الواحدية والتعددية١

هناك نغمةٌ سائدة يرددها الإسلام السياسي عبر مجلاته وصحفه المتعددة، وعبر مقارِّه التي تتعدد بتعدد المساجد والزوايا التي تعد بمئات الألوف، وهي النغمة التي ترسل نُواحها وعويلها وهوانها تندب تواري الفكر الإسلامي في أجهزة التثقيف والإعلام الرسمي للدولة، وأن تلك الأجهزة قد فتحت أبوابها للفكر العلماني على مصراعيها، وتصحب تلك الشكوى أمثلة على ذلك بالمسرحيات الهزلية والأفلام الخلاعية والإعلانات المبتذلة والرقص، وما إلى ذلك، كما لو كانت هذه هي العلمانية.

والمدهش أن تجد تلك النغمة المزورة آذانًا صاغية دون الوقوف وهلة للتأكد (فيما ينبهنا الدكتور فؤاد زكريا) من صحة ذلك الاحتجاج، ودون مقارنة بين عدد الصحف والمجلات والكتب الحزبية والرسمية التي تكرس وجهة نظر الفكر الإسلامي والسياسي منه خاصةً، ولا تجد على الوجه الآخر مقارنة لنقول (مقارنة بين كذا وكذا) لأنه لا توجد مجلة ولا صحيفةٌ واحدةٌ مخصصة لمفكري التيار العلماني على غرار اللواء والدعوة والشعب والنور وعقيدتي … إلخ، بل إن أي مفكر علماني يحاول أن يجد أي منفذ يصل به إلى وعي الناس، ويتحايل فيما يكتب ويلتفُّ ويحاذر لكي يقول كلمته، هذا إذا وجد المنفذ، ثم هل سمعنا برنامجًا واحدًا على أي من قنواتنا التلفزيونية أو الإذاعية يخلو من لغة ومفردات واصطلاحات الفكر الإسلامي وحده، حتى في البرامج العلمية المفترض أنها علمانية يتم السطو عليها لصالح الفكر الديني الأحادي السائد، لتفريغها من محتواها ومضمونها العلمي لصالح ما هو أبعد ما يكون عن العلم، ثم هل سمعنا برنامجًا واحدًا ولو مرة في الشهر، بل ولو مرة في السنة يُخصَّص للفكر العلماني؟ أو هل سمحت تلك الأجهزة لمفكرٍ علماني ليدافع عن نفسه إزاء الحملات الضارية ومحاكمات التفريق والتكفير والتنفير؟

إن دولة المؤسسات المدنية التي نزعمها للعالم لا تبرز فيها سوى تجليات الفكر الإسلامي وحده على كل المستويات، وهو ما يعني أن أصحاب هذه النغمة يريدون المزيد، ولم يبقَ من مزيد سوى السلطة نفسها، وهكذا سجلت مؤسسات الدولة (فيما لاحظ الدكتور غالي شكري) تراجعات إثر تراجعات أمام التيار المتشدد حتى تحول الإعلام إلى أدلجة لوعي المواطن وتهيئته لقبول ما يطرحه الإسلام السياسي، والظهور بمظهر التناقض أمام رجل الشارع، ما بين شعارات اقتصاد السوق والاستثمار والسياحة وبين التدين الذي هو على النقيض من هذه الشعارات، وكان لجوءها إلى إعادة إنتاج الأيديولوجيا الدينية بانتقاءات تخدم شعاراتها مدعاة إلى ازدواجية في الإعلام والتعليم والقوانين (خاصةً الأحوال الشخصية)، وهو ما يفتح في وعي المواطنين الثغرة على كامل اتساعها للإسلام السياسي ليقوم بدوره بانتقاءاتٍ أخرى هي على النقيض، فترد الدولة بمزيد من البرامج والتشريعات والمقررات، بينما حقيقة ما يحدث هو أن السلطة تسلم وتقرُّ بما تفعله في إعلامها وتعليمها بصحة ما يطرحه الإسلام السياسي، ويصبح وعي المواطن مع أحقية الجماعات في استلام السلطة لتنفيذ ما أكدت السلطة صدقه، ولأن تلك الجماعات تصبح هي الأولى بتنفيذه.

وترتب على تراكم أخطاء أجهزة الإعلام والتعليم سيادة فكرٍ واحدٍ أحاديٍّ مغلق على مستوى المجتمع والرأي العام والقيم السائدة دون الالتفات لحظة إلى أسباب الكوارث وإلى خطأ المنهج، الذي لا بد أن ينتهي بالضرورة، بحسابات التنبؤ العلمي، إلى سقوطٍ مروِّع سيبدأ على المستوى الاقتصادي حتمًا إذا لم يتم الإسراع بالربط بين سياسة الانفتاح الاقتصادي ونظام السوق وبين ليبراليةٍ كاملة تطبق مشروعها المدني في الواقع، بما يسمح بتعدديةٍ ثقافية وسياسية ودينية ومذهبية، وأن يعترف هذا المشروع باختلاف الأصول والمصالح والأعراق والعقائد والعبادات والرؤى والفلسفات، بحيث تصبح المرجعية التأسيسية هي مصالح المنتجين ومصالح المجتمع المدني لفتح النوافذ على العقل بتأسيس حريات الفرد الكاملة، ليجد العقل مناخه الحر، وهو المناخ الطبيعي لفرز الكشوف والاختراعات والإبداع التقني والفني والأدبي، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى استقلالية الاقتصاد المصري واستقلالية الإرادة واستقلالية القرار، حيث سيتميز الاقتصاد الوطني والسياسة الوطنية بخصوصية المنجزات والكشوف والمعلومات فيقف إزاء الآخر قادرًا على المنافسة وندًّا وليس عالة على ماكينة الكشف التكنولوجي المستوردة.

•••

ولأننا قطعنا ذاكرتنا التاريخية وتوقفنا عند زمن السلف الصالح وحده وأسقطنا ما قبله لأنه حضاراتٌ كافرة، وأسقطنا ما بعده لأنه تلا خير العصور وانحدر إلى البدع والمحدثات، ففقدنا تلك الذاكرة ولم نعد نعي دروس التاريخ حتى تاريخنا الإسلامي تاريخ الدولة العربية الإمبراطورية لنعرف على الأقل السر الحقيقي الموضوعي وليس الأسطوري الوهمي وراء عزَّتها واقتدارها وعافيتها إبان ذاك، ولم نحاول أن نراها وهي تفتح نوافذها لكل ألوان التعددية في الثقافات فنهلت من معارف البلاد المفتوحة وحضاراتها القديمة، من فارس إلى مصر ومن اليونان إلى الرومان، عندما قامت حركة ترجمةٍ نشطة كبرى قام عليها مسلمون ويهود ومسيحيون، ومع الانفتاح الثقافي تحولت الحركة إلى الكشف والإبداع فظهر الخوارزمي وابن النفيس وابن الهيثم وابن سينا وابن رشد، وعلى مستوى الفكر الديني الإسلامي كانت هناك تعدديةٌ هائلة ومدارس متناقضة متعاصرة متتالية، من حشوية إلى مرجئة إلى مُعطِّلة إلى سنة إلى شيعة إلى معتزلة إلى أشعرية.

وعلى مستوى الفقه الإسلامي نفسه تعددت الآراء واختلفت داخل الزمن الواحد فتعاصر الفقهاء المختلفون حول قضايا الدين، فعاش أبو حنيفة النعمان (٨٠–١٥٠ﻫ) زمن مالك (٩٣–١٧٩ﻫ)، وعاصر الشافعي (١٥٠–٢٠٤ﻫ) أحمد بن حنبل (١٧٤–٢٤١ﻫ)، وأسس كلٌّ منهم مذهبًا غير الآخر، بل وظهرت تياراتٌ إلحادية كانت ضريبة الحرية والتقدم والقوة، فكان هناك المعري وابن الراوندي والرازي، واختلف المسلمون حول التفاسير، بالمأثور أم بالعقل أم بالرؤى الصوفية، واختلفوا حول مدى اعتبار أسباب النزول، وعلى ظاهر النصوص وتأويلها، وفي علوم الحديث اختلفوا حول صحيحها وعدد هذا الصحيح، واختلفوا حول حجية السُّنة وحجية الإجماع، وحول معنى الصحابة وهل كانوا جميع من عاشوا زمن الدعوة أم المقربين فقط، ولم يتم تكفير أحدهم ولم يرفع أحد عليهم سلاحًا ولا طلب محاكمتهم، بل كان الواحد من كبار الفقهاء يقول: ربما كان رأيي هو الخطأ ورأي غيري هو الصواب.

لقد فتحت الأمة نوافذها؛ فتجدَّد هواؤها وارتفع شأنها، وعندما بدأ عصر الانتكاس والتقوقع وسيادة منظومة الشخصية الثقافية الواحدة المتحالفة مع السلطان بدأ التكفير والتبديع، وصودر المعتزلة واختفت كتب ابن الراوندي التسعون، وحُرقت مصنفات ابن رشد ونفي إلى بلاد الفرنجة، لندخل نحن العصور المظلمة، نصنف كل شئون الحياة بين الكفر والإيمان وبين الحلال والحرام، بينما بدأت أوروبا تنويرها بعصرٍ مدرسي عُرف اصطلاحًا بعصر الرشدية اللاتينية نسبة لابن رشد لتنطلق بعد أن أخذت بتصنيفٍ آخر ما بين مدى النفع والضرر على الناس والأمم، وبين الصواب والخطأ العقلي والعلمي والعملي بما تقتضيه مصالح المجتمع والمنتجين.

وتوقف زخم أمة العرب مع سيادة السلفية المصمتة الواحدية التي لا تقبل الآخر ولا ترضى بغير شخصيتها الثابتة، وترفض أي تغيير أو تبديل، وكان هذا هو درس التاريخ بل درس تاريخنا نحن وليس تاريخٍ آخر، فالحضارة تزدهر وتتفتح عندما تتفتح على الآخر وتسمح بالتعددية، وتسقط عندما تسقط في الواحدية والمطلقات اليقينية والذات النرجسية المتضخمة، وهو ذات الدرس الذي حدث بالأمس القريب عندما تحوَّل الاتحاد السوفييتي من دولةٍ عظمى إلى دولةٍ مغلقة على نصوصٍ ماركسيةٍ مقدسة تُكفِّر المخالف، فكان السقوط مروعًا.

وهنا ينبه الدكتور غالي شكري إلى أن أوروبا قد وعت الدرس وهي تصحو من عصور ظلامها الواحدي فانفتحت على التعددية، وقررت أن تكون وارثة لكل الحضارات القديمة والثقافات على تعددها، من تراث اليونان إلى الرومان إلى الفراعنة إلى الرافدين إلى الهند إلى الصين إلى فارس، ومن أوزيريس إلى جلجامش إلى أوديب، دون عُقدٍ نفسية أو دينية، ولأنهم كانوا القادرين على تلك الوراثة وأمكنهم اكتساب قدرة التغير والتكيف، أصبحوا بالفعل هم الورثة الشرعيين لمأثور الإنسانية، ولم يكونوا مثل أولئك الذين يدَّعون البنوة لتراث بعينه من باب سرقة التركة، وانطلق الورثة الشرعيون دون تعصب لتراث الغرب وحده، ودون أن يحتسبوا أخذهم عن تراث غيرهم غزوًا ثقافيًّا، بينما نقبع نحن نؤكد دومًا أن الغرب قد أخذ عنا، لكنا لا نقبل أبدًا الأخذ عنه وإلا كان غزوًا ثقافيًّا، لا لسبب إلا لأننا الأمة الكاملة المختارة التي تملك كل المعارف اليقينية في كل شأنٍ ممكن منذ الخليقة وحتى نهاية الأزمان.

١  تم نشره في مجلة روز اليوسف القاهرية بتاريخ ٢١ / ٩ / ١٩٩٨م العدد ٣٦٦٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤