جذور الوعي الطائفي١

تثبت حقائق التاريخ أن الغازي المستوطن تقوم فلسفته الدعائية لتسويغ احتلال الأرض واستيطانها، على الإنكار التام لوجود شعوب أصلية هي صاحبة الوطن المحتل عبر تاريخه، والإصرار على هذا التبرير وترديده بشكلٍ دائم، حتى يختفي المواطنون الأصلاء وراء اكتساب الكذبة مصداقية الترديد المستمر. وهو ما أدَّته بجودة وكفاءة مؤسسة الدعاية الصهيونية ونجحت فيه لفترةٍ قصيرة، لتثبيت دعائم الدولة الناشئة تحت شعار «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض!» وإبانها تم تغييب الفلسطينيين تمامًا خلال تلك الحملة الدعائية العالمية الواسعة، لترويض الضمير الإنساني على ابتلاع الكذبة التاريخية الشريرة وقبول الوضع الجديد.

وهي ذات الفلسفة التي وقفت وراء اختفاء الشعب المصري من كتب التاريخ الإسلامي، حتى بدت مصر فيها موطنًا للقبائل العربية المهاجرة فقط، وكما لو كانت إبان فتحها فراغًا بلقعًا، بل إنك تجد رواياتٍ إخباريةً عجيبة الشأن، تزعم أن سكان مصر الذين اصطلحت تلك الكتب على تسميتهم بالأقباط من اللاتينية Egypt، قد غرقوا جميعًا مع الفرعون في لحجج البحر المفلوق بعصا موسى الثعبانية، ولم يبق بها سوى شراذمَ معدودةٍ حتى جاء الروم واستوطنوها، ثم جاء العرب وطردوا منها الروم واستوطنوها بدلًا عنهم.

أما من قال بوجود شعبٍ مصريٍّ أصيل في تلك الأرض، فقد قالها في عجالة سرد أحداث الفتح، وبحيث لا يعود القارئ يتذكرها بعد ذلك في خضم السرد الطويل والمتأني لتاريخ القبائل العربية في مصر أفرادًا وشيوخًا ومساكن، والحكاء التفصيلي لحكام مصر وسادتها وولاتها وأشرافها وقضاتها العرب، حتى لا تكاد وسط هذا الزخم العربي تجد ذكرًا لمصريٍّ مواطن بين الأبواب الطوال، إلا عند الإشارة إلى أحداثٍ طارئة تتعلق بجمع الجزية، أو عند التلميح إلى أحد كتاب القصر العربي الحاكم من القبط، أو إلى أحد المترجِمين، وما كان يتم ذلك إلا عند الحديث عن مصر كمصدر للتمويل والتموين والخراج الذي كان يتم نزحه آنذاك إلى عاصمة الخلافة.

وهي أيضًا ذات الفلسفة التي استمرت باستمرار ذات المنهج وذات العقلية ولم تزل فاعلة حتى اليوم؛ فهي التي دعت الحكم السوداني لنفي أقلياته العرقية والطائفية من حسابات دولته الإسلامية المزعومة؛ حتى مزَّقت الحرب الأهلية البلاد والعباد، وهي ذات الفلسفة التي دعت النظام العراقي إلى نفي عراقيين غير عرب كالأكراد، ومواطنين من غير المذهب الحاكم كالشيعة، من معادلاته السياسية؛ فحدث ما حدث وما يزال يحدث في العراق العريق، وهي ذات العقلية التي دفعت النظام الجزائري للردِّ على انتفاضة الأمازيغ احتجاجًا على اغتيال معطوب الوناس، بفرض اللغة العربية عليهم رسميًّا ودون استثناء؛ فحوَّلت الانتفاضة إلى ثورة أحدثت شرخًا إضافيًّا لمجموعة الشروخ القاتلة التي يعاني منها المجتمع الجزائري، وأيضًا هي ذات الفلسفة التي جعلت من المرأة العربية مجرد أقليةٍ مضطهدة في المجتمع أو ربما مجرد كائن.

والإحصاءات المعلنة تشير إلى النتائج التي حصدناها نتيجة سيادة الرؤية الطائفية على مناهجنا، بعد أن أدت إلى صدامات وصراعات انجلت في السودان ولبنان والعراق ومَواطنَ أخرى عن مصرع ما لا يقل عن مليونَي مواطن، وضِعف هذا العدد من الجرحى، وضِعف هذا الضِّعف من المشرَّدين والنازحين واللاجئين، بينما لم يفقد كل العرب في حروبهم مع إسرائيل أكثر من مائتي ألف مواطن، أي بنسبة عشرة بالمائة إلى صراعاتنا الداخلية، بدفع من وعيٍ طائفيٍّ عنصري غير وطني ولا إنساني.

هذا، رغم أن مواجهة الآخر المتفوِّق تبدأ أولًا بمواجهة أسباب الضعف والتخلف في الداخل، من أجل تماسكٍ وطنيٍّ قويٍّ متين يمكنه النهوض بعبء هذه المواجهة، وهي المواجهة الحضارية في المقام الأول، والتي بدأت تُنذر باختفاء شعوب من مسرح التاريخ لأنها لم تتدارك أخطاءها، ولم تتعلم لغة العصر ومعادلاته؛ فخسرت معركة الحضارة وأدَّت بنا إلى مجموعة هزائم وتراجعات جعلتنا نقبل بالأدنى قياسًا على مطالبنا العنترية الكبرى.

ولا أظن عاقلًا يختلف على أن أول أسباب التماسك الداخلي القوي والمتين يبدأ بترسيخ قيم المواطنة والانتماء للأرض وتاريخها، والاعتزاز بكل مُواطِن فيها بغضِّ النظر عن لونه أو جنسه أو دينه، بإرساء دعائمَ ليبراليةٍ واضحة تضمن مناخًا كاملًا للحريات، التي هي منبع الفرز الإبداعي اللازم للنهضة والخروج من مفترق طرق الأزمة، ومن ثم امتلاك الإدارة الوطنية.

لكنَّا في مصرنا العزيزة لم نزل نُعامِل تاريخها العريق العظيم بعقليةٍ سياحية، لا بترسيخ مفاهيم الأصالة وعشق هذا التاريخ واحترامه والاعتزاز به، لإعطاء المواطن الثقة بالذات المصرية الدافعة للقدرة على المواجهة والتحدي الحضاري الذي سنخوضه شئنا أم أبينا، فعلى مستوى الإعلام نجد قناة النيل الدولية كريمة فيما يتعلق بآثار مصر القديمة، لأنها فقط موجهة للسياح، لغير المصريين، أما بقية القنوات التي تخاطب المواطن فتكاد تخلو إلا من البرنامج الترفيهي اللطيف المعروف ﺑ «خمسة سياحة»، ومع ذلك لا تجد مواطنًا واحدًا لا يقبل عليه برغبةٍ ملحَّة في التعرف على مجد بلاده، ورغم أنه يتعامل مع تاريخ مصر بمنطق السياحة وحده، فلا حديث ولو أسبوعيًّا ولا ندوة للمناقشة، ولا عرضًا علميًّا، ولا حتى فيلمًا صنعه غيرنا، إلا بالصدفة التي تريد ملء فراغ مساحة التسلية الفيلمية، بينما لا تجد في بلد مثل فرنسا طالبًا بالمرحلة الثانوية، لا يعرف تفاصيل التفاصيل ودقائق الدقائق عن هذا التاريخ، فهل ثمة نكتةٌ مبكية تشبه تلك؟

أما الحقبة القبطية التي تصل إلى ما يقرب الألف عام، فهي ذلك التاريخ الساقط من التاريخ، هي تلك المنطقة الحرام، رغم ثرائها بالأحداث وبالثورات الجسام ضد الاحتلال الروماني وحتى ثورة البشمور إبان حكم المعتصم العباسي، وغناها بالفنون الرفيعة والتحوُّلات الاجتماعية الكبرى. أما علم التاريخ نفسه كعلم، سواء كان تاريخ مصر أم غيرها من عرب أو عجم، فقد أصبح لمزيد من النكاية مادةً اختيارية في مدارسنا (؟!) بينما المطلب الثقافي العام في أي دار علم يعني خريجًا على علم بتاريخ العالم، وإلا فقَدَ ركنًا عظيمًا من أركان المعرفة، أما المطلب الثقافي والوطني الخاص فهو التدريس الإجباري للتاريخ المصري عبر مراحله الثلاث: الفرعونية والقبطية والعربية في كل فروع وألوان ومراحل التعليم، بل إني لا أبالغ فأدعو لمشروعٍ طموح لتكوين كوادرَ تربويةٍ تقوم على مناهج لتدريس اللغات المصرية القديمة في مدارسنا، ليس بغرض إحيائها كلغةٍ محادثةٍ يومية، إنما بغرض حضور التاريخ فينا، وهو الأمر الذي لا يمكن احتسابه ترفًا علميًّا بقدر ما هو حثٌّ ودفع للعقل المصري والروح المصرية للتفكير بعقليةٍ مصرية وبحبٍّ مصري، وحتى يمكن إعادة استزراع الانتماء الوطني أولًا؛ الانتماء له كقيمةٍ عظمى تأتي بعدها أي قيمة أخرى، وحتى يشعر المواطن باستقلال وعزة وكرامة خصوصيته الوطنية والتاريخية والثقافية، ولا يظل مجرد تابع يُساق في منظومةٍ سائدة هي فقط جزء من تاريخه الثقافي وليست هي كل ثقافته، وحتى يكون المصري دليلًا حيًّا على استمرار حضارة مصر وعدم انقطاعها ناهيك عن الزعم السائد بموتها، ليس فقط أمام السائحين، بل أمام نفسه وأمام مسئوليته في الصراع الحضاري الذي تفرضه متغيرات العالم اليوم، وأمام دولة كإسرائيل استقبلت شظايا بشر من مختلف ثقافات العالم، وعلمتهم الاعتزاز والقبول باللغة العبرية الحفرية، حتى أصبحت مصدر فخر وعزة لبنيها. هذه هي الخطوة الأولى الضرورية إذن؛ ألا تغيب مصر الوطن والتاريخ والثقافات الثلاث عن أي خطةٍ إعلامية أو تعليمية، وحتى يمكننا أن نحلم بوطنٍ قوي قادرٍ متماسك يدخل القرن الحادي والعشرين بمفاهيم وأدوات الصراع الحضاري، ولا بد أن تقترن تلك الخطوة بخطوةٍ أكثر منها ضرورة؛ لأنها المدخل الطبيعي للتخطيط الوطني السليم، وهي الاعتراف الأوَّلي بأننا حتى الآن نفكر بعقليةٍ طائفية عنصرية وليس بعقليةٍ وطنية، خضوعًا لأوامر وتحريماتٍ ثقافة تم تسييدها لا تقبل مناقشة، وتضع منهجًا واحدًا يرفض مناقشة مشاكل الوطن بصراحة، وأخَصُّ تلك المشاكل بالبحث مشكلة شركائنا في الوطن. بل أدَّى هذا المنهج إلى رفض مجرد الإقرار بوجود مشاكل أصلًا، وهو الموقف الذي يُتَّهم أصحابه ويُطعَن في صدق وطنيتهم وولائهم لمصر، وفي مدى إخلاصهم لدستورها، الذي نصَّ على احترام حقوق المواطنة للجميع دون فرق بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة، ويشير إلى أن أصحابه يفكرون بعقليةٍ غير مصرية، بعقلية الغازي الفاتح المستوطِن الذي يريد أن يلغي من تاريخ مصر كل ما هو مصري لصالح الثقافة السائدة.

وإن إنكار وجود مشاكل يعاني منها أشقاؤنا في الوطن لن يساعد إلا على مزيد من التفاقم والتراجع عن الدور الحضاري المأمول لمصر، ولعل أبرز هذه المشاكل هو الموقف الرسمي الذي تبنَّى ما يُعرف بالخط الهمايوني الصادر في عاصمة السلطنة العثمانية بتاريخ ١٨ / ٢ / ١٨٥٦م، بعد أن أضاف إليه العزبي باشا وكيل وزارة الداخلية قراره في فبراير ١٩٣٤م على هيئة شروطٍ عشرة تقيد حرية بناء الكنائس، في الوقت الذي يتم فيه استغلال الحرية المطلقة لبناء المساجد من أجل منافعَ شخصيةٍ انتهازيةٍ دنيويةٍ بحتة، يتم عبرها كسر كل القوانين، بإنشاء العمارات السكنية العشوائية في مناطقَ يُمنَع فيها البناء بحكم القانون، بل والاستمتاع بكافة الخدمات والمرافق، مضافًا إليها منحه الإعفاءات الضريبية على العقار، لمجرد أن صاحبه كان فهلويًّا يتاجر بالدين لحسابه الشخصي، وقام بترك مساحة تحت عمارته تُخصَّص كمسجد، ليضيف لأوكار الإرهاب وكرًا جديدًا، يثقل كاهل الأمن بأكثر مما ينوء به أصلًا.

والمعلوم أن هذا الأمر قد أدى إلى وضع ترميم وإنشاء الكنائس بيد رئيس الجمهورية وحده، واستمر قائمًا دون تعديل، ودون وضع قوانين تضع الأصول المرعية لتفعيل مواد الدستور في حقوق مواطَنةٍ متساوية، حتى صدر القرار الجمهوري رقم ٢٣ في يناير ١٩٩٨م بتفويض المحافظين كلٌّ في نطاق محافظته لمباشرة اختصاصات رئيس الجمهورية بهذا الشأن.

وهو الأمر الذي يدفع دفعًا إلى التساؤل عن السبب وراء هذا التقييد في جانب، مع الحرية المطلقة على الجانب الآخر؟ والإجابة البسيطة تكمن في سيادة منهج التفكير الطائفي وليس الوطني على مستوى الشارع، بل وعلى كل المستويات؛ مما أدى إلى اعتبارات تراعي رأيًا عامًّا غير رشيد على حساب مستقبل الوطن، وهو الرأي الذي تمثله الفتوى العلنية المنشورة في مجلة الدعوة لسان حال جماعة الإخوان في حكم بناء الكنائس، وذلك في ديسمبر ١٩٨٠م، وتقول نصًّا: «إن حكم بناء الكنائس في ديار الإسلام على ثلاثة أقسام: الأول بلاد أحدثها المسلمون وأقاموها كالمعادي والعاشر من رمضان وحلوان، وهذه البلاد وأمثالها لا يجوز فيها إحداث كنيسة ولا بيعة، والثاني ما فتحه المسلمون من البلاد بالقوة كالإسكندرية بمصر والقسطنطينية بتركيا … فهذه أيضًا لا يجوز بناء هذه الأشياء فيها، وبعض العلماء قال بوجوب الهدم لأنها بلاد مملوكة للمسلمين … والقسم الثالث ما فتح صُلحًا بين المسلمين وبين سكانها، والمختار هو إبقاء ما وجد بها من كنائسَ وبِيَعٍ على ما هي عليه في وقت الفتح، ومنع بناء وإعادة ما هدم منها.»

فهل تجاوزت فتوى الإخوان الأصول؟ وهل أحدثت في الإسلام جديدًا قياسًا على ما نسمع من تسامحٍ جميل زمن الفتح؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فمن أين استمدَّت الفتوى مشروعيتها وإلى أي أصول استندت؟

الواضح من البداية أن الفتوى فتوى طائفية تمامًا، تعامِل الوطن بعقليةٍ غير مصرية على الإطلاق وتشهد على نفسها بذلك، فهي تتحدث عن بلاد موطوءة بالفتح، وعن ملكيةٍ آلت لأصحابها بالغزو، بالأرض ومن عليها من بشر، لها سادة وفيها أتباع آلُوا إلى التبعية بالهزيمة، وعليهم الخضوع لشروط السيد المنتصر.

لكن لو ناقشنا الأمر على هذا المستوى، فلن نجد في القرآن الكريم أي تفاصيل بهذا الصدد، كما لا نجده أيضًا في السُّنة النبوية المشرَّفة، فكل ما فعله النبي في حياته، ويتعلق بأصحاب العقيدة المسيحية، في غزواته على بلادهم على تخوم بلاد الشام مع جزيرة العرب، هو أنه أقرَّ أصحاب تلك البلاد على أرضهم وعلى دينهم لأنهم الأعلم بشئون رعايتها وفلاحتها، والأقدر على زرعها ومنافعها، فقط أصبح عليهم بعد هزيمتهم في الغزوة دفع جعول لخزانة الدولة الإسلامية الطالعة، وهو ما حدث في غزوة تبوك وأيلة، حيث صالحه يوحنا بن رؤبة على دفع الجزية، كذلك أهل جرباء وأذرح، كذلك صالح أكيدر الكندي حاكم دومة خالد بن الوليد زمن الدعوة على الجزية، ولم توضع أي بنود تُشير إلى التدخل في حرية العبادة ولا بناء دور العبادة من عدمه.

والمعلوم أنه لم يبدأ النظر في أمر دور العبادة لغير المسلمين إلا مع الفتوحات الإسلامية في بلاد الشام والعراق ومصر، بعد أن جدَّت أمورٌ جديدة لم تكن موجودة زمن الدعوة، حيث أصبحت تلك البلاد تحت السيادة المباشرة للعرب، إضافة إلى وفود القبائل العربية من جزيرتهم القاحلة لاستيطان بلاد الخصب المفتوحة.

وكان بالإمكان وفق أصول زمن الدعوة أن تعيش تلك البلاد حريتها الدينية الكاملة، حيث يختلف أمرها تمامًا عن أمر جزيرة العرب التي أوصى النبي بألا يجتمع بها دينان، ولم ترد دون ذلك أية إشارة واضحة حول أصحاب ديانات البلاد الموطوءة بالغزو.

لكن مع ذلك الجديد الذي تمثل في النزوح الكبير لعرب الجزيرة إلى تلك البلاد ومجاورة أصحابها بدينهم الجديد، أمسى الشأن مختلفًا وبحاجة إلى تأسيس قواعدَ جديدة، وكان طبيعيًّا أن تراعي هذه القواعد سيادة المنتصر، حيث لم يعد الأمر كما كان زمن النبوة مجرد غزوات على بلاد تدين بغير الإسلام لا يستتبعها احتلال واستيطان أو إقامة والٍ عربي فيها، كان الأمر فقط مجرد عهودٍ مكتوبة تنصُّ على دفع مقدارٍ سنوي من المال يدرأ عن أصحابه تجريد غزواتٍ جديدة عليهم (انظر في ذلك ابن هشام والسهيلي في الروض الأنف ج٢ ص١٧٨، وابن سيد الناس في عيون الأثر، ج٢، ص١٧٧).

المهم أن الهجرة العربية احتاجت إعادة تنظيم للعلاقة بين مجتمع الفاتحين الوافد ومجتمع البلاد الموطوءة بالفتح، حيث احتاج الفاتحون المستوطنون الجدد إلى إقامة معابدهم بدَوْرهم مع طرائقهم ونظمهم وطقوسهم، وهو ما كان سينشئ صراعًا حتميًّا بين عقيدة تدعو إلى أسلمة العالمين، وبين عقائدَ قديمةٍ ثابتة في بلادها، تستند إلى عهود إسلامية تضمن حرية العبادة.

هكذا ظهر التناقض الأعظم الذي كان لا بد أن ينتهي إلى استبعاد أحد طرفَي المعادلة، وكان طبيعيًّا أن يكون المستبعَد هو المهزوم، ومن ثم تراجع مبدأ حرية الاعتقاد لصالح الظرف الجديد، وهو ما توضِّحه شروط عقد الذمة التي كتبها المسيحيون في بلاد فلسطين على أنفسهم للخليفة عمر بن الخطاب، وسنرى الآن أنها كانت الأساس الواضح والمطابق بكامل مواصفاته للقسم الثالث من فتوى الإخوان التي تقول: «ما فتح صلحًا بين المسلمين وسكانها، إبقاء ما وجد بها من كنائس وبِيَع على ما هي عليه وقت الفتح، ومنع بناء وإعادة ما هُدم منها.» فيورد «الأبشيهي» في مستطرفه (ص١٢٢) بنود ذلك العهد، أو التعهد بالأحرى، في نصوص يقول فيها مسيحيو بلاد الشام:

إننا لن نحدث في مدائننا ولا فيما حولها كنيسة ولا ديرًا ولا قلية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما ضرب منها، وأن ننزل مَن مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام، ولا نظهر شرعنا ولا ندعو إليه أحدًا، ولا نمنع أحدًا من ذوي قرابتنا من دخول الإسلام إن أرادوه، وأن نوقِّر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، وألا نتشبه بالمسلمين في شيء من ملابس أو قلنسوة أو عمامة أو نعلَين، ولا نركب السروج ولا نتقلَّد السيوف، وأن تكون علامة لنا جز مقادمنا وشد زنار على أوساطنا، وألا نظهر صلباننا ولا نضرب بالنواقيس إلا خفيفًا، ولا نرفع أصواتنا على موتانا، ولا نجاور بموتانا موتى المسلمين، فإن خالفنا في شيء من ذلك فلا ذمة لنا.

هنا ينسرب السؤال المندهش: هل كان يمكن كتابة عقد الذمة هذا اختياريًّا؟ ومعه ينسرب الخيال يحاول تصوُّر شكل الأحداث التي حدثت أثناء الفتح المتسامح ودفعت أصحاب البلاد إلى كتابة عهد كهذا (؟!).

إذن لم تخرج فتوى الإخوان عن عهد الذمة هذا كما هو واضح في قسمها الثالث، فماذا عن القسمَين الأول والثاني منها؟

يقول القسم الثاني من الفتوى: «ما فتحه المسلمون من البلاد بالقوة كالإسكندرية بمصر والقسطنطينية بتركيا، فهذه لا يجوز بناء هذه الأشياء فيها.» سنجد مرةً أخرى أن هذا البند لا يعود إلى قرآن ولا إلى سُنة، إنما يستند بدوره إلى الزمن العمري، فنقرأ في ذات المصدر (ص١٢٣):

وكان عمر بن الخطاب قد أمر بهدم أي كنيسة تُبنى بعد الفتح مع عدم تجديد أي كنيسة بعده، وإذا ظهر صليب كُسر على رأس صاحبه. وهذا مذهب علماء المسلمين أجمعين، وشدد في ذلك عمر بن عبد العزيز، وأمر ألا يُترك في دار الإسلام بيعة أو كنيسةٌ قديمة أو حديثة، والله أعلم بالثواب، وإليه المرجع والمآب.

وقد أورد ابن عبد الحكم في كتابه فتوح مصر كتاب الخليفة عمر يحمل هذه الأوامر إلى الأمصار (انظره ص١٥١).

ويبقى القسم الأول من الفتوى الطائفية المرعبة، الذي يحتسب المدن التي أنشأها العرب في البلاد المفتوحة خالصة لهم كالفسطاط والقطائع، لا يجاورهم فيها ذمي بحكم عقد الذمة المذكور، وقياسًا على الفسطاط والقطائع نقيس وضع المعادي والعاشر من رمضان وحلوان من مدنٍ حديثة، يجب أن تخلو من الكنائس، ولا نعلم إن كان يُستحسن إخلاؤها من المسيحيين من عدمه، هذا رغم أن المعادي بناها الإنجليز إبان الاحتلال، والعاشر من رمضان وحلوان وأكتوبر وغيرها بناها المصريون مسلمين ومسيحيين يدًا بيد وكتفًا بكتف.

بهذه العقلية يتم التعامل مع الأشقاء في الوطن، ومع الوطن، ومع دستور الوطن، في فواتح القرن الحادي والعشرين، والأمر معقود إما بعزة الوطن ومستقبله على صفحة زمن تجاوز تلك العنصريات بأزمان، وإما بالعودة إلى استنبات جذور الوعي الطائفي لينشر في البلاد الزمن الرديء الذي كُتبت في ظله عهود الذمة، وإلى مناهج أدَّت بنا إلى تمزيق البلاد والعباد وانهزام الإرادة وانتشار لغة الطائفية والإرهاب الفكري والدموي، والبقاء في ذيل الأمم إن كان ثمة بقاء، بعد أن كانت مصر درة بلاد العالمين قاطبة.

فهل من لغةٍ جديدة؟ وطنية، مصرية، مخلصة، تجسد وعيًا وطنيًّا لا طائفيًّا من أجل تجاوز المحنة نحو وطنٍ عزيز يعيش فيه مواطنٌ كريم؟

أيها السادة: هل من مُدَّكر؟

١  تم نشره في مجلة روز اليوسف القاهرية بتاريخ ٢٠ / ٣ / ١٩٩٩م العدد ٣٦٩٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤