الأزمة أم الإبداع

محاولة لتفسير بدايات الإبداع الفلسفي
لنفترض من البداية أن «الأزمة» هي أمُّ «الإبداع»، وأنها وراء كل جديد ومُغاير مغايرةً حقيقة لما سبقه في الفلسفة وفي غير الفلسفة، لكن «الأزمة» مفهوم واسع متشعِّب الأبعاد، وهو معرَّض لخطر النظرة الذاتية إليه، بحيث تختلف رؤيتك للأزمة عن رؤيتي أو رؤية غيري، وبحيث لا أستبعد أن تُتَّهم العبارة التي وُضعت عنوانًا لهذا المقال بأنها إنشائية مُبتذَلة، أو عاطفية حالمة، في مجالٍ لا يسمح بغير المعرفة الدقيقة الصارمة. ولكي لا نضلَّ معًا في متاهات الأسئلة عن معنى الأزمة، والأشكال التي يمكن أن تعبِّر عنها في منهج الفيلسوف أو نسقه الفكري أو اللحظة التاريخية والاجتماعية التي يعيش فيها؛ أُسارِع فأحصر مفهوم الأزمة في مشكلة «التناقض» بشِقَّيه؛ المنطقي-الجدلي، والزمني-التاريخي. على أن التناقض ليس بالمشكلة الهيِّنة، ولا بد من فهمه بصورة تسمح بتفسير المُبدِع والجيد في الفكر الفلسفي الذي يُوصَف بالجدة والإبداع. وهنا أيضًا تتعدد مفاهيم التناقض؛ فالحس السليم أو الموقف الطبيعي والعملي للإنسان العادي يرفضه منذ القِدم، وسوف يظل على رفضه له، والمنطق الصوري القديم مع المذاهب الفلسفية التي قامت عليه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من أفلاطون وأرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد حتى «كانط» في القرن الثامن عشر، قد بذلت كل ما في وسعها لاستبعاده وتلافيه، بل جعلته علامة التهافت والخلل، ومصدر الأغلاط والمغالطات، والنقائض والمفارقات التي يلزم الفكر المُتَّسق — أي الخالي من التناقض! — أن يُحارِبها ويتحاشاها.١ لكن المهم في هذا السياق أن «الأزمة» قد تجلَّت بصور مختلفة، لدى الفيلسوف المُبدِع، في التناقض الذي أحسَّ بوجوده وعرَفه وانطلق منه، فكان هو المحرِّك والدافع لقيام فلسفته التي لا يختلف أحد حول جدتها وأصالتها. ربما اختلفنا في الرأي حول اسم الفيلسوف الذي يمكن أن يستشهد به كلٌّ منا، وربما ارتجف القلم في يدي — ومن ورائه القلب — وحاول أن يجمح بي إلى عدد من المفكرين-الشعراء في تاريخ الفلسفة والأدب، مِن أولئك الذين أحبُّ تسميتهم «المُنقِذين»، أو إلى بعض الفلاسفة الذين وصفهم ياسبرز ﺑ «المُوقِظين العظام» (وفي مقدمتهم باسكال وكيركجارد ونيتشه من رُواد التفلسف المعاصر)، لكنني سأقصر حديثي في هذا المجال المحدود على أربعة من فلاسفة العصر الحديث، هم ديكارت وكانط وهيجل وهسرل، الذين كانت «أزمة التناقض» وراء إبداعهم لمناهجهم الأصيلة. وسوف أسبق الأحداث فأقول على الإجمال إن ديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠م) قد رأى التناقض — الذي حاول رفعه والتخلص منه — في حيرة الفكر مع نفسه؛ إذ تشكَّك في كل شيء، ولم يستطع مع ذلك أن يتشكَّك في كل شيء؛ أعني أنه لم يجد مَناصًا من إثبات حقيقة وجود الفكر ويقينه في أثناء الشك نفسه ومن خلاله؛ ومن ثم انتقل إلى إثبات وجود «أناه» المفكِّرة، ويقين بساطتها وتميُّزها من الجسم وخلودها، إلى آخر ما هو معروف ومشهور من فلسفة ديكارت.

أما كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م)، فقد انطلق من معرفته — القائمة على إيمانه بثبات المنطق الأرسطي وصحته — بأن التناقض مَظهرٌ ووهمٌ خدَّاع من أوهام العقل الخالص، ثم بيَّن أن تناقضات المعرفة والنقائض التي يقع فيها هذا العقل بسبب طموحه إلى معرفة المطلق دون أساس تجريبي أو عيني يستند إليه، هي ظواهر حدية أو نهائية للمعرفة ينبغي تلافيها إذا أردنا للفلسفة أن تكون نقدية وعلمية عامة الصدق. ثم يأتي هيجل (١٧٧٠–١٨٣١م) (ومِن خلفه موكبُ الجدليين على اختلاف تصوراتهم لماهية الجدل وأشكاله)، فيؤكِّد أن التناقض وجود، وأنه عنصر أساسي من عناصر المعرفة، ومحرِّك هائل للفكر والواقع جميعًا، بل إنه ليجعله روح المنهج الجدلي الذي زعم أنه المنهج العلمي الوحيد، وأراد له أن يجبَّ المناهج السابقة ويُلقي بها في هوة الموت والبلى والنسيان، وذلك إذا أردنا أن تخلع الفلسفة اسمها القديم، وهو محبة الحكمة، لتصبح علمية بحق. وأخيرًا يأتي هسرل (١٨٥٩–١٩٣٨م) — صاحب فلسفة الفينومينولوجيا (أو الظاهراتية) ومؤسِّس منهجها — فيكشف عن تناقضات النزعة النفسية في المنطق والرياضيات، ويعرِّي نسبيتها الخطرة، ثم لا يلبث أن يخرج من هذا التناقض ليُؤمن بحقيقة الفكر وموضوعيته، ويردِّد نداءه الشهير: فلنرجع إلى الموضوعات ذاتها! أو بالأحرى فلنُحيِ حقائقها الموضوعية وماهياتها الثابتة وكأننا نراها رأي العين.

يكمن التناقض، أو بالأحرى التناقض الذاتي الذي انطلق منه ديكارت في بحثه عن المنهج، وفي تشييد البناء المتكامل لفلسفته، في دليل الشك المشهور. وهو الدليل الذي أدَّى به إلى التوصل إلى يقينه الأول، الذي صاغه في عبارة طالما تعرَّضت للنقد، وكثرت التنويعات عليها والتندر بها: «أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود.» ونستأذن القارئ في أن نقصر حديثنا عن تجربته مع الشك، وعن هذا الدليل في كتابه «التأملات»، الذي قدَّم فيه أفكاره ببساطة محبَّبة تقرِّبها من الاعتراف المباشر، وبصورة بالغة الدقة والإيجاز والحسم، لن نجد لها بعد ذلك مثيلًا في تاريخ الفلسفة كله.

لعل أفضل طريقة لعرض دليل الشك هي طريقة ديكارت نفسه في التأملَين الأول والثاني؛ فهو يحدِّد مهمته في بداية التأمل الأول بتقرير عزمه على إيجاد منهج مأمون في الفلسفة، ويتأكد وعيه أو علمه في الوقت نفسه بأنه كان على الدوام عُرضةً للوقوع في الخطأ والخداع؛ ولذلك صمَّم منذ البداية على ألا يسلِّم بشيء على أنه حق، ما لم يتبيَّن له أنه كذلك على نحوٍ يقيني وموثوق به ثقةً مُطلَقة لا يتطرق إليها الشك. لقد لاحظ على نفسه منذ صِباه الباكر أنه كان يأخذ الباطل مأخذ الحق، وأن أكثر ما بناه على هذا الأساس الواهي قد كان لهذا السبب غيرَ مأمون ولا يطمئن عليه؛ ولهذا عقد العزم على أن يبدأ بداية جديدة كل الجدة، ولن يتسنى له أن يفعل هذا حتى يستبعد كل ما ورثه من آراء، وما تلقَّاه من «حقائق» ومعلومات، وحتى يشك في كل شيء يجد فيه مبرِّرًا للشك. وهكذا يبدأ الشك في كل شيء؛ في الحواس وصدق إدراكاتها، في وجود جسمه ووجود العالم الخارجي، في أبسط الحقائق الرياضية، بل إن الشك ليمتدُّ أخيرًا — ضمنًا وعلى استحياء — في وجود الله نفسه بوصفه مَنبع كل حقيقة.

بدأ صاحبنا الشك الكامل المُطلَق إذن وفي نيته ألا يُوقِفه شيء، وألا يستثني منه شيئًا يزعم لنفسه الوجود، حتى لو كان هو وجوده ذاته. ثم يبدأ التأمل الثاني بتأكيد طابع الشمول في هذا الشك، ويسأل سؤالًا يوجِّه حركة فكره في اتجاه جديد، إذا فرض أن كل شيء باطل وخادع، أفلا يوجد ثمةَ شيءٌ صادق أو حقيقي؟ أيكون هو هذا الشيء الواحد، وهو أن لا شيء يقيني؟ هذه الإجابة — التي يقدِّمها على سبيل المحاولة — عن سؤاله تنطوي على تحديد سلبي للحقيقة، وتلخِّص نتائج شكه النهائي الحاسم؛ فعلى فرض أن الحواس تخدعني، وأنه لا يوجد شيء في العالم، وأن روحًا شرِّيرًا أو جنيًّا ماكرًا قد دأب على مخادعتي وإيقاعي في الخطأ كلما تصوَّرت أنني عثرت على الحق، فلا بد مع ذلك أن يبقى شيء لا يناله الشك، ولن يمكنني، وأنا أشك في كل شيء، أن أشكَّ في كوني أشك.

ويمضي ديكارت في تأمله الذاتي أو في فكره السلبي المُنعكِس على نفسه، فيقول إنه ما من شيء مما سبق أن افترضته بقادر على أن يجعل مني لا شيء؛ إذ لا بد أن أكون موجودًا على نحوٍ من الأنحاء أثناء شكي أو أثناء تفكيري؛ لأن الشك نوع من التفكير. ولا بد أيضًا أن أكون موجودًا حتى يستطيع الجني الماكر أن يخدعني أو يوسوس لي بأني غير موجود، ولن يستطيع أن يجعلني غير موجود، ما دمت أفكر في أني شيء موجود. ولو اتجهت خلال شكي المُطلَق نحو هذا الشك نفسه لوجدت أنني كائن أو موجود؛ فكأن عجزي عن الشك في شكي قد حوَّل تفكيري من السلب إلى الإيجاب، ووضع نهاية لحُجتي الأساسية في الشك، ونقلني إلى هذه العبارة التي قلتها في التأمل الثاني: «أني أكون، وأني أُوجَد، أمرٌ صادق بالضرورة كلما نطقت به أو أدركته بذهني.» وبهذا أكون قد انتقلت من تفكير سلبي أو لا موضوعي إلى تفكير موضوعي أو معرفة موضوعية، عثرت معها على الموضوع الفلسفي الأساسي، واليقين الأول الذي سأنطلق منه، ألا وهو الذي تبلور بعد ذلك في عبارتي المشهورة: «أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود.»٢

هكذا انطوى دليل الشك على أكثر من تحوُّل؛ فمِن الشك إلى التفكير، ومن هذا إلى الوجود (أنا أكون، وأنا أوجد). ولقد بدأه ديكارت وهو يسلِّم بإمكان الوقوع في الخطأ والخداع بصورة شاملة، وجرَّه التسليم بهذا الإمكان والوعي به إلى تجربة الشك الكامل والشامل، الذي يجري على كل شيء ولا يُوقِفه شيء. ومع بداية التجربة ظهر التحول الأول: أخفق الشك في كل شيء عندما ارتدَّ على نفسه، وتبيَّن — كما رأينا — أنه لا يستطيع أن يمتد إلى الفكر؛ أي عندما عجز عن الشك في الشك، الذي انطبق على نفسه فألغى نفسه أو «رفعها»، كما يقول أصحاب المنطق الجدلي.

هكذا تم التحول من السلب إلى الإيجاب؛ أي من الشك في كل شيء إلى التفكير الذي انشق عنه وبقي خارج دائرته. ثم بدأ مع تطور التجربة تحوُّل جديد نتج عنه مُنطلَق جديد هو إثبات وجود «الأنا» بعد إثبات وجود الفكر: «ما دمت أفكر، فأنا موجود.» ولو شئنا أن نضع التحولات السابقة في صورة أحكام لانقسم دليل الشك إلى هذه الأحكام الثلاثة:
  • (أ)

    يمكن أن يتعلق الشك بكل شيء.

  • (ب)

    لا يمكن أن يتعلق الشك بالتفكير.

  • (جـ)

    «أنا موجود» صادقة بالضرورة ما دمت أفكر فيها.

ربما ذهب بنا الظن — كما ذهب ببعض نُقاد ديكارت الذين رد عليهم في مجموعة ردوده الأولى والثانية٣ — إلى أن البناء الثلاثي السابق للأحكام يتخذ شكل قياس صوري، وأن مسار «التجربة السلبية» نوع من أنواع الاستنباط. غير أن ديكارت قد رفض هذا التفسير. صحيحٌ أنه أراد لدليل الشك أن يكون دليلًا، ولكنه استنكر أن يُفهَم منه أنه دليل قياسي. وهنا نقترب من دائرة التفكير الجدلي التي حاولنا أن ندخل إليها في رفق وحذر. والحق أن كل شيء حتى الآن يبرِّر — من الناحية الموضوعية — أن نتصور الدليل تصورًا جدليًّا لا قياسيًّا، فنجعل من الحكم الأول قضية، ومن الثاني نقيضها. بَيدَ أن المشكلة تتمثل في الحكم الثالث؛ فنحن لا نجد فيه تأليفًا واضحًا كما يقضي بذلك المنطق الجدلي، أضِف إلى هذا أن الجدل الهيجلي لم تكن ساعته قد دقَّت بعد، فهل يجوز لنا أن ننسب إلى ديكارت شيئًا لم يفكر فيه، أو لم يسمح به تركيب الدليل ولا روح العصر؟ إذا كانت حركة الفكر في هذا الدليل لا تدخل في بنية منطقية صورية ولا جدلية، فكيف نفهم طابع السلب الذي يسوده، والذي اكتشف ديكارت من خلاله نقطة «أرشميدس»، التي سينطلق منها ليُقِيم منهجه ويصوغ معيارَي الصدق واليقين عنده (وهما الوضوح والتميز الشهيران، اللذان اعتمد عليهما في إبطال الشك الشامل وإثبات استحالته)، كما يبدأ منها لإثبات يقينية الآخرين (وهما وجود الله، ثم وجود العالم) بطريقة لم تخلُ في رأي نُقاده من رواسب التقاليد الوسيطة، ولم تبرأ من التكلف والتصنع؟

ليس مِن غرضنا أن ندخل في تفصيلات النقد المتجدِّد ﻟ «الكوجيتو» الديكارتي منذ أيامه إلى يومنا الحاضر، ولا يدور في الخاطر أن نجعل من ديكارت جدليًّا على الرغم منه أو برضاه؛ فالمهم لدينا هو الحركة الفكرية التي تحوَّلت من سلب إلى إيجاب، ومِن تناقض للفكر مع نفسه إلى رفع لهذا التناقض؛ ومِن ثَم إلى مجاوزة أزمة منطقية وتاريخية، بإيداع منهج وفلسفة تبلورت فيها حرية إنسان عصر النهضة، وإرادته التي صمَّمت على اكتشاف «الحقيقة» من داخله وبقدراته المستقلة عن كل سلطة أو تقليد، ومضت تستقبل عصرًا جديدًا، وفكرًا وعلمًا جديدَين، لا يلتفتان إلى الظلام الذي تركاه وراءهما.

لم يكن مِن قبيل المصادفة أن يؤكِّد ديكارت أنه لم يكتسب بداهة «الكوجيتو إرجوسوم» (أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود) عن أي طريق منطقي أو تأليفي.٤ ولو فهمنا دليله على أنه قياس لأخطأنا حركته الفكرية، وربما أخطأنا كذلك حركة الفكر الحديث كله في عصر النهضة. ولقد أوضح ديكارت نفسه أن الشك في كل شيء يحدُّ من الشك نفسه، وأن هذا التحديد يُفضي إلى الاعتراف بوجود الأنا المفكِّرة؛ ولهذا فإن قوة الدليل تكمن في نوع من الربط الغريب الذي يختلف عن المنطق الصوري والقياس التقليدي، ويؤدي من الحكم الأول إلى الحكمَين التاليين. فالربط هنا مختلف عن القياس الذي يتم فيه الربط بين حكمَين واستنتاج حكم ثالث عن طريق حد أوسط، وليس لدينا في دليل الشك سوى مفهوم واحد، هو الذي يمثِّل مضمون أحكامه الثلاثة؛ هذا المفهوم هو الفكر نفسه. وديكارت يضع هذا الفكر — على سبيل التجربة — في صورة تفكير سلبي أو سالب؛ أعني في صورة الشك في كل شيء. ولقد كان مِن المُنتظَر أن يؤدي هذا الشك الحاسم إلى العدم أو اللاشيء، غير أنه يتمخض من خلال التأمل الذاتي المُنعكِس، وبما يتفق مع الرغبة في استبعاد التناقض، عن تجربة غريبة أو عن شيء غريب، هو أن ثمة شيئًا واحدًا يُستثنى منه؛ فلا فعل الشك الذي أقوم به، ولا الخطأ والخداع عن طريق مُخادِع واسع الحيلة، بقادرَين على إبطال وجود الشك بوصفه فكرًا. مِن ثَم ينشطر مفهوم الشك هنا إلى فعل الشك وموضوعه؛ إلى تفكير محدَّد، وموضوع ينصبُّ عليه هذا التفكير. وهنا يتجلى استحالة الشك في الشك نفسه بما هو تفكير، ويبزغ وجود الفكر من ظلمات الشك ومن ضبابه العدمي. ثم يقوم هذا الفهم أو هذا المفهوم المختلف للشك بتحول جديد؛ إذ تبزغ منه الأنا بعد أن أصبح تفكيرًا، وتتميز عنه؛ لأن التفكير — كما تصوَّر ديكارت، صوابًا أو خطأً — لا يستقيم بغير وجود أنا مفكِّرة. وما دام الشك والخداع كلاهما عاجزَين عن الحيلولة بيني وبين التفكير، فلا بد أن تكون «الأنا» متضمَّنة في هذا التفكير.
لقد كان في إمكان ديكارت أن يصوغ مفهومه أو تجربته الفكرية بخطواتها الثلاث (من الشك في كل شيء، إلى تناقض هذا الشك مع نفسه، إلى إثبات وجود الفكر الذي لم يستطع — أي الشك — أن يمتد إليه) على هيئة قياس من هذا النوع:
الشك تفكير.
وكل تفكير هو وظيفة الأنا.
إذن فالشك وظيفة الأنا، ويفترض وجودها.
وكان في إمكانه أن يضع «الكوجيتو» في صورة قياس آخر، على نحو ما فعل الفيلسوف المنطقي والرياضي هينريش شولتس (١٨٨٤–١٩٥٦م):
في كل مرة أفكر، أُوجَد.
أنا أفكر الآن؛
فأنا موجود الآن.٥

غير أن هذه الأشكال القياسية وما شابهها لا تستطيع أن تكون بديلًا عن دليل الشك؛ ذلك لأنها تُغفِل نوعية الربط الذي ينطوي عليه، ويختلف — كما سبق القول — عنه في أي شكل من أشكال القياس المعروفة؛ لأن تجربة الشك السلبية قد ألغت نفسها بنفسها، ورفعت تناقضها الذاتي — كما رأينا — على نحوٍ جدلي لا غبار عليه ولا شبهة فيه.

وسواء كان هذا جدلًا من النوع المأثور أو لم يكن، فإن جدلية الشك أو النقد السلبي الشامل على عتبة العصر الحديث تشهد من الناحية التاريخية والواقعية شهادةً كافية على حرية الإنسان الأوروبي الحديث (التي لم يفقدها بعد ذلك أبدًا، كما قال شلينج عن ديكارت)، وربما تشهد كذلك بصورة غير مباشرة على قدرته الإبداعية على مواجهة الأزمة التاريخية والحضارية التي عاناها وخرج منها، ليمضي منذ ذلك الحين على طريق السيطرة على الباطن والظاهر؛ أعني على ذاته وعلى الطبيعة جميعًا. والمهم في هذا السياق أنه عاش تجربة الأزمة والتناقض من خلال تأمل ذاتي سلبي، انعكس فيه تفكير فيلسوفه ديكارت على نفسه، وعبَّر — بتجربته الفكرية والمعرفية — عن تجربة الإنسان الحديث، الذي نفض عن نفسه أغلال القديم المأثور، وخطا أول خطوة إيجابية على طريق الحداثة الطويل، وهو طريق لم تنتهِ أزماته وتناقضاته، ولن ينتهي نداؤه بمواجهتها بالشجاعة والجرأة والصدق؛ أي بمغامرة إبداع الذات والوجود باستمرار. وهل من سبيل للإبداع إلا بالحركة الفكرية المستمرة بين قطبَي السلب والإيجاب، ومن أزمة تناقض تُرفَع إلى حين لكي تتولد عنها أزمة تناقض جديد تتطلب بدورها إبداعًا من نوع جديد؟ ألم تُجاوِز الحركة الفكرية، التي أطلقها ديكارت لأول مرة، منطقَ أرسطو الصوري وعقلية العصر الوسيط، إلى فكر جديد كان عليه أن ينتظر أكثر من قرن من الزمان، ليجد صورته الجدلية على يدَي هيجل وأتباعه مِن رُواد العصر الحديث والتفلسف الحديث؟

هل بدأ مؤسِّس الفلسفة الحديثة كما بدأ أبوها من التناقض؟ هل انطلق فيلسوف المثالية النقدية في بحثه عن المنهج «الترنسندنتالي» (أي الشارطي المتعلق بالشروط والمبادئ الأولية أو القبلية للمعرفة) من أزمة تبدَّت في صورة تناقض أرَّقه وحفَّزه لالتماس الحل الإيجابي لإشكاله السلبي المدمِّر للعقل؟ وما هي نقطة الانطلاق إلى منهجه النقدي الذي اختبر به إمكان أن تصبح الفلسفة في النهاية علمًا دقيقًا ووثيقًا كسائر العلوم (الطبيعية والرياضية) الجديرة بالاحترام؟!

يبدو الأمر مع «كانط» أصعب مما كان عليه مع ديكارت، ومما سيكون عليه مع «هسرل»، اللذَين تطوَّرت بحوثهما عن المنهج، ومحاولاتهما لتأسيسه في خط طبيعي واضح؛ فبناء الكتاب النقدي الأكبر لكانط وللفلسفة الحديثة كلها وهو «نقد العقل الخالص» بناءٌ شديد التعقيد. ومِن المحتمل في رأي بعض المؤرِّخين والدارسين أن يكون كانط قد بدأ حقيقة من النتيجة التي توصَّل إليها من جهوده التي بذلها طوال سنوات عدة لإيجاد مخرج من الأزمة وحل للتناقض، وإن كان ترتيب فصول الكتاب لا يكشف عن ذلك بسهولة. وبيان هذا أن الباب المهم الذي يتعرض فيه لنقائض العقل الخالص (وهو المعروف تحت عنوان الجدل المتعالي أو الديالكتيك الترنسندنتالي) قد جاء في نهاية الكتاب، وشغل منه أكثر من ثلاثمائة صفحة، وكان حريًّا أن يبدأ به؛ لأنه هو المُنطلَق الحقيقي لفلسفته النقدية كلها، لكن الذي حدث هو أن كانط قد وضع آخر ما توصَّل إليه تطوُّر تفكيره في الأزمة كلها في أول الكتاب (وهو النظرية الشارطية التي قدَّم فيها نظريته الأصيلة عن «حدسَي المكان والزمان»، وهما شرطا كل عيان أو إدراك حسي وإطاراه الملازمان، في حين أخَّر بداية تفكيره المنهجي كما قلنا، على نحوٍ قد يحمل على الظن بأنه نتيجة بحثه عن المنهج، وهو في الواقع مُنطلَقه ومفجِّره إن صح التعبير).

سنفترض إذن أن هذا الاحتمال صحيح وإن كان تعقيد بناء الكتاب الشهير لا يُوحي به، وتؤيِّد هذا الافتراضَ رسالةٌ مهمة كتبها كانط إلى معاصره الفيلسوف (الشعبي) كرستيان جارفة (١٧٤٢–١٧٨٩م)، وذكرها مؤرِّخ الفلسفة الحديثة المعروف «بنو إردمان» في بحثٍ٦ أكَّد فيه أن المثالية الترنسندنتالية لم تكن هي الفكرة التي قام عليها كتاب كانط الرئيسي، وإنما هي النقائض التي يقع فيها العقل الخالص بسبب تحليقه فوق حدود التجربة الممكنة، وطموحه المتهوِّر إلى تحقيق مُثُله المُطلَقة المتعالية كوجود الله وخلود النفس … إلخ، وإثبات صحتها وضرورتها اعتمادًا على قواه التأملية المجردة وحدها.
عبَّر كانط في الرسالة المذكورة عن أن واقعة وجود المتناقضات هي التي حرَّكت تفكيره، فقال بالحرف الواحد: «لم يكن البحث في وجود الله وخلود النفس … إلخ، هو النقطة التي انطلقت منها، بل كانت هي نقيضة العقل الخالص (التي تقول في أحد طرفَيها إن العالم له بداية، وتقول في طرفها المقابل ليس للعالم بداية … إلخ)، حتى النقيضة الرابعة التي تُثبِت وجود الحرية الإنسانية مرة وتنفي وجودها مرة أخرى مؤكِّدة أن كل شيء فيه (أي في الإنسان) خاضع للضرورة الطبيعية، كانت هذه «النقيضة» هي التي بدأت بإيقاظي من النعاس الدجماطيقي (أي نزعة القطع والتأكيد المتزمِّت بغير سند من التجربة)، ودفعتني إلى نقد العقل نفسه؛ وذلك بغية القضاء على فضيحة التناقض الظاهر للعقل مع ذاته.»٧

يتضح من هذا النص أن الفكرة التي انطلق منها كانط لتكوين منهجه النقدي، أو إن شئت لإبداعه، مُتفقةٌ إلى حد كبير مع الفكرة التي انطلق منها ديكارت ثم هسرل من بعده، كما سنرى في الجزء الأخير من هذا المقال. لقد صدروا جميعًا عن المنبع نفسه. والمنبع هو الفكر المُناقض لذاته، وهو التناقض أو التناقضات التي تظهر في سياقات معرفية معيَّنة، فيدخل الفيلسوف في صراع معها، ويستقصي معانيها، ويحاول تفسيرها والخروج منها، يحدوه في ذلك الاعتقادُ — المستنِد إلى مبادئ المنطق الصوري — بأن المعرفة الصادقة والعلم الدقيق المُحكَم لا يستقيمان مع وجود التناقض؛ ومِن ثَم تبدأ عجلة البحث عن المنهج الجديد الكفيل بإزالة هذا التناقض في الدوران.

هنا يفرض هذا السؤال نفسه: أهو تناقضٌ واحد هذا الذي يقع فيه العقل أم هو أكثر من تناقض؟ وهل يصنعه العقل بإرادته أم بغير إرادته؟ يصرِّح كانط بأنه ليس تناقضًا واحدًا، بل هو نظام كامل من أفانين الغش والخداع الذي يُعشِي البصر، يرتبط بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا، وتتوحد تحت مبادئ مشتركة.٨ فإذا سألنا: وكيف ينشأ هذا التناقض أو النظام الكامل من التناقضات، وجدنا عدة أجوبة تدور حول محور واحد، وترجع إلى أصل واحد؛ فالتناقضات لا تنشأ إلا عندما تُؤخَذ الظواهر أو عالم الحس الذي يضمُّها جميعًا مأخذَ الأشياء في ذاتها، وهي ليست بالمصطلح الكانطي «ظواهر»، وإنما هي «مظاهر» وأوهام، وهي في الأصل لا تنشأ عن التجربة ولا عن العيان٩ (الإدراك الحسي) ولا عن الظواهر، وإنما يُوجِدها العقل البشري نفسه عندما يندفع (بحكم ميله الطبيعي) إلى مجاوزة عالم التجربة، أو على حد تعبير كانط إلى مجاوزة «الاستخدام التجريبي»،١٠ ثم إنها أوهام طبيعية لا مفرَّ منها، ولا سبيل إلى تجنبها؛١١ لأنها ترجع إلى طبيعة العقل نفسه في نزوعه لتخطي عالم التجربة.
وهو يشبِّه هذه الأوهام بأنواع مختلفة من الخداع البصري الذي يُصيبنا — على سبيل المثال — عندما يبدو سطح الماء في وسط البحر وكأنه ليس أعلى من سطحه على الشاطئ، أو عندما يبدو القمر أثناء طلوعه أصغر مما هو عليه في الحقيقة، وكما يتحتم علينا في مثل هذه الأحوال أن نُخطئ في إدراك الأشياء، كذلك يصعب علينا أن نتحاشى الوقوع في وهم «المظهر الترنسندنتالي» وخداعه؛ فالأمر هنا يتعلق بنوع من «الديالكتيك» أو الجدل الذي يلتصق بالعقل البشري على نحوٍ ضروري لا مناص منه، بل إنه بعد أن نكشف عن خداعه الذي يُغشِي البصر، لا يكفُّ عن مخايلة العقل، ولا يتوقف عن الإلقاء به كل لحظة في أنواع من الضلال التي تحتاج على الدوام إلى التخلص منها.١٢
هكذا نجد أن تناقضات العقل ذات طبيعة خاصة؛ فهي لا تنشأ بإرادة العقل كما هو الحال — على سبيل المثال — مع التناقض المشهور عن «الدائرة المربعة»، حين أجمع بطريقة تعسفية بين مفهوم المربع ومفهوم الدائرة، ثم إنها (أي تناقضات العقل) لا تنشأ من الواقع؛ لأنها — كما أكَّد في تشبيهه لها بأنواع الخداع البصري — أوهامٌ فكرية متنوِّعة الأشكال. ولن نستطيع في هذا المجال المحدود أن نُتابع شرح كانط لتناقضات العقل الخالص، كما عرضه في باب الجدال المتعالي على صورة جدول مفصَّل للنقائض المختلفة والحجج المؤيِّدة لطرفَيها المتضادَّين (العالم له بداية في الزمان أو العالم قديم ولا بداية له، الجوهر يتألف من أجزاء لا متناهية أو متناهية، افتراض وجود كائن ضروري أو عدم ضرورة افتراضه، افتراض الحرية الإنسانية أو الحتمية … إلخ)؛ فالذي يعنينا في هذا المقام هو «الأزمة» التي أثارها وجود التناقض — بل فضيحته كما عبَّر أكثر من مرة! — في تفكير كانط، والجدية التي جعلته يأخذ على عاتقه عبء تخليص العقل الحديث من أخطاره وتحذيره من مَهاوي التردي فيه، والرسالة السابقة التي كتبها إلى «جارفة» تشهد على هذا، كما تشهد عليه الشكوى المتصلة من وجود التناقض. ويكفي أن نستمع إلى هذه النغمة الحزينة التي يردِّدها في «نقد العقل الخالص» وغيره من مؤلفاته؛ لنشعر بمدى إشفاقه على مصير الإنسان الحديث إذا استسلم للتناقضات المغروسة في فطرته العقلية. إن وجود التناقض بوجه عام في العقل الخالص، لَأمرٌ يدعو إلى الشعور بالكمد والإحباط، كما أن مِن المُحزِن أن يقع هذا العقل في نزاع مع نفسه، مع أنه يمثِّل أعلى محكمة تفصل في جميع المنازعات.١٣ وإنه لمما يُصيب العقل البشري بالخيبة والخذلان ألا يحقِّق شيئًا من وراء استخدامه المحض (الخالص)، بل أن يحتاج — بالإضافة إلى ذلك — إلى نظام يُلجِم شطحاته، ويجنِّبه أسباب الخداع التي تجرُّها عليه وتُعشِي بصره.١٤
هذا التناقض السلبي أو «الفضيحة» التي يقع فيها العقل بحكم طبيعته هي الدافع والمُنطلَق لتكوين المنهج النقدي وتطويره. وإذا قبِلنا الفرض السابق بأن «الجدال المتعالي» الذي يقوم فيه كانط بتحليل النقائض ونقدها، هو البداية الحقيقة لمذهبه النقدي كله ولكتابه نقد العقل الخالص، فلا بد من القول بأن هذا النقد السلبي أو غير الموضوعي (أي غير المرتبط بموضوع) يذكِّرنا بدليل الشك عند ديكارت، وتجربته في التأمل الذاتي المُنعكِس، حيث استطاع كانط أن يخرج من تحليله السلبي للنقائض بمنهج إيجابي وموضوعي في نقد المعرفة وتعيين حدودها؛ أي في نقد العقل البشري لنفسه بنفسه. وها هو ذا يستطرد بعد النص الأخير الذي أكَّد فيه حاجة العقل لنظام يُلجِم شطحاته، فيقول: «إلا أن مما يزيد من ثقته (أي العقل) واعتزازه، بأن يكون قادرًا على تطبيق هذا النظام بنفسه، وأن يُحسَّ بضرورته دون أن يسمح لأي جهة أخرى بممارسة الرقابة عليه، وأن تكون الحدود التي يضطرُّ لوضعها للحد من استعماله التأملي المجرد قادرة كذلك على الحد من المَزاعم التي يُثيرها أي خصم ويُلبِسها لباسًا عقليًّا مصطنَعًا، وأن يُؤمِّن بالإضافة إلى ذلك كلَّ ما تبقى من مَطالبه السابقة المُبالَغ فيها من كل هجوم ممكن.» بهذا يُثبِت العقل وجوده عندما يطبِّق نظام النقد، ويُبرهِن كذلك على أن «هذه المحكمة العليا لكل حقوق تأملنا المجرد وتطلعاته ومطامحه، مُحالٌ أن تتضمن هي نفسها أي لون من ألوان الغش الفطرية والخداع الذي يُعشِي البصر.»١٥
هكذا يؤدي نقد شطحات العقل الخالص (لإثبات مُثُله وحقائقه المُطلَقة المتعالية دون أي سند تجريبي وعلمي كما سبق القول)، أي نقد الأخطاء والتناقضات التي يقع فيها، إلى معرفة العقل لِذاته، على نحو ما أدَّت تجربة الشك عند ديكارت إلى يقينه الذاتي؛ ومِن ثَم يضع كانط الوحدة المنهجية لتفكير العقل النقدي في مقابل تناقضات التفكير الميتافيزيقي، كما يضع الوحدة الباطنة للعقل نفسه في مواجهة وحدة العالم التي عجز العقل التأملي عن التوصل إليها. وإذا كانت تجربة ديكارت قد أثبتت أن «الأنا» تظل موجودة داخل الشك في كل شيء، وأنها تعطي لنفسها فيه عطاءً سلبيًّا، فإن العقل عند كانط يجرِّب كذلك يقينه الذاتي من خلال السلب. ويتَّضح الطابع السلبي للعملية النقدية كلها في هذه العبارة: «يترتب على هذا أن أكبر فائدة تقدِّمها فلسفة العقل الخالص، وربما تكون الفائدة الوحيدة منه، هي فائدة سلبية فحسب؛ ذلك لأنها (أي فلسفة العقل الخالص) ليست أداة صالحة للتوسع (في المعرفة)، وإنما هي نظام يصلح لتعيين الحدود. وبدلًا من أن «تنسب لنفسها فضل» اكتشاف الحقيقة يقتصر فضلها على الحماية في هدوء من الوقوع في الأخطاء.»١٦ صحيحٌ أن كانط لم يبسط لنا طريقة ظهور مواقفه المنهجية الإيجابية خطوةً خطوة كما فعل ديكارت، ولكنه وصف على كل حال علاقةَ منهجه بالتناقض وصفًا دقيقًا في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه نقد العقل الخالص، حيث يقول:١٧ «إن المنهج المقتبَس من دارسي العلوم الطبيعية، يتكون من البحث عن عناصر العقل الخالص فيما يمكن تأييده أو دحضه عن طريق التجربة، بَيدَ أن قضايا العقل الخالص، وبخاصة عندما تُخاطِر بتجاوز كل حدود التجربة الممكنة، لا تسمح بإجراء أي تجربة مع موضوعاتها (كما هو الحال في العلم الطبيعي) لاختبار تلك القضايا؛ ولهذا لن يكون في وسعنا إجراء هذا الاختيار إلا على مفاهيم ومبادئ نسلِّم بها قبليًّا ونتناولها، بحيث يمكن النظر إلى هذه الموضوعات نفسها من وجهتَي نظر مختلفتَين، فتكون من ناحية موضوعات للحواس وللفهم المتعلقة بالتجربة، ومن ناحية أخرى موضوعات يُكتفى بالتفكير فيها بوصفها موضوعات للعقل الخالص المنعزِل الذي يسعى جهده لتخطي حدد التجربة. فإذا وجدنا أن النظر إلى الأشياء من وجهة النظر المزدوجة هذه يؤدي إلى الاتفاق مع مبدأ العقل الخالص، وأن النظر إليها من وجهة نظر واحدة يؤدي حتمًا إلى تصارُع العقل مع نفسه؛ فإن التجربة هي التي ستفصل في صحة تلك التفرقة.»
يصف هذا النص عملية نقد العقل الخالص بأنها تجربة. وهي تجربة مختلفة في طابعها عن التجارب التي تتم في العلوم الطبيعية؛ لأنها لا تجري على موضوعات بالمعنى العيني المتعارف عليه لهذه الكلمة؛ ولهذا كانت في الواقع تجربة ذاتية يقوم بها العقل على نفسه. وللتجربة بهذا المعنى شقَّان: أحدهما سلبي، ينشأ عنه صراع العقل أو نزاعه مع نفسه؛ والآخر إيجابي، يتم فيه التوافق مع مبدأ العقل الخالص. ومِن الواضح أن الشق السلبي للتجربة يحمل في تضاعيفه الشق الإيجابي؛ أي إن حل التناقض يقتضي أن يقوم العقل الخالص بوضع ذلك المبدأ الذي يُلزِمه (أي العقل) بالتوافق معه. لا بد إذن أن يجد العقل مبدأه، وأن يتوافق معه لكي يتسنَّى التخلص من فضيحته التي جرَّها عليه اندفاعُه لِما فوق حدود التجربة الممكنة، ونزوعه للتساؤل غير المحدود عن أمور غير محدودة (الله، والحرية، والخلود، وتناهي العالم في الزمان أو عدم تناهيه … إلخ). وهل يكون لهذا كله غير تسمية واحدة هي تحديد العقل لحدوده، أو بمعنًى آخر نقد العقل؟ وهل يُفضي الطريق الذي يمضي عليه العقل في بحثه لتلك المتناقضات إلا إلى التبصير بمبدئه الخاص؟ صحيحٌ أن الأمر هنا لن يكون شبيهًا بظهور «يقين الأنا» ظهورًا مُفاجئًا من طوايا الشك الشامل كما حدث مع ديكارت؛ لأن التفكير المتأنِّي الدقيق في كل أخطاء العقل وضلالاته، هو الذي سيسمح بمطالعة وجهه الأصيل وتعرف جوهره الحق؛ ولذلك فلن تنهض أمامنا هذه الصورة التي يصفها كانط في ختام كتابه إلا بعد مراجعة الإمكانات السلبية للعقل مراجعة نقدية متعمِّقة (لا يجوز تشبيه عقلنا بسطحٍ مستوٍ يتعذر تعيين حدود مساحته الشاسعة، بحيث لا يُعرَف عنها إلا أنها تندُّ عن التحديد، وإنما يجب أن يُشبَّه بشكل كُروي يمكن تعيين نصف قطره عن طريق الخط المنحني على سطحه (أي وفق طبيعة القضايا التأليفية القبلية)، كما يمكن كذلك تعيين محتواه وحدوده بطريقة مؤكَّدة، أما خارج هذا الشكل الكروي (أي خارج مجال التجربة) فليس ثمة شيءٌ يمكن بالنسبة إليه أن يُعَد موضوعًا، بل إن الأسئلة التي تُطرَح عن أمثال هذه الموضوعات المزعومة، لن تتناول المبادئ الذاتية للتحديد الدقيق للعلاقات التي يمكن أن توجد داخل هذا الشكل الكروي بين تصورات الفهم (أو الذهن)).١٨

لا شك أن العبارة السابقة — على الرغم من صعوبتها الكانطية! — قد قدَّمت لنا صورة حية عن شكل كروي محدَّد، في مقابلِ سطحٍ مستوٍ يتعذر تحديده لشدة اتساعه، والعقل هو هذا الشكل الكروي الذي تحدِّده القضايا التأليفية القبلية (التي يعرف عنها قارئ كانط أنها شرط قيام العلم؛ فلولا توافُرها في العلوم الطبيعية والرياضية لما أصبحت علومًا بالمعنى الدقيق) كما يحدِّد الخط المحني نصف قطر الدائرة. أما ما يقع خارج هذه الدائرة فلا ينتمي للعقل، ولا يخضع لمبدئه الذي تحدِّده كذلك الأحكام التأليفية القبلية. والأمر في النهاية يتعلق بمعرفة الحد؛ فكما كانت اﻟ «أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود»، التي اكتسبها ديكارت من تطبيق الشك على كل شيء تحاشيًا للوقوع في الخطأ، هي التي وضعت حدًّا لذلك الشك، وبدأت طريق البحث المنهجي عن اليقين، كذلك كان بحث كانط لتناقضات العقل الخالص هو سبيله للعثور على الحد، ومعرفته بالحد هي التي رسمت الطريق إلى المنهج الشارطي والمعرفة الشارطية (أو الترنسندنتالية التي لا تتعلق بالموضوعات، بل بطريقة معرفتنا بهذه الموضوعات، بقدر ما تكون هذه الطريقة قبلية)، وهي كذلك التي بصَّرته بمبدأ العقل الخالص، الذي عبَّرت عنه ثورته «الكوبرنيقية» الشهيرة (نسبة إلى كوبر نقوس (١٤٧٣–١٥٤٣م) صاحب التحول الشمسي المعروف، وخلاصتها أن إدراكنا أو عياننا الحسي ومفاهيمنا أو تصوراتنا الذهنية لا تتوجه وفقًا للموضوعات، بل إن هذه الموضوعات هي التي تتوجه وفق ملكة عياننا وتصوراتنا)؛ ومِن ثَم تكون المعرفة السلبية بالمتناقضات التي يقع فيها العقل الخالص بسبب شطحاته الميتافيزيقية المجردة، هي التي أدَّت به إلى المعرفة الإيجابية بحدود العقل والمعرفة البشرية التي رسمها منهجه الشارطي وفلسفته النقدية الكفيلتان بالتخلص من تلك المتناقضات. والواقع أن الحديث عن تطور هذا التحديد الإيجابي للعقل وتفصيلاته معناه الحديث عن الإستطيقا والأنالوطيقا الترنسندنتالية (نظريته عن المعرفة الحسية والمعرفة الذهنية) اللتَين تؤلِّفان مع الديالكتيك الترنسندنتالي وحدةً واحدة لا تنفصم عراها؛ أي عن «النقد» كله في جانبه المعرفي. وهنا يتوقف القلم الذي يعرف حدوده مُكتفيًا بالغرض الذي قدَّمه عن المنطق الجدلي لفلسفة النقد التي لا تخرج — في بنائها وغايتها — عن أن تكون معرفة بالحد.

ربما يكون السر الكامن وراء كل منهج فلسفي أصيل — ولعله كذلك أن يكون سر الإبداع، أو جانبًا منه على أقل تقدير في التفكير الفلسفي على وجه العموم — هو التحول الذي يُحدِثه التفكير النقدي السلبي أو غير الموضوعي في أزمة التناقض، فيتَّجه إلى تفكير إيجابي يبني الموضوع ويكون حقيقة وجوده. ولقد تم هذا التحول عند كلٍّ من ديكارت وهسرل، كما سنرى بعد قليل، على أساس البداهة التي تأذَّت مِن كونِ التناقض مُحالًا. لم يحتج أحد منهما لاختبار إمكانية هذا التحول؛ إذ شعرا بما يُشبِه الإيمان الساذج بأن التناقض الذي تبدَّى لهما مُحال، واستند هذا الإيمان على اعتقاد ميتافيزيقي مُطلَق في صحة المنطق الصوري، واعتقاد لا يقلُّ عنه إطلاقًا في صحة العلم (الطبيعي والرياضي) ويقينه. كان كلاهما شديد الإقناع بأن التناقض قيمة سلبية، وأن ظهوره علامة أكيدة على مشروعية «المعطى الإيجابي» الذي وضعاه في مقابله كما يُوضَع الصدق في مواجهة الكذب والزيف. ويختلف الأمر قليلًا مع كانط الذي احتاج للمُضيِّ على طريقٍ مُضنٍ وغير مباشر، لتدعيم وجهة نظره الإيجابية أو منهجه الشارطي الذي لم يُعطَ له ببساطة البداهة التي عرفناها عند ديكارت، والتي سوف نعرفها عند هسرل، وإن بقي التناقض ومحاولات حله — كما سبق القول — وراء تحوله نحو المنهج الجديد، بحيث لا يمكن فصله عنه إلا إذا أمكن فصل الجذر عن ساق الشجرة وفروعها وثمارها. يدل على هذا قولُه في المقدمة المهمة التي أضافها إلى الطبعة الثانية من نقد العقل الخالص (١٧٨٧م):
فإذا سلَّمنا بأن معرفتنا التجريبية تتوجه حسب الموضوعات بما هي أشياء في ذاتها، ووجدنا أن المُطلَق لا يمكن التفكير فيه بغير تناقض، ثم سلمنا — على العكس من ذلك — بأن تمثُّلنا للأشياء كما هي معطاة لنا لا يتوجه حسب هذه الأشياء بما هي أشياء في ذاتها، بل الأصح أن هذه الموضوعات، بوصفها ظواهر، هي التي تتوجه حسب طريقتنا في التمثل، ووجدنا أن التناقض قد سقط، وأن المُطلَق — تبعًا لذلك — لا يوجد بالضرورة في الأشياء من حيث إننا نعرفها (أو من حيث إنها تُعطى لنا)، وإنما يوجد فيها من حيث إننا لا نعرفها؛ أي بما هي موضوعات في ذاتها؛ عندئذٍ يتبيَّن أن ما سلَّمنا به في البداية على سبيل المحاولة يقوم في الواقع على أساسٍ متين.١٩

ربما يُوافِقني القارئ على أن النص الأخير يعبِّر عن الدافع الذي حرَّك كانط كما حرَّك غيره من الفلاسفة إلى إيجاد المنهج، وهو أن استبعاد التناقض والتغلب على أزمته هو الأمر الحاسم في وجود المُطلَق أو الحقيقة التي يضعها أو التي تُعطى له. وطبيعيٌّ أن يختلف تصوُّر فيلسوف للتناقض عن الفيلسوف الذي سبقه باختلاف تصوُّرهما للنقد، وأن يحدِّد اختبار نوع التناقض طريقه المنهجي. والمهم أن موقفه النقدي من التناقض يحدِّد مبادئه المنهجية ويُثبِتها، بحيث تصبح الحقائق التي تُعطى نفسُها حقائقَ منهجية وموضوعية بقدر ما تتميز من التناقضات، وتستبعدها بسبب كونها محالة. وطبيعيٌّ أيضًا أن يضيِّق هذا المنهج من مجال الحقيقة ومن مفهوم الوجود. فالحقيقة عند ديكارت هي حقيقة الأنا؛ ولذلك اقتصر الوجود عنده على وجود الفكر أو «الأنا» المفكِّرة. وهي عند كانط وجود المعرفة الضرورية العامة الصدق؛ ومِن ثَم اقتصر الوجود عنده على التحديدات والشروط القبلية الكفيلة بعرفته. أما عند هسرل فسوف نجد أنها هي الحقيقة في ذاتها بوصفها منطقية خالصة؛ ولذلك اقتصر مفهوم الوجود لديه على الوجود الظاهري أو «الفينومينولوجي»، الذي أُعطيَه عطاءً مباشرًا حيًّا في الشعور. ويبقى الشيء المشترك بين «مُبدِعي» المنهج في كل هذه الأحوال هو انطلاقهم الساخط والناقم على سلبية التناقض، الذي يجعلهم يبحثون عن «الوجود» من خلال محاولاتهم لحل التناقض.

إذا كان الأمر كذلك، فماذا نقول عن فيلسوف أزاح «الحد النقدي» الذي أقامه كانط لتمييز المعرفة العلمية الصحيحة من المعرفة الميتافيزيقية الشاطحة في فراغ التناقض وعدمه، بل جعل من التناقض القلبَ النابض لفلسفته ومنهجه ورؤيته الجدلية كلها للفكر والوجود جميعًا؟ ماذا نقول باختصار عن منهج هيجل، وفيمَ اتفق مع مناهج السابقين عليه وفيمَ اختلف عنهم؟

لا شك أن قُراء هيجل (وهم بحمد الله كثيرون، ووجودهم يؤكِّد أن «الجديَّة الصامتة» لم تنقرض من بلادنا، برغم الضجيج الكاذب الذي يُحاصِرنا ويكاد أن يُصيبنا باليأس القاتل داخل دوائر الثقافة والأدب والفن والفلسفة نفسها وخارجها أيضًا) أقول إن قُراء هيجل يذكُرون بغير شك عبارتَه الشهيرة الواردة في مقدمة كتابه «ظاهريات الروح»: إن الأمر الذي عقَدتُ عليه العزم هو المشاركة بجهدي في أن تقترب الفلسفة من هدفها، وتتمكن من طرح الاسم الذي تُوصَف به، وهو حب العلم؛ لكي تصبح علمًا حقيقيًّا.٢٠ هذا الجهد الذي يذكُره هيجل جهدٌ منهجي قبل كل شيء! وهو يختلف عن كل الجهود التي بذلها أصحابها لكي يسيروا بالفلسفة «على الطريق الأكيد للعلم»، واضعين تقدُّم المعرفة ودقتها في العلوم الرياضية والطبيعية نصْبَ أعيُنهم. لم يُحاول فيلسوف الجدل الأكبر في العصر الحديث أن يجعل من منهجه الجدلي نموذجًا للمعرفة الموثوق بها، بالمعنى المتعارف عليه في العلوم «الدقيقة»، ولم يذهب إلى حد القول بأن يقين الرياضيات هو اليقين العلمي الحق؛ إذ صرَّح في أكثر من موضع من كتاباته برفض المنهج الرياضي وعدم الاعتماد عليه.٢١ وإذا كان قد أسَّس منهجًا فلسفيًّا وصفه بأنه هو المنهج الحقيقي والعلمي الوحيد، فقد أسقط جميع شروط المنهج الدقيق التي افترضها غيره من السابقين أو اللاحقين. والسبب في هذا بسيط، فموقفه المختلف كلَّ الاختلاف من التناقض هو الأساس الذي أقام عليه منهجه؛ ذلك أن التناقض عنده لا يأخذ ذلك المعنى المزدوج الذي نجده عند الفلاسفة الباحثين عن المنهج الدقيق؛ فقد رأينا كيف يمثِّل من ناحية نقطةً الانطلاق الفعلية لتطور بحثهم عن المنهج، كما يحدِّد طبيعة الفكرة التي ستكوِّنه، واتجاه هذا التطور نفسه. ورأينا من ناحية أخرى أنهم نظروا إليه (أي إلى التناقض) نظرتَهم إلى طريق مسدود للمعرفة، أو وهمٍ ينسج العقل خيوطه، وخطأ فظيع يقع فيه بإرادته أو بحكم ميوله وفطرته. ولكن هيجل يُدير ظهره لكل هذه المفاهيم والتحديات الرافضة للتناقض؛ فالتناقض عنده هو المبدأ المحرِّك للعالم، وهو من أكثر المبادئ تعبيرًا عن حقيقة الأشياء وماهيتها، وهو مصدر كل حركة وكل حياة؛ فالشيء لا يتحرك إلا لأنه يحوي في صميمه تناقضًا وقوة دافعة ونشاطًا.٢٢ والنقائض لحظات ضرورية للتفكير ونسقه الحي المتطوِّر، أي نسق المنطق نفسه؛ فهي شروط تقوم عليها المعرفة، وليست عقبات في طريقها، ولا تتعارض مع مفهومها كما كان الحال عند أولئك الفلاسفة؛ إذ لا يمكن — في رأيه — تحديد ماهية المعرفة مع استبعاد التناقض. بهذا يكون قد قطع الخيط أو كسر السلسلة التي وصلت ديكارت بكانط، ثم التفَّت حول هسرل، وربطتهم جميعًا فكرةٌ محدَّدة عن «علمية» الفلسفة ومنهجها الصارم المُحكَم، مهتدِين في ذلك — كما سبق القول — بالعلوم الدقيقة من جهة، ومن جهة أخرى بالمنطق الصوري الذي رفض التناقض في الوجود والفكر، وعدَّه علامة التهافت والفساد. وبهذا أيضًا تكون الفلسفة قد فقدت على أيديهم أهم ما يميِّزها في نظر هيجل، وهو أن تكون معرفة بالكُلِّي الشامل، أو علم الكل الذي لم يكن المنهج الجدلي إلا عرضًا لتطوره في إيقاعاته الثلاثية أو مثلثاته الكثيرة.

ولقد أدَّى حرص أولئك الفلاسفة على المنهج الدقيق والمعرفة الخالية من التناقض إلى فتح جرح عميق، أو إحداث صدع غائر، في التفكير نفسه، لم يتوقف عن الظهور والتجدد باستمرار؛ فقد شقَّه إلى نصفَين متضادَّين إلى أقصى حدود التضاد: فكرٌ سلبي ووهمي أو مظهريٌّ خاطئ يرفع نفسه بنفسه، وفكرٌ صحيح أو إيجابي. والجهود المُضنِية التي بذلها كانط لرأب هذا الصدع ومد جسر بين الشقَّين معروفة؛ وقد أدَّت في النهاية إلى التمييز بين العقل الخالص والعقل العملي؛ بحيث بُرهِن في الأول على نوع من المعرفة (العلمية الضرورية العامة الصدق) لا سبيل للبرهنة عليه في العقل الثاني (وهي المعرفة الأخلاقية والدينية)، وبحيث أمكنه أن يقول في النهاية فيما يُشبِه اليأس أو التسليم:

«وهكذا اضطررت إلى رفع (استبعاد أو إلغاء) المعرفة لكي أُفسِح مجالًا للإيمان (أو الاعتقاد)».٢٣ وبذلك قضى على الوحدة الباطنية للتفكير، وتم الفصل — عند كانط بوجه خاص — بين معرفة متناقضة وغير منهجية (فيما سمَّاه الميتافيزيقا الدجماطيقية؛ أي التي تقطع بالحكم في أمور الحقائق المُطلَقة بغير دليل أو سند كافٍ)، وأخرى علمية أو منهجية دقيقة.

واجه هيجل هذا الصدع الغائر، وحاولت فلسفته كلها إعادة الوحدة الباطنة للفكر والوجود. ونقده الشديد للمناهج السابقة دليلٌ على وعيه الحادِّ بتصدع العقل أو الروح الحديث، وعلى إيمانه بأن منهجه الجدلي هو الذي سيُعيد للميتافيزيقا معناها المنهجي، ويردُّ إليها كرامة العلم. وسوف نستشهد على نقده للمناهج السابقة ببعض النصوص التي تقرِّبنا من جوهر فلسفته أو تدور حول محورها.

ونبدأ بنقده للمنطق الصوري الذي آمن كانط بثباته٢٤ دون تغيير يُذكَر منذ عهد أرسطو، وسؤاله إن كانت صورة المنطق الذي اعتمد عليه كانط في جهوده لإقامة المنهج الفلسفي الدقيق هي الصورة النهائية التي تمثِّل المعرفة الفلسفية الدقيقة، أم إن المنطق نفسه معرفةٌ متطوِّرة بذاتها.
إن المنطق القديم يحتاج إلى تغيير شامل. والواقع أن الشعور بالحاجة إلى تعديله شعورٌ مُوغِل في القِدم، وهو من ناحية الشكل والمضمون التي يظهر بها في المراجع الدراسية قد حظي — إن جاز هذا القول — بالاحتقار. وإذا كان الناس لا يكفُّون عن التمسك به، فما ذلك إلا لإحساسهم بأن المنطق بوجه عام شيءٌ لا غنى عنه، وتعوُّدهم على الاعتقاد بأهميته المُرتكِزة على تراث طويل، لا عن اقتناع بأن ذلك المضمون المألوف، والانشغال بتلك الأشكال الفارغة، لهما قيمة أو نفع حقيقي.٢٥ ثم يستطرد قائلًا عن منهجه الجدلي: «وإذا كنت لا أُنكِر أن المنهج الذي اتبعته في هذا النسق المنطقي — أو بالأحرى الذي يتَّبعه هذا النسق نفسه — يحتاج إلى المزيد من الاستكمال، وأنه يقبَل إدخال تفصيلات جزئية عليه، فإنني أعلم في الوقت نفسه أنه هو المنهج الحقيقي الوحيد. ويتجلى هذا بوضوح إذا عرفنا أنه ليس شيئًا مختلفًا عن موضوعه ومضمونه؛ لأن المضمون في ذاته، أي الجدل (الديالكتيك) الذي ينطوي عليه في ذاته، هو الذي يدفعه على الحركة المستمرة. ومِن الواضح أنه لا يمكن أن يتَّصف أي عرض بصفة العلم ما لم يتبَع مَسار هذا المنهج ويتفق مع إيقاعه البسيط؛ لأنه هو مسار الموضوع ذاته.»٢٦ ولو رجعنا بالذاكرة إلى كانط لوجدناه يصوِّر الجدل في صورة «فن مظهري» يخلع على جميع معارفنا شكلًا ذهنيًّا، حتى إذا تحقَّقنا من مضمونه وجدناه أجوف شديد الفقر، وتأكَّد لنا أن ذلك المنطق العام (أي الجدل)، الذي لا يخرج عن كونه قانونًا للحكم، قد أصبح أشبه بآلة (أورجانون) تُستخدم، أو بالأحرى يُساء استخدامها، لإنتاج مَزاعم تخدعنا بمظهرها الموضوعي.٢٧
هذه الصورة لا يمكن بطبيعة الحال أن تُقارَن، من قريب أو من بعيد، بصورته الحقيقية والعلمية عند هيجل، ومع ذلك فإن هيجل يعترف بفضل كانط، ويُقرُّه على قوله بأن التفكير الجدلي جزءٌ لا يتجزأ من تكوين العقل، وإن خالفه بالطبع في إدانته لمعرفته «المظهرية» أو الوهمية: «لقد وضع كانط الجدل في مكان رفيع، وهذا من أجلِّ أفضاله؛ فقد نزع منه مظهر التعسف الذي ألصقه به التصور العادي، وعرضه في صورة فعل ضروري من أفعال العقل.»٢٨ وهكذا تحوَّل المظهر الضروري، وتحوَّلت المعرفة الوهمية العقيمة، إلى لحظة موضوعية ومنهجية من لحظات التفكير، بل إن هذه اللحظة المعبِّرة عن الحركة الذاتية للتفكير تصبح في نظره هي «النواة» المنهجية والموضوعية للفلسفة نفسها. وما أكثرَ نصوصَ هيجل التي تؤكِّد أن الفلسفة ليست هي حركة الفكر المُدرَك فحسب، وإنما هي — قبل كل شيء — حركة الفكر الذي يُدرِك ذاته، وبه تبدأ الفلسفة بدايتها الحقيقية؛ فالفلسفة تبدأ حيث يُدرَك العام بوصفه الوجود الشامل، أو حيث يُنظَر إلى الوجود بطريقة عامة يظهر معها التفكير في التفكير.٢٩ ولقد سارت في مرحلتها الأولى — عند الإغريق والإيليين بخاصة — من الفكرة المجردة إلى الفكرة التي تحدِّد نفسها بنفسها.٣٠ وفي نهاية العصر الفلسفي (وهو الذي يشعر هيجل أنه عصره الذي يمثِّل اكتمال تاريخها السابق!) بلغت الفلسفة مرحلة الفكرة الحية الشاملة التي تعرف ذاتها،٣١ أو الفكرة التي تفكِّر في ذاتها، والحقيقة التي تعرف نفسها، كما جاء في نهاية كتابه موسوعة العلوم الفلسفية.٣٢

لن نستطيع هنا تناوُل انعكاس المعرفة أو التفكير على ذاته؛ لأن معنى ذلك أن نتناول فلسفته كلها، وكيف تطوَّر مضمونها، أو فضَّ نفسه بنفسه، على حد تعبيره. ويكفي في هذا السياق أن نتعرض للطابع المنهجي لهذه الفكرة، وكيف تحوَّلت العلاقة الذاتية للتفكير إلى منهج. ولا شك أن فكرة «الإيقاع الثلاثي» للجدل الهيجلي (من موضوع مباشر، إلى نقيض موضوع «متوسِّط»، إلى مركَّب يؤلِّف بينهما ويرفعهما معًا، والمحافظة عليهما في مستوًى أعلى وأكثر خصوبة) قد قفزت إلى ذهن القارئ بعد أن أصبحت مِلكًا مشاعًا للوعي المثقَّف في العالم كله، وربما مال إلى الظن بأن فكرة هذا الإيقاع الثلاثي هي نفسها فكرة المنهج الجدلي ومساره. غير أن شكل المسار الجدلي ليس هو سر حياته وحيويته، ولو وقفنا الجهد عليه لدارت بنا طاحونة المثلثات الجدلية الشهيرة، كما دارت من قبلُ طواحين الأشباح المخيفة بالفارس الطيِّب الحالم (دون كيشوت)، وجنَينا على أنفسنا وعلى هيجل، وربما شاركنا عن غير قصد في إثارة رياح الاتهام والسخرية التي طالما هبَّت عليه؛ ذلك أن قراءة هيجل بمنظار المثلث الشهير قد تُدخِلنا إلى عالمه، وقد تُعِيننا على قراءة الوجود الحي في الخارج، والفكر الحي في الداخل، ولكنها لن تضع أيدينا على «الفكرة الحية الشاملة» التي بدأ منها المنهج، ليعود إليها في نهاية المطاف بعد ملحمة الصراع والعناء.

إن بداية هذه الفكرة هي تفكيرها في تفكيرها، وبداية المنهج هي أن التفكير في التفكير يتولَّد عنه رفعه (نفيه أو سلبه) لنفسه وتوسُّعه في معرفة نفسه. بعبارة أوضح، يكون نقيض الموضوع هو رفع الموضوع، ويكون المركَّب هو الوحدة الجديدة التي تؤلِّف بينهما، وكلها لحظات ضرورية في «التطبيق الذاتي» للفكرة الحية الشاملة، أي لفكرة الفكرة، أو التفكير في التفكير، أو وعي الوعي (العقل أو الروح) لذاته.٣٣ ربما تبيَّن لنا الآن أن هيجل يضع على كاهل فكرته تجربةَ الفلسفية كلها (ربما باستثناءات مادية وواقعية قليلة)، وهذه التجربة تنطق بأن العقل نفسه هو الذي يولِّد تناقضاته مع نفسه، وتبريراته أو «تأسيساته» لنفسه. بهذا نجد أنفسنا أمام الاستعمال المزدوج لما سمَّيناه بالتفكير في التفكير، أو التأمل الذاتي، أو انعكاس الفكر والوعي والعقل على مرآة ذاته؛ فالفكرة تحمل نفيها في داخلها، مِصداقًا لقول هيجل في كتابه «علم المنطق»: «إن ما تنمو به الفكرة نفسها وتتطور، هو النفي (أو السلب) المُعطى قبل ذلك، وهو الذي تطويه في ذاتها، وهذا هو الذي يكوِّن الجدل الحقيقي،٣٤ وتلك هي اللحظة المنهجية الأولى.» أما اللحظة الثانية فيعبِّر عنها قوله في الكتاب السابق الذِّكر بأنها هي: «إدراك التضاد في وحدته، أو إدراك الإيجابي في السلبي.»٣٥ وهذه اللحظة الثانية هي التي تحُول دون فهم «السلب أو النفي الذاتي للفكرة»، وكأنما هو تدمير لها أو قضاء عليها؛ فالواقع أنها تؤكِّد وجودها مرةً أخرى في شكلٍ أغنى وأوسع كما سبق القول، كما تنقل النفي الذاتي إلى إيجاب ذاتي على مستوًى أعلى. وبهذا المعنى أيضًا يمكن إجمال الخطوة الثلاثية الإيقاع للمنهج الجدلي في خطوة أو حركة واحدة، هي الحركة الذاتية للفكرة الشاملة؛ فكأن العلاقة الذاتية التي تظهر مرةً في صورة سلب، وتظهر مرةً أخرى في صورة إيجاب، هي التي تؤلِّف وحدة الشروط المختلفة التي تسير في حركة نموها؛ من الموضوع، إلى نقيض الموضوع، إلى المركَّب منهما. وعن طريق هذه العلاقة الذاتية تتراجع المرحلتان الأوليان لتتَّصلا بالفكرة الكلية التي بدأ منها؛ فما دام «الحق هو الكل» — على نحو ما تقول العبارة الشهيرة لهيجل — فلا بد أن يحتلَّ التناقض موضعه المنهجي من هذا الكل، وأن يكون هو موضع القلب من الجسد العضوي الحي.

لم يكن هدفنا من هذا العرض — المُخِل! — لمنهج هيجل الجدلي هو النظر في تطبيقاته الحية على أعماله الثريَّة المتنوعة، ولم يكن كذلك هو الهدف من عرضِ منهجَي الفيلسوفَين السابقين، أو منهج الفيلسوف الذي سنتناوله الآن (وهو هسرل صاحب فلسفة الظاهرات أو الفينومينولوجيا)؛ فقد اقتصر جهدنا المتواضع على التحقق من الغرض الذي بدأنا به، وهو أن التفكير أو التأمل الذاتي الذي يصطدم بالتناقض وأزماته، ويحاول حلها وبيان أنها محالة، هو الذي يمثِّل نقطة الانطلاق إلى المنهج الجديد، كما أنه يعبِّر عن الإبداع، أو جانب منه على أقل تقدير، في فلسفتهم.

وقبل أن نختم حديثنا عن هيجل ومنهجه الجدلي، لا بد من كلمة عمَّا يجمعه بالفلاسفة الثلاثة وما يميِّزه عنهم؛ فالتأمل الذاتي أو «فكر الفكر» هو مركز فلسفته التي لا تخرج عن كونها محاولةً كبرى ﻟ «الوعي الذاتي»، وهو يؤسِّس مِثلهم منهجًا علميًّا مُحكَمًا، سمَّاه — كما رأينا — بالمنهج الحقيقي الوحيد، وإن لم يتَّخذ نموذجه من العلوم الدقيقة، والرياضيات بوجه خاص، بل رفض أن تكون هي الأساس أو المثل الأعلى. بَيدَ أنه لم يُجارِهم في الفصل بين المعرفة الإيجابية التي اتفقوا على أنها هي المعرفة الصحيحة، والمعرفة السلبية التي بذلوا كل جهدهم لاستبعادها ورفع تناقضاتها، أو بالأحرى لإثبات أنها ترفع نفسها بنفسها. وهو لم يأخذ كذلك بالمعيار الذي وضعوه ﻟ «المنهج الدقيق»، وهو أن التناقض سمة المعرفة الخاطئة، وعلامة التفكير الخادع أو الكاذب. ومعنى هذا أنه قد عرف بوضوحٍ أن البناء النظري للعالم العقلي مُحالٌ بغير الاعتراف بالتناقض؛ فليس التناقض — كما سبق القول — مجرد دَفعة أولية تنطلق منها حركة المنهج وحركة العقل أو الروح معًا، وإنما يشغل مكانه المنهجي من الكل الحقيقي، أو إذا شئت من الحقيقة الكلية التي تنمو بذاتها نموًّا جدليًّا على إيقاع المنهج الجدلي. ولا شك في أن هذا يعبِّر عما يُسمَّى ﺑ «وحدة المنهج والمذهب»، وبصورة قد لا نجدها بمثل هذه القوة وهذا الترابط عند أي فيلسوف قديم أو حديث.

وأخيرًا ننتقل — بحكم التطور التاريخي وحده — إلى فيلسوف اختلف عن هيجل، وربما لم يستفد — في رأي البعض — من ثورته المنهجية والجدلية شيئًا يُذكَر، وإن كان قد نافسه في محاولة كبرى وأخيرة لجعل الفلسفة علمًا كليًّا شاملًا؛ أقول هذا لأذكِّر القارئ بأن الفيلسوف الذي سنتحدَّث عنه — وهو هسرل — يرتبط بالفيلسوفَين السابقين (ديكارت وكانط)، ويُعَد امتدادًا أو بالأحرى ذروة للذاتية المُتعالية، أكثر مما يرتبط بهيجل أو بغيره من الجدليين.

كيف «ظهر» المنهج الجديد لصاحب فلسفة الظاهرات؟ وكيف أدَّى به «سلب التناقض» الصارخ في نزوع بعض المناطقة لتفسير حقائق المنطق والرياضيات تفسيرًا نفسيًّا، إلى «الإيجاب» الذي يتمثل في تأمين حقيقة الموضوع، بل إلى تأمين الحقيقة ذاتها، وحمايتها من الشك والنسبية النفسية والإنسانية؟

لا يعنينا هنا أن نفصِّل القول في طبيعة المنهج الظاهراتي وخصائصه ومراحله ومدى خصوبته في التطبيق، بقدر ما يهمُّنا أن نُبرِز الملمح المشترك بينه وبين بقية المناهج التي نعرِض لها، وهو خروج الجديد الإيجابي من حطام السلبي والمتناقض. ويكفي أن نطَّلع على الجزء الأول من «البحوث المنطقية» لنتأكد من هذا الحرص على تأمين حقيقة الفكر، ثم نتبيَّن كذلك قرب نهاية هذا الجزء كيف يتحوَّل المنهج النقدي السالب لتناقضات النزعة النفسية، إلى منهج إيجابي لإثبات حقيقة الموضوع أو حقيقة التفكير الموضوعي: «لا يتسنى وجود شيء بغير أن يتحدد على هذا النحو أو ذاك. وكونه موجودًا ومحدَّدًا على هذا النحو أو ذاك، معناه أن هذه هي الحقيقة في ذاتها؛ الحقيقة التي تؤلِّف التضايف الضروري للوجود في ذاته.»٣٦ ويستطرد هسرل في شرحه لمعنى موضوعية الموضوع، فيقول: «عندما نحقِّق فعلًا من أفعال المعرفة، أو — كما يحلو لي أن أعبِّر — عندما نحيا فيه، فإنما ننشغل بالجانب الموضوعي الذي يقصده ذلك الفعل، ويضعه بطريقة معرفية بطبيعة الحال، وكلما كانت معرفتنا معرفة بأدق معاني الكلمة، أي كلما أصدرنا حكمًا قائمًا على البداهة، فقد أعطينا الموضوعي عطاءً أصيلًا. وفي هذه الحالة لا يبدو لنا أننا نُواجِه الواقعة الموضوعية، وإنما تتمثل هذه الواقعة بالفعل أمام أعيننا كما يتمثل فيها الموضوع ذاته، من حيث ماهيته وما هو عليه؛ أي — تحديدًا — على هذا النحو المقصود في هذه المعرفة، لا على نحوٍ آخر؛ أي بوصفه حاملًا لهذه الخصائص، وحلقة في هذه العلاقات، وما أشبه ذلك. وهو كذلك لا يبدو لنا بهذه الخصائص، وإنما يتقوم بها الفعل، وبهذه المثابة يعطي لمعرفتنا؛ أي إن المعنى الوحيد لهذا أنه لا يقتصر على أن يبدو لنا كذلك (أو لا يقف الأمر عند حكمنا عليه بذلك)، وإنما يكون قد عُرِف على ما هو عليه، أو أصبحت كينونته على هذا النحو حقيقةً فعلية، متفرِّدة في التجربة الحية للحكم البديهي، فإذا ما تأمَّلنا هذا التفرد، وقمنا بتحقيق التجريد الفكري،٣٧ أصبحت الحقيقة ذاتها، بدلًا من ذلك الجانب الموضوعي، هي الموضوع المُدرَك؛ عندئذٍ نُدرِك الحقيقة بوصفها المتضايف المثالي مع فعل المعرفة الذاتي العابر، ومن حيث هي الحقيقة الواحدة بالقياس إلى التنوع غير المحدود لأفعال المعرفة الممكنة للأفراد العارفين.»٣٨

لا يقتصر النص السابق، وعلى الرغم من صعوبته، على التعبير عما يعنيه هسرل بالموضوعية، وإنما يتعداه إلى وصف الطريق الذي اتبعه، وتلخيص المنهج الذي سار عليه؛ فنحن حين نحكم حكمًا قائمًا على البداهة، أي حين تكون لدينا معرفة دقيقة، فذلك لأن موضوع المعرفة قد أُعطيَ لنا عطاءً مباشرًا أصيلًا. والواقع أن هسرل قد أقام براهينه على فساد النزعة النفسية في فهم المنطق على أساس البداهة، وأثبت أن هذه النزعة تؤدي بالضرورة إلى التناقض. ولا بد في سبيل هذا الإثبات، وتلك البراهين التي تؤمن حقيقة المعرفة، من ظهور الحقيقة المعنية في صورة موضوعية؛ فالمقصود هو الحقيقة التي تصبح موضوعًا، أي حقيقة في ذاتها؛ ومِن ثَم يكون النقد السلبي للشك والنسبية التي تؤدي إليها النزعة النفسية في المنطق قد تمخَّض عن موضوع إيجابي، كما تكون حقيقة هذا الموضوع، بل الحقيقة في ذاتها، قد خرجت بهذه الصورة الجدلية عن سلب أو تناقض. فكأن تفكيره في وضع منهجه الفلسفي، الذي سيعتمد عليه في الكشف عن حقيقة الموضوع أو موضوعية الحقيقة، قد ارتبط بتفكير نقدي وسلبي في مفارقة أو نقيضة معيَّنة. ولم يكن هذا الارتباط من قبيل المصادفة؛ إذ تكرَّر — كما رأينا من قبل — مع منهج الشك عند ديكارت، ومع المنهج الشارطي (الترنسندنتالي) عند كانط؛ لأن إيجابية المنهج تقوم على خلفية سلبية، كما أن تكوين هذه الخلفية السلبية مُرتبِط ارتباطًا ضروريًّا بتكوين الموضوع والحقيقة.

إذا كان هسرل قد قطع هنا تأملاته عن المنهج، وأخذ يجمع النتائج التي توصَّل إليها في مفهوم «المعطى» و«المعنى المثالي»، فقد عكف في الجزء الثاني من البحوث المنطقية على مواصلة تحليلاته للموضوع؛ فلا بد لهذا الموضوع أن يُعطى عطاءً أوليًّا أصيلًا، وكونه مُعطًى هو أسلوبه في الوجود الذي يربط الذات بالموضوع، كما أنه ينطوي في وقت واحد على وجوده، وعلى ضرورة أن يكون هذا الوجود بالقياس إلى شخصٍ ما؛ أي ضرورة ظهوره لوعي أو شعور أو ذات معيَّنة، وإلا انتفى كونه مُعطًى. ومن هنا بدأ المنهج خُطاه وتوسَّع فيها، وصارت مهمة «الظاهري» أن يبحث الموضوعات من جهة كونها مُعطاة لشعور أو وعي يتوجه إليها ويقصدها بأفعاله «القصدية»، وغدت «رؤية الماهيات» و«تحليلات المعنى» هي أدواته في هذا البحث.

بهذا يكون هسرل قد حدَّد مجال الظاهرات ووضَّحه. إنه هو المجال الذي تُبحَث فيه الموضوعات، ويُعطي لكلٍّ من الموضوع والذات حقوقًا متساوية؛ فالموضوع «يظهر»، والذات «ترى» وتصف ما تراه، وتكون الحقيقة حيثما ظهر الموضوع على ما هو عليه، وحيثما تمَّت رؤيته، أو بالأحرى رؤية ماهيته، على نحو ما يظهر للشعور وفيه ظهورًا خالصًا مباشرًا. بذلك تتجه الظاهرات إلى الموضوعات، وتبقى معها. إنها لا تحلِّق فوقها بالتأمل المجرد، ولا تشغل نفسها بكيانها المادي الذي تعلِّق الحكم عليه أو تضعه بين قوسَين، وإنما تحياها وتجرِّبها وترى ماهياتها رؤيةً حدسية معيشة. ويضيق المجال عن تتبُّع خطوات المنهج الظاهري، ومراحله في الرد، وتحويل الموضوعات إلى موضوعات مثالية، وتأمين وجودها بوصفها ماهيات ثابتة في الشعور أو الوعي المتعالي، على نحو ما فصَّله وأفاض فيه في كتابه الأفكار؛ إذ يكفينا أن المنهج نفسه قد انبثق من أزمة تناقص ليصبَّ في عمليات إيجابية لا آخر لها؛ لتكوين موضوعية الموضوعات، وتأمين حقائقها الثابتة في مملكة الشعور المتعالي، التي تُعَد بمعنًى من المعاني مملكة الوجود المُطلَق.٣٩ ويكفينا كذلك أن نُشير إلى أنه أراد بهذا المنهج أن يرفع الفلسفة إلى مرتبة المعرفة العلمية الدقيقة. أما عن نجاحه أو إخفاقه في تحقيق هذا الأمل القديم فشيءٌ آخر؛ ذلك أن المنهج الظاهري الذي بدأ بالفصل بين المنهج والموضوع — كما هو الشأن في العلوم الدقيقة — قد انتهى إلى جعل المنهج نفسه موضوعًا للبحث؛ وبهذا فتح للمعرفة الفلسفية وللسؤال النفسي أفقًا شاسعًا لم يكن من الممكن أن يحيط به منهج محدَّد ولا موضوع محدَّد.
شرع هسرل في اقتحام مملكة الشعور أو الوعي المتعالي، التي تُعَد بمعنًى من المعاني مملكة الوجود المُطلَق في المرحلة المثالية المتعالية، التي بدأت مع نشر كتابه «أفكار عن ظاهرات خالصة وفلسفة ظاهرية» بين سنتَي ١٩١٣م و١٩٢٨م؛ فقد اتجه إلى نوع جديد من المثالية الذاتية المتعالية، لم يكتفِ بتقرير التضايف الضروري بين الموضوعية المقصودة والتجربة الحية للقصد، وإنما أسند إلى الشعور، أو الذات المتعالية الخالصة في سعيها المنهجي لرؤية الماهيات، عملياتِ التكوين أو البناء التي تُضفي المعنى على العالم والوجود. وقد عاد في وقت متأخِّر من حياته إلى اقتحام مجال الذاتية المتعالية الخالصة بصورة نهائية حاسمة، فأكَّد في تأملاته الديكارتية (١٩٣١م) إمكان التوصل إلى الأنا المحضة المتعالية، التي هي الأساس الأخير لكل تفكير. وبدا الأمر لنُقاده وكأن هذه الأنا أو الذات قد بقيت «رهينة مَحبسها» الذاتي والفردي العالي، ولم تتطرق للشروط التاريخية والاجتماعية التي تحدِّدها. صحيحٌ أن عالم الحياة — وهو عنده تعبير آخر عما نسمِّيه عادةً بالظواهر الاجتماعية والتاريخية — ظل مِن أهمِّ مهامِّ الأنا أو الذاتية المتعالية، التي أثبت أن علاقتها بالآخر وبغيرها من الذوات (فيما سمَّاه الذاتية المشتركة) يدخل في صميم تكوينها، ولا غنى عنه لتأسيس الموضوعية العلمية، غير أن القُراء والنُّقاد افتقدوا مواقفه المحدَّدة من المشكلات المحدَّدة عن المجتمع والتاريخ، وكاد بعضهم أن يتَّهمه بإغفال جوانب العمل والممارسة الإنسانية في العالم.٤٠ حتى إذا توالى نشر مخطوطاته في السلسلة المشهورة «كتابات هسرل أو الهسرليانا» منذ سنة ١٩٥٠م، طلع على الناس واحد مِن أهم كتبه، وهو «أزمة العلوم الأوروبية والظاهرات المتعالية»، الذي لم يقتصر فيه على تناوُل مفاهيم من عالم الحياة كالمجتمع والأخلاق والتاريخ، وإنما تعرَّض فيه قبل كل شيء لأزمة العلم الأوروبي ومحنة الوجود والضمير والإنسانية الأوروبية، وكلها للأسف لديه شيء واحد، وكأن العلم والوجود والإنسانية تكون أوروبية أو لا تكون!
لم يكن من قبيل المصادفة أن ترِد كلمة الأزمة (كريزيس) في عنوان هذا الكتاب؛٤١ إذ كان من الطبيعي أن يعمق إحساسه بها بعد عناء السير على طريق طويل، تصوَّر في نهايته التي اقترنت بالشيخوخة وهواجس النهاية المحتومة أنه قد أكمل واجبه، وأتم تأسيس فلسفته، واطمأنَّ إلى إقامة العلم الشامل، أو «الماثيزيس يونيفرساليس» الذي ظل هو الشغل الشاغل لعدد كبير من فلاسفة الغرب، بدءًا بأفلاطون في نظريته عن المُثل، إلى ديكارت وليبنتز وكانط، حتى البنائيين أو البنيويين ورودلف كارناب (١٨٩١–١٩٧٠م)، وزملائه من التجريبيين أو الوضعيين المناطقة في مشروعهم عن «العلم الموحَّد».
ومِن المعروف أن منهج العلوم الطبيعية والرياضية بقي هو المَثل الأعلى لعدد كبير من الفلاسفة، على أقل تقدير منذ عصر النهضة حتى أواخر القرن التاسع عشر؛ فالاقتداء بهذا المنهج كان عندهم هو شرط اليقين والدقة والموضوعية، حتى لقد طبَّقوه على مشكلات ليست بطبعها رياضية ولا طبيعية، من الميتافيزيقا والأخلاق والظواهر النفسية والاجتماعية، حتى البراهين على وجود الله! وعلى الرغم من التقدم الذي تحقَّق في بعض العلوم الإنسانية، كالاجتماع والاقتصاد وعلم النفس بوجه خاص، باتِّباع ذلك المنهج العلمي الدقيق، فقد برزت في أوائل القرن العشرين مشكلة المنهج في العلوم الإنسانية، وثار حولها الجدل الذي لم يخمد لهيبه بعد؛ إذ تبيَّن للبعض من أمثال برجسون ودلتاي وهسرل نفسه ومعظم تلاميذه والمستفيدين من منهجه النظري — من أصحاب فلسفة الوجود وفلسفة التأويل (الهيرومينويطيقا) والنقديين الجدليين الاجتماعيين — أن الظاهرة الإنسانية مِن نوع مختلف عن الظاهرة الطبيعية، وأنه لا يمكن قياسها والتنبؤ بها والتحكم النهائي فيها بالوسائل المعملية والتحليلات والإحصاءات الرياضية؛ لأن الإنسان في رأيهم ليس موضوعًا وليس كمًّا، وإنما هو ذاتٌ وحرية وكيفٌ وتجربة حية وعالم حياة متفرِّدة. وتفاقمت أزمة العلم الأوروبي (الطبيعي والرياضي) نتيجةَ إخفاقه — المؤقَّت على أقل تقدير! — في تطبيق مناهجه على الظواهر والعلوم الإنسانية، وأصبحت أزمة هذه العلوم في جوهرها وفي نظر هسرل، هي أزمة الشعور الأوروبي نفسه بعقدة «التجربة الحية» وإضاعته رأيه مصدر العلم ومادته. وعلى مَشارف هذه الأزمة المضاعفة (من الناحيتَين المادية والصورية) وبسببها، بدأت الفينومينولوجيا في البحث عن منهج خاص للعلوم الإنسانية يحفظ نوعية الظاهرة، ويميِّزها عن الظاهرة الطبيعية والظاهرة الرياضية؛ ومِن ثَم يشقُّ طريقًا ثالثًا هو الذي سمَّاه هسرل ﺑ «الفينومينولوجيا».٤٢ وهكذا تطوَّرت الظاهرات مع تطوُّر معالجتها بصورة أو بأخرى لهذه الأزمة، عبر مراحلها المختلفة وفي إنتاج هسرل الذي نشره في حياته، حتى تبلورت إشكاليتها الحادة الناقدة في كتاب الأزمة، الذي سنقِف عنده الآن وقفة قصيرة.
حاول هسرل أن يُواجِه أزمة العلوم الإنسانية، والخروج من أسر النموذجَين الطبيعي والرياضي اللذين أدَّيا بها كما تقدَّم إلى الوقوع في تلك الأزمة، عن طريق تأسيس فلسفته التي تعدَّدت المسمَّيات التي أطلقها عليها؛ مِن علم شامل، إلى علم بالماهيات والبدايات، إلى فلسفة أولى، إلى نظرية كلية في المعرفة والوجود، إلى علم آثار (أركيولوجيا) الشعور … إلخ. ولعل أقرب هذه المسمَّيات إلى غرضنا أن هذه الفلسفة نظرية في الذاتية المتعالية (الترنسندنتالية) والذاتية المشتركة، أو أنها في اختصار هي علم الشعور. وقد تناول في كتابه الذي نحن بصدده التجربةَ المشتركة للحضارة الأوروبية، أو — بتعبير آخر — الشعور الحضاري أو الجماعي الأوروبي (بشقَّيه العقلي والتجريبي)، منذ بداياته عند اليونان والرومان إلى بلوغ ذروته العقلية الخالصة عند ديكارت، حتى اكتماله في فلسفة الظاهرات أو الفينومينولوجيا نفسها. بذلك أضاف إلى تصوُّره لهذه الفلسفة بوصفها علمًا أو نظرية خالصة تصورًا آخر لها بوصفها فلسفة للتاريخ، بل مقصدًا له وغاية نهائية. وقد سبقت الإشارة إلى هذَين البُعدين في محاضراته تأملات ديكارتية، وهي التي أهداها إلى ذكرى ديكارت الذي بدأ عنده الشعور الأوروبي على الحقيقة. لم يهتمَّ هسرل بالحديث عن الأصول والمصادر المعروفة لما سمَّاه بالشعور الأوروبي، باستثناء المصدر اليوناني الذي أولاه الجانب الأكبر من عنايته؛ لسبب بسيط، هو أنه يعُد الحضارة الأوروبية خلقًا أصيلًا على غير منوال، وأنها، دون غيرها من الحضارات القديمة في الشرقَين الأقصى والأدنى، التي ظلت أسطورية وأخلاقية وعملية، قد أخذت على عاتقها عبء البحث عن الحقيقة النظرية، وتحقيق مشروع الإنسانية العلمي الأول الذي طالما راوَد فلاسفتها كما سبق القول، وهو إقامة علم شامل مُرادِف للحقيقة ومُطابق للواقع على السواء.٤٣

وبغضِّ النظر عما في هذا الموقف من مركزية أوروبية، بدأت على أقل تقدير مع أرسطو وبلغت قمتها القبيحة عند هيجل (لا سيَّما في عرضه لفلسفة التاريخ في الشرق القديم)، فإنه يكرِّر رأي عدد كبير من مؤرِّخي الفلسفة الغربيين، وهو أن حضارة اليونان وفلسفتهم بوجه خاص قد اهتمَّت — دون غيرها من الحضارات — بالتنظير الخالص أو بالفكرة، وأنها قد قطعت، حسب مستواها العقلي وتقدُّمها الحضاري، أُولى الخطوات الجادة على طريق الظاهرات أو العلم الشامل بالمعنى الذي فهمته منه (وتمثَّل في نظرية فيثاغورس، وفلسفة الحياة عند سقراط الذي يعُده إمام الذاتية الأوروبية، ونظرية الصور أو المُثل عند أفلاطون، وفلسفة الطبيعة ونسق المنطق الصوري عند أرسطو، وأخيرًا في هندسة إقليدس). غير أن الحضارة أو بالأحرى الفلسفة اليونانية التي بلغت مستوًى رفيعًا من العقلانية، لم تستطع أن تحقِّق مشروعها في إقامة نظرية العلم الشامل؛ إذ انهار التنظير العقلي باتجاهها إلى المذاهب المادية ومذاهب الشك والمسائل الأخلاقية عند الأبيقوريين والرواقيين، الذين لمع عندهم آخرُ بريق للموضوعية المثالية في فكرتهم عن «اللوجوس» الكوني.

أين تقع إذن نقطة البدء في الشعور الأوروبي الخالص كما فهمه وفسَّره هسرل؟ إنه يبدأ مع الكوجيتو الديكارتي الشهير؛ ولهذا كان ديكارت هو المكتشِف الحقيقي لعالم الذاتية، والمؤسِّس الأول لعلم الظاهرات. وقد أكَّد هسرل ذلك في تأملاته الديكارتية السابقة الذِّكر، وإن أخذ على أب الفلسفة الحديثة أن ذاتيته شابَتها عناصر نفسية وتجريبية، وأن «الأنا» عنده عرفت الأنا المفكِّرة ولم تعرف موضوع التفكير، ولا عرفت الآخر بما هو طرف مُقابِل لها؛ ولذلك فإنه (أي هسرل) قد سبر أغوارها، وخلَّصها من الشوائب النفسية والحسية؛ وبذلك أكملها بالتوصل إلى الذات أو الأنا المتعالية المحضة (التي يمكن تصوُّر فناء كل شيء في العالم، واندثاره فيما عداها!) وحقَّق مشروع الحضارة الأوروبية وهو إقامة الظاهرات (الفينومينولوجيا)؛ أي الصورة النهائية للفلسفة المتعالية وللمثالية الألمانية، بل لتاريخ الفلسفة الغربية كلها!

ويحلِّل هسرل التجريبية بأشكالها المتعددة (من طبيعية وحسية ومادية ووضعية … إلخ)، ويبيِّن أنها كانت رد فعل للاتجاه العقلي ونسيان العالم والقضاء على الأشياء، ثم انقلبت إلى الضد، فأصبح العالم فيها عالمًا ماديًّا، وصارت التجربة الحية مجرد انطباعات حسية، وغدت النفس — على ما يقول لوك — صفحة بيضاء تنقش عليها الإحساسات ما تشاء، أو — على حد تعبير هيوم — مجرد حزمة من الانطباعات؛ وبذلك اختلطت التجربة الداخلية بالتجربة الخارجية، وانتفت الخبرة المشتركة بين الذوات، وأصبحت الموضوعية العقلية مُحالًا. وجاءت محاولة كانط النقدية للتأليف بين الحسي والعقلي (أو — بكلماته — بين الحدوس أو العيانات، والتصورات أو المفاهيم)، فجاء معها الحل القاصر لمشكلة الثنائية على طريقة الصورة والمادة أو الشكل والمضمون الأرسطية، ثم لم تلبث أن ضحَّت بهما معًا — أي بصورة العقليين ومادة التجريبيين — عندما تخلَّت عن المعرفة لصالح الأخلاق والدين، وظل الشعور مجرد نسيج عنكبوت وظيفتُه اصطياد المادة من العالم الخارجي دون اكتشاف الشعور الحي والتجربة المعيشة.٤٤ وفي النهاية لم تستطع مثالية كانط النقدية أن تحقِّق شيئًا من مشروع «الشعور الأوروبي»، وهو إقامة العلم الشامل الذي اتخذ اسمًا جديدًا هو الظاهرات؛ فهي التي تَلافَت النقص في فلسفة كانط، ووسَّعت من نطاق الحساسية المتعالية عنده (التي تشمل نظريته في المكان والزمان والإدراك الحسي)، وجعلتها تتَّسع لكل مظاهر مجال الحياة، كما أعادت الفاعلية لمنطقه المتعالي، وحوَّلت الحدس الحسي إلى حدس فكري أو نظري أو رؤية عينية للماهيات.

وإذا كانت المثالية المُطلَقة بأشكالها المختلفة عند فشته وهيجل وشلنج، قد حقَّقت تقدُّمًا ملموسًا في المشروع الأوروبي لإتمام العلم الشامل؛ إذ تمكَّنت من القضاء على الثنائية العتيقة، وأعادت الوحدة الباطنة بين العقل والتجربة، والروح والطبيعة، والفكر والوجود، حتى لقد جرى لفظ «الفينومينولوجيا» على قلم هيجل في كتابه الشهير عن ظاهريات الروح، الذي وصف فيه بناء الشعور الأوروبي وتطوره؛ إذا كان هذا كله صحيحًا فإنها (أي المثالية المُطلَقة) لم تستطع تحويل الفلسفة إلى علم مُحكَم دقيق، وبقيت غامضة مختلطة بالشاعرية الرومانسية كما بقيت مرتبطة بالدين.

إلامَ انتهى مشروع الحضارة الأوروبية أو حلمها التاريخي بإقامة العلم الشامل؟ الجواب بسيط؛ فقد انتهى إلى ظاهريات هسرل نفسه، وإلى «الكوجيتو» الظاهراتي، الذي جمع في شعوره القصدي بين العقل والتجربة، والذات والموضوع، والأنا والآخر؛ وبهذا تحقَّق الأمل الذي طالما سعى إليه العقل الأوروبي، وحاول التعبير عنه في صور مختلفة.

هكذا تقمَّص هسرل في أواخر حياته مُسوح المتنبئ والداعية، الذي راح ينبِّه الحضارة الأوروبية إلى الخطر المُحدَق بها؛ فأزمة العلم الأوروبي هي في النهاية أزمة الإنسان الأوروبي نفسه، ولا سبيل للنجاة إلا بإعادة بناء شعوره، الذي فقد عالم الحياة وأضاع الحقيقة عندما استسلم للنزعات العقلية الصورية من ناحية، وأغرق في التيارات التجريبية والمادية من ناحية أخرى. بَيدَ أن هذا الشعور الحي المتعالي، الذي أقام عليه هسرل العلم والتجربة معًا، يظل أمرًا محيِّرًا؛ فهل نصف دعوته لاستكشافه بأنها دعوة مثالية جديدة إلى إنسانية جديدة، أم بأنها نزعة صوفية وإشراقية من نوع غريب، حدَت بصاحبها لأن يحتمي بأعماق الشعور — المعرفي والمنطقي — ويختبئ في متاهته اتقاءً لضغوط العالم التاريخي المحيط به، وهربًا من ثورات العصر السياسية والاجتماعية؟ وإذا كان هسرل قد نجح في تغيير الشعور الباطن لكثير من أتباعه وقُرائه، فهل استطاعت فلسفته أن تصبح أداة للتأثير على الواقع، ولا أقول لتغييره أو تنويره؟ إن معيار الحقيقة الذي تُقاس به الفلسفة لا يمكن أن يقتصر على تماسُك أفكارها واتِّساق منطقها الداخلي؛ فكَم مِن فلسفة متَّسقة لم يخرج عنها فعلٌ يُذكَر، وبقيت — على جلالها وعمقها! — أشبه بأطلال معبد قديم أو قصر خرِب مهجور. ولست أقصد بالفعل مقدار التأثير المادي أو العملي الظاهر من حيث القوة والانتشار والنفوذ؛ إذ لو كان الأمر كذلك لعددنا الفلسفات التي تبنَّتها أو تتبنَّاها الأنظمة الشمولية ذات القوة والسطوة الغاشمة أصدقَ الفلسفات وأقربها للحقيقة، في حين أن التجربة التاريخية الأليمة تشهد بأنها أبعدها عنها، وأكثرها غُلوًّا في التهافت والضلال والبطلان. ومع أن المشكلة تحتاج إلى تفصيل لا يتسع له المقام، فإن صِدق الفلسفة وحيويتها لا يكمن — في تقديري المتواضع — في مواجهة أزمة أو أزمات راهنة، واقتراح مَخرج منها أو حل لها (وليس في الفلسفة ولا في العلم حلٌّ نهائي أبدًا!) بقدر ما يكمن في خلق أزمات جديدة تتحدى الفكر ليجرِّب فيها أسلحته. ولعل مَكمن القوة والصدق والإبداع أيضًا في فلسفة الظاهرات، أن الأزمة المنهجية التي أثارتها قد بعثت إلى الحياة أزمات أخرى عند طائفة كبيرة من تلاميذ مؤسِّسها، سواء في ذلك مَن تابعوه على الطريق أو من رفضوا مثاليته الذاتية المتعالية في مرحلتها المتأخرة، وآية ذلك تعدُّد التطبيقات الخصبة للمنهج الظاهري وتنوعها، بجانب تعدُّد المستفيدين من هذا المنهج، وتنوع اتجاهاتهم وحقول بحثهم واهتمامهم (مثل أوسكار بيكر في فلسفة الرياضة، وألكزندر بفندر في المنطق وعلم النفس، وماكس شيلر وهاتز رايير في الأخلاق، ورومان أنجاردين في الفن والجمال، ونيقولاي هارتمان في المعرفة ونظرية الوجود وطبقاته، وهيدجر وسارتر في فلسفة الوجود والأنطولوجيا الظاهرية، وميرلو بونتي في الإدراك واللغة، وأويجن فينك في عالمية العالم، وجادامر وريسكور وبولنو في فلسفة التأويل أو الهيرومينويطيقا، وأدورنو وماركوز من أعضاء مدرسة فرانكفورت في نظريتهما النقدية للواقع الاجتماعي والمجتمع الصناعي والرأسمالي … إلخ). وإذا صح أن هذا كله يؤكِّد الجانب الإبداعي في الظاهرات من حيث هي منهج قبل كل شيء، فلا شك أنها كفلسفة للباطن قد أكَّدت — من ناحية أخرى — عجز كل الفلسفات المثالية الذاتية المتَّجهة إلى الباطن إلى التأثير في حركة الواقع التاريخي والاجتماعي.

ولا يرجع هذا فحسب إلى غياب التفكير الجدلي عن هسرل، أو بالأحرى إلى رفضه إياه، وإنما يعود كذلك إلى كشف مثاليته الذاتية عن أزمة الاغتراب التي تُعاني منها الفلسفات المثالية، وتُعَد هي نفسها امتدادًا لها، على الرغم مِن حرصها على تمييز نفسها عنها بشتى الصور والأسباب. وكلُّ مَن يتصور أن مهمة الفلسفة — أو إحدى مَهامِّها الأساسية على الأقل — هي نقد الواقع السائد انطلاقًا من رؤية شاملة تعمل على تغييره وتحويله، لا بد أن يأخذ على الظاهريات أنها قد نقلت الفعل الحقيقي في نظرها إلى باطن الشعور، وأنها أهملت الفعل الاجتماعي أو كادت، اللهم إلا مِن بعض الإشارات الشحيحة الغامضة إلى «عالم الحياة» والذاتية المشتركة، و«العمل-في-العالم»، كما سبق القول، أو إلى اجتماع ظاهراتي، لم يكد يخرج من أسوار الأبراج الأكاديمية إلى الواقع المضطرِب، الذي كانت الثورات الاجتماعية والسياسية في العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن تهزُّه وتُزلزِل أركانه، كما زحفت عليه — في حياة هسرل نفسه — جحافل البربرية (النازية) محقِّقة نبوءته المُخيفة التي أعلنها في ختام كتابه عن أزمة العلوم الأوروبية، عن سقوط أوروبا في غربتها عن معنى حياتها العقلي، وتردِّيها في حضيض الوحشية والعداء للروح. لا عجب بعد هذا كله أن يوجِّه أصحاب الماركسية التقليدية سهام نقدهم إلى الظاهرات، وأن يضعوها في صفوف الفلسفات «البرجوازية» التي اغتربت عن الواقع التاريخي-الاجتماعي، وأغفلت الشروط الواقعية والجدلية المادية التي تحدِّد الشعور من وجهة نظر فلسفتهم، التي هي في نهاية المطاف نظرية للفعل والممارسة الثورية، بل إن الظاهرات تعبِّر في رأيهم — أكثر بكثير من غيرها من الفلسفات البرجوازية المتأخِّرة — عن أزمات المجتمع البرجوازي-الرأسمالي، وفساد رؤيته — الليبرالية الإمبريالية — للعالم والواقع؛ فقد حاولت أن تكون مَخرجًا مما سمَّاه «أزمة الحياة» وأزمة العقل والعلم، لكن جهودها ومحاولاتها للوصول بالفلسفة إلى مرتبة العلم الصارم الدقيق كُتِب عليها الإخفاق في ظل المناخ الرأسمالي-الاستعماري، وممارسته التسلطية واللاإنسانية على الخارج والداخل وعلى الطبيعة والإنسان جميعًا (وعالمنا العربي يشهد اليوم تجدُّد هيمنته في صور أبشع وأفظع من كل ما عرفه التاريخ العالمي …)

ولعل أهم ما في النقد الماركسي للظاهراتية أنها قد عانت من التناقض الصارخ بين النزعة التنويرية التي تغذَّت عليها في ظل المناخ الليبرالي للمجتمع الغربي البرجوازي، والنزعة الشمولية واللاعقلانية المتمثِّلة في الذاتية المثالية المتعالية أو المتطرِّفة، التي انتهت إليها في مرحلتها المتأخِّرة. والواقع أن هذه شهادة حق وإنصاف، على الرغم مما قد يبدو في ظاهرها من الإدانة والإجحاف؛ فهي تؤكِّد — على طريقتها — ما حاولنا أن نؤكِّده من أن فلسفة الظاهرات لم تُعانِ من التناقض فحسب، وإنما كانت أزمة التناقض هي الدافع المحرِّك لها، وربما كانت كذلك وراء الإبداع الأصيل الذي لا يُنكِره عليها إلا جاهل أو جاحد.

هكذا يتبيَّن لنا أن التناقض وحدة صراع متفاعِلة بين ضدَّين متلازمين، يشرط أحدهما الآخر ويستبعده في وقت واحد. ولا بد من أن نستحضر في أذهاننا فكرتَي الوحدة والصراع أو الخاصَّتَين الأساسيتين في كل أشكال التناقض وتشكيلاته المتعددة، التي لم يخلُ منها ماضي الفكر الفلسفي ولن يخلو منها مستقبله. فبقدر ما تختلف طبيعة الأضداد (منطقيةً ومعرفيةً كانت أو موضوعية وواقعية)، ونوع العلاقة الجدلية (في وحدة واقعية وتاريخية، أو في ترابط فكري محض)، تختلف كذلك طبيعة التناقض الجدلي الكامن في الأشياء والعمليات والأنساق الحية المتطورة، عن طبيعة التناقض المنطقي الذي يتم في مجال الفكر الخالص. وإذا كنا قد قصَرنا جهدنا في هذا المقام على «منطق» التناقض الذي ينعكس فيه الفكر على نفسه في نوع من التأمل الذاتي في مرآته، وحاولنا أن نحصر حديثنا في «الأزمة» التي أدَّت بالفلاسفة السابقين إلى الخروج منها بإبداع منهج (أصبح كذلك نقطة انطلاق جديدة لأزمات منهجية عند فلاسفة آخرين!) فإن ذلك لا يمنع القول بوجود أشكال أخرى للتناقضات الأساسية التي عرفناها (ولصورتها الهيجلية بوجه خاص)، وهي أشكال أو تشكيلات انعكس فيها تفكير الفيلسوف حينًا على صراعاته وتناقضاته العاطفية والباطنية، التي كابدها في سبيل الوصول إلى المُطلَق الديني (كما عند كيركجارد)، أو اتجه بوعيه حينًا آخر إلى واقع الصراعات والتناقضات المادية، التي فسَّرها تفسيرًا «علميًّا» بتطور الطبيعة والعمل والاجتماع البشري في ماضيه وحاضره، كما حدَّد بها منهج الممارسة والتغيير الثوري على طريق مستقبله (كما هو الحال عند ماركوز وأصحاب المادية الجدلية)، أو ركَّز تفكيره حينًا ثالثًا على صراعات أخرى تمخَّضت عن تشكيلات جدلية يصعب حصرها والوفاء بحقها.٤٥

والمهم في هذا السياق أن التناقض المنطقي الذي يتحتَّم على كل فكر صادق وعلم دقيق أن يستبعده ويقضي عليه، لا ينفي وجود التناقض أو التناقضات الجدلية في الواقع والمعرفة السائدة؛ ذلك أن التناقض الأول لا يقول شيئًا عن أشكال التناقض الثاني (اللهم إلا بصورة ضمنية وميتافيزيقية أو أنطولوجية، ومن خلال فهم وتحليل لا يقوم بهما إلا أصحاب النزعات النفسية والإنسانية-العملية للمنطق الخالص)، ولكنه مع ذلك شرطٌ لا غنى للأخير عنه، بحيث يمكن القول بأننا لا نستطيع أن نُدرِك التناقضات الجدلية التاريخية على الوجه الصحيح بغير التسليم بمبدأ التناقض المنطقي، وعدم تزييفه أو الخروج عليه؛ حتى يستقيم كل فكر وعلم صحيح، كما سبق القول، كما يمكن تمثُّل التناقضات الجدلية للطبيعة والواقع الاجتماعي تمثُّلًا موضوعيًّا خاليًا من التناقض، والتماس حلول منهجية لها خالية كذلك من التناقض.

ربما أمكننا الآن أن نجتهد في استخلاص بعض السمات العامة التي تطبع المنهج على اختلاف أنواعه وتطبيقاته وغاياته:
  • (أ)

    ليس ثمة منهجٌ واحد، بل مناهج متعدِّدة؛ فدائمًا ما تتعاصر المناهج الفلسفية — وإن لم تتعايش في سلام! — مهما زعم أحدها أنه هو المنهج العلمي الأوحد.

  • (ب)

    وليس ثمة منهجٌ كامل مُكتمِل ونهائي؛ فهو في الحقيقة «مشروع» يجرِّب إمكاناته — على يد مؤسِّسه أو تلاميذه وتابعيه — ويحاولها بصورة مستمرة على مجالات تطبيقه المختلفة؛ وبذلك ينمو ويزداد ثراءً وتأكيدًا لأُسُسه ومبادئه النظرية، أو يعدِّل فيها، أو ينقِّح بعضها خلال حركته الحية (كما حدث — على سبيل المثال لا الحصر — مع المنهج الشارطي أو الترنسندنتالي بعد كانط، من بقية المثاليين الألمان إلى الكانطيين الجُدد، ومع المنهج الهيجلي المثالي مع كثير من المثاليين، ومع المنهج الجدلي المادي مع أصحاب الماركسية الجديدة في العقود الأخيرة، والمنهج الظاهراتي مع كثير من أتباع هسرل المباشرين وغير المباشرين، والمنهج البنيوي الذي تفرَّغ إلى بنيويات مختلفة وأحيانًا متعارضة … إلخ).

  • (جـ)

    يبدأ المنهج ويظل في حالة ابتداء لا تنتهي؛ فهو ينقد نفسه باستمرار، ويضع نفسه موضع السؤال الذي لا يتوقف، ولولا هذا النقد والتساؤل الدائب لما أمكن أن يتجدَّد ويتحول. وحتى لو تعصَّب مؤسِّسه لمبادئه، وشجب أي خروج على قواعده، فلا يلبث اللاحقون أن يأخذوا منه شيئًا قد لا يزيد عن روحه العامة، ويتخلوا عن أشياء (والأمثلة السابقة توضِّح هذا).

  • (د)

    ليس المنهج مجرد حدس إبداعي، حتى لو اهتدى صاحبه إلى نقطة بدايته في لحظة كشف مفاجئة (كما حدث مع ديكارت). إنه ثمرة جهد صبور، قد يستغرق عمرًا بأكمله، أو عمر أجيال لا تنفكُّ تجدِّده وتدعمه بالنظر والممارسة، وتجرِّب مدى إنتاجيته وفاعليته واستجابته أو عدم استجابته للظروف المعرفية والعملية المتغيِّرة. لا عجب إذن أن تصبح بعض المناهج التي أثبتت صلاحيتها في عصرها وفي نسقها المذهبي الخاص، مجردَ أثر تاريخي دارس (كما حدث للمنهج الغائي الأرسطي منذ عصر النهضة إلى اليوم، بعد تخلِّي المناهج العلمية الدقيقة عن البحث عن الغاية، واستعاضتها ﺑ «الكيف» عن «اللماذا»، وإن لم يعدم الأمر قلةً قليلة من الفلاسفة الذين حاولوا إحياءه في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، من ليبنتز وكانط إلى الفيلسوف الحيوي هانز دريش). على أن نسبية المناهج الفلسفية وتحدُّدها بظروفها المكانية والزمانية والثقافية والحضارية لا يمنع القول بأن «المنهجية» نفسها مُلزِمة لكل مَن يتفلسف، وفي كل الأوقات والظروف.

  • (هـ)

    قد يمتزج المنهج بالمذهب، بحيث يصبح من المُحال الفصلُ بينهما (كما نجد عند هيجل وبرجسون). وقد تكون فلسفة الفيلسوف هي المنهج الذي يصعب أن نحدِّد له مذهبًا أو رؤية أو «أيديولوجية» (كما هو الحال عند هسرل مثلًا). وقد تتحدَّد معالم المنهج وخطواته قبل تطبيقه أو بعده. وقد لا تتبلور بصورة محدَّدة، أو لا يهتمُّ صاحب المنهج نفسه ببلورتها، فيحاول ذلك غيرُه (كما نرى مع المنهج التحليلي عند رائده جورج مور)، دون أن يقلِّل هذا من أصالته وإبداعه عند تطبيقه على مشكلات ميتافيزيقية ومثالية عدة، ليثبُت بالتحليل اللغوي والمنطقي لعباراتها أنها ليست مشكلات على الإطلاق. ولأن «الموضوع» في الفلسفة كلي وشامل وغير محدود، فلا يستطيع أي منهج أن يستوعبه من جميع أطرافه، وكل منهج حاول هذا أو ادَّعاه قد جنى على ذلك «الموضوع»، وأضاع الروح الأصلية للمنهج نفسه. فموضوع الفلسفة، إذا صح تسميته بهذا الاسم، لا يحدِّد المنهج ويتحدد به كما هو الحال في العلوم الجزئية، وإنما يقع قبل المنهج وبعده، ولا يسمح بأن يُقتنَص في شبكة منهج واحد أبدًا؛ ومِن ثَم تتعدد المناهج في الفلسفة وتتجدد، أو تُنسَخ وتنتهي كأي مشروع ثبت عجزه عن تفسير «الواقع الكلي» مع تغيُّر الظروف والأدوات والغايات وصِيَغ السؤال الفلسفي ومحاولات الجوانب المُنتِجة والمغيِّرة لبناء المعرفة والوعي والوجود.

  • (و)

    وأخيرًا فلا يمكن فصل المنهج عن الحضارة، سواء في سقوطها وانحدارها أو في بعثها ونهضتها، ولعل الانعطافات الحضارية الكبرى أن تكون انعطافات في طرق النظر المنهجي (ومن أشهر الأمثلة المتكرِّرة على ذلك أفول منهج النظر العقلي اليوناني في العصر الهللينستي، وقيام عصر النهضة مع ظهور المنهج العلمي والطبيعي والرياضي الدقيق، وتدعيمه على يد علمائه الكبار).

لا حاجة بنا إذن إلى بيان أهمية المنهج ودوره في العلم والحياة؛ إذ اقتصر حديثنا في مجمله على الجانب الإبداعي المتمثِّل في نقطة بدايته. وعلى الرغم من أن ضِيق المجال لن يسمح بالتعرض للظروف التاريخية والحضارية — المواتية أو غير المواتية — التي يبدأ فيها، فإن اللحظة التاريخية والحضارية التي نحياها اليوم تُلزِمنا بالالتفات إلى واقعنا العربي، الذي يكاد يصرخ مُطالِبًا بمصباح المنهج الكفيل بتبديد ظلماته وتخطِّي عثراته ونكباته، وما دام الحديث مُنصبًّا على بداية المنهج دون تفصيلات بنائه وتطبيقه ونتائجه، فسوف نقتصر في نهاية هذا المقال على هذه البداية وشروط تحقيقها، والعقبات التي تحُول دون هذا التحقق على الصورة العلمية المُبدِعة التي يسعى إليها المتفلسِف، أو على الصورة الفعَّالة المغيِّرة التي ينتظرها المُواطن، ويعوِّل عليها في الاستجابة لمَطالبه الحيوية والإجابة على الأسئلة المصيرية التي تحيك في صدره بشكل غامض، وتؤرِّق المتفلسِف — أو ينبغي أن تؤرِّقه — بشكلٍ عقليٍّ حادٍّ. وطبيعيٌّ أن نكتفي بطرح مجموعة من الأسئلة وإلقاء بعض الإشارات؛ لأن القضية أكبر من أن نُواجِهها ببعض الإجابات الجاهزة، والمشكلة أخطر مِن أن نحسمها ببعض «المناهج» التي يتصور أصحابها أنها مُطلَقة اليقين؛ فالواقع الذي بلغ في الشهور الأخيرة ذروة تأزُّمه وتناقضه، وما يزال عُرضة للمزيد من التأزم والتناقض، لا يمكن أن يتمخَّض فجأةً عن إبداع أو مُبدِع معجزة، ولا بد أن يُلقي الأمر على كاهل كل المتيقِّظين لعمق الأزمة ومداها، المُشفِقين على مصير حضارة يتهدَّدها الانقراض والإبادة المعنوية والمادية، ولا مَفرَّ من أن يدور حوله حوارٌ عام وشامل، وأن يكون حوارًا نقديًّا حرًّا، يُؤمِن كل مُشارِك فيه بأن على النقد أن ينقد نفسه، وأنه ما مِن نقد يعلو على النقد.

من الطبيعي أن يكون «القلق المنهجي» هو أعلى اشكال القلق التي تمور بها نفوسنا القلقة، ولا مِراءَ في أن هذا القلق ليس ابن اللحظة الحاضرة؛ إذ إن عمره قريبٌ من عمر النهضة العربية الحديثة، والسؤال عنه والحاجة إليه مستعِرة منذ ما يقرُب من قرنَين على أقل تقدير. ويمكننا القول — دون مجاوزة أو وقوع في المبالغة — إن مشكلة المنهج تختمر في ضمير أمتنا منذ عصر التدوين إلى ما يُسمَّى بعصور الانحطاط. غير أنها قد تحوَّلت عند المعاصرين إلى قلق متسلِّط؛ فذهب البعض إلى أننا نُعاني من غيبة المنهج ومن الفراغ المنهجي،٤٦ في حين رأى البعض الآخر أن سبب المصيبة هو الفوضى المنهجية، والصراع المحتدِم بين المناهج المتعددة (النابعة من ثقافتنا أو المستعارة من ثقافة الآخر)، ونادى فريق ثالث بمنهج قومي مستقِل، تمثَّل في «مشروع نهضوي» كثر الحديث عنه في السنوات الأخيرة. ولما كانت الفلسفة — كما علَّمنا هيجل — هي ابنة عصرها وزمانها، وكان الفيلسوف هو الذي يُبلوِر في نسقه الفلسفي ثقافةَ عصره وزمانه، ويضع أمامه المرأة الفكرية التي تعكس وتكثِّف معالم واقعه الحقيقي وتنقده في وقت واحد؛ فإن «المتفلسِف» العربي — الذي اتخذ في الأغلب الأعم صورةَ المُصلِح الديني والاجتماعي والعقلي المستنير — لم يقصِّر منذ مَطلع النهضة في أداء دوره المنهجي. والنتيجة — باختصار شديد — أنْ تزايَد عدد «المناهج» (بغضِّ النظر عن كونها تستحقُّ هذه التسمية أو لا تستحقها!) واشتدَّ تراوحها بين قطبَي القديم والجديد، والمنقول والمعقول، والتراث والحداثة، والمحافظة والثورية، والاتباع والإبداع، إلى آخر هذه الثنائيات الباطلة التي لم تعدم مَن يحاول التوفيق بينها في الصيغة المشهورة عن «الأصالة والمعاصرة»، وكان من الطبيعي كذلك أن يكثُر التأليف والكتابة عن المنهج والمنهجية، وأن يتوالى ظهور الدراسات الجامعية عن مناهج البحث في العلوم المختلفة، وتُعقَد الندوات والمؤتمرات لمناقشة مشكلة المنهج، ويصبح الحديث عن المنهج عن كل قلم ولسان، وكأن الجميع يؤدُّون طقوس التكفير عن ذنوبهم في حقه. تعدَّدت كذلك محاولات الأخذ بالمناهج الفلسفية الغربية المعاصرة، وتأصيلها وزرعها في التربة العربية، ومحاولات تطبيقها وتجربتها في دراسة تراثنا القديم، أو في تحليل بعض قضايانا ومواقفنا ومشكلاتنا على ضوئها وبأدواتها المنهجية، وكان أنْ جُرِّبت كل الفلسفات والمنهجيات الغربية ولم تزَل تُجرَّب؛ من وضعية ومثالية ووجودية وشخصانية ومادية جدلية، إلى تحليلية وعقلانية نقدية وظاهراتية وتأويلية (فينومينولوجية وهيرومينويطيقية) وبنيوية بمختلف اتجاهاتها حتى التفكيكية. ولا شك أن هذه كلها جهود طيِّبة تستحقُّ التقدير والعرفان، كما تنتظر المراجعة النقدية الشاملة التي تبيِّن ما لها وما عليها، وتكشف عن مدى نجاحها أو إخفائها، وإنتاجها أو عقمها، وقدرتها على التأثير على الوعي وتغيير الواقع وتنويره، أو إخفاقها على مستوى النظر أو مستوى العمل أو كلَيهما معًا. وإذا كانت كل هذه الجهود المشكورة تبعث على الرضا والإعجاب، فإنها في الوقت نفسه تُضاعِف من القلق والحيرة والبلبلة! ذلك أنه إذا جاز القول بأن القلق المنهجي علامة صحة وعافية على الصعيد المعرفي والحضاري، فمِن الصحيح كذلك أنه يُعيدنا إلى مشكلة أكبر، وهي مشكلة أزمتنا الحضارية وتناقضها الأساسي، فما حقيقة هذه الأزمة؟ وما طبيعة هذا التناقض؟٤٧
لا يسع الكاتبَ العربي الذي يتحدث عن الأزمة والتناقض، أن يمرَّ مرور الكرام على الأزمة الأخيرة التي زلزلت وجوده ووجود الملايين من أبناء أمته. ولأن كلمة الأزمة أصبحت مُبتذَلة مُستهلَكة، فإنها تستحقُّ أن تُسمَّى محنة المِحن وكارثة الكوارث (هنا حذفت المجلة صفحة كاملة عن المحنة الأخيرة).٤٨
فإذا نظرنا الآن في التناقض الأساسي الكامن وراء ما حدث، وجدنا الآراء تختلف بالضرورة حول طبيعته وصيغته، ووجدتني أُجازِف بتصوره ووضعه على هذه الصورة: إنه التدمير الذاتي المتصارِع مع الوعي بضرورة التقدم. وسوف يتساءل القارئ على الفور: أليس هذا هو تناقض ازدواجية القول والسلوك المعروفة عن العرب منذ القِدم، ولا شأن له بالتناقض العقلي الذي شرحت أشكاله وأسبابه مِن قبل؟ أليس صورة مِن صور الفصام الذي أشرت إليه منذ قليل، ولا يمكن أن يكون تعبيرًا عن الصراع المستمر بين القديم والجديد، والرجعي والثوري، والماضي المُشرِق المزدهِر، والحاضر الذي ليس حاضرنا، ولكنه حاضر الغرب الأوروبي الذي يفرض نفسه كذات للعصر كله وللإنسانية جمعاء،٤٩ أم تراه تعبيرًا آخر عن الصراع الطبيعي بين قُوى البناء والحياة وقُوى الهدم والموت، أو عن التضاد المشهور في مفهوم ابن خلدون بين قوة العصبية ورخاوة الحضارة؟ وهل يصلح هذا التناقض لتفسير «شقاء الوعي العربي» واغترابه، ومحاولات تغييبه وتزييفه طوال تاريخه وفي لحظته الراهنة؟ وأخيرًا ماذا يمكن أن يعنيه للإبداع الفلسفي أو غير الفلسفي؟ وكيف تتوقف الفلسفة — وهي التي اتَّجهت دائمًا نحو الكل والعام والمُطلَق والحقيقة — عند أزمة مهما تكن قسوتها؛ فهي جرح لن يلبث أن يندمل، وشدة عارضة لا بد أن تنفرج؟
مِن حق القارئ أن يُثير هذه الأسئلة والشكوك، وأن يجتهد في تصور التناقض في صور أو صِيَغ أخرى. وبغير حاجة للاستطراد عن ارتباط الفلسفة بسياقها المكاني والزماني والاجتماعي، وعن بدء الفلاسفة دائمًا من «هذا» العالم ومن «هذا» الواقع المباشر بأشيائه وموجوداته وأحداثه وعلاقاته وقِيمه … إلخ، أقول: نعم مِن «الهنا والآن» يبدأ الإبداع الفلسفي قبل أن يمضي قُدمًا في رحلة تجريده وتعميمه وتركيبه ونقده وتقييمه، من القضايا والمواقف والمشكلات التي يحياها ويُعانيها الإنسان «العربي» في هذه اللحظة من تاريخها «العربي» وتاريخ العالم في مجموعه.٥٠ مِن تجارب هذا الواقع السائد الذي يسعى إلى مجاوزته، وتجارب الناس الذين يحيون فيه ويحلمون ويتألمون ويأملون ويتكلمون ويصمتون ويعرفون ويتعذبون ويسألون ويموتون … إلخ، يبدأ صياغة أحكامه وقضاياه «العامة» التي لا تؤيِّدها التجربة ولا تفنِّدها التجربة، ويبني فلسفته التي لا تغترب عن نفسها ولا عن واقعها. فعل هذا كلُّ الفلاسفة الحقيقيون بطريقة ضمنية أو صريحة، مباشرة أو غير مباشرة؛ إما ليعقلوا هذا الواقع أو ينقدوه ويُقاوموه ويتخطَّوه، أو يُعمِلوا في لحمه نصل التحليل، أو يفتِّشوا وراءه عن واقع آخر حقيقي، أو يفسِّروا القوانين التي تتحكم في حركته التاريخية الاجتماعية، أو يجمعوا شتاته في وحدة أعلى، إلى آخر ما هنالك من أنساق وتيارات واتجاهات ونزعات.

ويتساءل القارئ: وهل يهتدي «المُبدِع المنتظَر» إلى منهجه قبل بداية تجربته أم أثناءها أم بعدها؟ فأُجيب: إنه لا يستطيع بطبيعة الحال أن يجرِّب أو يفكِّر بغير منهج، ومحنة التناقض أو تناقض المحنة التي يجد نفسه فيها تفرض عليه أن يكون نقديًّا وجدليًّا وثوريًّا. نقديًّا لأن مسئولية اللحظة قد وضعت على كاهله عبء مراجعة كل شيء مراجعةً جذرية، بما في ذلك وعيه النقدي الذي يحتاج إلى النقد المستمر والارتباط بذاته التاريخية والاجتماعية؛ حتى لا يكتفي بمنظور الذات الأخرى. وجدليًّا لأن مجاوزة الواقع السائد والساكن والثابت تحتِّم عليه إدراك منطق التحول والإمكان في كل شيء. وثوريًّا لأن التحرير والتغيير — لا الاتساق وصحة التفسير وحدهما — هو المقياس الأخير الذي يحتكم إليه في تقييم فكره وعمله. ومن الطبيعي أن يتصور بعضنا بدايات أخرى لا تتنافى مع ضرورة البداية من قضايانا ومشكلاتنا وأزماتنا المُلِحة «هنا والآن»، وإنما تفرضها وتحفِّز عليها؛ فالتعريف الأمين بالمذاهب والمدارس والشخصيات الكبرى من الشرق والغرب، ودراستهم، والترجمة الدقيقة والواضحة عنهم، مع الحرص على الحوار معهم واتخاذ موقف نقدي منهم؛ هو عملٌ لا شك في إبداعه (ولذلك فهو شديد الندرة في مكتبتنا العربية!) ونقل الأمهات الفلسفية إلى لغتنا نقلًا ينمُّ عن التمكن والتفهم والتعاطف لا يمكن أن يخلو من إبداع، فما أكثرَ الكتبَ التي فجَّرت ثورات فكرية بين أبناء اللغة «المستقبِلة» التي نُقلت إليها! وما أشدَّ فقرَنا وخجلنا حين ننظر إلى لغتنا، فلا نجد الأعمال الكاملة المحقِّقة لفيلسوف واحد من الكبار! والإسهام في الجهود الفلسفية العالمية في مجالات البحث الفلسفي المتخصِّص (كالمنطق الرمزي وفلسفة الرياضيات وفلسفة اللغة ونظريات المعرفة ومبحث القيم وآفاق التفلسف المعاصر التي نشأت نتيجة التطورات التقنية المذهلة … إلى آخر ذلك) — وهذا مبلغ علمي — شِبهُ معدومة، والمراجعات الجذرية للتعليم الفلسفي الذي غرق في الصراعات الصغيرة، وأخفق طوال السنوات الأخيرة إخفاقًا ذريعًا في تحقيق الحد الأدنى من الحس النقدي المستقل لدى الدارسين، أو تأصيل اتجاه أو تيار أو مدرسة بالمعنى العلمي المتعارَف عليه، فغلب عليه التقليد واجترار القديم والحديث، والتأليف المترجَم، والترجمة المؤلَّفة، من ناحية، أو ارتفاع الشعارات والأصوات الأيديولوجية التي خنَقت الصوت العلمي من ناحية أخرى. بَيدَ أن المجال يضيق عن طرح المزيد من الأسئلة والمشكلات والتمنيات، وربما اتسع يومًا من الأيام — إذا أعان الله وشاءت رحمته — لبدايات أخرى نابعة من الأزمات والتناقضات التي تعذِّبنا «هنا والآن».

هوامش

(١) يدل التناقض في المنطق الصوري على أن الجمع بين حُكمَين يستبعد أحدهما الآخر مُحال. ويقوم مبدأ عدم التناقض، الذي جعله أرسطو المبدأ المنطقي الأعلى للتفكير، على أنه من المحال أن يُقال الشيء ولا يُقال على الشيء نفسه من الجهة نفسها. وقد صاغه ليبنتز على الصورة الآتية:
«أ» ليست هي «لا-أ»، بحيث إن الحكمَين المتناقضين على هذا النحو: «أ» هي «ب»، و«لا-أ» ليست هي «ب»، لا يمكن أن يكونا صادقَين معًا.
ويترتب على هذا الحد أن الحكمَين المتناقضين، سواء أكان هو الحكم الإيجابي أو الحكم السلبي، لا بد أن يكون كاذبًا، كما يترتَّب عليه أنه إذا كان أحد الحكمَين صادقًا فلا بد أن يكون الحكم الآخر كاذبًا. أما في المنطق الجدلي والميتافيزيقا الجدلية، فإن التناقض الجدلي قديمٌ قِدم الفكر البشري، وربما كان الفكر الصيني القديم هو السياق إلى صياغته في صورة واضحة عبَّر عنها ﺑ «اليانج» (الإيجاب) والين (السلب)، وهما قطبا الحقيقة الكلية (أو الطاو وطريقة الحياة الحكيمة الفاضلة)، التي يتحرك ويحيا بهما ويضمهما في وحدة يتعذر وصفها وتحديدها. وللفكر الجدلي الذي يحرِّكه التناقض تاريخٌ طويل وأشكال عدة، لا يتسع المجال لمجرد الإشارة إليها. ويكفي أن نذكُر هاتَين العبارتين اللتين تميِّزانه عن الفكر الصوري من كتابات هيجل، والذي يرجع إليه الفضل الأكبر في صياغة مبادئ الجدل وقوانينه وإقامة نسقه المنطقي الحي المتطور. فهو يقول في كتابات الشباب اللاهوتية (الفقرة ٨ و٣): إن ما يُعَد في مملكة الموت تناقضًا، ليس كذلك في مملكة الحياة. كما يقول في علم المنطق (المجلد الثاني، ٥٨): إن مِن أبرز التحيزات التي يقع فيها المنطق المعمول به حتى الآن، بالإضافة إلى التصور المعتاد، ألا يُحسَب التناقض في زعمهما تحديدًا جوهريًّا باطنًا، مِثله في ذلك مثل الهوية. ولو كان في مقام الترتيب من حيث الأهمية وتمسُّكنا بالفصل بين كلا التحديدَين (وهما التناقض والهوية)، لكان التناقض هو الأحق بأن يُؤخَذ مأخذ الأعمق والأكثر جوهرية؛ ذلك أن الهوية بالقياس إليه لا تعدو أن تكون هي التحديد المباشر البسيط أو الوجود الميت، أما التناقض فهو جذر كل حركة وكل حيوية، وبقدر ما يحتوي الشيء في ذاته على تناقض، فإنه يتحرك، ويكون له اندفاع وفاعلية (انظر قاموس المفاهيم الفلسفية للأستاذ هوفميستر، هامبورج، مينر، ١٩٥٥م، ص٥٨٩–٦٩٠؛ وكذلك المنهج الجدلي عند هيجل للدكتور إمام عبد الفتاح إمام، الفصل الثاني عن مصادر الجدل الهيجلي، القاهرة، دار المعارف، ص٣٩–٩٦).
(٢) روبرت هايس، منطق التناقض، بحث عن المنهج في الفلسفة وصحة المنطق الصوري، برلين وليبزيج فالتردي جروبتر، ١٩٣٢م، ص٢٠–٢٤، ص٧١–٨١. Heiss Roobert: Logik des Wider spruchs: Eine Untersuchung zur Methode der Philosophic und Zur Gultigkeit der Formalen Logik Berlin und Leipzig, Walter De Gruyter 1932, p. 2–24, 71–81.
(٣) ديكارت، التأملات والردود الثانية، طبعة آدم وتانري، الجزء السابع، ص١٤٠، ١٨٩؛ وكذلك حديث ديكارت مع بورمان، والمجلد الخامس من الطبعة نفسها ص١٤٧. Descartes Meditationes Secusdae Responsiones. Ed. Adam et Tannery Vol VII P. 189, 14. – V, p. 147.
(٤) مِن المعروف أن ديكارت قد صرَّح في مواضع مختلفة من كتاباته بأن منهجه مختلف عن منهج المنطق الأرسطي، وأنه قد اشتدَّ في نقده لهذا المنطق الذي يقتصر على إثبات الحقائق التي كنا نعرفها من قبل. ومِن الواضح أن المقصود بهذا هو القياس الصوري؛ ولهذا يقول في مجموع ردوده الثانية على نُقاده إن مهمة منهجه — على العكس من ذلك — هي أن يبيِّن الطريق الصحيح الذي أكشف فيه الموضوع بطريقة منهجية، وكأنه اكتُشف بطريقة قبلية. ومِن المعروف أنه قد عبَّر بذلك تعبيرًا غير مباشر عن المنهج الذي اتبعه في تأملاته. انظر المرجع السابق، المجلد السابع، ص١٥٥.
(٥) شولتس، هينريش، الكوجيتو الديكارتي، مجلة دراسات كانطية، المجلد ٣٦، ص١٣٢، ذكره روبرت هايس، المرجع السابق، ص٧٣، ٧٥. Scholz, Heinrich Uber das cogito, ergo sum. Kantstudien, 1931, xxxVI S. 123.
(٦) يرجع الفضل في طرح هذا الفرض إلى مؤرِّخ الفلسفة الحديثة المعروف بنو إردمان، وذلك في دراسته عن فكرة نقد العقل الخالص المنشورة ضمن بحوث أكاديمية برلين ١٩١٧م، ذكره هايس، المرجع السابق، ص٢٥. Erdmann, Benno: Die Idee Von Kants Kritik der reinen Vernunft, Abhandlungen der Berliner Akademic, 1917.
(٧) كانط، طبعة الأكاديمية، المجلد ١٢، الطبعة الثانية، ص٢٢٧ وبعدها. Kant: Werke, Akademic Ausgabe, Bd.XII 2. Auflage. S. 287 F.
(٨) B739 من الطبعة الثانية لسنة ١٧٨٧م لنقد العقل الخالص.
(٩) B535 ويُلاحظ أن الأشياء في ذاتها، تعبيرٌ غير موفَّق؛ لأن الشيء في ذاته الذي يقصده كانط، أي الحقيقة المُطلَقة، التي تكون الظواهر في عالم الحس مظاهر لها، لا يمكن أن تكون شيئًا.
(١٠) B825.
(١١) B354.
(١٢) B354 وما بعدها.
(١٣) B768.
(١٤) B823.
(١٥) B697.
(١٦) B823.
(١٧) BXVIII وقارن كذلك BXX، والنص عن ترجمة كاتب السطور لهذه المقدمة، وللمدخل الكامل لنقد العقل الخالص (من المخطوطة التي نُشرت في أحد الأعداد الأخيرة من مجلة أوراق فلسفية، التي يحرِّرها الدكتور أحمد عبد الحليم عطية).
(١٨) B790.
(١٩) BXX الترجمة عن المخطوطة المشار إليها في هامش سابق، والكلمات التي تحتها خط مميَّزة في الأصل بحروف مفرَّقة.
(٢٠) هيجل، ظاهريات الروح، المقدمة، ص٤، من الطبعة التذكارية. Hegel: Phqnomenologie des Geistes, S. 4.(Jubilaum saus gabe).
انظر كذلك للكاتب: لمَ الفلسفة؟ الإسكندرية، منشأة المعارف، ١٩٨١م، ص٣٥.
(٢١) هيجل، علم المنطق، الطبعة التذكارية، الجزء الأول، ص٥٠، ص٢٦٠. Hegel: Wissenschaft Der Legik, S. 5. (Jubilaum ausgabe).
(٢٢) مركَّب الهوية والاختلاف عند هيجل هو التضاد، ويصل التضاد إلى قمته فيصبح تناقضًا. وإذا كانت تحديات الفكر الأولى قد جعلت من الهوية والتنوع والتضاد مبادئ (والمقصود هنا هو قوانين المنطق الصوري الثلاثة، وهي الهوية والتناقض والثالث المرفوع)، فيجب بالأولى أن تُفهَم هذه المبادئ وأن تُصاغ في قانون واحد، ألا وهو قانون التناقض الذي يصهرها جميعًا، وأن يُقال إن جميع الأشياء هي في ذاتها متناقضة، وإن التناقض يعبِّر عن حقيقة الأشياء وماهيتها، ومن السخف أن يُقال إن التناقض لا يمكن التفكير فيه. والشيء الوحيد الصحيح في هذه العبارة أن التناقض ليس نهاية المطاف، بل إنه يُلغي نفسه، ولكنه حين يُلغي نفسه يصل إلى فكرة أعلى هي مقولة الأساس التي توحِّد مقولة الهوية ومقولة الاختلاف، وتميِّز بينها في وقت واحد. انظر للدكتور إمام عبد الفتاح إمام «المنهج الجدلي عند هيجل» من الفقرة ٢٠٣ إلى الفقرة ٢٢٣، ص٢١٩–٢٢٣ القاهرة، دار المعارف، مكتبة الدراسات الفلسفية (د.ت).
(٢٣) عن مقدمة الطبعة الثانية لنقد العقل الخالص.
(٢٤) «أما أن المنطق قد سار على هذا الطريق المأمون منذ أقدم العصور، فإن هذا يتضح من الحقيقة التي تقول إنه منذ عهد أرسطو لم يتراجع خطوةً واحدة إلى وراء، وذلك إذا صرفنا النظر عن حذف بعض التفصيلات التي لا وزن لها، وإدخال تحديدات أدق على مباحثه، مما يتعلق في مجموعه بتحسين الصياغة أكثر مما يتعلق باليقين العلمي. والعجيب أيضًا في أمر المنطق أنه لم يستطع حتى اليوم أن يتقدم خطوة واحدة إلى أمام، وأن كل الظواهر تدل على أنه قد بلغ تمامه وكماله» (عن المقدمة نفسها المذكورة في الهامش السابق).
(٢٥) هيجل، علم المنطق، المجلد الأول، ص٤٨.
(٢٦) هيجل، المرجع نفسه، ص٥١ وبعدها.
(٢٧) كانط، نقد العقل الخالص، الطبعة الآتية ٥٨–B 58.
(٢٨) هيجل علم المنطق، ١–٥٤ W.d.I.T 54.
(٢٩) هيجل، محاضرات عن تاريخ الفلسفة، الطبعة التذكارية، الجزء الأول، ص١٢٧ وبعدها Hegel: Vorisungen uber die Geschichte der philosephie (jubilaumsausgabe, Band I, s. 127 f).
(٣٠) نفسه، ص٢٤.
(٣١) نفسه، الجزء الثالث، ص٦٨٧.
(٣٢) هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، الطبعة التذكارية، ص٣٨. Hegel; Enzyklopadie jubilaumsgabe, s. 3.8.
(٣٣) الفكرة الشاملة والفكرة الحية وفكرة الفكرة، كلها محاولات للتعبير عن المصطلح الأصلي العسير Begriff (بالإنجليزية والفرنسية Concept, notion)، ويُترجِمه حجة المنطق الهيجلي والجدلي في العربية — وهو الدكتور إمام عبد الفتاح — بالفكرة الشاملة، ثم يعرِّفه بقوله: وهي الدائرة الثالثة من المنطق، وهي أيضًا المركَّب في كل مثلث، والفكرة العينية هي فكرة شاملة؛ ومِن ثَم فمقولة الصيرورة هي أول فكرة شاملة. والفكرة الشاملة للشيء هي طبيعته العقلية، وهي أيضًا تُرادِف العقل الخالص ونسق المنطق كله (المنهج الجدلي عند هيجل، ص٩٩، ص٤١٩). ولذلك فعندما يقول هيجل إن نمو الفكرة الشاملة أو سيرها هو ما أسمِّيه بالمنهج، فإنه يعني بالفكرة هنا العقل في تطوره الكامل؛ ومِن هنا يختفي كل تعارُض بين ما يقوله أحيانًا من أن المنهج الجدلي هو تعبير عن طبيعة العقل وماهيته، وما يقوله أحيانًا أخرى من أنه الفكرة الشاملة، أو سير هذه الفكرة في مراحلها المختلفة (المرجع السابق، ص١٠٠).
(٣٤) علم المنطق، ١–٥٣.
(٣٥) علم المنطق، ١–٥٤.
(٣٦) هسرل، البحوث المنطقية، الجزء الأول، الطبعة الثانية، ١٩١٣م، ص٢٢٨. (والكلمات التي وُضع تحتها خط مفرَّقة في الأصل). Husserl: Logicshe unersuhungen, Bd. I, 2. Aufloge, 1913, S. 22.
(٣٧) التجريد الفكري Ideeierende Abstraktion هو تحويل المادي في العالم إلى ماهية أو فكرة أو مثل. ويعرِّبها الدكتور أنطوان ج خوري ﺑ «الأيدسة». انظر مقاله حول مقوِّمات المنهج الفينومينولوجي، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد خاص بمشكلة المنهج، العدد ٨-٩، بيروت، كانون الأول، كانون الثاني، ١٩٨١م، ص٢٩–٤٨.
(٣٨) المرجع السابق، الجزء الأول، ص٢٢٩ وبعدها.
(٣٩) الأفكار، الطبعة الثانية، ١٩٢٢م، ص١١٣. Ideen zu Einer eine Phanomenonlogie und Phanamenologis cher philosopie, 2 Auploge, 1922 (husseerlina, Bd.).
(٤٠) راجع رأي أحد تلاميذ هسرل المباشرين عن هذه المشكلة في المقال الذي ترجمه كاتب السطور، ونشرته مجلة فصول في عددها عن النقد الأدبي والعلوم الإنسانية: جيرد براند، العالم والتاريخ والأسطورة، ص١٠٧–١١٥، المجلد الرابع، العدد الأول، ١٩٨٣م.
(٤١) تعذَّر عليَّ الوصول إلى النص الأصلي لهذا الكتاب، الذي يشغل المجلد السادس من سلسلة مؤلفات هسرل المشهورة. Die krisis der euroapischen wissenscafren und die Tranawende Phanomenologie, Hrsg, W. Bienmel, 1954. (Husserlianal Bd VI).
ولذلك اعتمدت على المقال القيِّم عنه للدكتور حسن حنفي، وعلى مقاله عن فينومينولوجيا الدين عند هسرل في كتابه «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني، القاهرة، دار الفكر العربي، ١٩٧٧م، ص٢٩٨ وبعدها.
(٤٢) المرجع السابق، ص٢٩٨.
(٤٣) المرجع نفسه، ص٣١٢.
(٤٤) المرجع نفسه، ص٣١٨.
(٤٥) راجع كتاب الدكتور إمام عبد الفتاح عن تطور الجدل بعد هيجل، بيروت، دار التنوير، ١٩٨٥م (في ثلاثة مجلدات)؛ وكذلك كتابه السابق الذِّكر عن المنهج الجدلي عند هيجل، ص٣١٦–٣٦٦، عن رأيه في التفسير الصحيح للجدل المادي أو الماركسي؛ والجزء الثاني من كتابه عن كيركجارد رائد الوجودية، وبخاصة الباب الثاني عن التطور الجدلي للذات بمراحله الأربعة، والباب الثالث عن أمراض الذات (اليأس والقلق والخطيئة)، والفصل الأول من الباب الرابع عن المفارقة، القاهرة، ١٩٨٦م. راجع كذلك القاموس الفلسفي، تحرير الأستاذَين جورج كلاوس وماتفريد بور، ليزينج، المعهد البيلوجرافي، الجزء الثاني، ص١١٦١–١١٧١ (مادة ديالكتيك)؛ وكذلك كتاب المنطق الجدلي للفيفر، ترجمة الأستاذ إبراهيم فتحي؛ والفكر الجدلي، ماهيته وأشكاله (للمؤلف من المخطوطة).
(٤٦) راجع العدد السابق الذِّكر من مجلة الفكر العربي المعاصر، وبخاصة مقال الأستاذ مطاع صفدي عن المشروع العربي بين المشاكلة والمثاقفة، ص٤–٢٢؛ وكذلك مقال الدكتور جورج زيناني عن نقل المنهجيات الغربية العربي، ومشكلة المنهج التي شارك فيها الدكاترة والأساتذة ناصيف نصار، منح الصلح، وجوزف مغيزل، ومطاع صفدي، ص١٨٣–١٩٣.
(٤٧) راجع في هذا الصدد الكتابَ القيِّم للدكتور محمود زيدان، مناهج البحث الفلسفي، بيروت، جامعة بيروت العربية، ١٩٧٤م، بجانب أعداد مختلفة من مجلة عالم الفكر، الكويت، عن المنهج في العلوم الطبيعية والرياضية والإنسانية، وكثير من الكتب المهمة عن فلسفة العلم، وبخاصة كتاب الدكتور محمد عابدي الجابري، بجانب تطبيقاته للمنهج البنيوي المعرفي في دراساته عن التراث وتكوين العقل العربي وبنيته، وكتاب مفهوم النص والكتب الأخرى للدكتور نصر حامد أبو زيد، وعدد كبير من الدراسات التي نُشرت في هذه المجلة ويصعب حصرها.
(٤٨) راجع المقال الأخير لواحد من أعلام التنوير العربي المعاصر، وهو الدكتور فؤاد زكريا، مرئية التنوير، مجلة إبداع، القاهرة، العدد الرابع، أبريل ١٩٩١م، والإشارة هنا إلى كتاب «جدل التنوير» الذي اشترك في تأليفه فيلسوفا مدرسة فرانكفورت هوركهيمر وأدورنو.
(٤٩) محمد عابدي الجابري، نحن والتراث، بيروت، دار الطليعة، ١٩٩٨، ص٩.
(٥٠) شكري محمد عياد، هذا الكلام عن أزمة العقل العربي، مجلة الهلال، مارس ١٩٩١م، ص٨–١٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤