تمهيد

تُعنى الميكانيكا الكلاسيكية ببحث كيفية تحرُّك الجسم عند تعرُّضه لقوى مختلفة، وتُعنى أيضًا بقضية القُوَى المؤثرة على الجسم غير المتحرك.

وكلمة «كلاسيكية» تشير إلى أننا لا نناقش الظواهر التي تحدث على المستوى الذري، ولا نناقش الحالات التي يتحرك فيها جسم ما بسرعة عالية تُقارب سرعة الضوء؛ ذلك أن وصف الظواهر الذَّرِّيَّة يتطلب ميكانيكا الكم، ووصف الظواهر التي تحدث عند سرعات عالية جدًّا يتطلب نظرية النسبية لأينشتاين. وقد اكتُشفت كلٌّ من ميكانيكا الكم ونظرية النسبية في القرن العشرين، بينما صاغ السير إسحاق نيوتن قوانين الميكانيكا الكلاسيكية عام ١٦٨٧.1

تمكِّننا قوانين الميكانيكا الكلاسيكية من حساب مسارات كرات البيسبول، وطلقات الرصاص، ومَركَبات الفضاء (أثناء فترة إطلاق الصاروخ وبعدها)، والكواكب أثناء دورانها حول الشمس. وباستخدام هذه القوانين يمكننا التنبؤ بعَلاقة الموضع مقابل الزمن بالنسبة لأسطوانة تتدحرج هابطة مستوًى مائلًا، أو بالنسبة لبندول متذبذب، ونستطيع حساب قوة شد السلك عند تعليق صورة على حائط أو جدار.

إن الأهمية العملية للموضوع قليلًا ما تحتاج إلى توضيح في عالم توجد فيه سيارات، ومبانٍ، وطائرات، وجسور، وقذائف باليستية. حتى بالنسبة للشخص الذي ليس لديه أي سبب مهني للاهتمام بأيٍّ من هذه الأشياء، فإن هناك مبِّررًا عقلانيًّا ضاغطًا لدراسة الميكانيكا الكلاسيكية: إذ إنها المثال الأفضل لنظرية تفسِّر عددًا كبيرًا للغاية من الظواهر، وذلك على أساس أقل عدد من المبادئ البسيطة. وأي شخص يدرس الميكانيكا بجِدِّيَّة، حتى على المستوى التمهيدي، سيجد في هذه الدراسة مغامرة فكرية حقيقية، وينمِّي داخله احترامًا دائمًا للدقة البارعة المطلوبة عند تطبيق المفاهيم «البسيطة» على تحليل الأنظمة «البسيطة».

وأَوَدُّ أن أُمَيِّزَ بوضوح تامٍّ بين «الدقة البارعة» و«الخداع». لا يوجد في هذا الموضوع أي تحايل أو خداع. و«الدقة البارعة» تكمُن في ضرورة استعمال المفاهيم والمصطلحات بدقة بالغة. فالغموض في تفكير امرئ ما والغياب الطفيف للدقة المفاهيمية اللذان يمكن قَبُولهما في الخطاب اليومي، سوف يؤدِّيَان حتمًا إلى الحلول غير الصحيحة لمسائل الميكانيكا.

في معظم مقررات الفيزياء التمهيدية يُخصَّص فصل دراسي واحد (بل عادةً أقل قليلًا من ذلك) للميكانيكا. وكلٌّ من المدرس والطلاب يعملون عادةً تحت ضغط الالتزام «بتغطية» قدر معين من المادة المقرَّرة. ويصعب — بل يستحيل — «تغطية» الموضوعات الرئيسية في الميكانيكا في فصل دراسي واحد دون التغاضي عن عدد من المفاهيم الأساسية التي تشكِّل أساسًا لكل ما يليها، أو المرور عليها بسرعة خاطفة.

ربما يكون نطاق اللبس الأكثر شيوعًا هو بيان عدد القُوَى المؤثِّرة على جسم معين، ويحتاج معظم الناس إلى تدريب كافٍ قبل أن يستطيعوا تحديد عدد هذه القُوى على نحو صحيح. وعلى المرء أن يتعلَّم كيف يميِّز بين القوى المؤثرة على شيء ما والقوى التي يبذلها هذا الشيء على أشياء أخرى. وعليه أن يعرف الفرق بين القوى الحقيقية (قوى الدفع والسحب بتأثير جسم مادي على آخر) والقوى الوهمية أمثال «القوة الطاردة المركزية» (ميل جسم ما متحرك في دائرة إلى أن يخرج عن مساره) التي يجب أن تُحذف من قائمة القوى.

القارئ الملول عديم الصبر يمكن أن يضيق ذرعًا بالحَيِّز المكرَّس لمناقشة مفاهيم «واضحة» مثل: «القوة»، «الشد»، «الاحتكاك». والقارئ (على عكس الطالب الأسير في محاضرة مزعجة) له مطلق الحرية — بالطبع — في أن يقلب الورقة إلى الصفحة التالية، لكني أعتقد أن الحياة طويلة بما يكفي أن نتدبَّر بعناية في المفاهيم الأساسية، وأن الوقت المستغرَق في ذلك لن يضيع سُدًى.

يصلُح هذا الكتاب — إذا ما أضيفت إليه موضوعات قليلة (مثل مناقشة مختصرة للموجات) — لأن يكون مقرَّرًا دراسيًّا مستقلًّا تامًّا بذاته، لكني أتصور أن معظم القُرَّاء سوف يستخدمونه بوصفه نصًّا مكملًا، أو دليلًا دراسيًّا، في مقرَّر يعتمد على كتاب آخر. وهو يصلُح أيضًا لأن يكون مادة لمقرَّر دراسي يدرس عبر الإنترنت.

يحتوي كل فصل على عدد من الأمثلة — وهي مسائل متصلة بمحتويات الفصل — بالإضافة إلى الحلول والمناقشة. لا يوجد في هذه الأمثلة أي مسألة «مخادعة»، لكن بعضها يحتوي على لمحات تتحدَّى بعض القراء على الأقل. وإني لأنصح بقوة أن ينتهي الطالب أو الطالبة من حلِّهما الخاصِّ للمثال قبل قراءة الحل الموجود في النص.

يروَّج لبعض المُقرَّرات التمهيدية في الميكانيكا بالقول إنها لا تتطلب أي معرفة بحساب التفاضُل والتكامُل، لكن حساب التفاضل والتكامل عادة ما يطلُّ برأسه حتى إذا لم يعلن عن نفسه صراحة (على سبيل المثال، عند استنتاج عجلة جسيم متحرك في دائرة، أو عند تعريف الشغل واستنتاج العَلاقة بين الشغل وطاقة الحركة).

وبما أن الميكانيكا توفر أمثلة جيِّدة للمعنى الفيزيائي «للتفاضل» و«التكامل»، فإننا أدخلنا وشرحنا هذين المفهومين الرياضيين في السياق المناسب. ودونما تكبُّد أي عِبءٍ إضافي، فإن القارئ غير الملم بمفهوم المتَّجه وجبر المتجهات سوف يجِد مناقشةً لتلك الموضوعات في الملحق (أ).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤