ومن الجهل ما قتل (؟!) …١

إبان الفترة الانتقالية من اقتصاد ملكية الدولة لوسائل الإنتاج إلى اقتصاد السوق، وحاجة البلاد إلى هدنةٍ سلامية تسمح بإعادة بناء بنيتها التحتية المنهارة بالكامل، في فترة ضعف وهشاشة بعد حروبٍ مدمرة، استنفدت كل ممكناتها، ظهرت الفتنة المسلحة المتشحة برداء الإسلام تزيد الأمر سوءًا وتنشر الإرهاب الدموي في البلاد، وتضرب مقومات الاقتصاد في مقتل وتُسقِط هيبة الدولة أمام مواطنيها وأمام العالم، وتشكك رءوس الأموال العالمية في إمكانية الاستثمار في بلدٍ غير مستقر أمنيًّا.

وهي الفترة التي عاشها جيل السبعينيات ليرى وطنه يتغير فجأة وبالكلية، حتى عَلَم البلاد ورمزها تغيَّر، ونشيدها الوطني تغيَّر، واقتصادها انقلب من ملكية الدولة إلى ملكية الأفراد، وتفككت تحالفاتٌ دولية وإقليمية، وتحوَّل أعداء إلى أصدقاء، ومع كل هذه التحولات كان هناك أمرٌ عجيبٌ مستمر؛ فبعض رجال العهد الماضي حماة الاشتراكية المزعومة الثوريون يصبحون من أهم رجال العهد الجديد، هم هم بذواتهم، لكن بعد أن غيروا جلودهم، ورجال الإعلام بذواتهم يتكسَّبون من المرحلتَين بذات الشخوص مع استبدال الأقنعة واختلاف الخطاب، وقاموا يعلنون لشباب السبعينيات أن كل ما بثه الإعلام السابق في عقولهم وأرواحهم كان هو الخطأ بعينه، وأن الجديد فقط هو الصح التمامي؛ ومن ثم كان على هذا الجيل أن ينقلب على ذاته، أو أن ينفصم، أو أن يكفر بكل شيء، لأنهم لم يحظوا أبدًا بتفسيرٍ واضحٍ مُقنِع لما يحدث؛ فدولتنا بين بلاد العالم هي التي لا تُصارِح شعبها أبدًا بالحقائق، وهي الوحيدة التي لم تفتح حتى الآن ملفات الماضي لتدارس أخطائه أو على الأقل لتبرير تحولات الحاضر، وكانت النتيجة مروِّعة؛ فقد اتجه بعض هذا الجيل نحو الثابت الذي لا يتغير، الذي هو خير وأبقى، شرع الله الذي شرع الجهاد فريضة، وكان ما كان من إرهابٍ دمويٍّ مدمِّر.

وهكذا، وبدلًا من أن تصارح الدولة شعبها بما حدث وبمبررات ما يحدث في الدنيا من تحوُّلات، وأن تعترف بمشاكلها بصراحة وتطلب من شعبها أن يشاركها هذه المشاكل وحلَّها عن قناعة وإيمان، ظلت الدولة تعزف أناشيدها الوطنية، وتُمجِّد العهدَين النقيضَين، وتمارس القرارات الفوقية وهي في أدنى مستويات الضعف والهوان، رغم أن المصارحة والمكاشفة كان يمكن أن تضع كل أبناء هذا الوطن في مصهرٍ واحد، وهو طبعٌ مصريٌّ معلوم عبر التاريخ، لكننا لا نقرأ التاريخ، وكان بالإمكان أن يكون البناء الجديد هو المشروع القومي البديل الذي تلتفُّ حوله الجماهير.

ومع سياسة التواري والتغطية والإخفاء أدرك العاملون بشئون التقديس من رجال الدين المحترفين، دون حاجة لذكاءٍ كثير، مدى ضعف موقف الحكومة واحتياجها للتبريرات الشرعية والأحاديث الغيبية وصرف الناس إلى النعم الأخروية، أدركوا مدى حاجة الحكومة إلى تغطيةٍ مناسبة إبان التحوَّلات بدلًا من المصارحة الشعبية والاعتماد على الجماهير، بل وتم طمس وعي تلك الجماهير وتغييبه وصرفه نحو العلم والإيمان الذي هو علم لا هو إيمان، وإغراقه في الشعوذات وعالم الجن والعفاريت والصحوة الإسلامية، بدلًا من إعلاء هذا الوعي بالمصارحة وطلب الجماهير للمشاركة لإنجاز التحوُّل بأقل قدرٍ ممكن من الكبوات.

ودرس التاريخ يُحدِّثنا بطوال فصوله عن فحولة أهل التقديس وقدرتهم على الوصال مع أهل الحكم والسلطان عبر تاريخنا التليد، وفي مقابل تأييد العمائم للدولة في مرحلتها الانتقالية وصراعها مع الإرهاب المسلح، قام أهل التقديس يقتنصون كل المساحات الممكنة في فرصة قد لا يجود بها الزمان مرةً أخرى، حتى اجترءوا على ما كان غير ممكن؛ فنزلوا ساحة السياسة بعقلية القرون الوسطى، ودون زادٍ علمي أو حضاري وبلا أي ذخيرةٍ معرفية تُناسب العصر أو حتى تتعرَّف على منجزاته، واستولوا على أوسع المساحات.

في الإعلام والتعليم فأظلموها وأغلقوا كل نوافذ الحريات، بل وجسُّوا نبض الدولة فوجدوه ضعيفًا فاستمرءوا تشريع ما هو ضد القرارات والمصالح الكبرى، لإثبات وجودهم كسلطةٍ سياسيةٍ موازية وإثبات إمكاناتٍ استقلالية قرارهم؛ كي يكونوا هم المرجعية وليسوا مجرد المبررين التابعين، وبهذا الصدد يكفي أن نتذكَّر فتاوى المرحوم جاد الحق شيخ الأزهر بشأن البنوك وختان الإناث وتحديد النسل … إلخ، ثم نتذكر كيف امتد الوصل والوصال الخفي إلى الأيدي القذرة الملوثة بالدماء الزكية، عندما أفتت جبهة علماء الأزهر بكفران فرج فودة، وتم التنفيذ الفوري باغتيال الرجل بهذه الفتوى، وهي الفتوى التي دعمها المرحوم محمد الغزالي بطلب من المحكمة بناء على طلب الدفاع (؟!)، وسفَّهوا سياسة وزير التعليم ووزير الثقافة، وصادروا الفكر والكتب عيانًا بيانًا، ودعَّروا الفن وصادروه، وكفَّروا نصف الأمة من المسيحيين في كتب بالمئات ملأت أرصفة الشوارع، وفي حملة قادها المرحوم الشعراوي في تلفزيون الدولة يكفر فيها المسيحيين المصريين تحت سمع الدولة وبصرها دون أن يجرؤ أحد في الدولة كلها على أن يقول له: استحِ مما تصنع يا مولانا.

وكعادة الدولة في عدم المصارحة لسوء ظنها بشعبها، استمر الكذب، وأصبح الإرهابيون مجرد قلةٍ منحرفة ابتعدت عن صحيح الدين، وأن سبب الإرهاب ليس من سياسات الداخل لكنه دسيسةٌ أجنبية ومؤامرةٌ دولية، وكان أبرز مثل للمأساة أو إن شئت «الملهاة السوداء» موقف الإعلام إثر مجزرة الأقصر الرهيبة، فبدلًا من أن يُقدِّم للمواطنين صورةً واضحة تشرح حجم الكارثة وأثرها الاقتصادي على كل بيت في مصر، ومدى المصيبة التي لحقت بالبلاد؛ ليهبَّ الناس في وجه الإرهاب دفاعًا عن أرزاقهم، قام إعلامنا يعلن يوميًّا ويُردِّد بغباءٍ ببغائيٍّ منقطع النظير عن كون الحادثة بلا تأثير يُذكر، ويحدثنا عن حجم الوفود السياحية القادمة أفواجًا من بلاد الفرنجة متطوِّعين لأجل عيون مصر، بدليل أن جميع الفنادق «كومبليت»، وكل شيء تمام، بعد أن جعلت مجزرة الأقصر عامنا عامًا للوفود، باحتشاد السائحين بمطارات العالم يتلهَّفون زيارتنا ليُقدِّموا أنفسهم ذبائح لأجل عيوننا، وفي الوقت ذاته، وعلى الخط الموازي، بدأت دعوة المصريين بأجورٍ مخفضة لملء الأماكن الشاغرة بالفنادق التي ينعق على خرابها البوم، فهل ثمة سياسة في الدنيا كتلك؟ في دولة تعيش مرحلةً انتقاليةً مأزومة!

ولأسباب ما زال بعضها خفيًّا، وصار بعضها معلومًا، انحسرت موجة الإرهاب الدموي، لكن مع إصرار الدولة على منهجها، ولأن رجال الدين المحترفين ذوو عيونٍ ثواقب، فقد وجدوا الفرصة سانحة للاستيلاء على بقية المساحة الشاغرة التي غادرها الإرهاب، أما الدولة التي كان يجب أن تستشعر قوتها وتبدأ في تحكيم القانون في البلاد، وضبط الشارع المنفلت، وضرب الفساد المستشري، وتغيير سياستها التعليمية والإعلامية بما يتفق وسياسات اقتصاديات السوق والمبادئ الديمقراطية، ظلت الدولة على حالها واستمر إرهابٌ آخر يعلن العصيان على توجهات الدولة عبر صحف تملكها الدولة وتديرها الدولة، ويكفي أن نلقي نظرة على بعض أعداد صحيفة عقيدتي، أو صحيفة اللواء الإسلامي التي يصدرها الحزب الوطني الحاكم، أو حتى ما تسمى بالصحف القومية مثل الأهرام وكبار كتابها وكيف يفكرون، مثل الأستاذ فهمي هويدي أطال الله في عمره ومدَّ في أجله.

ولعل الأسباب الواضحة لهذا الذي يحدث في الإعلام والتعليم أنه ترك مساحة الإعلام والتعليم خلال الحقبة الانتقالية كاملة للفكر المتطرف حتى تربع فيها وأفرخ وتوالد، وأثناء ذلك تمت برمجة عقول الناس على أحادية الفكر والرأي، بواسطة مثقفي الدولة (إن جاز تسميتهم مثقفين)، الذين لا يجيدون سوى فن التملق والارتزاق، ولا يملكون من زاد المعرفة شيئًا ولو يسيرًا، لكنهم يجيدون حقًّا وصدقًا كل فنون الفاشية الملازمة للجهالة والفكر المتخلف والإرهاب الفكري بكل فنونه، حتى أمسينا بحاجةٍ ماسة وفورية إلى إعادة تغييرٍ شامل، ليس فقط للوجوه والشخوص، إنما أصبحت الحاجة ماسة إلى وضع برامجَ جديدةٍ متكاملة، ومصر غنية بأبنائها ولم تزل ولَّادة دومًا.

وعند محاولة إصلاح الخلل لم يتم ذلك بشكلٍ علميٍّ مدروس، ونموذجًا لذلك ما حدث إزاء صدام جبهة علماء الأزهر التي تضم كبار الفاشيست وزعيمهم الشيخ حبلوش المكفراتي؛ مع الإمام الأكبر للأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي، فتلك الجماعة لها ملفٌّ عظيم من المخالفات الكفيلة بحلها بشكلٍ قانوني لخروجها عن القواعد المنظمة والمسوغة لوجودها كجمعية، ومع ذلك لم يهتم أحد ببذل هذا الجهد البسيط لإدانتها وحلها بشكلٍ قانوني، إنما تم استصدار قرارٍ سيادي بحلها من السيد محافظ القاهرة.

وهكذا، وبعد الممارسات والتكفيرات وفتاوى القتل التي أصدرتها الجماعة بحق المفكرين والفنانين، لم تنشغل الدولة إلا عندما اصطدمت الجماعة برموز الدولة السيادية، وهنا صدر القرار السيادي بحلِّها.

وبعدها نامت الدولة في العسل (على طريقة الأستاذ وحيد حامد فعلًا وقولًا) ولم ينتبه السادة للجماعة وهي ترفع شكايتها للقضاء الإداري، وأظن جازمًا أن أحدًا لم يقدم الوثائق الكفيلة بإدانة تلك الجماعة قانونًا، حتى صدر قرار المحكمة ببطلان قرار الحل؛ لأن القانون في بلادنا أصبح غير ذي صفة، يكسره الجميع عيانًا بيانًا دون رادع من الوزير إلى الخفير؛ لذلك كسبت الجماعة وخسرت الدولة، ولأني أحسن الظن بالقضاء المصري، ولا أظنه انحاز للجماعة، فإن ظني يصبح يقينًا أن القاضي لم يجد بين يديه الوثائق الكفيلة بإدانة الجماعة وحلِّها.

ولتضحك معي قارئي، أو لتبكِ إن شئت، وأنت تطالع معي صحيفة اللواء الإسلامي في ٢٠ / ٥ / ١٩٩٩م (يصدرها الحزب الوطني - للذكرى الخالدة) حيث كتب الشيخ عبد العظيم المطعني بسفورٍ مدهش وصراحةٍ صارخة واطمئنانٍ عجيب، يبرره إدراك الرجل مدى الخلل في منظومة الدولة، وأنه لا رابط ولا زمام ما بين الصحيفة وحزبها ودولتها، وكل واحد في وادٍ، ولا أحد يقرأ، ولا أحد يتابع، بل وربما لا أحد يهتم، حتى أصبحت المجلة وكرًا للفكر الإرهابي، انظر معي فضيلة الشيخ المطعني يُعقِّب على ما حدث بفرحٍ غامر يقول: «إن الحكم الذي أصدره القضاء المصري في الأسبوع الماضي لصالح جبهة علماء الأزهر بإلغاء قرار حلِّها، وتمكينها من العودة لممارسة نشاطها؛ وسام شرف على صدر القضاء المصري النزيه.» ونحن مع المطعني نؤمن بنزاهة قضائنا، وأن التقصير كان في سوء الأداء وعدم تقديم وثائق الإدانة، وكان يكفي وثيقة تكفير فرج فودة التي أدَّت لاغتياله، وكانت وحدها كافية ليس لحل الجماعة بل ومحاكمة أعضائها للتحريض العلني على القتل.

ونتابع فرحة المطعني العارمة إذ يقول: «هذا القرار يبعث على الاطمئنان في قلوب الناس، وأنهم سيجدون إذا وقع ظلم من أي مصدر عليهم، فإن هناك سلطةً قضائية تنصفهم وتستردُّ لهم حقوقهم، ولو من فم الأسد.» وللتوضيح والبيان فقد وضع المطعني عبارة «من فم الأسد» بين قوسين كبيرين في تحدٍّ سافر؛ ففم الأسد هنا هو الإمام الأكبر وهيبة الدولة معًا.

ثم يستكمل المطعني ليضرب تحت الحزام غامزًا من خلل وفساد بقوله: إن هذا القضاء «يعيد التوازن إلى الحياة، ويقضي على كل فساد إذا رُفع إليه الأمر.»

وهو ما يعني أن من اتخذوا قرار الحل فيهم خلل وفساد والكلام واضح لا يحتاج إلى شرح؛ لذلك يستمر سيادته مُحرِّضًا الجبهة مناديًا: «وعلى جبهة علماء الأزهر أن تُزيل العقبات من طريقها، وألا تخشى بعد ذلك في الحق لومه لائم، وعليها أن تواجه تلك الحملات العلمانية الضارية.»

هذا ما كان من فرحة المطعني، أسعده الله وجعل أيامه كلها مرحًا، لكن لتنظر معي كيف يفكر زعيم الجبهة الشيخ حبلوش، وكيف يُعبِّر بفكره عن منهج تلك الجبهة في مثال يخصنا عقَّب به علينا قائلًا: «إني أرى في المسارعة إلى منازلة المبطلين ترويعًا لهم وتشريدًا لمن خلفهم، وينبغي أن يشعر هؤلاء الآثمون في منازلتنا لهم بحقارتهم وهوانهم على الأمة، ويجب أن يفزعوا بحرارة إيمان المؤمنين واتَّقاد يقين المؤمنين؛ فسلاح القذف ولغة الدمغ هي الأسلحة الثقيلة التي لا يصلح غيرها لمنازلة المجرمين الجاحدين.»

هكذا يرى الحبلوش نفسه وفريقه هم المؤمنين متقدي الإيمان، وهو زعيم هذا الأتون الملتهب، ومن خالفهم من الآثمين، وأن على الحبلوش وجماعته المتقدة واجبًا جهاديًّا مقدسًا لأنهم مبعوثو العناية الإلهية بموجب توكيل إلهي للتفتيش في ضمائر الناس ومحاكمتهم وسبِّهم علنًا وإصدار الأحكام عليهم وتنفيذ هذه الأحكام، فهل ثمة فاشيةٌ أروع من فاشية الحبلوش؟

وبطيب أصله ومنبته يقول لي بأدب أهله، وما أطيب ريح فمه إذ يقول:

«وهو الملعون بلعن الله. والملعون مطرود من ساحة الرحمة، فينبغي أن يعامَل معاملة الأجرب الحقير، فكيف بهذا الملعون إذا جمع إلى حقارته ووضاعته التجرؤ على الله علانيةً والهزء بدينه صراحةً؟! إنه في حقيقة أمره جماع الأخلاق السافلة والطباع اللئيمة الذي يجعل صاحبه قرينًا لأخس الحيوانات قيمة وقدرًا في هذا الوجود». (انظر كتاب الآيات البينات لما في أساطير القمني من الضلال والخرافات)

ولو تساءلنا كيف تجرأ شخصي المتواضع على الله ودينه فإننا نجده يجيب في صحيفةٍ حزبية لا تستحق ذكر اسمها هنا في تصريحٍ صحفي نشر بتاريخ ٨ / ٥ / ١٩٩٩م تعقيبًا على ما كتبنا بروز اليوسف حول حد الرجم، يقول الصحفي (إن جاز تسميته صحفيًّا): «وكعادته في الغيرة على الإسلام ومعتقداته يشنُّ الدكتور يحيى إسماعيل حبلوش هجومًا شديدًا على القمني بقوله: الدكتور سيد القمني يفتري على الإسلام والأديان السماوية بدوافعَ خبيثةٍ، وأنا راضٍ بحكم العامة والخاصة في كلام القمني لنعرف مدى تطاوله على المعتقدات؛ ففي كتابه «قصة الخلق» (ص٧) يقول: «عندما كان المجتمع في الابتداء مشاعًا كانت أرباب السماء في متعة الشيوع تمرح.» أيصلح هذا الكلام أن يصدر من رجل ينتسب إلى أي دين فضلًا عن أن يكون منسوبًا إلى الإسلام؟ وفي ذات الصفحة يقول: «عندما تم تقسيم العمل على الأرض تحوَّل مجتمع السماء إلى آلهةٍ شغيلة.» فهل هذا يليق بمسلم يعدُّ نفسه من المفكرين؟ فالقمني صاحب باعٍ طويل في ازدراء الله تعالى والسخرية من الأنبياء والتهوين من الفاحشة؛ لذلك لا نستغرب تطاوله وإنكاره لحد الرجم.»

وهكذا اختلف الرجل معنا بشأن ما قلنا بروز اليوسف عن حد الرجم وهكذا جاءت لغته، لكنه أبدًا لم يناقش شيئًا مما قلنا؛ فالرجل بضاعته من المعرفة قليلة، وزاده من الأدب الرفيع واضح؛ لذلك ترك الموضوع كله واهتم بتكفيرنا بأي أسلوب فذهب لكتابي «قصة الخلق: منابع سفر التكوين» يأخذ منه أدلة التطاول على الله (؟!) والكتاب في الأسواق لدى الجميع، يتحدث عن المجتمع البدائي في الرافدين القديم حيث كانت الآلهة بالآلاف وكيف تصوَّر الرافديون القدامى خلق الكون عن طريق هذه الآلهة، ويأخذ منه تلك العبارات ليؤكد تطاولنا على ذات الله (؟!) الرجل لم يرد على ما قدمنا من مصادر من أمهات الكتب الإسلامية في موضوع الرجم، أو هو لم يجد ما يرد به، ولم يجد لدينا كذبًا أو افتراءً، فذهب لكتابٍ قديم من كتبي حول أساطير الرافدين القديم ليصور للناس أنني أتحدث عن رب العزة …

هكذا يختلفون، ومن خالفهم ولم يستطيعوا معه حجة كفَّروه ولو بالتزوير والتدليس، ليس لأن الناس كذلك، ولكن لعجز الحبلوش وفريقه عن الفهم وأصول الخلاف المحترم.

ثم يقول الحبلوش: «ثم يصف إبراهيم بكل خسَّة وولدَيه إسماعيل وإسحاق بأنهم من البطاركة الأوائل، وذلك في كتاب رب الزمان ص٣.»

الحبلوش تصوَّر كلمة بطاركة أنها سب وشتيمة فسبَّني — سامحه الله — ووصفني بما ينضح من إنائه غير عالم أن «بطاركة» تعني «آباء» من اللاتينية Pater، والكتاب المذكور كنت أبحث فيه في التوراة، وأصحاب التوراة لا يعرفون إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف كرسلٍ أنبياء، لأن أول نبي لديهم هو النبي موسى، وأما هؤلاء فهم آباء للشعب العبري، ويطلق على زمانهم الزمن البطريكي أي زمن الآباء الأوائل للشعب العبري، والبحث كان في التوراة العبرية وعقائدها وليس في الإسلام ولا في القرآن.

بهذا العلم الغزير والأدب الرفيع يتزعَّم الحبلوش جبهة من أمثاله، وبهذا يُكفِّرون الناس ويُهدِرون دماءهم ويصدقهم العوام وينفذ الحكم نجار مسلح أو سباك، هذه أمامكم لغة حوارهم، وهذا قدر علمهم، وبهذا الزاد يريدون الوصاية على البلاد والعباد.

والجهل — كما تعلمون — أنواع: منه الجهل البسيط، ومنه الجهل المركَّب، ومنه ما قتل.

١  تم إرساله إلى مجلة روز اليوسف ولم يُنشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤