الذئب١

في توصيفه لحالة العقل العربي اليوم، يقول الدكتور سعد الدين إبراهيم إن هذا العقل يركن إلى «الادعاء بوجود مؤامرةٍ كبرى تهدِّد الذات الوطنية والذات القومية، تمهيدًا لإشاعة الخوف ثم الرعب ثم الذعر من خطرٍ خارجيٍّ ماحق يبغي تدمير الأمة، ثم إلى جمود أو شللٍ حركي لا يبقى معه من قوةٍ تعبيرية إلا الندب واللطم على الخدود أو البكائيات أو أحيانًا البحث عن كبش فداء مقدور عليه وتكفيره أو تخوينه، وأحيانًا أخرى الاكتفاء بالمقاطعة والشجب والرجم، وفي حالة العجز القصوى يقيم الصلوات لكي ينزل بأصحاب المؤامرة مصيبة تعصف بهم. وحتى حينما كان يتم عرض المعلومات والحقائق فلم يكن يلتفت إليها، فالمعلومات تعرقل التدفق السهل من الهواجس للمخاوف للذعر وللرعب للندب للَّطم لتفريغ شحنات الخوف والغضب والإحباط في كبش فداء! والمعلومات تعيق هذا التسلسل الذي أصبح إدمانًا لدى المثقفين المصريين، فهو مثل كل إدمان، يعطي إحساسًا زائفًا بالمتعة وإبراء الذمة وإراحة الضمير، فما دموا قد كشفوا المخطط وأمسكوا بالخائن أو العميل، فلا شيء يهم، وتظل مشكلاتنا الحقيقية تتفاقم حتى تتحول إلى أزمات ثم نكبات.»

والمعلوم أن فكرة المؤامرة لا يتبناها إلا المهزوم وغير القادر على تجاوز هزائمه المتتالية، دون أن ينظر في داخله ليرى الأسباب الداخلية لهزائمه، وأحيانًا — كما في حالتنا — نُصرُّ على عدم وجود أي أسباب داخلية تستدعي النظر، إذن لا بد أن الأسباب تكمن خارجنا، إنها المؤامرة الصليبية الاستشراقية الصهيونية … وهلمَّ جرًّا.

نحن نحيل المؤامرة للمختلف عنا، سواء كان هذا الاختلاف في العنصر أو في الدين أو في الرأي أو في الدرجة، من ليس منا فهو علينا، و«مِنَّا» هنا تعني الذوبان الكامل والتبعية التامة والطاعة المطلقة لثوابتنا التاريخية التي تراكمت على كواهلنا يومًا وراء يوم حتى صارت جبالًا رواسيَ راسخات.

إن الاختلاف يعني أن تكون نقيضًا للهوية، بل وضدها، بل متآمرًا عليها، وهذا بوضوح هو عين الفاشية وصلبها وجوهرها التليد؛ فهي أبدًا لا تعترف بحق الاختلاف، لأنه يتهددها، ويتهدَّد قوامها الأيديولوجي الأحادي الصارم، كما يعني أنها تعاني من خطأٍ ما يستحق المخالفة والاعتراض، وهي لا تقبل إلا الكمال، وترى أنها المالك الدائم لكل الحقائق الكاملة الثابتة، المخالَفة تعني أن فيها نقصًا وهي لا تقبل النقص؛ لذلك لا شك أن المخالف هو الناقص، هو المتآمر، لأنه يتهدَّدها، ومن ثم يجب الضغط عليه لاستتباعه أو تسخيره، أو إن كان بالإمكان تصفيته، ومن ثم فإن الآخر المختلف لا تكون له حقوق المواطن، بل وربما لا تكون له حقوق الإنسان كإنسان.

ولأن هذا المنهج هو الكمال كله، فلا شك أنه مُتصل بالمطلق التمامي؛ لذلك تكون الأيديولوجية الفاشية أيديولوجيةً تماميةً بدورها، لديها كل الإجابات وكل الحلول لكل سؤال ولكل شأن.

والكمال المطلق في النهاية ومن البداية فكرةٌ دينية؛ لذلك ترتبط الفاشية وتفرش ألويتها دومًا على أرضية دينية تكتسب منها القداسة، لتمنحها للعنصر القومي الذي تنتمي إليه، وهكذا كانت عبر التاريخ من هتلر إلى موسوليني إلى صدام حسين.

ومع القداسة التي تميز العنصر والقوم يتم نفي الآخر المختلف حتى لو لم يعلن مخالفته، لأن وجوده ذاته يعني المخالفة والنقيض، فكيف تكون مواطنًا في ألمانيا الهتلرية دون أن تكون نازيًّا؟ وكيف تكون في عراق صدام حسين وتعلن أنك من عرق كردي، أو من مذهب شيعي، ثم كيف تكون في مصر العروبة وتقول إنك قبطي؟ إن هذا يعني نقصًا في السيادة التمامية الكاملة؛ لذلك فإنك غير موجود بالمحو الدائم المقصود والمستمر للذاكرة التاريخية، كما في حالة الزمن القبطي في التاريخ المصري، وإما ينبغي إزالتك من الوجود كما حدث في عراق صدام، رافع لواء الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة. والأمة الواحدة تعني على الأقل وحدةً تمامية بين عناصرها في القطر الواحد، ومن ثم عقب صدام على إبادته للأكراد في حديثه للباحثة الأمريكية هيلمس بكل ثقة بالقول: «يستطيع القائد أن يصوغ شعبه كيفما أراد، وكي يفعل ذلك لا بد أن تكون الجماهير موحدة أولًا.» وهو يعني بلا تأويل (موحدة فيه)، في ذاته القدسية، أليس هو حامل لواء الرسالة الخالدة للأمة العربية الواحدة؟

ومن هنا يستمدُّ قداسته، وتصبح له الأسماء التسع والتسعون الحسنى؛ فالزعيم في النظام الفاشي يصبح بديلًا للنبي، كما كان خليفته طوال تاريخنا العبقري من أموي إلى عباسي إلى عثمانلي، وظهوره يأتي وقت الأزمات ليُنقذ البلاد والعباد، ويعيد زمن الفتوحات. انظر معي الكاتب القومي اليساري العروبي الناصري (معًا!) أمير إسكندر يشبه مولد صدام بظهور نجم فوق بلاد العرب، والجماهير مسلوبة تنتظر فقط مولد الزعيم المنقِذ البطل الملهم المخلِّص المعجزة، وهنا تأتي سمةٌ أخرى واضحة في المنهج الفاشي هي الإيمان بالمعجزة، أليست الرسالة الخالدة ذاتها معجزة، وحامل لوائها معجزة، والمقدسات عمومًا تمتلئ بالمعجزات، كما أنها اصطفائية؛ تصطفي العرق، وتصطفي الطائفة، تصطفي الحزب، تصطفي الزعيم، تصطفي خير الأمم، وعلى البقية الذوبان في الأوحد أو التلاشي، أو يكونوا خونة وذيولًا للمؤامرة الدولية الكبرى.

وعندما لا يتطابق الواقع مع المشروع العرقي الطائفي الفاشي، فهذا لا يعني خطأ في مشروع خير الأمم، إنما الخطأ في الواقع؛ فالأمة والقائد مُبرَّآن من الخطأ بحتمية الاصطفاء القدسي، فالأمة هي الكمال بشهادة المقدس، والقائد يستمد كماله منها ثم يمنحها ديمومة الاستمرار القدسي بقيادته، وهذا يعني أن الواقع هو الخطأ. وبما أن واقعنا في الداخل يجب أن يكون كاملًا بدوره فلا شك أنها المؤامرة القادمة من المتآمر الخارجي الدولي الصليبي الصهيوني الاستشراقي.

ألم تنتظر قيادتنا السياسية والعسكرية قدوم طائرات العدو في ١٩٦٧م من الشرق، فجاءتنا من الغرب (؟!) كذبة لعذر أقبح من ذنب، وعلى ذات القياس اكتشف نظام صدام أن مطالب الشيعة الحقوقية في كامل المواطنة وانتفاضتهم مجرد مؤامرةٍ إيرانية دبَّرها الشاه والخميني (؟!)، أما الحركة الكردية فهي نزعة عمالةٍ متأصلة في عائلة برزاني خلفًا عن سلف؛ فالشيعة ليسوا طائفة دينية مخالفة، وإلا فكيف وحَّد القائد الوطن بمشيئته؟ والأكراد ليسوا عرقًا يرفع ذات المطاليب، فهذا بدوره ينتقص من كمال المنظومة وقائدها، فليس هناك في الحقيقة سوى شعبٍ واحد وعرقٍ واحد ودينٍ واحد ومذهبٍ واحد، ليس هناك أي تعددية وإلا تعددت الآلهة، وبسبيل ذلك كان لا بد أن تتسم الفاشية الفردانية بالقمع الدموي وإهدار كل الحريات، من أجل وحدة الأمة.

والمعلومات والحقائق التي لا يردُّون أبدًا عليها، تفصح عن كابوسٍ مرعبٍ رهيب، حيث تمت التضحية بنصف مليون كردي من ١٩٧٠م حتى ١٩٩٧م، وكانت إبادة الأكراد تتم على قدم وساق طوال عقدين من ١٩٧٠م وحتى ١٩٩٠م دون أن يُحرِّك العرب ساكنًا أو حتى يعلنوا استنكارهم، بل كنا لا نسمع بتلك الأخبار إلا من الإذاعات الأجنبية، حرصًا على تماسك الأمة، ثم إن الأكراد ليسوا من العنصر العربي، كما أنهم يعلنون كرديَّتهم ويعتزُّون بها، وتلك ثالثة الأثافي.

هذا غير مليون عراقي وإيراني تمت إبادتهم في حرب الخليج الأولى، ومن ١٩٦٨م حتى ١٩٩٨م كان صدام قد اغتال ربع مليون عراقي من أجل الوحدة الوطنية التي هي الصخرة التي ستقام عليها الوحدة العربية، تلك الوحدة التي بدأها باحتلال دولة الكويت، التي انتهت بكارثةٍ كاملة المواصفات، ناهيك عن خسائر الأموال التي زادت عن ألف مليار دولار تم إهدارها من رصيد العرب في حربَي الخليج الأولى والثانية؛ فقط لعنترية الفاشية العربية التي لم تزل تجد من يؤيدها دون أي شعور بالإثم أو الخجل، فلماذا الخجل والأمة فوق الأفراد والزعيم فوق الأمة، والكل في واحد؟

ولعلنا لم نزل نذكر ذلك الإيمان الأسطوري بالمعجزة عند القائد الملهم، فعبد الناصر أكد وهو يغلق مضائق تيران في ١٩٦٧م للعالم أجمع أنه لن يتراجع عن قرار الحرب، ولو جاءت أمريكا فسيجعلها تشرب من البحر الأبيض، أو من الأحمر إذا لم يعجبها طعم الأبيض، أما صدام فأعلن في حديثه لمحطة C.N.N الأمريكية قبل الهجوم على بلاده بأيام أنه لا يشك في انتصاره على جيوش الثلاثين دولة التي أحاطت ببلاده ولا واحد في المليون، وكانت النتائج معلومة في الحالتين، ولم نزل نتجرَّع آثارها المُرَّة كل يوم.

والمعجزة كامنة في العقلية البدوية الرعوية العربية، والبدوي كان يؤمن إيمانًا لا يهتز بالمعجزة، لأن بيئته طبعته بطابعها؛ فهو غير فاعل في أرضٍ مُجدبة لا تقبل زرعًا ولا حصدًا، غير منتج، يستند إلى ظل سدرة في قيلولة متراخية دومًا حتى تفاجئه الخراف بالمواليد بعد التلاقح، أو بالمطر بعد قحط، أو بالقحط حتى الهلاك جوعًا، فالحياة يمكن أن تنتهي فجأة، أو تترعرع فجأة، بصُدفٍ إعجازية خارج إرادته وفعله، وما عليه سوى الانتظار، والفاشية العربية لم تقم بتفعيل تراث تلك المَواطن جميعًا في ضفيرةٍ واحدةٍ منتجة، بل ألقت كل ما قبل العروبة في المهملات، من تاريخ آشور باني بعل وحدائق بابل المعلَّقة، إلى تاريخ بُناة الأهرام والكرنك ومهندسي الري العبقري مصر القديمة، إلى معجزة الفينيقيين البحرية والأبجدية؛ كل هذا يُفرِّق ولا يجمع، إنه شعوبيٌّ ملعون، وأبقت فقط على الوافد الموحِّد المعجزة، مع نفي كل مخالف.

والقوميون والمتأسلمون يرون وفق تلك الفلسفة أنه من غير الجائز بل ومن الخيانة القومية أن نتحدث عن مأساة شعب العراق تحت فاشية صدام وبعثه؛ لأن الواجب القومي والديني يحتم على الجميع الوقوف صفًّا واحدًا مع صدام بحجة الوقوف مع شعب العراق المحاصَر، وحين يُرفع الحصار يكون لكل مقام مقال، فنتحدث عن تلك الأمور الجانبية التافهة كالديمقراطية وحقوق الإنسان وما إليها، فما دامت هناك معركة وعدو لا هو عربي ولا هو مسلم فلا مجال للحديث عن ديمقراطية ودكتاتورية، لا مجال للحديث عن الداخل الرهيب، ذات القصة القديمة، الذئب على الحدود دومًا، إذن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.

والمصيبة أن الذئاب كثيرة وستظل دومًا موجودة، وسيظل الوطن دومًا في طوارئ، ومنذ بدء التاريخ وهو في طوارئ، والذئب دائمًا على الحدود، وهذا يعني أن علينا أن نقف مع ذئبنا، ضد الذئب الغريب، حتى يأكلنا هذا أو ذاك.

١  تم نشره في مجلة روز اليوسف بتاريخ ١ / ٣ / ١٩٩٩م العدد ٣٦٩٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤