منهج الطائفية وجائزة التسامح١

في عُرسٍ دوليٍّ راقٍ تسلمت السيدة سوزان مبارك جائزة التسامح التي حفظت لها حقها التاريخي عن جدارة واستحقاق، لما بذلته من جهودٍ معلومة على مستوياتٍ عديدة، لعل أهمها المستوى الثقافي وهو ساحة تشكيل وعي المواطن؛ لإيمانها بالتنوير كسبيل باتجاه سيادة مفاهيم التسامح، التي لا يمكن استقرارها وتفعيلها إلا في هياكل دولةٍ مدنية، بهدف أن تدخل مصر عصرًا تأخرت عنه طويلًا، على مستوى الحكومة والدولة والمجتمع، لتسهم بدورٍ يليق برصيدها التاريخي من الحضارة، في الدفع من أجل مزيد من الارتقاء الإنساني على الكوكب الأرضي.

وفي كلمتها المتوازية الدقيقة المفصِحة عن وجهٍ حضاريٍّ حقيقي، والأكثر رقيًا وحسًّا إنسانيًّا من كثير مما نسمع في عالمنا الثالث، أكدت هذه السيدة الجليلة أن جائزة التسامح هي لمصر جميعًا، وهو ترميزٌ واضح لأصحاب العقول يُشير إلى طريق الخروج من منطقة الأزمة عبر المعاني التي تحملها الجائزة. ورغم ذلك فإن المطالع لجهود هذه السيدة مقارنًا ببقية واقعنا ونغماته السائدة، لن يجد بُدًّا من نقد هذا الواقع قياسًا على رموز جائزة التسامح ومعانيها نقدًا واضحًا حتى لا تظل وحدها مع نفر يُعدُّ على الأصابع من دعاة الدولة المدنية ينادون في بيداء ويصرخون في برية.

•••

ولا شك أن الاستعمار بكل ألوانه، والسيطرة على الآخر والتدخل في شئونه الداخلية، وفرض إرادة القوي على الضعيف سمة من سمات التدني الحضاري التي لم تتخلَّص منها الإنسانية بعدُ، ونحن بالطبع ألدُّ أعداء الاستعمار، وضد كل ألوانه وأشكاله؛ لأننا كنا الجانب الأضعف منذ أغلقنا النوافذ على عقولنا وتقوقعنا داخل الشخصية الثقافية الثابتة الواحدة، بينما ننعاها كل يوم على بني صهيون.

وهنا يأتي التساؤل المفترض عن مدى صدقنا مع أنفسنا في الموقف من المبدأ الاستعماري، وهل هو موقفٌ مبدئيٌّ أخلاقي يتسم بديمومة المبادئ واستمرارها؟ الواضح أننا نلوم القوي لأنه قوي ولا نلوم أنفسنا لضعفنا، ولا نبحث عن أسباب هذا الضعف لتجاوزه؛ لنعيش دنيا الأقوياء، ونُروِّج تبريرًا لهذا الضعف أن الاستعمار يكمن لنا بمؤامراته في كل طريق، بينما الحقيقة التي نتغافل عنها هي أن ضعفنا كان السبب في استعمارنا وتواري إرادتنا وتراخيها.

إننا من موقع الضعف نعلن دومًا تمسكنا بالمبادئ الرفيعة مثل رفضنا لتدخل الدول القوية في شئون الدول الأضعف، ولكننا أبدًا لم نجد بأسًا في التدخل في شئون أفغانستان إبان ما سمي بالجهاد ضد الشيوعية، كما لا نجد أي مانع من التدخل في البوسنة.

نعم نحن ضد الاستعمار لكننا نرسل الدمع ثرًّا في بكائياتٍ مكلومة كلما جاء ذكر الأندلس التي تحرَّرت من استعمارنا، وفي الوقت ذاته نؤمن عن يقين أننا رُسل السماء لاحتلال العالم ونشر كلمة الله فيه، ولم يزل خطباء المساجد والزوايا في كفورنا ونجوعنا يدعون الله أن يساعدنا في احتلال بلاد الغير ونفل أموالها وسبي ذراريها ونسائها.

وفي مصنفات سيد قطب نجد دعوةً واضحةً صريحة للتدخل في شئون الشعوب والأمم الأخرى وفرض الإسلام عليها بالقوة، لأن منهج الإسلام هو إزالة الطواغيت من الأرض جميعًا وتحطيم الأنظمة السياسية القائمة فيها، أو أن يدفعوا الجزية عن يدٍ وهُم صاغرون، أما الشيخ يوسف البدري فيرى أنه من واجب المسلمين إعلان الحرب على بلغاريا وإسبانيا باعتبارها ديارًا للإسلام.

فهل تُفصِح هذه اللوحة عن إيمان بمبدأٍ إنسانيٍّ رفيع نتمسك به؟ أم أن الأمر لدينا كما لدى الجميع، حيث فعلنا فعل القوي زمن القوة؛ فأقمنا إمبراطوريةً كبرى باحتلال بلدان المتوسط جميعه، وهو الأمر الذي يُسقِط حجة تَميُّزنا الثقافي الذي ندَّعيه ونترفع به على العالم، فقانون القوة والضعف يسري على الجميع دون تميز لشخصيةٍ قومية على أخرى.

وهناك مشتركٌ واضح بين أحوال الأمس وظروف اليوم يقف وراء استمرار دعوة القوة زمن الضعف، وهو المشترك الذي لا يجعلنا نلتفت إلى أمراضنا الذاتية لعلاجها، وهذا المشترك هو منهج الطائفية العنصري، الذي يكاد يُلغي الوطن ومفاهيمه من خريطة همومنا، فقط نحن نُكرِّر ونُكرِّس طوال الوقت مفهومًا عنصريًّا مفاده أننا خير الأمم بدينها، والأفضل بين العالمين؛ لأننا حزب الله، وكل آخر هو في الدرك الأسفل؛ لأنه حزب الشيطان.

وإعمالًا لهذا المنهج دعا الأستاذ الحمزة دعبس الرئيس الأمريكي كلينتون للإسلام، وهي الدعوة التي سبق ووجهها لسلفه بوش، وأبدًا لم يتساءل الأستاذ دعبس عما يمكن أن يُغري بوش أو كلينتون بالإسلام وهو يرى أحوال المسلمين في أدنى درجات الأمم، ويبدو أنه قد تصوَّر أن مجرد إسلام كلينتون يعني دخول الأمريكان في دين الله أفواجًا، كما لو كان شيخًا لقبيلة تتبع سيدها، غير مدرك للفارق بين طرائق الأمريكان وطرائقنا في التفكير، وفي الأنظمة القانونية والاجتماعية والسياسية، ثم لا بد أن نتساءل عن موقفنا لو فكَّر كلينتون بنفس المنهج وطالبنا بدخول دينه أو الحرب أو الجزية؟

إن الطائفية كرؤيةٍ عنصرية لا تُشكِّل خطرًا على الآخر المخالف، خاصةً مع وضعنا المُزري خارج الحضارة، لكن خطرها الماحق على الوطن والناس في هذا الوطن، ولأن أصحاب المنهج الطائفي ينزعجون من قوى الاستكبار فيبدو أن الأستاذ دعبس رأى أن الحل هو الاستسلام لقوى الاستكبار شريطة أن يكونوا مسلمين، ولا بأس في هذه الحال من التبعية، وهو ذات المنطق الذي قبلنا بموجبه حكم الديلم والمماليك والعثمانلية وغيرهم من سقط متاع الشعوب ومن سبقوهم على أكتافنا دورًا فدورًا، لا لشيء إلا لكونهم مسلمين؛ مما أدى إلى تواري مفهوم الوطن وكاد يلغيه بالكامل.

والمنهج الطائفي لا يتوقف عند تلك الأسماء، إنما يتعداه إلى هيمنة للمنهج العنصري سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا للدولة والمجتمع ومجموع القيم والسلوك للأفراد والمؤسسات، بينما الشرط الأول للكرامة الوطنية هو تماسك الوطن في مراحل التحول والمنحنيات الخطرة، وهو ما يغفله المنهج الطائفي ولا يستطيع حتى التفكير فيه.

وهنا نستأنس بفقرة للأستاذ نجيب محفوظ أوردها في كتاب أصدرته الهيئة العامة للكتاب ضمن سلسلة كتب مواجهة الإرهاب يقول فيها: «هناك ملاحظات على تعامل الدولة مع المواطنين وما يشوبه من تحيُّز وتفرقة. والإعلام كثيرًا ما يذيع على أوسع نطاق ما يعدُّ استهانة أو تحقيرًا أو إنكارًا لعقائد الآخرين، دون مراعاة لما قد يُسبِّبه ذلك من هزَّات في تماسك المجتمع.»

وهذا يعني أننا نفتقر لعنصر التماسك الوطني ليس بسبب غيرنا لكن بسبب منهجنا، رغم أن لدينا دستورًا ينص على قواعد المدنية، وإن إعمال هذه النصوص لتحقيق الحريات المدنية هو الكفيل بالوحدة الوطنية التي هي أساس هوية الوطن، فهوية المسلم المصري مصرية لا أفغانية ولا حجازية، وهوية المسيحي المصري مصرية لا أمريكية ولا فرنسية، وعدم إعمال تلك النصوص بوضوح وبسرعة يعني تشرذم الولاءات؛ حيث ينتمي المسلم المصري إلى الأفغاني والحجازي وينتمي المسيحي المصري إلى الأمريكي والفرنسي.

وقد سبق وقلنا وزدنا إن لمصر ثلاث ثقافات لا ينبغي أن تعلو واحدة منها فوق الأخريات، وتلك الثقافات هي الثقافة المصرية القديمة الأصيلة، ثم الثقافة القبطية وهي ثقافةٌ مصريةٌ مكتوبة بالحروف اليونانية، ثم الثقافة العربية الإسلامية الوافدة، وإن تسييد الثقافة العربية وحدها فوق الثقافات الوطنية الأخرى يطعن في صدق مبدأ المواطنة المصرية؛ لأن من يبغي سيادة الثقافة العربية وحدها لا يرى في ثقافات مصر السابقة ثقافة له، مما يعني أنه لا يفكر كمصري، بل كمستوطن عربي غازٍ؛ لهذا نُكرِّر أن منطق الطائفة يستتبعه بالضرورة إلغاء مفهوم الوطن بل وتمزيق هذا الوطن.

والملاحظ أن أدعياء الثقافة العربية وحدها يتجاهلون دور المسيحيين المصريين والعرب في صياغة المنظومة الثقافية المصرية والعربية؛ مما يؤدي إلى قلقهم على مصيرهم وشعورهم بالغربة في وطنهم؛ لحصرهم في خانة الطائفة وليس في مفهوم الوطن الأرحب، والكلام عن تسامح المسلم مع المسيحي لا يُغيِّر واقعًا؛ لأنه في مفهوم المواطنة لا يُفترَض وجود طائفة تسود وتتسامح أو لا تتسامح، بل يُفترض مبدأ المساواة لا مبدأ التسامح مع أهل الذمة، وقد أقرَّ الدستور المصري مبدأ المساواة بصرف النظر عن العقيدة، كما وقعت مصر على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يقول في مادته الثانية: «لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي شيء آخر.» ودرس السودان ماثلٌ أمامنا منذ فجَّرته الطائفية.

وتكون الكارثة أعمق عندما تعتقد الطائفة السائدة أنها تمثل الخير كله بحسبانها حزب الله، لأن هذا يعني أن من يخالفها مخالف للحق؛ لذلك لا بد من تدمير المخالف وإزالته، وهنا تُفرِخ الممارسات الإرهابية وتبيض، ومن هنا نلحُّ على أن علاج ظاهرة الإرهاب ليس فقط بالمواجهات الأمنية، إنما بتفعيل المنهج المدني على كل المستويات. والمعلوم أن من يرفض المنهج المدني صاحب مصلحةٍ طائفية ومن يطلبه صاحب مبدأٍ وطني، فأغلبية باكستان المسلمة ترفض تطبيق المنهج المدني بينما تلح في طلبه الأقلية المسلمة في الهند، فالمنطق المدني ينحاز للإنسان وليس إلى طائفته أو طبقته؛ ويقوم على الحرية ولا يجبر أحدًا على اعتناق مبادئه بالرصاص والرشاشات، أما المنهج الطائفي فهو الذي دفع بالدكتور أحمد شلبي في سلسلة المواجهة ذاتها التي أسلفنا قول الأستاذ نجيب محفوظ فيها، ليقول: «أعداؤنا في الخارج اهتزوا لسقوط واحد أو أكثر من الأقباط بيد المسلمين، ولكنهم لا يُعيرون أي التفات لسقوط الآلاف من المسلمين بيد المسيحيين في البوسنة والهرسك.»

وبغض النظر عن قوله بسقوط واحد أو أكثر لما فيه من تزييف، فلنا أن نلاحظ إلى أي حد وإلى هذه الدرجة يغطي منهج الطائفة مساحة الرؤية ويصبح الأقرب للمسلم المصري المسلم البوسني وليس القبطي المصري، الذي تصبح دماؤه حلالًا، وعليه أن يدفع ثمن ما يحدث في البوسنة والهرسك.

ألا ترون أننا بحاجة إلى تغييرٍ عظيم وجهدٍ أعظم حتى نستحق كرم السيدة سوزان مبارك بإهدائنا جائزتها، جائزة التسامح؟!

١  تم نشره في مجلة روز اليوسف القاهرية بتاريخ ١٤ / ٩ / ١٩٩٨م العدد ٣٦٦٦ (عند النشر اقتطعت المجلة أجزاءً من الموضوع ولم تنشرها).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤