم تَعُد تحيا زمنًا محددًا.

المشاهد تضغط على ذاكرتها، تومض، تختفي، مثل خيالات.

لم تعد ذاكرة أبيها كما كانت من قبل، ما يتذكره يرويه في عبارات قصيرة، مدغمة.

مَن خرج مِن داره اتقل مقداره، صدمها المثل حين استمعت إليه — للمرة الأولى — من الشيخ العماني، وهو ينظر إلى زحام المسافرين حول كاونتر المصريين في مطار السيب.

تُولِي الكاونتر ظهرها، ترفض أن تختلط بزحام المهانة. تكتفي بحقيبة واحدة في يدها، تقف في نهاية الطابور القليل العدد، للمسافرين العاديين، تكره التمييز والمفاضلة، ما تستحقه تأخذه، لا تتجاوز موضعها، وترفض أن يتجاوزها أحد.

رفعت رأسها، وضمت — بعفوية — فتحة البلوزة. سارت في ظلمة البواكي بكلوت بك، ثم مالت إلى شارع باب البحر، فطنت إلى أنها أخطأت الطريق، أو نسيته. في التقاء أول الشارع بالميدان، نظرت — بجانب عينها — إلى محمد علي، اخترقت الشارع إلى ميدان روي، مضت في شارع الأزهر، عبرت تقاطعه مع شارع بورسعيد، خلفت وراءها جامع البنات، إلى زحام سوق التلات، تتعدد الاختيارات للتسوق ما بين سوق السيب، أو روي، أو شارع نور الظلام بمطرح، لم يشغلها تعب قدميها في التنقل بين الشوارع والحارات والدروب والأزقة والقيساريات والشبابيك المتقاربة والمصاطب — أمام الدكاكين — تكاد تتلامس، والواجهات مليئة بالبضائع، ونداءات باعة السمك في سوق مطرح، وروائح البخور والشواء والعطارة، والطريق الصاعدة إلى ميدان القلعة، بين الرفاعي والسلطان حسن، وحواري المغربلين والخيامية وسوق السلاح واليكنية، واختلاط أزيز منشار، وضربات مطرقة، وصوت اهتزاز مثقاب، والتصفيق في الغناء الخليجي بديلا للإيقاع الموسيقى، وعطية، في جلسته على مصطبة الدكان، يتشاغل بهز أوتار العود بأظافره، من حوله الآلات الوترية وآلات النفخ والإيقاع والصاجات. ضغطت على جبهتها، كأنها تثبت الصورة في ذاكرتها، هذا ما، حين مضى بها التاكسي في طريق السلطان قابوس. التفتت ناحية بيت المدرسات، وفي داخلها شعور أنها لن ترى المكان ثانية. تشاغلت عن الأسئلة والمناقشات والملاحظات بين المدرسات الثلاث اللائي صحبنها في التاكسي. وضعت تركيزها في المكان الذي لن تراه ثانية. قالت ميسون النداف: نحن نعيش علاقات عابرة، محكوم عليها بالتلاشي. تذكرت — في اللحظة نفسها — قول أبيها: ادخري ما استطعت قبل أن تعودي إلى القاهرة. ونطقت ملامح الأسطى حكيم بالارتياح، وهو يتحدث عن عملية لتصنيع الأطراف الخشبية، بدا الأمر صعبًا، ثم أتقنه. يعتز بقدرته على صنع منابر المساجد بطريقة التعشيق، لا يستخدم مسمارًا واحدًا، وقال أبوها: العوالِم انتهوا … لكن أمك لا تكف عن الغناء! والتمعت عينَا أحمد تاريخ بالدمع، وهو يتكلم عن اعتزازه بأنه شارك فرقة حسب الله — على رصيف قهوة التجارة — في عزف السلام الجمهوري لموكب عبد الناصر في اتجاهه من ميدان العتبة إلى ميدان القلعة. توقف الموكب حتى انتهت الفرقة من أداء السلام، وميزت الطريق إلى مسقط بمناشر الغسيل الهائلة في قرية سداب، وقال عطية إنه حاول أن يخرجها من قلبه، فلم يستطع، تنكرت لكل ما كان بينهما من قبل. اتهمته بما تعرف أنه ليس فيه، وتناهى رفع الأذان من مسجد السلطان قابوس، واهتزت الراقصة، تمايلت، تثنت، قفزت، لفت، دارت، علت الاعتراضات لإبقاء خيرية أبو الرضا حلة الخضار على البوتاجاز، ترفض رفعها لتظل ساخنة، واعتذرت لضابط المرور بكلامها مع سائق التاكسي، فأهمل الإشارة الحمراء، وأغلقت باب الحجرة من الداخل، اندفعت إلى السرير، ارتمت عليه، وضعت وجهها بين كفيها، وراحت في البكاء، وقالت أمها: أنت سافرت إلى الخليج لترتاحي، لا لتتعبي أكثر، وانفرجت شفتا الوزير المصري — في مبنى السفارة — عن ابتسامة، مستغربة: لماذا لا تظهرون هذه الهمة في مصر؟ وقالت شوقية سالم: نحن نتحسر على الماضي؛ لأننا ندرك استحالة استعادته، واستلقت مها الصبان على جنبها فوق السرير، بيدها ترانزستور، تُصغِي إلى ما فيه، ربما علا صوتها: في بيروت أحداث مهمة، وتبادلت المدرسات رواية الحكايات والمعلومات والنكات والمشكلات الشخصية، واخترقت حي الهنود، على جانبيه بيوت الصفيح، خلف مساكن الحمرية، خراب هي التسمية التي يطلقها الهنود على الأشياء المستعملة، يردد العُمانيون التسمية، لا محال للبضائع القديمة، ولا عربات خشبية تسبق النداء: بِكيَا! وغالبت التأثر لقول أبيها في التليفون — أول مرة يأتيها صوته — أنت سافرت للعمل لا للإقامة، ولاحظت — وهي تجري بالقلم على الورق — اتجاه نظرات مجدي إلى منبت نهدَيها. سحبت يدها من ضغطة أصابعه، اعتذرت عن أكلة سمك عند محمود السماك. جعل يديه في وضع الاستدارة، دلالة الرغبة في أن يحتضن الثديَين براحتيه. شعرت بما حولها يهتز. تشبثت بالكرسي تحتها، تحاول أن تقي نفسها من السقوط. مد ذراعَيه، يعينها حتى لا تسقط. ما أذهلها أن صوتها كأنه يأتي من هوة، تتكلم. ولا يبدو أن مجدي مخيمر يسمعها، أو أنها تسمع نفسها.

محمد جبريل – مصر الجديدة – ٢٠٠٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤