المرأة والتراث١

نتحدث كثيرًا عن الحريات وعن كرامة المواطن والوطن، وهو حديث حق طبيعي غير منكور، ونجأر بالشكوى من احتلال الغير للأراضي العربية بالقوة القاهرة، وهو أمر لا يختلف عليه اثنان، ونُندِّد بقوى الاستكبار التي تكيل بمكيالين وهو الأسلوب الواضح لدولٍ ذات مصالح في المنطقة، والتنديد بها مطلوب وهو أضعف الإيمان، ونرفع لاءات التحرر من التسلط السياسي والفقر والجهل والمرض، وهو مطلب كل الشعوب في جميع الأمم، لكن البعض المتشدِّد في إعلان تلك المبادئ الرفيعة هم ذاتهم من يقفون بكل صمود وراء منظومةٍ عقديةٍ قانونية، هي على النقيض الكامل من تلك المبادئ الرفيعة، حتى أصبحت طرائقهم مناهج تحكم مجموع القيم والسلوك والعادات للفرد والمجتمع والدولة، والأهم مؤسسات التثقيف الرسمية العامة إعلامًا وتعليمًا، مناهج تُكرِّس وجهة نظر واحدةٍ إطلاقية لا تعترف بالتنوع والتعددية؛ مما يعني عدم إيمانٍ حقيقي بالمطاليب المرفوعة بقدر ما تُفصِح عن حق إطلاق أيديهم وحدهم ونفي كل مخالف، وهي رؤًى لا تحتاج جهدًا لاكتشاف وقوفها ضد كل ألوان الحريات التأسيسية الابتدائية التي توافقت عليها الإنسانية، بعد رحلة صراعٍ طويل ونضال دفعت فيه البشرية الكثير من الدماء والشهداء، من أجل إقرار تلك الحريات ضد أصحاب الرأي الواحد عبر التاريخ، حتى تم إعلانها في نصوصٍ دولية ومواثيق وتعهدات ودساتيرَ معلنة، وأهم هذه البنود هو المساواة التامة والكاملة بين المواطنين أمام القانون في المجتمع بكل مستوياته، بغضِّ النظر عن أي اختلاف أو فروق في اللون أو الجنس أو العقيدة.

والنظرة السريعة على تفاصيل المنهج السائد في بلادنا سواء على مستوى الفكر أو السلوك الفردي أو الجماعي أو حتى القانوني تكشف على الفور عن عدم إيمانٍ حقيقي بهذه المبادئ، فلازلنا نحاكم الرأي ونجرم التفكير ونقتل من خالفنا الرأي ونصادر المؤلفات ونتعامل مع المواطن الذي يخالفنا العقيدة بطائفيةٍ عنصريةٍ بغيضة، علمًا بأن طلبنا المشروع بتحرير الأرض لا بد أن يسبقه أولًا تحرير الإنسان، وتحرير العقل من مخلَّفات الماضي المتجذِّرة فيه، والأهم — ويقع ضمن تحرير الإنسان وتحرير العقل — تحرير نصف المجتمع (المرأة).

وبصدد المرأة ومكانتها وحقوقها وحرياتها نسمع تغنِّيًا بالحقوق التي نالتها المرأة المسلمة بمنحةٍ تاريخية أسستها لها ثقافتنا قبل أن يتعرَّف العالم على تلك الحقوق الأنثوية، وهنا بالذات مكمن التساؤل عن مدى الصدق في هذا الإعلان عن حقوق المرأة وحريتها في ثقافتنا؟

يكفينا هنا الاطلاع السريع على قوانين الأحوال الشخصية حتى نكتشف على الفور مدى زيف هذا الادعاء وبطلانه بالكلية، ويكفينا أن نكتشف مدى مزايدة ذكور الشرق التليد على المبدأ الإسلامي الرفيع الذي لا يقرُّ الزواج إلا بين طرفَين مؤهلَين له ذكرًا وأنثى بالتراضي الكامل ودون قهر أو ضغط أو إكراه، وهو من المبادئ الرفيعة حقًّا في مأثورنا بلا منازع ينازعنا، لكن هل يقع مبدأ (بيت الطاعة) ضمن هذا المبدأ الرفيع؟ وهل بيت الطاعة سوى قهر زوجة ترفض الاجتماع برجل، وإجبارها على الامتثال له سريريًّا في عملية اغتصاب علنية، تتم تحت سمع وبصر الجميع وبحكم القانون وموافقة الجميع؟

إن الحديث في شئون قوانين الأحوال الشخصية ذو شجون تطول إلى ألف ليلة وليلة، ويعلمها الجميع بلا خفاء، لكن يبقى موقف أولئك الذين يعلنون حراسة العقيدة، وموقفهم الذي يعلن حماية مأثور أسس للمرأة حقوقها وحرياتها، ولا بأس هنا إن ضربنا أمثلةً سريعة لبيان مواقف هؤلاء، بعضها من المضحكات، وبعضها من المبكيات، لنضع دعوى حرية المرأة العربية التاريخية على محك مصداقية الفعل في الواقع، ونحن على مدخل القرن الحادي والعشرين، وكيف يرى ذكور المنهج المحترفون وضع المرأة في واقع الفعل وليس في النظرية والشعارات، ولنبدأ بالمضحكات، فنقرأ كيف تُقطَع صلاةُ المصلي المسلم إذا مرَّ أمامه أثناء الصلاة كلب أو حمار أو امرأة (؟!) هكذا، المرأة كالكلب وكالحمار، والحكمة في الكلب لنجاسةٍ شائعة لا نعلم مدى صدقها في صحيح الدين، أما الحمار فربما لذكرى الشيطان الذي أمسك بذيله في سفينة نوح حسب رواياتنا الإخبارية (انظر قصص الأنبياء في أي مصدر كبير كالطبري أو ابن كثير أو ما في مستواهما)، فما هي حكمة قطع المرأة للصلاة؟ هل لأنها حسب الأقوال المأثورة رفيقة إبليس ورابع أربعة لا أمان لهم ولا توجد مع ذَكَر إلا وكان الشيطان ثالثهما؟ لقد ساغ لنا مساواة المرأة بالكلب والحمار والفرس لأن عقلنا لا يراها إلا مجرد شيء، أداة للمتعة، كالحمار والفرس لنركبها وزينة، حيث تم الإفتاء في دولةٍ عربية بجواز طلاق امرأة لم ترتكب إثمًا، ولا يكون زوجها آثمًا في طلاقها، فقط لأنها كانت شؤمًا على زوجها، فقد أفلس زوجها بعد أن تزوجها، وذلك استنادًا إلى غريب الحديث القائل: «الشؤم في ثلاثة: المرأة والفرس والدار.»

ثم هي حُرمة، حرام، جنسٌ محض، شهوة تسير على قدمَين، فتنة للإنسان بل وللحيوان، فحسب تلك الفتاوى يجوز للفتاة أن تخلع حجابها بغرفة نومها ومعها كلب أنثى لكن ذلك غير جائز شرعًا لو كان الكلب ذكرًا! هكذا! أما إذا كانت طالبة بكلية الطب فلا يجوز لها تشريح رَجلٍ ميت، وإن كانت هناك ضرورة فيجب استخدام الوسائل الكفيلة التي تحول دون رؤيتها لأعضائه التناسلية، كإطفاء النور أثناء عملية التشريح مثلًا! (انظر أعداد مجلة نون الموسوعة الفقهية الكويتية/جمعها الدكتور حسن حنفي في: قضية نون.)

هذا ما كان عن المضحكات في مناهجنا، وتوضح كيف ينظر بعضنا للمرأة التي هي نصف المجتمع، ثم يمتشقون سيوف العنترية الخطابية من أجل تحرير الأرض من الطاغوت، دون الشعور بأي خلل أو تناقض.

فماذا عن المبكيات؟

هنا نضطر إلى دخول مساحة الخطر ودائرة المحظور، حيث الدخول محفوف بسيوف حراس العقيدة ورشاشاتهم وقضايا التفريق والتكفير في المحاكم، لكن ما الحيلة وصمت مفكرينا من فضة وسكوتهم من ذهب في مناطق الخطر؟! صمت غير جميل، وسكوت غير حميد إزاء مناطق هي انعدام العدل الكامل في مناهجنا إزاء المرأة، والمغالاة في ظلمها لقيام المنهج دومًا على رؤيتها ككائنٍ طفيلي مهمته إمتاع السيد الذكر، فإن انتهى دورها تم إلقاؤها في أقرب كومة مهملات؛ لأنها مجرد أداة، مجرد شيء.

إن المغالاة لدى الفقهاء والمفسرين في الحالة التي بين أيدينا تجعلنا نعتقد أنه كان بالإمكان إيجاد تفسير أكثر رشادًا وعدلًا وجمالًا من التفسير السائد، لآيات لا نشك أبدًا أن لها تفسيرًا آخر غير المطروح، وأن لأسباب نزولها قراءةً أخرى تليق بعدل الله وكلمته الحق، وقد نمى إلى علمنا أن الباحث المغربي الدكتور محمد عابد الجابري قد حاول وضع اجتهادٍ جديد لها، لكنه للأسف لم يصلنا؛ لذلك نطرح القضية وننتظر من يقول فيها جديدًا يليق بالعدل الإلهي.

تقول الآيات الكريمة: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (النساء: ١٢٨–١٣٠).

تتفق كل روايات المفسرين على نزول هذه الآيات في سودة بنت زمعة إحدى نساء النبي عندما كبر سنها فخافت أن يُطلِّقها النبي، فوهبت ليلتها للسيدة عائشة وتنازلت للنبي عن جزء من حقوقها في نفقتها، وفي تفسير ابن كثير عن عمر بن الخطاب قوله: «هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا سنها فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز»، وأورد أيضًا عن علي بن أبي طالب قوله: «يكون الرجل عند المرأة فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو كبرها، فإن وضعت له من مهرها شيئًا حلَّ له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج» (انظر تفسير ابن كثير، طبعة دار المعرفة، بيروت، ١٩٨٠، ج١، ص٥٦٣).

وإعمالًا لهذه التفاسير ذهب المفسرون إلى وجوب تنازل المرأة عن بعض حقوقها في مقابل أن تظلَّ تحظى ببيت الزوجية اتقاءً للطلاق، وهو ما يعني أن كبر سنها قد أفقدها بعض حقوقها التي سبق الاتفاق عليها والتعاقد بشأنها، وهو أيضًا ما يعني أنها بعد أن شقيتْ وتعبتْ وأعطت عمرها لزوجها وبيتها في شبابها، قد أصبحت بعد ذلك مقصرة في حقه لكبرها في السن، بعد أن أنهكها عطاؤها لزوجها عن استمرار هذا العطاء، ومقابل هذا التقصير حق عليها العقاب بفقد بعض حقوقها (!).

إن العدل يقول بغير ذلك تمامًا، لأن المسئولية تقع على الزوج حيث إن الإعراض جاء منه وليس من زوجته، إن العدل يقول بالعكس تمامًا، يقول بوجوب مكافأة هذه الزوجة بزيادة نفقتها تكريمًا لها وتعويضًا لها عن شقائها، ورعاية لها في كبر سنها ومرضها عرفانًا بجميلها، ومن الجور أن تقيم امرأةٌ مخلصة لبعلها وعندما تكبر في السن يأخذون نصيبها ليعطوه لزوجةٍ أخرى شابةٍ عفيةٍ قويةٍ صبية يمكنها الإمتاع ومنح الولد، ليس من العدل أن يكون البديل هو تخلِّيها عن حقها الجسدي لأن زوجها لم يعد يجد فيه المتعة، إن هذا التفسير المطروح في مأثورنا يجعل المرأة مجرد وسيلة وأداة وشيء، ويسلبها إنسانيتها، حتى يصبح عليها أن تدفع وتتنازل مقابل عدم طردها إلى العراء عجوزًا ضعيفة بلا حول ولا قوة، أو يكون البديل هو الطلاق.

إن متغير الزمان لم يعد يسمح بهذا الموقف الدوني إزاء المرأة، فلا شك أن هناك تفسيرات أكرم للآيات الكريمة؛ لذلك نُصِرُّ طوال الوقت على وجوب التسليم بوجود أوجهٍ كثيرة للتفسير والرأي احترامًا للنص تحريكًا لأحكامه بتحرك الواقع، لهذا نُصرُّ طوال الوقت أن القرآن الكريم نصٌّ لا يقبل الإغلاق على تفسيرٍ أوحد يضر بالدين وبالدنيا، بالبلاد وبالعباد، وأنه نصٌّ مفتوح يحتاج إلى جرأة على الجمود والتقليد حتى يبقى فاعلًا في حياتنا بما يرقى بهذه الحياة، وبما يتلاءم مع متغيراتها، ولا شك أن هناك فقهاء راشدين سنسمع منهم بهذا الشأن قولًا حكيمًا كريمًا يليق بهم، ولا شك أننا سنسمع من جانبٍ آخرَ صيحات التكفير والتنفير، وهو أمر أصبح معادًا مكرَّرًا حتى الإملال، لكن حديثنا للراشدين منا.

١  تم نشره في مجلة روز اليوسف القاهرية بتاريخ ١٩ / ١٠ / ١٩٩٨م العدد ٣٦٧١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤