ثورة إلى الأبد، وتفسير لشذرة جوته المسرحية عن بروميثيوس

مَن منا لم يسمع أو يقرأ عن الجد الأكبر للثورة والثُّوار في الحضارة الغربية كما صوَّرته أساطير الإغريق الفيَّاضة بالذكاء والجمال والحكمة؟

ومَن منا لم يصِل إلى سمعه ويهزَّ قلبه وعقله نبأُ ذلك الثأر العنيد الذي تمرَّد على آلهة الأوليمب، وخدع زيوس نفسه، وسرق سر النار الذي حجبه عن البشر، فجعلهم يخطون الخطوة الأولى على طريق الحضارة، ومكَّنهم من ممارسة الحرف وسائر الصنائع والفنون، ومن بناء المَسكن وإشعال المَرقد، ووقاية أنفسهم من كوارث الطبيعة وعدوان الوحوش؟ إنه هو بروميثيوس صديق البشر المتعاطِف معهم؛ لأنه (كما يقول المأثور الأسطوري) هو الذي خلقهم من صلصال، وسوَّاهم على صورته، وجعل الإنسان يمشي مُنتصِب القامة وقد رفع رأسه للنجوم، وذلك بعون من الربة أثينا أو مينرفا التي أرشدته إلى نبع الحياة، ودفعته بإذن من زيوس أو جوبيتر كبير الآلهة إلى أن يبثَّ في صورهم وأشكالهم وتماثيلهم أنفاس الحياة؛ ليعيشوا ويعملوا ويُحبُّوا ويمرحوا ويرقصوا ويتعذبوا أيضًا، ثم يموتوا في النهاية، وهو المارد العملاق «الطيطان» أو نصف الإله، شيءٌ وسطٌ بين الآلهة والبشر، ورمزٌ أبدي لتوهُّج شعلة الإبداع، وتفجُّر ينابيع الخلق عند الشاعر والأديب والفنان العبقري، الذي هو صورة مصغَّرة من الخالق والمُبدِع الأعظم.

تُفيدنا المَراجع الكلاسيكية أن أباه هو «الطيطان» أو المارد العملاق يابتوس، وأن أمه هي كلمينه، وأشقاءه هم إيميثيوس وأطلس ومينويتيوس. وتقول أيضًا إنه خدع زيوس كبير الآلهة أكثر من مرة. احتال عليه في إحداها فأعطاه عظام الأضحية وذهبها، واحتفظ للبشر الذين يُحبُّهم بلحمها الطيِّب، فما كان من زيوس إلا أن استأثر بسرِّ النار الذي سرقه المارد الثائر من سماء الأوليمب، وهبط به إلى أرض البشر، فيما تقول إحدى الروايات المأثورة، داخل برعم نبته يجوف، فأسدى بذلك للبشر أهم وأجل صنيع في تاريخهم كما سبق القول. ويُروى أن صُناع الفخار في أثينا لم ينسَوا له هذا الصنيع، فكانوا يحتفلون بذِكراه في أعياد «البرورميثيا»، التي يطوفون فيها بشوارع المدينة في مواكب حاشدة من حملة المَشاعل الذين يتغنَّون باسمه ويردِّدون سيرته.

كان جزاء أب الثُّوار أنْ أمر جوبيتر (أو زيوس) بصلبه على شفا هاوية سخيفة بحبل القوقاز، وأطلق عليه نسرًا متوحِّشًا ينهش كبده، وكلما طلع الصباح كساه كبدًا جديدًا ليُطعِم به النسر، كما أرسل وفدًا من ربَّات الانتقام يعذِّبنه تعذيبًا، ويفتحن في قلبه جراحًا معنوية أشد فتكًا بالأبطال من الجراح الجسدية. هل يسقط إمام الثائرين بسبب لعناته وحقده على الإله الأكبر سقطةً مأسوية، أم ينتصر بسلاح الخير على الشر بعد أن صفَت نفسه بفعل العذاب الذي تحمَّله؟ وأصاب الحكمة من طول هذا العذاب كما تصوَّر شيلي في قصيدته المسرحية الكبرى، وتعلَّم الحب والغفران، فانتصرت قوة الخير، وهوى جوبيتر عن عرشه، وظهر هرقل رمز القوة، ففكَّ أغلال رمز الحرية. إن التفسيرات مختلفة باختلاف الأدباء والعصور، وسنكتفي هنا بتفسيره شذرة جوته المسرحية ومصيرها المُحزِن (راجع لشيلي، بروميثيوس طليقًا، ص١١٠–١٢٠، ترجمة الدكتور لويس عوض، القاهرة، هيئة الكتاب، ١٩٨٧م).

أنجز «جوته» هذه الشذرة المسرحية مع غيرها من الشذرات الشعرية والمسرحية المتنوِّعة، التي لم يُقدَّر له أن يُتمَّها خلال السنوات الأولى من شبابه الباكر، وهي التي قضاها بين لايبزيج وفرانكفورت قبل تلبية دعوة أمير «قيمار» وبداية إقامته فيها؛ أي بين سنتَي ١٧٧٢ و١٧٧٤م، فهذه الشذرة نفسها التي ستُطالعها كتب في صيف سنة ١٧٧٣م، وتبعها أنشودة عن بروميثيوس صمتها بعض السطور من المسرحية القصيرة، وسبقها بوقتٍ قصير «أغنية محمد» التي دوَّنها في شتاء ١٧٧٢ / ١٧٧٣م. كان من المفروض أن تكون مع أنشودةٍ صغيرة يُناجي فيها محمد نفسه، وتكاد أن تكون ترجمةً حرفية لعدد من الآيات القرآنية الكريمة التي جاءت على لسان إبراهيم — عليه السلام — في سورة الأنعام، أثناء بحثه بين الكواكب عن الإله الواحد الخالق، وإدراكه بعد ذلك أنه لا يُرى وليس كمثله شيء، كان من المفروض أن تكون بداية مسرحية عن محمد لم يستطع أن يُتمَّها.١ هكذا أتم جوته كتابة هذه الشذرات وغيرها تحت إلحاحٍ جارف وكاسح بحتمية التعبير عن سَورة رُؤاه الجامحة، وطوفانِ مشاعره الجيَّاشة كأمواج البحر العالية في صورةٍ حية مباشرة، ومُفعَمة بالحوار والحركة التي يمكن أن يراها ويسمعها المتلقِّي. كتب يقول بعد ذلك عن تلك الفترة الفيَّاضة بالإنتاج المُذهِل:

لو لم أكتب في تلك الفترة أعمالًا درامية لحُكِم عليَّ بالضياع. ولا عَجب في ذلك؛ لأن تلك الفترة الزمنية كانت جزءًا لا يتجزأ من مرحلة العصف والدفع، التي شارك أزماتِها وثورتَها جيلٌ كامل من أدباء الشباب، بريادة الأديب وفيلسوف التاريخ يوهان جوتلوب هيردر (١٧٤٤–١٨٠٣م) الذي وضع شكسبير كالمَثل الأعلى نصْبَ عينَيه، ولم يملَّ أو يكلَّ من دعوة هذا الجيل لتمثُّل أعماله والتعلم منه؛ هذا الجيل الذي تميَّز بفورة الوجدان، وسَورة العواطف والرُّؤى، واعتزاز المُبدِع بعبقريته، وإيمانه بعبارة الأديب الإنجليزي «شافتسبري» التي أثَّرت على الجميع: «إن الشاعر خالقٌ ثانٍ — أي بعد الخالق الأعظم جلَّ علاه — إنه بروميثيوس حقيقي.» وقد سُمِّي هذا العصر في أوائل القرن الثامن عشر بعصر العبقرية، وبأن عبقرية العبقرية أشبه شيء بظواهر الطبيعة أو كوارثها الكبرى، عندما تُباغِت الأرض والبشر ببراكينها وزلازلها وصواعقها المدمِّرة، وكذلك ببروقها الساطعة الخاطفة. وغنيٌّ عن الذِّكر أن جوته وصديقه شيلر في شبابهما — بالإضافة إلى عددٍ كبير من الشعراء والكُتاب — قد كانا من أهم الرموز على روح هذه الحركة القصيرة العمر، قبل انتقالهما بحكم التطور إلى مرحلةٍ كلاسيكية أكثر اتزانًا ونضجًا واحتفاءً بالشكل الصارم والبناء المُحكَم.

لنبدأ بالقصيدة التي تُعَد أكثر تكثيفًا وجرأة وعنفًا في التعبير عن التمرد والتحدي لآلهة الأوليمب وكبيرهم زيوس، وعن المعنى الذي كُتبت في سياقه القصيدة والشذرة المسرحية، وهو الإعلان من شأن الأديب والمُبدِع بوجهٍ عام، وتصوُّره على صورة البطل الأسطوري بروميثيوس. والقصيدة التي تتضمن — كما سبق — بعض الأبيات من الشذرة تدور على لسان بروميثيوس، وهي من أولها إلى آخرها مونولوج يُخاطِب به زيوس وآلهة الأوليمب وكأن كلماته صيحاتٌ أو اتهامات.

لقد خلق هذا البطل البشر وسوَّاهم من الطين بمساعدة مِن أثينا أو مينرفا كما سبق القول، وسرق النار التي استأثر زيوس بكُنهِ سرِّها، وضنَّ به على البشر. وإذا كان قد عاقبه بأن أمر، كما هو معروف، بتقييده إلى جيل القوقاز بحيث ينهش كبدَه نسرٌ عظيم بالنهار، وبعد أن تلتئم جِراحه بالليل يعود فينهشه بالنهار. وإذا كان البطل هرقل قد فكَّ قيده وقتل النسر الهائل بعد أن أذِن له زيوس بذلك، بل سمح بحضوره إلى الأوليمب كمستشار للآلهة، فإن القصيدة كلها تضع التمرد في قلب الحدث، وفي صميم التناقض بينه وبين زيوس وبقية الآلهة وأنصاف الآلهة: غطِّ سماءك يا زيوس، ببخار السحب، ومارِس ألعابك البارعة، كالصِّبية الذين يقطفون فروع الأشجار الشوكية، على شجر البلوط وذُرى الجبال، لكن دع لي أرضي واترك لي كوخي الذي لم تقُم ببنائه، وموقدي الذي تحسدني على توهج نيرانه.

والواقع أن صيحات بروميثيوس ولعناته التي يُطلِقها على سماء الأوليمب وكبير الآلهة، لا تخلو من الشكوى المُرة من تخلِّيه هو وبقية الآلهة عنه، ومِن نظرتهم إليه وهو العبقري نظرةَ السادة للعبيد.

«لما أن كنت طفلًا، لا أعرف يميني من شمالي ولا رأسي من قدمي، كنت أُدير نظرتي الحائرة المضطرِبة نحو الشمس، متوهِّجًا أن وراءها وفوقها أذنًا تُصغي إلى شكواي، وقلبًا مثل قلبي يُشفِق على المكروب المنكود الحظ.»

ويُواصِل البطل المخدوع أو المظلوم تبرير اتهاماته لمن عاملوه معاملةَ السيد للعبد بتأكيد ذاتيته وشجاعة قلبه الذي تحدَّى الجميع: مَن الذي وقف معي ليردَّ عني غرور العمالقة؟ من أنقذني من الموت والعبودية؟ ألمْ تُنجِز كل شيء بمفردك يا قلبي المقدَّس والمتوهِّج؟!

وأخيرًا يسوِّغ البطل المتمرِّد العنيد احتفاءه وعدم اكتراثه بآلهة الأوليمب، الذين لا حق لهم في الوصاية عليه، وأولهم كبيرهم زيوس: «أأنا أُجلُّك وأوقِّرك؟ لماذا؟ وفي سبيل أي شيء؟ هل فكَّرت أبدًا في تخفيف آلام المُرهَق مِن ثقل الأحمال؟ هل حاولت مرةً واحدة أن تجفِّف دموع القلق الخائف؟»

مع ذلك فلم يقطع صِلته تمامًا بالمقدَّس والإلهي الخالدة، ولم يمنعه تجديفه على زيوس وتحدِّيه له من أن يُظهِر طاعته للقوتَين الإلهيتين العريقتين اللتين تُطيعهما آلهة الأوليمب نفسها، وهما «المويرا» (التقدير الأزلي الأبدي) وخرونوس (الزمن القهَّار الذي يبتلع كل الكائنات والموجودات). وإذا كان يحتفظ بأكثر ملامح وجهه الأسطوري الغاضب العنيد (تبدأ القصيدة بفعل أمر لزيوس: غطِّ سماءك!) بتأكيد الأنا المتمرِّدة الوحيدة العاكفة على خلق البشر؛ أي المعبِّرة عن صورة العبقري المُبدِع الذي قال عنه جوته إنه فصَّل ثوبه على قده، فها هو المقطع الأخير يؤكِّد عناد المُبدِع البطل والعبقري الوحيد: «ها أنا أجلس هنا، أسوِّي بشرًا على صورتي، جنسًا يُشبِهني، يتعذب ويبكي مثلي، ويستمتع ويفرح ولا يكترث بك كما أفعل أنا.»

إن بروميثيوس يؤكِّد ذاتيَّته الطاغية العنيدة في المقطع السابق والأخير من القصيدة بصورةٍ فظيعة ومستفزة، غير أن تأكيد العبقري لِذاته إذا كان يعبِّر من الناحية الدينية، أو من النظرة الشاملة للوجود، عن أن الخلق كله ليس ولم يكن أبدًا غير نوع من السقوط، أو الرجوع إلى الأصل الأول (كما يقول جوته في نهاية الفصل الثامن من سيرة حياته شعر وحقيقة).٢ وكما قالت الشذرة الغامضة التي تركها لنا الفيلسوف أنكسمندروس، فإننا إذا كنا نضطرُّ من ناحية لتأكيد ذواتنا، فنحن لا نتردد في أحيانٍ أخرى، وفي نبضات مُنتظِمة، عن التخلِّي عن ذواتنا والتجرد منها، في مرحلة متأخِّرة من حياته وإنتاجه، كما في الديوان الشرقي للشاعر الغربي، سيسمِّي القطبَين المتضادَّين والمتلازمَين لإيقاع الحياة بالقبض والبسط (السيستولي والدياستولي) كما يتضح في عملية الشهيق والزفير، لكن القصيدة كما لاحظنا من الأبيات المقتبَسة، تُصرُّ حتى النهاية على تصوير الجانب الأول المعبِّر عن الذات المتضخِّمة المتمرِّدة، تاركةً الجانب الآخر للشذرة التي تضع في المَشاهد التي يظهر فيها بروميثيوس الذاتية إلى جواز التخلي عن الذاتية في المَشاهد التي تظهر فيها مينرفا في نهاية الفصل الثاني.

هكذا تتبدَّى صورة العبقري المُبدِع الذي يرفض أي وصاية عليه من أي نوع كانت، ويُصرُّ على العكوف في وحدته على إبداع مخلوقاته التي تنبع من أعماق ذاته الحرة المستقلة، ثم يتولى بعد ذلك رعايتها والأخذ بيدها لتأسيس أول مجتمع إنساني يعيش في ظل الحب والتكافل والقانون الأخلاقي، ويترفَّع عن ظلم الآخر ونهب ممتلكاته. يتجلَّى هذا في هذه الشذرة المسرحية المبكِّرة التي تركها جوته، كما ترك غيرها، قبل أن تكتمل وتتخلص من عيوبها الدرامية والتشكيلية الكثيرة. ويبدو أن همَّه الأول في تلك الفترة المبكِّرة التي اندفع فيها بصورةٍ مُذهِلة إلى تجسيد أفكاره ومشاعره في فيض من الأعمال الدرامية المتوالية، لم يكن هو الكتابة الدرامية في حد ذاتها بقدر ما كان هو إثبات استقلال المُبدِع، الذي يفور باطنه بالصور والمشاعر والأفكار واستغنائه عن أي عون أو سند من الخارج، واعتماده في النهاية وبشكلٍ مُطلَق على ذاته وحدها. يؤكِّد هذا ما يقوله في سيرة حياته بعد ما يقرب من أربعين سنة على اندفاعته الجامحة والمحيِّرة لتدوين كل تلك الأعمال الدرامية المبكِّرة: يبدو أن القدر الإنساني العام الذي يتحتَّم علينا جميعًا أن نتحمل عبئه الثقيل، يكون أكثر من يتحمله هو الإنسان الذي تطوَّرت قواه وآفاقه العقلية في مرحلةٍ مبكِّرة من حياته، بحيث تصبح الغاية النهائية لهذا الإنسان هي الرجوع إلى ذاته والاعتماد عليها اعتمادًا مُطلَقًا. وكم جرَّبت في شبابي أن الإنسان في أشد لحظات احتياجه إلى المساعدة كثيرًا مما يسمع صوتًا يُناديه: «أيها الطبيب! ساعِد نفسك بنفسك!» وكم تنهَّدت في ألمٍ وأنا أهمس لنفسي قائلًا: لا بد أن أتسلَّق السُّلم وحدي؛ ذلك أنني كنت كلما تلفَّت حولي بحثًا عن شيء يؤكِّد استقلالي، كنت أجد أن الأساس اليقيني الثابت لهذا الاستقلال هو موهبتي المُنتِجة والمُبدِعة، التي لم تتخلَّ عني لحظةً واحدة منذ سنوات.

ويستطرد جوته في ذكرياته، فيقول: وعندما تفكَّرت في هذه الموهبة الفطرية ووجدت أنها شيءٌ يخصُّني أنا وحدي، وأن ليس ثمة شيءٌ غريب عني يمكنه أن يؤيدها أو يعطِّلها، آثَرت أن أبني عليها وجودي الفكري كله. وتحوَّل هذا التصور عندي، فتمثَّل في شخصية البطل الأسطوري القديم بروميثيوس الذي خطر عندئذٍ على بالي، والذي اعتزل الآلهة وراح من مَعمله يزحم العالم بمخلوقات من إبداعه. أحسست أنني لن أُنتِج شيئًا له قيمة حتى أعتزل تمام الاعتزال، وأن أعمالي السابقة التي قُوبِلت بالترحيب والاستحسان كانت هي أبناء وحدتي، ومنذ أن توسَّعت علاقتي بالعالم المُحيط بي، لم تنقصني القوة ولا متعة الابتكار، ولكن البناء المفصَّل كان يتعثر في يدي؛ لأنني لم أكن قد تمكَّنت بعدُ من العثور على الأسلوب الخاص بي، لا في النثر ولا في الشعر، بحيث كنت أبدأ مع كل عمل جديد، أيًّا كان موضوعه، في تحسُّس طريقي ومعاودة التجربة والمحاولة من البداية. ولما كانت في تلك الفترة قد عوَّدت نفسي على رفض أي مساعدة من أي إنسان آخر، بل أستبعدها تمامًا من ذهني، فقد فضَّلت الاعتزال على طريقة بروميثيوس؛ لكي أكون أكثر استجابة لطبيعتي وطبعي ومَنحاي الفكري الذي يقصر نفسه على إحساس، أو تمثُّل واحد يبتلع ويستبعد كل ما عداه. وهكذا عاشت حكاية بروميثيوس، وصارت في وجداني تجربةً حية، وشرعت دون تردُّد في كتابة مسرحية تصوِّر سوء العلاقة التي نشأت بين بروميثيوس وبين زيوس وبقية الآلهة عندما أخذ يخلق بشرًا يسوِّيهم بيده، ويؤسِّس بذلك دولةً أخرى تقع بين الآلهة والعمالقة.

ويختم جوته هذه الذكريات بأن موضوع بروميثيوس قدَّم له مادةً شعرية مُلائمة، ولكنه لم يشأ أن يُعالِجه في صورةٍ ثورية عنيفة وفجة، تصوِّر هجوم العمالقة واقتحامهم العاصف للسماء، وإنما وجد مِن الأليق أن يصوِّر عناد البطل ومقاومته بصورةٍ سلمية مرِنة وصابرة؛ حتى لا تتحول نيرانها التي ظلَّت مُشتعِلة تحت رمادها الشعري منذ كتابتها قبل خمسين سنة، كما قال لصديقه تسلتر في شهر مايو سنة ١٨٢٠م، وهو يتذكر أنها لم ترَ النور منذ كتابتها إلى إنجيلٍ ثوري للشباب الثائر بطبعه، فيؤلِّب عليه غضب المسئولين الكبار. ولعل هذا هو السبب في نسيانه لهذه القطعة المسرحية، التي كان من المفروض أن يبدأ الفصل الثالث فيها بالمونولوج المتفجِّر بالغضب والتحدي كما رأينا في تحليلنا لبعض مقاطعه، وكانت نتيجة ذلك عدوله عن إكمالها، بل عدم تحمُّسه لنشرها حتى بعد مرور ذلك الوقت الطويل.٣ لم تصِل المخطوطة المنسيَّة لهذه الشذرة المسرحية إلا في سنة ١٨١١م، ثم تم نشرها في المجلد الثالث والثلاثين من أعماله الكاملة التي ظهرت سنة ١٨٣٠م؛ أي قبل رحيله بسنَتين.

لنقِف الآن وقفةً قصيرة أمام هذه الشذرة قبل أن نستخلص منها المعنى الرمزي أو الحكمة الخفية التي يبدو لي أنها قصدت إليه، ولا بأس قبل ذلك من حديثٍ مختصَر بقدر الإمكان عن بعض مزاياها وعيوبها الفنية، التي ربما كانت هي السبب في تكاسُل جوته عن إتمامها، بل نسيانها والتحرُّج من ذِكرها طوال ما يقرب من خمسين سنة متَّصِلة:

  • (أ)

    يكاد النُّقاد يُجمِعون على أن هذه الشذرة تتفرد بين كتابات جوته المسرحية المبكِّرة بتكاملها ووحدتها الشعرية والروحية واللغوية؛ فنحن نجد أنفسنا في جوٍّ أسطوري خالص — في سفح جبلَي القوقاز والأوليمب — وتذهب وتجيء أمامنا شخوصٌ عديدة نُحسُّ كأنها تنتمي لمجتمع بدائي أو يوتوبي، تشبع فيه البساطة والنقاء والحنان والبهجة التي تعبِّر عنها مخلوقات تشعر بأنفاس الحياة التي دبَّت فيها قبل قليل بالرقص والغناء وتسلُّق الأشجار وقطف الزهور، والرجوع في كل شيء إلى «الخالق» الذي سوَّاها، وبدأ يأخذ بيدها ويربِّيها على الحياة في ظل القانون الأخلاقي والشريعة الإنسانية. غير أن معظم هذه الشخوص التي تتنفَّس هذا الجو الأسطوري الحميم تتَّسم بالسطحية، وتفتقر إلى التفرد والذاتية التي نتوقعها من شاعر لم يكتب شيئًا في حياته إلا عن تجربةٍ باطنة وحميمة، ومعاناةٍ عميقة وأليمة. أما عن الحدث الدرامي فهو شِبه غائب عن خشبة المسرح، وما يمكن أن يوصف بأنه حدث — مثل غضب مركور مِن رفض بروميثيوس لعرض الآلهة، أو بث أنفاس الحياة في التماثيل والصور التي صارت بشرًا، وتجربة باندورا … إلخ — إنما تُروى سردًا ولا تحدث؛ ولذلك بدَت المَشاهد المختلفة مفكَّكة ومُنفصِلة ومُفتقِرة إلى الفعل الدرامي الذي يربط بينها؛ وبذلك يصعب علينا أن نصدِّق ما سبق أن نقلناه من سيرة حياته الدافع الذي ألحَّ عليه لكتابة هذه الشذرة، وهو التعبير عن ذاتيته المستقلة كما سبق أن فعل في أعمالٍ سابقة كآلام فرتر على سبيل المثال.

    ولعله قد تصوَّر خطأً أن ثورة بروميثيوس وغضبه على المسرح يمكن أن يكفي للتعبير عن ذاتيته المستقلة، وحمايةِ وعيه الذي لا يريد له أن يُمسَّ بإعفائه من أحكام الترابط الدرامي بين المشاهد التي تتوالى دون جديدٍ يُذكَر.

  • (ب)

    وتُفاجِئنا صورة بروميثيوس في حديثه مع مينرفا أنه هنا لا يتمسك بفرديته واستقلاله اللذَين طالما دافع عنهما، ورفض أي مساس بهما، واعتبر أن معنى الوجود كله متطوِّر فيهما. فنحن نُحسُّ في حديثه باحترامه لألوهيتها، وارتباطه العميق بها إلى حد تصوُّره أنه كثيرًا ما يتحدث بينه وبين نفسه بحديثها، وأنها كانت دائمًا مُلهِمته بحِكمتها وسموِّها وجلالها الإلهي. غير أنه يقع في التناقض أو في الضلال عندما يكرِّر في نفس الوقت رفضه للآلهة ككائناتٍ غريبة عنه، وتأكيده استقلال عالمهم عن عالمه الذي يرفض كذلك أن يعترف بأن يكون لهم أي حق فيه. وعندما تدعوه برفقٍ أن يتذكر قدرتهم وحكمتهم يعود لغضبه، ويؤكِّد أنه يُساويهم ولا يقلُّ عنهم، بل ويرفض عرض جوبيتر الذي جاءت تقدِّمه له بأن يقوم بنفسه ببثِّ أنفاس الحياة في صوره وتماثيله التي أبدعها، ولكنه لا ينثني عن موقفه المتصلِّب حتى تعرض عليه أن تهديه إلى نبع الحياة الذي لا سلطان لأحد عليه إلا أمويرا؛ أي للقدر الأعلى الذي تخضع له آلهة الأوليمب نفسها. بهذا تُكفكِف من غلوائه، وتخيِّل له أيضًا أن مخلوقاته التي ستنعم بالحياة لن تقلَّ عن «خالقها» اعتزازًا باستقلالها وحريتها، وربما لن تقلُّ ألوهيةً عن الآلهة نفسها التي ما زال صانعها ومُبدِعها على موقفه المُعانِد والمؤكِّد لاستقلاله عنها. وأخيرًا تأتي موافقة كبير الآلهة على لسان شقيقه إبيميثيوس الذي يبلِّغه مُبارَكتها لبثِّ الحياة في تلك المخلوقات، التي ستزيد من عدد عبيدها ومن عدد الأضحيات التي سوف يقدِّمونها لها. ولا شك أن القارئ أو المتلقِّي للعرض الدرامي سيفتقد هنا فعل الأحياء ﻟ «مخلوقات بروميثيوس»؛ إذ كان يمكن أن يستغلَّه الشاعر ويُبرِزه كموقفٍ دراميٍّ هامٍّ، بدلًا من إخفائه أو مجرد الاكتفاء بتقريره بصورةٍ لغوية وحسب.

  • (جـ)

    لم تخرج من الفصل الأول بأكثر من التعرف على بناء شخصية بروميثيوس الذي بقي على عناده ومساواة نفسه بالآلهة، ولم يُدرِك التناقض الذي وقع فيه عندما شعر، ولو بشكلٍ غير مباشر ولا واضح، أن الألوهية تسري فيه هو نفسه وفي الطبيعة والوجود المحيط به، وتشمل الجميع بقوَّتها وحبها وحكمتها. ويأتي الفصل الثاني فنرى مخلوقاته تلتفُّ حوله، وترجع إليه في كل شيء؛ ليوجِّهها ويبصِّرها بالمبادئ الأولى للحياة في مجتمعٍ إنساني حقيقي، مجتمع يحيا كما نقول اليوم في ظل الحرية والقانون، ولا ينحرف أفراده إلى الفساد والاستبداد والسقوط ضحيةَ شريعة الغاب. ويتردد في أنفسنا هذا السؤال مع بداية الفصل الثاني:

    هل ستبقى مخلوقات بروميثيوس مُلتفَّة حوله، أم ستتمرَّد عليه وتنفضُّ عنه؟ هل هي حقًّا جزء من نفسه، أم إن هذا مجرد وهم يُغشي عينَيه؟ هل سينجح كما يبدو من تصرُّفاته في هذ الفصل في أن يؤسِّس اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة الأولى في تاريخ البشرية ويُظلَّها برعايته، أم ستبقى هذه المدينة حلمًا مِثلُها مِثل غيرها من الأحلام التي طالما داعبت خيال الأدباء والشعراء والفلاسفة؟

    لن نستطيع بسهولة أن نجد الإجابة الواضحة على هذه الأسئلة فيما نقرؤه أو نُشاهِده على المسرح. إن كل ما يمرُّ أمامنا هي صورٌ رمزية تعبِّر عن الحالة الأولى للبشرية، أو الوضع الأصلي للإنسان في حضن الطبيعة والفطرة (وقد كان هذا هو الموضوع الذي شغل الأذهان في ذلك العصر تحت تأثير كتابات «روسو»، التي ربطت التمدن بالانحلال والتدهور، ودَعَت بقوة للرجوع للطبيعة والفطرة الأصلية).

    وقد تأثَّرت بخيله الأدباء والشعراء تأثُّرًا كبيرًا بلغة روسو وصوره الشاعرية والعاطفية المُوحية. وها نحن نرى في هذا الفصل الثاني ثلاث صور ترمز لذلك الوضع الأصلي الأول؛ فالأولى تصوِّر بناء أول كوخ أو أول مسكن بشري؛ ومِن ثَم دخول ظاهرة الملكية في العالم. لقد كان بناء أول كوخ في نظر روسو لحظةً درامية أو بالأحرى «ثورةً أولى»، عرضها بأسلوبه المتوهِّج عرضًا ثوريًّا في الجزء الثاني من مقاله الشهير عن المساواة، لكن هذا المشهد يخلو في الشذرة المسرحية من أي روح درامية؛ إذ يبدو بروميثيوس فيه متدثِّرًا في ثوب المربِّي والمشرِّع الحكيم، والموجِّه إلى النظام الأخلاقي والقانوني الذي يحمي المدينة أو المجتمع البشري الأول من الوقوع تحت سطوة شريعة الغاب (وهذا هو ما يوضِّحه النزاع بين رجلَين على ملكية عنزة أراد أحدها أن ينتزعها بالقوة من الآخر). وتأتي الصورة الرمزية الثالثة معبِّرة عن قدرة الطبيعة على الشفاء من الهم والسقم. والحقيقة أن بروميثيوس لا يلتفُّ هنا في مسرح الساحر ولا في ثياب الطبيب، وإنما يوجِّه «مخلوقاته» إلى نظامٍ أزلي سابق يكمن في قدرة الطبيعة على الإنعام على البشرية التي تنمو فيها وتجرِّبها وتُحبُّها بالخلاص من الأوجاع والآلام. لم تكن هذه البشرية إذن في حالتها «الأصلية» حُرة ومتمتِّعة بالصحة وطيِّبة وسعيدة، كما زعم روسو، بل كانت نشطة وكسولة، قاسية ووديعة، كريمة وبخيلة.

    كانت هذه البشرية الأصلية شبيهةً بكل إخوتها الذي قُدِّر لهم أن يتتابعوا في أجيالٍ مختلفة عبر التاريخ. لم تكن إذن أفضل ولا أسوأ ممن جاءوا بعدها في أزمنةٍ لاحقة؛ فالجميع تنطبق عليهم الأضداد التي عبَّر بها بروميثيوس عن نفسه في بداية هذا المشهد؛ يتعذبون مثله ويبكون، يستمتعون ويفرحون. وهكذا نجد أنه لم يخِب أمله في مخلوقاته الحية التي جاءت على شاكلته، وتنطوي طبيعتها مثلما انطوت طبيعته على المتناقضات والأضداد المتعارضة، وكأني به يُشير قائلًا للفنان والمُبدِع الحقيقي وكلهم في النهاية بروميثيوس حقيقي: ترفَّقوا بمخلوقاتكم، ولا تسمحوا للصراع أو التناقض أن يوسِّع الهوة بينكم. إن طبيعتهم صورةٌ أخرى من طبائعكم، وكلاكما ينمو بالضرورة داخل نُظُم حية متطوِّرة تعمل على تكوينه على ما هو عليه.

  • (د)

    ويأتي المشهد الأخير من الفصل الثاني، فيقدِّم لنا بروميثيوس الثائر الغاضب المتحدِّي في صورة الحكيم المفسِّر للوجود والمبشِّر به؛ لذلك لا يُدهِشنا أن تتردد في الأجزاء الثلاثة لهذا المشهد كلمة «الموت» بظلالها الداكنة، وأصدائها الغامضة النابضة بالشجن والأنين.

    والفقرة الأولى من هذا المشهد الأخير تقدِّم لنا ذهول باندورا وحيرتها أمام التجربة التي تصادف أن مرَّت بها دون أن تقدر على فهمها، ويأتي تفسير الحالة النفسية التي عانتها الفتاة، وعبَّرت فيها بصورةٍ غير واعية عن حنينها الجارف إلى الحب، واستعدادها للتضحية والعناء في سبيل المحبوب. ويكرِّر بروميثيوس كلمة الموت المُظلِمة بوصفها تعبيرًا عن ماهية اللحظة الفارقة التي تحقِّق فيها ذلك الحنين إلى التضحية والفداء والفناء في المحبوب؛ أي لحظة الموت التي تعلو فيها الذات على ذاتها وهي تُفارِقها. وهكذا تُفاجأ ببروميثيوس آخر غير الثائر والغاضب العنيد الذي عرفناه في كلٍّ من الأنشودة والمشاهد الأولى من الفصل الأول، وكذلك غير بروميثيوس المربِّي والموجِّه والحكيم الذي رأيناه مع مخلوقاته في المشاهد الأولى من الفصل الثاني. إنه الآن وجهٌ «ديونيزي» تملؤه تباريح الألم من المصير المأسوي المحترم الذي ينتظر الإنسان، هو يقف على شفا الحفرة المُظلِمة، سواء فهِمناها على أنها حفرة الموت أو حفرة الحب الذي شدَّه نحو مينرفا أو نحو باندورا.

  • (هـ)

    وتأتي الخاتمة معبِّرة عن تصور جوته للتجربة التراجيدية أو الأيونيزية للحياة: ليس الموت أبدًا هو الهدف الأخير، ولا ينبغي أن يكون هو الهدف الأخير الذي تسعى إليه مخلوقاته الحية؛ فالموت تعقبه صيرورةٌ جديدة يتحول معها البشر إلى حياةٍ خالدة يستردُّون فيها قوَّتهم وعافيتهم وإقبالهم على الفرح والمسرَّة. أهو إيمانٌ مبكِّر وغامض بخلود الروح الإنساني؟

    ليس بإمكاننا تقديم تفسير أوضح لهذه الخاتمة المحيِّرة، لكنها تؤكِّد على كل حال أن الشاعر لو قُدِّر له أن يُكمِل المسرحية لما استطاع أبدًا — كما زعم أكثر من مرة بعد تقدُّمه في العمر — أن يبدأ فصلها الثالث بالقصيدة أو المونولوج الغاضب الذي سبق أن حلَّلناه، ونُشر مستقلًّا عن النص المسرحي.٤ والسبب في ذلك أنه كان في نهاية الفصل الثاني قد دخل عالم بروميثيوس آخر، تشعُّ من جبينه وعيونه حكمةُ الكاهن أو العرَّاف أو القديس الزاهد في الثورة بمعناها الغاضب والصارخ والمتحدِّي، الداعي إلى ثورةٍ أخرى أعمق وأبقى وأقدر على إبداع «مخلوقات» يعجز الزمن الذي يبتلع كل شيء عن التهامها في جوفه.
  • (و)

    مع من إذن كان من الممكن أن تتصور الصراع الدرامي في الفصل الثالث أو في فصولٍ أخرى محتملة؟ في تقديري أننا لا يمكن أن نتوقعه بينه وبين آلهة الأوليمب وكبيرهم، الذين أبلغوه على لسان مينرفا ومركور أنهم يُبارِكون بث الحياة في أشكاله وصوره وتماثيله من مُنطلَقٍ نفعيٍّ بحت (وهو أن يزيد عدد عبيدهم والأضحيات التي سيقدِّمونها لهم كما سبق القول). هل نتصور أنه كان من الممكن أن يجعل آلهة الأوليمب تشنُّ حملة عليه، وتُرسِل من يقيده إلى جبل القوقاز، ويسلِّط النسر المُخيف على كبده كما تقول المادة المأثورة للأسطورة، كما عرفها من المعاجم الكلاسيكية، ومن قراءته لمسرحية أيسخيلوس؟ ولكن هذا لم يكن ممكنًا بعد أن باركت مخلوقاته وإبداعاته، كما أن الشاعر نفسه استبعد عن ذهنه فكرة ذلك العقاب، ونفر منها بطبعه.

هل يبقى أن نقول إنه كان من الممكن أن يدخل في صراع مع مخلوقاته، «التي سيجد مع مرور الزمن أن بعضها على الأقل قد انحرف عن الفطرة الإنسانية النقية التي فطرها عليها»، ومع تعقُّد الحياة الاجتماعية في مدينته الأولى التي رأينا كيف عامل أبناءها معاملةَ الأب الحنون والراعي الطيِّب؟

أحسب أن هذا كان أمرًا ممكنًا، ولكنه ربما لم يخطر على بال الشاعر؛ لأن الدفقة الشعرية التي قطرتها في قلبه المتمرِّد روحُ العصف والدفع والاعتزاز المُفرِط بالعبقرية الفردية، كانت قد انسكبت في رؤيته الشعرية والصوفية للعالم، وفي احتضانه للوجود الكلي واحتضان هذا الكل له؛ الأمر الذي أدَّى بالضرورة إلى تراجع الفردية المُطلَقة، وربما إلى بداية روح ثورية جديدة في عملية إبداعه المستمرة؛ روح ربما اتَّسمت بالنضج، والتحلي بالأناة والصبر، ومواصلة عملية الخلق في صفاء وابتهاج ونشوة. لست أدري مدى صحة ظنوني وتصوراتي، كل ما أدريه ويتمثَّل أمام عيني الآن بوضوحٍ هو رؤيتي للبطل الثائر القديم وهو يقِف وسط مخلوقاته التي أبدعها من صميم وجدانه الحر المستقل، ودون أي وصاية أو عون من الخارج، أقول إنني أراه واقفًا وسط إبداعاته وهو يصيح هاتفًا بما يحتمل أن يكون الشاعر قد قصد من شذرته المسرحية: «أيها المُبدِعون! يا من يسكن داخل كلٍّ منكم بروميثيوس حقيقي! تأكَّدوا وأنتم تُبدِعون أن إبداعكم هو الثورة الحقيقية؛ لأنها على الدوام ثورةُ قِيم روحية وأخلاقية ومعرفية تُصلِح وتغيِّر التاريخ والواقع التغيير الحقيقي، كما تحوِّل المؤمن بها والأمين عليها في عمق وسكون التحوُّلَ الكلي والجذري، ولا تفعل ما فعلته الثورات الكبرى المزعومة التي لم تجلب على البشر إلا الشقاء، ولم تترك وراءها إلا آلاف الرءوس المقطوعة وآلاف المقابر الجماعية وسجون التعذيب والتصفية ومعتقلات السخرة المهينة. كُونوا بروميثيين بحق، آباءً ومربِّيين وحرَّاسًا، ورعاةً طيِّبين يحمون قِيمهم الخالدة من الفساد والانحراف كما فعلت وأفعل مع مخلوقاتي، التي هي صورٌ رمزية للقِيم التي لا بد أن يستميت الثائر البروميثي الحقيقي، وكلكم هذا الثائر في الدفاع عنها، وانتشالها من السقوط، وإحيائها باستمرار. كونوا بروميثيين بحق! ولتكن ثورتكم الإبداعية ثورات إلى الأبد.»

هوامش

(١) راجِع إن شئت الفصل الخاص عن جوته والإسلام في كتابي المتواضع «النور والفراشة»، وبه تفصيلاتٌ كافية عن تغيُّر مشروع خطته المسرحية المبكِّرة عن محمد — عليه السلام — والأسباب المحتملة لذلك، كما يتبيَّن من هذه الخطة التي ذكرها في الفصل الخامس عشر من ذكرياته «شعر وحقيقة» القاهرة، أبولُّو ١٩٩٧م، ودار الجمل، كولونيا ٢٠٠٦م.
(٢) راجع المجلد التاسع من طبعة هامبورج لأعمال جوته الكاملة، ص٣٥٣.
(٣) لم تصِل المخطوطة المنسيَّة لهذه الشذرة المسرحية ليد جوته إلا في سنة ١٨١٩م، ثم تم نشرها في المجلد الثالث والثلاثين من أعماله الكاملة التي ظهرت سنة ١٨٣٠م؛ أي قبل رحيله بسنتَين.
(٤) راجع تعليق الأستاذ فولفجانج كايزر على الشذرة المسرحية في المجلد الرابع من طبعة هامبورج لأعمال جوته الكاملة، هامبورج، ١٩٦٠م، ص٥٢٢–٥٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤