الأبحاث الفلسفية والبسيكولوجية

(١) الموسيقى والفلسفة

(١-١) مقدمة

نشأتُ وشبَّت معي عاطفة تجذبني نحو الكمال والجمال، وما فتئت هذه النفحة العلوية والجذوة الربانية تتوقد في فؤادي ويثور ثائرها كلما تجلى لها الكمال والجمال بأبهى مظاهرهما ومعانيهما في أي كائن كان من صنع الخالق، أو من مبتدعات فنون الإنسان.

أنارت هذه الشعلة بصيرتي وباصرتي، فأصبحت العين تنفذ في أعماق ما يفتنها فترى فيها جمالًا ربما كان خفيًّا لا يُدرك معناه كل من رآه، كما أنها لا تعزب عنها عيوب استترت تحت جمال كاذب يغر كثيرًا من الجهلاء السذج.

شغفت بالموسيقى وحلت من فؤادي المحل الأرفع، فأصبحت لي في الداء شفاء، وفي الحزن سلوانًا، وفي البؤس سعادة ترتاح إليها نفسي وينعم بها روحي.

رويدك أيها القارئ فلا تتهمني بالشطط والمغالاة؛ فإنك لا تلبث أن تسلم بما قلت حينما أرفع لك الأستار وأكشف الحجب عن محاسن تفتن القلوب، وجمال يسلب النُّهى، وقدرة عظيمة وأسرار مدهشة حجبها جهل فظيع ذهبت غشاوته بالأبصار، وانتقلت أعراضه إلى الآذان فأصمتها، وإلي القلوب فأعمتها، وأصبح الفن عندنا كالحسناء فتك بها الداء الدفين والفقر المدقع، فظلت هائمة على وجهها متسربلة بأطمار بالية سترت ما بقي فيها من آثار الجمال، فنفر منها مريدوها وهجرها محبوها.

اختلجت منذ سنين في صدري فكرة إظهار آيات جمال الموسيقى الخفية وأسرارها العلوية، فوجدتني عيًّا لا أستطيع أن أجهر بوجدان أشعر به غير كافٍ للتعبير، فهو وإن كان جُلُّه صادقًا فإنه يعوزه الدليل القاطع والحجج الدامغة.

أردت أن أستعين بالمؤلفات الإفرنجية فنقبت طويلًا فلم أعثر على ضالتي المنشودة؛ لأن هذا البحث لم يُطرق إلا حديثًا، فصبرت ردحًا من الزمن إلى أن وفقني الله للعثور على بعض المؤلفات الجليلة التي تبحث في الموسيقى والفلسفة وكلها لأفاضل المعاصرين، فعمدت إلى دراستها جميعها لإنماء هذا الشعور وتهذيبه، وسأوافي القراء بصفوة ما أحرزته بعد تبويبها حسبما يلائم مشربنا متوخيًا أسلوبًا جليًّا واضحًا تفهمه العامة قبل الخاصة، لعلي أكون بذلك قد أديت بعضًا مما يفرضه عليَّ الواجب الاجتماعي.

ليس المقام مقام بحث في الفلسفة وتعريفها وتقسيمها، ولا مقامًا يتناول الموسيقى من الوجهة الفنية والعملية، بل مداره إظهار فضل الموسيقى وأسرارها وعلاقاتها بالفلسفة والشعر، وتأثيرها في الأخلاق والعادات، ونفوذها وقوتها في السحر وتأثيرها في الحيوان.

الموسيقى قوة عظيمة فتانة ساحرة، بل هي فن يعبِّر به الإنسان عن وجدانه وشعوره بأنغام أفصح من النطق وأبلغ من البيان وأقرب منهما تناولًا للأذهان، الفكرة الموسيقية مظهر لإلهام عام عميق غامض ولكنه مفهوم لدى العالم الإنساني، الموسيقى هي لغة النفس التي تنعم بصفائها وسعادتها ومقرها أرقى من الحياة الحقيقية، وقد قال «لوتير»: «إنني أضع بعد الإلهيات مباشرة الموسيقى وأمنحها الشرف الثاني.» وزاد عليه «بيتهوفن» نابغة الموسيقيين، إذ قال: «الموسيقى وحي أعظم وأرفع من جميع الأخلاق والفلسفة، إن هي إلا رحيق ينعشنا ويؤهلنا لجديد الابتداع، بل هي الحياة الخيالية منضمة إلى الحياة المادية، وهي الموصل الوحيد إلى العالم الأعلى، عالم المعرفة الذي يشعر به الإنسان ولا يستطيع ولوجه، وبها ندرك العلم الكامل الإلهي.»

الموسيقى هي التي تترجم وتنشئ الحالات النفسانية العميقة، بل هي ألطف ما انبعث من العقول، الموسيقى قوة رقيقة لطيفة للحياة الأدبية، إن هي إلا شعور وفكر في آنٍ واحد، الموسيقى هي لغة الحب للأفئدة، بل حلية الخيال وزينة التصور.

الموسيقى لغة غزيرة المعاني خفية الأسرار، توقظ التقوى وتخاطب الشعور مباشرة بغير واسطة، وقال «فاجنر» الموسيقي الطائر الصيت: القلب هو الصوت وما الموسيقى إلا لغته الفنية، بل الهوى الذي يفيض ويسيل من الأفئدة.

وقد أظهر الموسيقي الفرنسي الشهير «بيرليوز» قدرة الموسيقى على التعبير عن الأحوال النفسانية، ومعظم الجزء الخاص بالانتقاد في كتابه يدور على صدق التعبير في الموسيقى، فتراه بمهارته المعروفة قد ازدرى وسخر من توقيع الآلات الموسيقية في الأزمان الغابرة حيث وجد جانبًا منها تكملة للعدد تسد فراغًا لا معنى له أو تضاعف صوتًا تحدثه آلة أخرى، فقال: «إن هذه الموسيقى لا تصلح إلا لترقيص القردة في الأسواق وإسناد الحواة والبهالين وبالعي السيوف والثعابين في أقذر الطرق.»

الموسيقى هي الفن المتداول الذي يستقي مادته من الحياة الاجتماعية، كالنبات يمتص غذاءه من المكان الذي تخترقه جذوره، لا التصوير ولا الحفر متداولان كما أن فن زخرفة البناء في غاية التعقيد ومُفْعَم بالمعلومات الفنية والأثرية وخاضع للاشتغال بالزخرفة أو ضروريات أعمال خاصة ليصبح عملًا وقتيًّا جامعًا لعدة أشياء، فهذا الامتياز إذن خاص بالموسيقى وأخيها الشعر.

الموسيقى لها معنيان مختلفان متحدان في شكل واحد كالروح والجسد؛ أحدهما في غاية من السهولة والوضوح، والثاني يفر من الباحث فيه، فهو في الوقت نفسه تقليد لحياة الحب أو الأشياء الظاهرة، ولغة ذات فكرة خاصة بها تهيمن على جميع الأشياء، فهي تشمل في هذا التعبير المزدوج العبارة الشعرية التي تعززها بالحقائق الوافرة، وتكمل الفكرة البليغة بنقلها إلى مستوى أرقى خيالًا، وهذا مما يدل على وجود التفاوت التام بين الموسيقى والشعر … ليس الفرق بين الشاعر والموسيقار قاصرًا على أنهما لا يتكلمان بلغة واحدة ولا يخضعان لقانون واحد؛ بل لأنهما لا يفكران بمقدرة واحدة، وهذا التضاد هو الذي يدفع الواحد نحو الآخر ليتمما بعضهما ببعض، وحينما يجتمعان يعضدان اللغة الأصلية ويمنحان أصولها منتهى القدرة فيتغلبان على عواطفنا السامية، ويتمكنان من أن يبثا فينا أقوى وأشرف عواطف التكافل الاجتماعي.

لا توجد أمة متمدينة أو وحشية إلا والموسيقى منتشرة بينها، وإذا تصفحنا التاريخ وجدناها في العصور الخالية، وأقدم دليل هو صورة محفورة على الأحجار تمثل شخصًا يوقع على آلة موسيقية تسمى «هارب»، وجدت في بلاد الكلدانيين وعثر عليها المسيو «سرزيك» في قصر «تلو» على الشاطئ الأيسر من قناة تربط الدجلة بالفرات، وقد قدر تاريخها أفاضل العلماء مثل «بواتييه» بثلاثين قرنًا قبل الميلاد، ولا مُشاحَّة في أن الموسيقى أقدم من الشعر وهي التي نفحته بقوانينه الخاضع لها.

ترتبط الموسيقى بأجمل العلوم ويتسنى طرق أبوابها من جهات مختلفة، وفضلها لا يلبث أن يظهر من جميع الوجوه؛ إذ تتعلق بالطبيعي والفسيولوجي، فإن كانا مزودين بطرق التحاليل والبحث العالية حددا نواميسها وكشفا لنا فيها عالمًا مفعمًا بالعجائب، وترتبط بالفيلسوف الذي يستطيع أن يبين لنا أنها تسعد النفوس بشريف العواطف وجليل الفكر، وتتعلق بالمؤرخ الذي يظهر لنا تقدمها وما صادفها من التقلبات وعلاقاتها بالتاريخ العام للأخلاق والعادات ودورها في حركات المدنية، وترتبط بعلماء الجمال فتنفحهم مقرًّا رفيعًا غريبًا يدرسون فيه آيات جمالها وأشكالها.

الموسيقى الشاملة لجميع ما سردناه من المزايا تحدث في النفوس جرحًا من الملذات، وتترك فيه مثل رءوس الإبر فلا تنسى هذه الآلام اللذيذة الحلوة.

أجد من العبث أن أسرد عيوب الموسيقى الشرقية وما وصلت إليه من الانحطاط، كما أنه لا فائدة من وصف العلاج الناجع؛ إذ قد بيَّنا أن الموسيقى فن متداول من لوازم الهيئة الاجتماعية، وأنها ترجمان الأخلاق والعادات، فهي مرتبطة بدرجة مدنية الأمة وتسير معها خطوة بخطوة، إمَّا إلى الأمام وإمَّا إلى الوراء، فإن حاولنا أن نرقيها وحدها فمثلنا كمثل طبيب جاهل يريد أن يعالج مريضًا فسد دمه وانتشرت على جسده الثآليل باقتصاره على الدهان، فجهل العلة وأراد أن يداوي العَرَض، وهيهات أن يبرأ عليله وتتحقق أمانيه، هذا والله أسأل أن ينهض بالشرق إلى أعلى الدرجات حتى يبلغ من المجد والكمال غاية الغايات.

(١-٢) الأصوات والكلام الإلهامي للانفعال النفساني

الصوت الإنساني الذي هو مصدر الكلام الشعري والموسيقى يحرز ثلاث قوى للتعبير، إذ لا يتسنى له أن يكون بالتتابع أو في الوقت نفسه تمثيلًا للشعور، أو تمثيلًا للأشياء المادية والخارجية، أو تمثيلًا للفكرة.

ففي الحالة الأولى يتركب شكله من الصياح وجميع أنواعه، وفي الثانية من التمثيل بالأصوات ودرجته في الإتقان، وفي الثالثة من الكلام الأصلي الذي تنقله الكتابة.

تتميز هذه القوى الثلاث من مصدرها، ودرجتها في المفهومية والإلهام هو مصدرها المشترك، ولكن الأولَيْن يمكن أن يكونا من عمل الإلهام المحض، وأما الأخير فيعتمد معظمه على الاتفاق والاصطلاح، وحينما يكون الصوت الإنساني نتيجة وقتية للانفعال أو صدى لأصوات الأشياء الخارجية يؤثر مباشرة في الإحساس الطبيعي للسامع، وتكون طرق تعبيره مفهومة لدى جميع الناس لمكانتها من الحقيقة الصريحة.

ووقتما يكون الصوت الإنساني علامة للفكرة فإنه يخاطب العقل وله معنى عظيم كامل، ولطرق تعبيره مفهومية محصورة؛ لأن صفاتها اتفاقية عرفية، فلننظر الآن في الحالتين الأوليين؛ أي الكلام الطبيعي الإلهامي المحض وقدرته على الترجمة عن الشعور.

كيف تتأتى هذه الترجمة إذن؟ إن بين الحياة الروحية والحياة الجثمانية مهوى عميق لا تدركه البراهين الفلسفية، ولكن الطريق سهل ممهد بين هاتين الحياتين وبين الطبيعة، والتجارب العامة هي التي تيسر لنا معاينة هذه العجيبة المدهشة والعادية في آنٍ واحد؛ إذ يجعل الصوت الانفعال محسوسًا وللآذان مثل ما يصيره النظر مرئيًّا للعيون.

يهتز الفؤاد من صدمة الآلام كما ترتجف أوتار الكنارة تحت أنامل الموسيقار، ويتبع تنوعات الشعور الدقيقة بسهولة لا يتأتى تحديدها.

يمكننا أن نميز العناصر الآتية في الأصوات التي يتركب منها الصوت الإنساني؛ قوتها وعلوها، ومدتها ورنينها وحركة تتابعها، وسنبين درجة تعبير هذه الصفات المختلفة للكلام الطبيعي، وأنها ما فتئت مستعملة في الغناء وهو الحجر الأول للموسيقى الآلية.

للأصوات المستعملة في الموسيقى تشابه مع الصياح وتنوعات الكلام الطبيعي، وقد قال «ليسينج» الكاتب الألماني الشهير: «ليست الأصوات الموسيقية علامة لشيء ما لأنها لا تعبر مطلقًا، بل تتابع الأصوات وحده هو الذي يعبر أو يوقظ الأهواء.»

وهذه الفكرة تبين لنا أن الصوت يشبه النقطة الهندسية التي لا تفيد شيئًا وحدها، لكنها إذا انضمت إليها نقط أخرى أنشأت خطًّا.

وقال «داروين»: «جميع أصوات الطبيعة من طنين الحشرة إلى قصف الرعد وصوت الإنسان ترتبط بنصر أو هزيمة في معترك الحياة.»

وتنطوي خلال هذا الجملة فكرة عظيمة فخمة لا حاجة لنا الآن لخوض عُبابها، بل يكفينا أن نقول: إن الأصوات الموسيقية لها صفات تشبه مثيلاتها في الصوت الإنساني، فهي إذن عناصر التعبير.

قوة الأصوات؛ أي درجتها في الحدة أو الضخامة، تكون مناسبة لقوة الشعور المعبر عنه، فإن كان الإنسان لم يحدث له انفعال فإنه لا يفكر تقريبًا في الكلام، كما أن البلادة يصحبها عادة الصمت، وعدم تأثر أصحاب الوساوس والشكوك يجعلهم يتكلمون بصوت منخفض، وكذلك الذين يراعون آداب المعاشرة، أما الانفعال فإنه يوقد الفؤاد والصوت، والألم يوجب الصياح.

علو الأصوات محدود بأسباب قوتها؛ إذ يرتفع الصوت بدرجة الانفعال فترى الآلام إذا تتابعت مع ازدياد تتابع الصياح متنقلًا في الزيادة من درجة إلى أخرى أحَدَّ منها، وفي الموسيقى كلما ارتفع الصوت واشتد كان أكثر تعبيرًا.

للأبعاد الموجودة بين الأصوات دور مهم في اللغات فإنها هي التي تمنحها أشكالها وحياتها؛ لأنها تمثل درجة الانفعال، فترى السذج ذوي التأثر البطيء لا يستعملونها إلا قليلًا، وبالعكس يكثر استعمالها أصحاب الشعور الراقي السريعو التأثر.

الأبعاد إما أن تكون صاعدة أو هابطة فيختلف اتجاهها حسب المقام، فإن كان الشعور في نمو وتحقق علا الصوت، وإن خمد الشعور هبط الصوت، ويلاحظ عادة أن الجمل تنتهي بأبعاد هابطة.

الأصوات من وجهة طولها أو اتصالها إما أن تكون متقطعة أو متصلة، وذلك مرتبط بكيان الشعور الذي ينتجها، فالضحك يعبر عنه في الكلام الاعتيادي بحلقات من أصوات متقطعة، وبالعكس يعبر عن الأنين بأصوات متصلة، فالتعبير بهذا الشكل موجود أيضًا في الموسيقى.

ولرنين الأصوات أهمية عظمى في الكلام، فيختلف بالنسبة إلى المناخ والجنس والعمر والذكورة والأنوثة، وصفات العواطف وطبائعها ودرجتها، وحالة الإنسان النفسانية التي كان عليها وقتما انبعث منه الصوت.

أظهر البحث في رنين الصوت عنصرين؛ أحدهما نتيجة للتركيب الطبيعي ثابت لا يتغير، والثاني نشأ من الظروف ويتأتى تغييره لدرجة غير محدودة، فيشمل الرنين في الوقت نفسه الجزء الدائم الثابت والجزء المتحول من حياتنا الطبيعية والأدبية، فهو للكلام بمثابة اللون للوجه.

إذا سمعنا شخصًا يتكلم دون أن نراه فإننا نستطيع أن نحرز غالبًا من لون كلامه إن كان ذكرًا أو أنثى، ونُقدِّر عمره بالتقريب وعواطفه الحالية وشيئًا من أخلاقه.

إن الملاحظات التي تبديها دراسة تنوع رنين الكلام وعلاقته برنين العواطف قد أسعدت الروائيين والممثلين بنفحات عظيمة، وجعلت الروايات الصغيرة التي يمثلها شخصان أو ثلاثة سارة جذابة؛ إذ تستطيع فيها فتاة لا تجاوب على كل ما تُسأل عنه إلا بكلمة واحدة «يا سيدي»، ولكنها متنوعة الرنين حسبما توحيه العواطف فتدل على الاحتشام والدهش والحسرة والخوف والسرور والحب وغير ذلك.

وللكلام حركة تنشئها درجة الانفعال أو طبيعته أو أسباب خارجية، فنرى أن المحادثة مع شخص عديم المبالاة والاهتمام لا يشغل باله شيء تطول إلى أن تصير غير محتملة، ومخاطبة الذين يختالون في برود شبابهم وهناءتهم تكون أكثر احتدادًا، ولهجة الذين تملكتهم العواطف الهائجة تكون محتدمة سريعة.

نستنتج مما سبق أن جميع أشكال الكلام الإلهامي توجد في الكلام الفني وهو أساس فن الموسيقى.

سلمنا مبدئيًّا بالتعبير الموسيقي، فما هو إذن مبلغه من الصحة؟

الأصوات الموسيقية كمثيلاتها في الكلام الطبيعي صحيحة التعبير، وهما في التشابه كالألوان الصناعية التي يستعملها المصور وألوان الطبيعة، وهذا المثال في غاية الموافقة لسهولته، وهو الوحيد المعقول الصريح.

ليست الألحان والأوزان بالطرق الوحيدة للتعبير، بل توجد وسائل أخرى وهي قوة الأصوات ورنينها ولهما أهمية عظمى؛ إذ بواسطتهما يحصل التنويع دون تغيير شيء في الجمل الموسيقية التي تتركب منها القطعة، فالمغني يجب عليه استعمالها، كما يلزم المنتقد أن يدقق فيها النظر.

نشاهد في رواية «فيديليو» من مؤلفات «بيتهوفن» في فصلها الأول أن لحنًا واحدًا يغنيه بالتتابع «مارسولين» و«لييونور» و«روكو» و«جاكوينو»، فهل يُتصور إذن أن «بيتهوفن» يطلب من أربعة أشخاص تعبيرًا واحدًا؟

إننا نعلم أن الكلام الطبيعي الذي هو أساس الكلام الموسيقي له معنى، ولكنه أقل وضوحًا من كلام الفكر — أي الكتابة.

يجوز أن يعبر الصياح نفسه عن الخوف والغضب والدهش واليأس والحقد … وأن يعبر الأنين عينه عن بائس ظفر به الألم، أو شهواني منغمس في ملذاته.

يصادف أحيانًا هذا الغموض في التصوير والحفر، ولنضرب مثلًا المرأة التي لدغها الثعبان للمصور الفرنسي الشهير «كليزينجيه»، فقد لاحظ فيها «تييوفيل جوتييه» الشاعر الفرنسي المعروف أن تعبير الألم فيها أشبه بالملذات حينما تبلغ منتهاها من الشدة، وأن شِرْذِمة الجند التي تمثل العسس لنابغة المصورين «رامبران» اختلفت فيها الآراء حتى ظنها بعضهم أنها مارة بالنهار لا بالليل، ويوجد بمُتحف التماثيل والحفر بمدينة «مونيخ» تمثال عظيم كبير القامة اختلفت فيه علماء الآثار؛ فظنه البعض رجلًا، وظنه الآخرون امرأة، فهل لهذه الأسباب يستنتج أن التصوير والحفر لا يحرزان صحة التعبير؟

إن كان نفس هذا الغموض غير محدود في بعض أقسام الحياة الأدبية نفسها، فكيف نتطلب من الفن أن يكون أوضح من الطبيعة وأصدق من الحقيقة؟ هل جميع عواطفنا تتميز من بعضها البعض؟ أليس الحب إن بلغ منتهاه من الشغف صار أشبه بالبغض؟

وباختبارنا للاعتراضين الآتيين للمسيو «هنزليك» يتسنى لنا أن نبين قدرة التعبير بطريقة أدق وأوضح:
  • (١)

    «ليست العواطف منعزلة بل تابعة لحالات فيزيولوجية وهي والعقل شيء واحد، فلا يتأتى أن يعبر عنها بفن لا يستطيع فيه التمثيل أن يمثل جميع الحركات البسيكولوجية.» يمكننا أن نجاوبه بالاستعانة بالتجارب قائلين له: إنني أشعر حق الشعور بفرحي وحزني وألمي … دون أن يعتريني أقل شك في حالاتها الفيزيولوجية.

    والدليل القاطع أنني إذا أصغيت إلى أجنبي يتحدث بلغة أجهلها فإني لا أفهم شيئًا من كلامه، ولكنني أستطيع أن أعرف على الأقل إن كان المتكلم مسرورًا أو غضبان مهددًا أو حسن المقابلة جامدًا أو متحمسًا … وقد تكون العواطف والفكر متضادة؛ إذ يخالف أحيانًا مدلول نغمة الكلام المعنى الحرفي للقول.

  • (٢)

    «حينما يتسنى للعواطف أن تبين بطريقة واضحة فذلك راجع إلى الأشياء التي تنطبق عليها وتسببها، فالأمل مرتبط تمام الارتباط بصورة الشيء المحبوب الذي يُرجى حصوله والذي هو مخالف للحالي: فلولا «مرجريت» و«ديسديمون» ما حدث الحب، فالموسيقى إذن لا تستطيع أن تعرفنا «ديسديمون» ولا «مرجريت»، فإذا حُذفت هذه الصورة المحسوسة التي هي سبب الحب لم تبقَ إلا حركة غير محدودة وبالأكثر العاطفة العامة للهناءة والمرض، ثم نقول: إن الموسيقى تعبر عن عواطف غير محدودة فهذا لا يفيد شيئًا، إذن ما هي العواطف التي لا مضمون ولا محتوى لها؟ هذا شيء لا معنى له ولا يمكن أن يكون موضوعًا لعمل فني.»

أرتنا التجارب أن معرفة الشعور لا تحتاج دائمًا إلى معرفة موضوعه، وإذا سمعت صياحًا شديدًا فلا حاجة لي بمعرفة سببه لأعلم منه تعبير الألم لكي أشعر بالعطف على الصائح، أما تمتلئ قلوبنا بالرحمة والشفقة على «فيدر» وهي في المسرح قبل أن تذكر «أونون» اسم «إيبوليت»؟ هلا نقول: إن «ألفريد دوموسيه» يحتاج إلى سرد أسماء حبيباته ليحدث في نفوسنا تأثيره المعروف؟ هل الحفار الذي عمل «نيوبيه» والمصور الذي صور «مينيون» في حاجة لإخبارنا بحديثهما لنشعر بآلام الأولى وحزن الثانية؟

ليست جميع العواطف واضحة أو متساوية في درجة الوضوح، مثل ذلك أنه توجد فوق رغبة الحصول على نمرة رابحة بمائة ألف فرانك رغبة الغنى غير المحدودة وفوق حب المال المحدود الطمع والسعي وراء العظمة بشكل ما، ويوجد ميل آخر يفوق جميع هذه الرغائب بل يشملها وهو حب السعادة، يمكننا إذن أن نميز نوعين من العواطف مرتبطين ببعض فروق خفيفة متوسطة بينها؛ إحداهما مصحوبة بفكرة واضحة محدودة، والثانية لا ترتبط بحكم ما من أحكام العقل وهي التي تمثل العواطف البحتة، فالأولى لا تستطيع الموسيقى ولا الكلام أن يعبرا عنها تعبيرًا تامًّا، وأما الأخرى فالموسيقى يتسنى لها أن تمثلها تمثيلًا تامًّا، بل تتخذ منها كالشعر موضوعاتها الشائقة المفضلة.

(١-٣) الصور في اللغة الموسيقية

إننا في حاجة لاستعارة صور من عالم المرئيات لنستعين بها على التعبير عن الخفي.

أرسطو

العلامات المعبرة التي سبق التنويه عنها هي علامات طبيعية؛ إذ تنبعث من تلقاء نفسها عقب العواطف والإدراك، وتوجد خلافها تعرف بالصور تحدث هي أيضًا الإلهام والملاحظات، ولكن إلهامها مثقف وملاحظاتها دقيقة معززة بالمقارنات، فليست إذن بتقليد رأسي أو وقتي للطبيعة؛ إذ يهيمن عليها فن تتحكم فيه غالبًا الأهواء، وقد تكون أحيانًا من نتائج التصور المحض ولا يرجع سبب وجودها إلا لاستعمال اصطلاحي.

وبدراستها نهجر منطقة الفيزيولوجيا مع ظواهرها ونواميسها لندقق النظر في قوة نفسانية يصعب إظهار طريقة عملها لتغير نتائجها؛ ألا وهي ارتباط الفكر، وسيعيننا في هذا المقام الكلام البليغ على فهم اللغة الموسيقية.

إننا لا نعرف الشعور والفكرة إلا بطريقتين: دراسة تعبيرهما الفيزيولوجي ومعرفة الوجدان، ولكن التعبير الفيزيولوجي ما هو إلا نتيجة الانفعال وليس بالانفعال نفسه، والوجدان عمل بسيط وحيد لا يستطاع تمثيله أو تقليده.

إذن ما هي الفكرة والشعور باعتبارهما الذاتي؟ إننا لا نستطيع أن نعبر عن حقيقتهما وكل بيان لهما نراه مناقضًا للآخر؛ لأنها أشياء غير مادية.

يأتي التصور لإغاثتنا في حالة عجزنا هذه بأن يجعلنا نسند إلى العواطف والفكر أشكال الأشياء المادية، وهذا الإسناد الإلهامي يُحدث في الكلام الاعتيادي عدة صيغ تضطر في الازدياد والتكاثر لدرجة لا نهاية لها في الكلام الفني — الموسيقى.

ربما استغرب القارئ أو استهجن الأوصاف الآتية التي يسندها علماء البسيكولوجيا إلى الفكرة، ولكن الغاية تبرر الواسطة، وما هي إلا وسائل يُستعان بها على فهم الفكر، فتراهم يعيرون الفكرة وزنًا فيقولون: فكرة ثقيلة وخفيفة، ويعيرونها لونًا فيقولون: فكرة قاتمة وسوداء وصافية، ويعيرونها أبعادًا فيقولون: فكرة عريضة وضيقة ومرتفعة وعميقة وسميكة … ويعيرونها خاصية المتانة فيقولون: فكرة متينة، وينسبون إليها مذاقًا فيقولون: فكرة حلوة ومرة وتافهة، ويعيرون الشعور حرارة فيقولون: قلب بارد وحار.

وهذا الاتفاق الإلهامي ذو التأثير العظيم في لغات الأمم هو منبع الإنشاء الشعري، ولولاه لاقتصر الشعراء على تبيان أسباب العواطف ونتائجها، وأحجموا عن تصوير العواطف نفسها.

يستطيع «راسين» أن يظهر لنا نتائج حب «فيدر» وجميع الحوادث التي سببها، ولكنه حينما يريد أن يكشف الغطاء ويزيل الخفاء عن شعورها يستعمل هذه الصيغة:

«أشعل الله في أحشائي نارًا لا تُبقي ولا تذر.» (راجع سيرة فيدر في بلاغة الغرب).

وإن تعدد الرموز المتناهي المستعملة في تمثيل الحب تكاد تضحكنا؛ إذ تظهر عجز الكتاب عن تعيين شيء غير مادي مثل قول «تييوفيل جوتييه» عن المراهقين بأن «نفوسهم كلون اللبن»، ولكن ذلك العجز ولو أنه لا يضر بالعمل الفني فإنه يوجد صعوبة ما يمكن للناظر أن يرى فيها أصل الأسلوب الشعري وحالته، ومن هنا تظهر خصيصة الكلام الذي يخاطبنا به وفضله في الابتداع وأهميته.

وحينما يجد الشاعر نفسه غير قادر على إظهار النفس يضطر لأن يبحث عن طرق غير رأسية وتشبيهات ليكشف عنها الحجب، فالصور هي سر الكلام وروحه.

فلنقارن بين شاعرين مثل «شكسبير» و«راسين» دون أن نرجع إلى البراهين النظرية، فكلا الشاعرين يعرف قلب الإنسان، ألم يك «شكسبير» أكثر شاعرية بالنسبة لغزارة الصيغ الطلية التي وجدها للتعبير عن عالم الخيال؟ وإن نزعنا الصور من «هوميروس» و«بيندار» و«إيشيل» فماذا يبقى؟ لا يبقى إلا رواة وأخلاقيون لا شعراء.

فالموسيقي يسير غالبًا على النهج الذي يتبعه أهل الأدب، ولا يجري على أثره لينشئ استعارة ما وينمقها كما يقع ذلك لبعض المصورين الذين لا يجيدون، وإنه ليخضع لنفس ميول التصور ونزعاته في عمل مستقل في نفسه، ولو أن بينه وبين غيره صفات مشتركة به فهو أيضًا يريد أن يعبر عن النفس لا عن ظواهرها الخارجية كالحفار والمصور والممثل بالإشارات والراقص بل عن النفس ذاتها، وحينما لا يستطيع التعبير عن شيء خفي غير مادي ولا محسوس لا صوت له ولا لون يعمد إلى معادلات اصطلاحية وتشبيهات ينشئها الإلهام بين الأشياء الحقيقية والفكرة، وفي بعض الأحيان لا يجد له مناصًا من ذلك.

مثال ذلك: أنه إذا أراد أن يعبر عن عواطف بدلًا من أن تكون ظاهرة وممثلة بالصوت والإشارة فإنها بالعكس لا نتيجة لها إلا السكوت والسكون وتأملات الفكر، فيجد الفتى نفسه مضطرًّا لأن يعير الطبيعة حركة وقت سكونها ولهجة عند بكمها، ووقتما تعوزه ملاحظات الكلام الطبيعي يركن إلى تصوره، ويفرض أن الحياة العقلية المبعدة في أعماق النفس تجسمت في أشكال محسوسة، وينشئ من موضوع بسيكولوجي محض موضوعًا وصفيًّا يشمل الصور والألوان، والرموز التي تنتج هي من أهم المناظر التي لم تبين تمامًا في اللغة الموسيقية.

نريد الآن أن نأتي ببعض أمثلة للصور في الشعر وأخرى في الموسيقى لنعرف وجه تشابههما في التصوير.

نشاهد في رواية «فوست» أن عواطف الدكتور فوست وهو في غرفة عمله من هموم وأحزان وضعف عزيمة وشقاء نفس وآلام أدبية قد مثلت بصورة مستعارة من الألوان، إذ يقال عن شخص حل به السأم وزهد في الحياة: «ساورته فكر مظلمة.» كما قال «راسين» في رواية «بريتانيكوس»: «حزن مظلم.» وقال «شكسبير» عن لسان «كلوديوس» عم «هملت» حينما رآه كئيبًا فريسة لآلام أذهلته: «ما لي أرى هذه السحب ما فتئت تحيط بك يا هملت.» وهذه الكلمة استعملها «بوسويه» في حديث فخم يخاطب به قبر «كونديه»: «هلموا سراعًا يا عظماء الرجال، وأقبلي اليوم يا أنوار العالم وأنت متسربلة بآلامك كأنك مشتملة بالسحب.»

وقد قارن «ألفريد دوموسيه» في قصيدته «ليلة من تشرين الأول» ألمًا خفيفًا بالضباب حيث قال:

أصبحت — والحمد لله — لا أتذكر مما تكبدته من الآلام فيما سلف من الأيام إلا كطيف خيال أو ضباب خفيف هاجه الفجر، ثم لاحت بعده تباشير الصباح ونفحات النسيم العليل بين الندى البليل.

أصبحت — والحمد لله — لا أتذكر مما تكبدته من الآلام فيما سلف من الأيام إلا كطيف خيال أو ضباب خفيف هاجه الفجر، ثم لاحت بعده تباشير الصباح ونفحات النسيم العليل بين الندى البليل.

ولكنه حينما يتملكه الشك وتتقاسمه الآلام العنيفة يصيح قائلًا:

إنني أقعد وحيدًا في ظلام فؤادي.

لنرجع الآن إلى الموسيقى فنتساءل: ماذا يصنع الموسيقيون حينما يريدون أن يعبروا عن عواطف السأم وضعف العزيمة؟

يستعملون الصور كالشعراء ويخصصون آلة «الكونترباس» أو «الفيولونسيل» للأنغام الضخمة، ففي «قصاص فوست الأخروي» تأليف الموسيقي «بيرليوز» نسمع الجملة المشهورة: «فوست في غرفة عمله» بأصوات مختنقة عميقة تعتبر كأنها صورة مماثلة للتعبير الشعري الذي ذكرناه في موضعه، ولا فرق بينهما إلا أن هذه الصورة الموسيقية أصبحت محققة بعد أن كانت خيالية في الشعر، فطريقة الموسيقي هي عين طريقة الشاعر، فيخاطب هذا الأخير العقل ولكن الموسيقي يمس الآذان، وصورة الشاعر ليست إلا إدراكًا، وأما صورة الموسيقي فإنها إدراك محقق، فأحدهما يمنحنا فكرة الإحساس والآخر يعطينا الإحساس نفسه، فمبلغ القول إذن أن اللغة الموسيقية حقيقية ولغة أهل الأدب خيالية.

الموسيقى والحب

وضع «داروين» الحب قبل ظهور الإنسان وقال: إنه معروف من القدم بين الكائنات الحية التي نشأ وارتقى منها الإنسان؛ فتراه قد توخى الصدق والإخلاص وعدم التحيز والتبصر في التأكيد مما جعل كتابه منبع علم يستقي منه كل طالب، وكان هذا المؤرخ الطبيعي الإنجليزي رقيق الشعور بالنسبة إلى الفن يريد أن يحل هذه المعميات:

لِمَ أحرزت الموسيقى قوة عظيمة في التأثير تثير ما كمن من العواطف؟ من أين أتت فضيلة هذه اللغة التي نشعر بتأثيرها الفتان دون أن نستطيع إدراك كنهها؟

يعتمد «داروين» في الجواب على هذه الأسئلة على القضايا الثلاثة الآتية:
  • (١)

    للموسيقى قوة في التعبير (وهذه الكلمة مستعملة في هذا الموضوع بمعناها العامي المتداول) محدودة؛ إذ لا تستطيع أن تعبر عن الخوف والبغض والذعر والغضب الحاد، ولكنها بالعكس تجيد في التعبير عن الحب وفرح الانتصار والظفر.

  • (٢)

    يشاهد في فصل الإنتاج أن الحيوانات يُسمع لها أصوات وغناء.

  • (٣)

    يوجد بين الحيوان والإنسان انتقال وراثي.

هذه القضايا الثلاثة من طبيعتها أن تنير علم الجمال، فلو سلمنا أن الحيوانات في زمن النزوان تكون منقادة بعامل الحب والغيرة والتنافس والنصر، وأن السلف الغابر قبل تمدينه استعمل الأصوات والأوزان الموسيقية، وأن خاصية التأثير في الموسيقى الذي ينفذ إلى أعماق القلوب يكون مفهومًا عند حد معلوم، فتكون الموسيقى بناء على مبدأ الارتباط الوراثي تجدد عندنا بطريقة مبهمة غير واضحة الانفعالات الشديدة التي كانت في العصور الخالية.

إذن كل ذلك يقرب من الحقيقة الغرض القائل بأن مظاهر أصوات الحيوانات التي سبقتنا لم تكن لغطًا يبح الصوت، بل كانت نوعًا من التخاطب مرتبطة بعواطف حب الغير وطريقة فتانة خلابة للشعور، إننا لا ننكر أن استعمال هذه الطريقة كان ولم يزل نتيجة مقبولة، ولكن في الحقيقة أننا إذا لم نسلم بأن الإناث لا تحفل بهذه الوسيلة ولا تنقاد للافتتان بالذكور لوجب علينا أن نعترف بأن الأعضاء المتعددة التي يحرزها الذكر غالبًا ليُصغى إليه لا فائدة فيها مطلقًا، وهذا شيء مستحيل.

إن «داروين» يعترف بأن الذكور لا تترك وسيلة لمظاهر الزينة إلا استباحتها، فلا تقتصر على نشر ريشها المفوف المزدان بأبهى النقوش مثل الطير المسمى «باراديزييه» المعروف بطير الجنة والطاووس وغيره، بل يمنحها إلهام التناسل فنًّا فتغني.

يغرد العندليب بنغمات ملؤها الفن ليظفر بأليفته، ويعمد الطير المسمى «تيترا» — وهو نوع من الديوك البرية ضخم جدًّا يسكن غابات أوروبا — إلى إشارات أشبه «بالبانطوميم» مختلطة بغناء، إذ يقف على غصن واطئ، وينشر ريش عنقه الطويل، ويخفض جناحيه، وينكت الغصن برجليه، ويردد عينيه بشكل مضحك، ثم يصيح صياحًا حادًّا أصم الصوت متقطعًا بطيئًا، فيزيد شيئًا فشيئًا في القوة والتنويع والسرعة حتى تصبح أصواتًا تنبو عنها الأسماع وموسيقية في الوقت نفسه، ثم ينتهي بإقفال عينيه كثَمِل من الملذات.

فالحيوان الذي يظفر بأقرانه المنافسين يصبح مؤسسًا لخلف أرقى وأعظم؛ لأنه بانتصاره قد أعدم من الوجود أفرادًا دونه في المزايا والصفات، وحيث إن هذا الخلف خاضع لنفس هذا القتال والانتقاء، ثم يتحول بدوره شيئًا فشيئًا، وبمرور الزمن تنتج أنواع جديدة بهذه الوسيلة.

كم من معانٍ متضمنة في غناء الطير! إذ جميع أمانيه ومستقبله طي أغانيه وصوته، فإن حرم من ورود حياض الهناءة والتمتع بأليفة يسكن إليها فذلك راجع إلى حرمانه من موهبة حسن الصوت وإتقان الغناء! فالإنسان أتى متممًا لأعمال الحيوان الموسيقية وغيرها.

الألحان المشجية الفتانة التي جادت بها قرائح عظماء الموسيقيين ليست إلا إطالة في أحسن مظاهرها وتحقيقًا لخيال عمل شخصي مرتبط بأقوى العواطف وأرقها في الهيئة الاجتماعية، فيفنى الإنسان وتحيا بعده عواطفه ممثلة على صفحات الأوراق، وبهذه الصفة تُفسر أسرار الموسيقى وعواملها المؤثرة، فهي أسرار؛ لأنها مجردة اليوم من وظيفتها الأصلية، وأنها تمس أشياء اختارتها الزخارف ولغة خصصت من منشئها من قديم الأزل للحب، وأنها تؤثر في أعماق النفوس؛ لأنها تمس منا الإلهام الحيوي إلهام التكاثر والترقي، وتجدد فينا دون أن نشعر وبطريقة مبهمة خفية ارتباط الفكر بوراثة طويلة لا تحددها الأجيال.

إننا نستحسن من «داروين» فكرة اتحاد الحب والترقي وأنهما أمر واحد، فالفردان اللذان يبحثان عن بعضهما لا يكتفيان بالتكاثر واستمرار الحياة، بل يريدان أن يرقيا إلى ذروة الأماني والآمال، إذن لو وُجد الترقي في الحقيقة وأنه سنة وناموس لوجب أن يرتبط بأصل الخليقة ومبدأ أولي يرتب تطورات الكائنات، فنرجع إذن بالتعبير الموسيقي إلى دور عظيم فخم!

(١-٤) ملاحظات على فكرة «داروين»

إن كان يزعم «داروين» أنه أتانا بنظرية عامة تامة للموسيقى فإننا نعارضه بجملة اعتراضات، إذ يستحق أن يؤاخذ بأنه أفرط في تسهيل مسألة هي في الحقيقة عقدة العقد حتى عدها في غاية البساطة.

إننا نرد عليه بأن غناء الطير ليس في الحقيقة موسيقيًّا ودليله أن كتابة غنائه من أصعب الصعوبات، ولا ننكر أنه إذا اجتمعت طيور مختلفة وغنت مع بعضها في آنٍ واحد فإن أصواتها لا تَمُجُّها الآذان، ولكن الأصوات الإنسانية الصادرة في وقت واحد ولم ترتب باتفاق سابق تنبو عنها الآذان وتنفر منها، ويلزم الإنسان إذا كان يريد أن يميز لحنًا في مظاهر أصوات بعض الحيوانات أن يكون موسيقيًّا ماهرًا.

فلو سلمنا بالغرض الذي ينسب للغناء هذا التأثير، فلِمَ انحرف الانتقال الوراثي وغيَّر خطة سيره حتى أصبحنا نرى أن النساء أكثر استعدادًا للغناء من الرجال، وهن اللاتي تحل أصواتهن محل الإعجاب لدى الرجال.

ولكن «داروين» لشدة تبصره وحكمته نسي حقيقة طبائع الأشياء التي تكلم عنها إذ أراد أن يضم الموسيقى إلى التاريخ الطبيعي، فتكلم عنها بإهمال وإجمال في فقرة من بعض كتبه، إذ أراد أن يفسر تأثير التخاطب بالأصوات، فلذلك يظهر أن جميع أفكاره اتجهت إلى البحث في الموسيقى من الوجهة الاجتماعية.

إننا لا ننكر على الطير صناعة الغناء بعدما ذكرها الشعراء القدماء، وقد قال الشاعر اللاتيني القديم «لوكريس»: «إن الإنسان كان يقلد الطيور قبل أن يتعلم الكلام.»

إن لأهل «كامتشاتكا» — وهي شبه جزيرة في سيبريا الشرقية على نهر يهرنج — لحنًا يسمى «أناجيتش»، ومصدر اسمه وأصله راجع إلى اسم طير يُسمَّى «أناس جلاسيالس» يظهر أسرابًا أسرابًا في بلدهم في زمن معلوم.

وقد كتب الموسيقي الفرنسي أو البلجيكي «كليمان جانوكان» من القرن السادس عشر قطعة موسيقية وصفية سماها «صوت الطير»، وقلد «هايدن» قوقأة الدجاج في الرباعية العشرين من قطعه الموسيقية، كما عمل مثله «موزار» و«روسيني»، ولم يستنكف «بيتهوفن» أن يقلد صوت الطير المسمى «كوكو» في قطعته المسماة «السانفوني الخلوية».

إننا أثبتنا أمرًا أوليًّا اجتماعيًّا وهو التقليد المستعمل من نشأة الموسيقى، فهل نستطيع أن نضيف إلى ذلك أن هذا التقليد سببه وأساسه عاطفة لا تُغلب ولا تقاوم ألا وهي حب الغير؟ نعم، ولكنه بتغيير قليل ندخله في فكرة «داروين».
  • (١)

    لو كان الغناء وسيلة للظفر ويتسنى بها من هذه الوجهة ترقي الجنس لوجب أن توجد موافقة وتوازن بين ترقي الغناء وترتيب درجات الكائنات الحية، فلِمَ لا يكون القرد أمهر في الموسيقى من العندليب، ونشاهد أن مظاهر أصوات فصيلة البهائم ذات الأثداء ليست إلا لغطًا ينشأ من ظاهرتين بسيطتين وهما: الشهيق والزفير، فلا يكفي القرد أن يبعث صياحًا شديدًا ليقال إنه موسيقي.

  • (٢)

    ولو كانت لغة للحب انتقلت بالوراثة والتطور وأنشأت الموسيقى لوجب على الأمم الأولى أن تعترف باستمرار الارتقاء وكنا نعلم ذلك من صفات فنهم، ووجب أن توجد بينهم موسيقى تمليها العواطف والتعبير والرقة قريبة من الطبيعة وخاضعة مباشرة للوراثة، ولكنها ليست كما نظن ونفرض.

    وقد روى المسيو «جروس» مشاهدة عيان رآها البرنس «دوفييد»، إذ قال عن «البوتوكودو» وهي أمة من متوحشي أمريكا الجنوبية منتشرة في غابات البريزيل: «إن غناء الرجال أشبه بصياح غير مميز يهتز بين صوتين أو ثلاثة ويكون آونة مرتفعًا وأخرى عميقًا، ويتنفسون بقوة، ويضعون ذراعهم اليسرى على رأسهم، وأحيانًا يضعون أصابعهم في آذانهم لا سيما إذا كان عندهم ناس، ويفتحون فمهم إلى آخره الذي شوهه «البوتوك» — وهي قطعة مستديرة من الخشب يركبونها فوق شفتهم السفلى بعد ثقبها، وتعد عندهم من أعظم الحلي والزينة — ولا نظن أن شخصًا ما يرى عند هذه الأمة شيئًا يعجبه أو يفتنه من الفن!

    إن المتوحشين لا يعرفون غير التناسل، وقد قال المسيو «لوبوك»: «إن هنود أمريكا الشمالية الذين يتكلمون لغة «التينيه» لا توجد في لغتهم كلمة تعبر عن لفظ «عزيز أو محبوب»، كما أنه لا توجد في لغة «الألجونكان» — وهم من هنود أمريكا وقاطنون على مقربة من بحيرة ميشيجان — كلمة تفيد «الحب».»

    نعم، إن أغاني المتوحشين تدور عادة حول الصيد والحرب والنساء، ولكن يندر جدًّا أن يسند إليهم غناء الحب.

    ولا يوجد عند «الأوزاج» — هنود أواسط الولايات المتحدة — حتى عند «الشيروكيس» — وهي أمة من هنود الولايات المتحدة مشهورة بالذكاء حتى أصبحت اليوم في غاية من المدنية — تعبير واحد موسيقي أو شعري مبني على عاطفة حنو بين الجنسين، ولم تُسمع منهم أغانٍ للحب.»

    وكذلك لا يوجد لحن واحد للحب عند المتوحشين من «الأوستراليين» و«المينكوبيس» — وهي أمة من السود منتشرة في جزيرة أندمان بأرخبيل بنغال.

    وقال المسيو «رينك»: إن أمة «الإسكيمو» — الذين يسكنون حول القطب الشمالي — يكادون لا يعرفون عاطفة الحب.

  • (٣)

    إذا كان منشأ الموسيقى صادرًا من الإلهام التناسلي فلِمَ نرى أن من الوظائف الأولية التي لها السبق في الموسيقى عند جميع الأمم تنحصر في الدينية منها؟ من أين أتت الأغاني الحربية وهي مضادة للحب؟ كيف يتأتى أن «الأوستراليين» وكثير غيرهم يغنون في معظم الأحيان حينما يكونون منفردين.

    وحيث إن الإلهام التناسلي عام فلِمَ نشاهد أن بعض الأمم «كالألمان» أمهر في الموسيقى من أمم أخرى من عنصرهم وأقربائهم «كالإنكليز»؟

    يعتبر الألمان ملوكًا للموسيقى حيث أنتجوا فحولها مثل: باخ وهندل وبيتهوفن وفيبر وموزار وشومان وغيرهم.

يصعب علينا أن نقبل نظرية «داروين» كما هي على علاتها، فإن هذا المؤرخ الطبيعي العظيم يريد أن يوجد سلسلة مستمرة تربط موسيقى الأناسي المتمدينين بمظاهر الغريزة التناسلية عند الحيوانات الدنيئة، ولكن توجد كما رأينا عدة حلقات تنقص هذه السلسلة وتظهر باختيارنا ما سبق عن الأمم المتوحشة، وبتغيير خفيف لا يزيد عن تأخير حد يكفي لأن يصير هذا المذهب مقبولًا.

ومبلغ القول أن «داروين» لا يبتعد كثيرًا عن علماء ما وراء المادة الألمانيين الذين يسندون إلى الموسيقى امتياز التعبير الأساسي عن أعماق نفوسنا، وما أساس كياننا غير الحياة والرغبة في إطالتها وتخليدها وإبلاغها إلى منتهى الكمال والسعادة.

تكلم المسيو «كلوديوس مادورول» في كتابه «سياحة في غينا» عن الزنوج وشدة شغفهم بالملذات والشهوات التي يؤسسون عليها موسيقاهم ورقصهم، فقال:

لا تلبث الشمس أن تغيب عن العيون إلا وترى أفريقية بأجمعها قد تحولت إلى أعياد تنطلق في أرجائها أصوات الطبول.

وهذا أشبه بالحفلات الموسيقية ذات الأوزان الغريبة التي تصدع الرءوس، وتنبعث في المساء عقب قيظ شديد من أنعام مختلفة سائمة في الحقول، وهذه الموسيقى الفخمة الوحشية لها معنى عظيم؛ إذ بالإصغاء إليها يفهم الإنسان شيئًا من روح الطبيعة.

حينما يخيم الظلام ترى الناس غير قادرين على مغالبة رغبتهم في منح الحياة أبهى مظاهرها وإعادتها في أشكال جديدة أعظم وأجمل من سابقها، وما هذه الرغبة إلا الحب؛ إذ منه ينبعث هذا الصوت الفخم الجهوري الرنان صوت الكائنات الحية التي تريد الرقي وتدعوه.

موسيقانا أشبه بموسيقى الزنوج ولا مُشاحَّة في أنها أعظم رقيًّا وتهذيبًا، ولكنها تعبر بصيغ واضحة جلية عن ملذاتنا المتأصلة في أعماق نفوسنا، إنها تجمع وتطهر وترفع دعوة الجنسين لبعضهما، فتراهم في ليالي الصيف منتشرين في الخلوات كنسيج من الفتن والملذات، فيجد الحب بينهم مقامًا أرفع منه في الشعر الخيالي.

وعلى هذا النمط سار نوابغ الموسيقيين؛ إذ كانوا مولعين بالحب، ومعظم تأثرات وانفعالات السامعين كانت من أصداء عواطفهم الأخيرة.

(١-٥) الموسيقى والسحر

السحر هو مجموع تمرينات يعتقد الإنسان أنه بواسطتها يجعل الطبيعة والأرواح التي تعمرها خاضعة لإرادته، يعترف الدين والسحر بالأرواح، ولكن علاقة الإنسان بالأرواح ليست واحدة في الدين والسحر؛ ففي الدين يبتهل الإنسان إلى رب قادر ويسأله بخشوع وتوسل عنايته الربانية ورحمته التي وسعت كل شيء، ولكنها تختلف في السحر؛ لأن الساحر لا يضرع ولا يرجو بل يأمر وينهى، إذن فالأعمال الدينية تستقي نفوذها الفعال من العواطف والنيات وهما شعار الدين، وفي السحر يعمل الساحر حسب مقتضيات قوانين مخصوصة دون أن تكون لعواطفه ونياته تأثير في أعماله، وهذه القوانين لا يستطيع الإنسان أن يقاومها أو يبطل مفعولها إلا إذا كان ساحرًا.

وقد وصف الشاعر اليوناني القديم «أوريبيد» في إحدى رواياته المحزنة الفن الذي يجعل الآلهة تتكلم رغمًا عنها بواسطة عزائم معينة، وهو عبارة عن السحر في الأزمان التي وجدت فيها الآلهة الميتولوجية، وهذا الفن كان يقهر هذه الآلهة حينما يكون مضادًّا لإرادتهم الدينية.

نرى أن كُتَّاب النصرانية يميزون بين المعجزات الحقيقية التي تحدث بفضل الدين وبين مثيلاتها التي تُنال بالتعزيم، ولو أنهم يحرِّمون الأخيرة لكنهم يعتقدون بجواز حصولها.

وللسحر مذهبان: أحدهما يدوي يتركب من أشكال هندسية وصور وإحراق أشياء مختلفة كالبخور وغيره، والثاني شفهي.

يستدعي المذهب اليدوي الصناعة، فهو إذن متأخر عن الشفهي؛ لأن الصوت آلة جعلتها الطبيعية طوع الإنسان، ولا يستلزم استخدامها شيئًا سوى الغريزة، وهذا مما يثبت أن المذهب الشفهي أقدم من اليدوي.

ابتدءُوا في السحر الشفهي بالغناء ومرت صيغه بوجوه التطورات الآتية: لحنوها ثم رووها ثم كتبوها وحملوها في بعض الأحوال كالتمائم.

وقد اعتبر الصوت أشد تأثيرًا ونفوذًا من أشربة العشق حتى في الزمن الذي انتشر وتقدم فيه السحر اليدوي، وقد عرف الناس واشتهر بينهم أن المذهب اليدوي كان دائمًا في حاجة للاستعانة بالصيغ الشفهية.

الغناء السحري

يوصف الغناء السحري عند القدماء بالمسائل الآتية:
  • (١)

    نظامه الذاتي: فهو متقدم عن كل القوانين الموسيقية المنتظمة، وخاضع لقوانين عامة هامة في مادة السحر ألا وهي التقليد، والغناء السحري بعيد عن أن يطرق فن الجمال؛ لأنه لم يعمل للسماع، بل هو موجه لفرد واحد غير مرئي، يتأثر لأقل شيء من الأعمال السحرية، ويغني الساحر للروح وحده الذي يريد أن يهيمن عليه.

    لا نجد في الغناء السحري ما نسميه بالنظريات الموسيقية، ولكنه مزود بجميع ما يلزمه وينشئ كيانه من أصول فن السحر.

  • (٢)

    من وجهة ارتباطه بأقوال تكون عادة غير مفهومة لدينا ولا يفهمها المغنون أنفسهم.

  • (٣)

    عمله ودائرته التي تتناولها أبحاثه، وهو قديم في تاريخ المدنية الإنسانية، وله أهمية عظمى؛ لأنه كان أمرًا عامًّا يظهر في أغلب الأوقات في أدوار الحياة العملية.

  • (٤)

    من الوجهة الاجتماعية، نرى للغناء السحري ارتباطًا معينًا بالحياة الاجتماعية عند القدماء، والمثال الآتي يوضح لنا ذلك جليًّا.

    إن قبائل «أوماها» قوم من هنود الولايات المتحدة يسكنون مقاطعة نبراسكا، وكانوا في الزمن الغابر مشهورين بالصيد ولكنهم أصبحوا في حالة طيبة من المدنية، وتركوا عاداتهم وعقائدهم القديمة حتى صاروا الآن من أعظم العاملين في الزراعة، يكثر في بلادهم الجاموس، وصيد هذا الجنس خاضع لوقائع مختلفة ويمكث زمنًا طويلًا، وهو مرتب باستعمالات محدودة وإلزامية لكل فرد، وكل مخالفة تصدر منهم تدخل تحت طائلة العقاب الشديد، تخرج القبيلة من قريتها بقيادة رئيس يُنتخب في حفلة عظيمة، وهذا الرئيس في الوقت نفسه صياد ماهر وكاهن مغنٍّ وساحر عظيم، يحمل كل تبعة؛ إذ هو المنوط بإدارة حركة الصيد واختيار أعظم الأمكنة التي يعسكر فيها جنده، والتنبؤ بمكان الصيد وإحضار الطعام، ويجيب عن كل ما سيحصل من تقلبات الأيام وهجوم الأعداء والمشاجرات وغيرها.

(١-٦) المطر وصفاء الجو «الغناء السحري عند المكسيكيين»

تهطل في هذه البلاد الحارة ذات الشمس المحرقة الأمطار الغزيرة؛ لأن جبالها «سييرا مادرا الغربية» تبلغ ٢٠٦٩ مترًا فوق سطح الماء، والتبخر عندهم سريع، كما أن الأرض متخلخلة لا تحفظ الماء طويلًا؛ فلذلك تراهم مهددين بالجدب إذا أمسك عنهم الغيث في المدة المنحصرة بين شهري يونيه وأكتوبر.

غذاء هذه الأمة مترتب على نجاح زراعتها، فهم يفضلون ماء السماء على الذهب والفضة، يعتقدون أن المتصرف في المطر إله يكون تارة جوادًا وطورًا بخيلًا، ولا وسيلة لهم لقهر هذا الإله إلا بالغناء السحري.

انتشر في المكسيك في الجهات الممتدة بين حوض «لاكوستر» الذي توجد في وسطه «مكسيكو» وفي الوجهة الشرقية على مقربة من البحر، والقبلية بالقرب من برزخ «تهويانتيبيك» المذهب القائل بوجود آلهة المطر المسماة «تلالوك»؛ أي آلهة الظواهر الجوية الذين يجودون بالغيث، ويوجد في الحدود الشرقية قبيلة منهم تسمى «نونوالكاس» وهو اسم من أسماء آلهة المطر القدماء «نونوالكالت».

وقد عُثر على صورة تمثل «تلالوك» وهو قابض على صولجان من الخشب به السحب، وعلى صدره إناء يعتبر أنه يحوي المطر، وهو مصور باللون الأخضر وله أخت أو زوجة «تسمى الإزار الزمردي».

الاستغاثة بآلهة الأمطار بواسطة الغناء السحري متقدم على الضحايا الفاجعة التي كانت تُقترف عدة مرات في السنة؛ إذ كانوا يذبحون عددًا عظيمًا من الأطفال في جهات مختلفة على قمم الجبال تشريفًا لإله المطر ليمنحهم وابلًا مدرارًا، كان الذين تدور عليهم الدائرة ويخونهم الحظ المنكود من هؤلاء الأطفال الأبرياء يزينون بفاخر الثياب ويُحملون على الأكتاف في أسرة محلاة بأبهى الريش وأجمل الأزهار، يتقدمهم موكب عظيم جمع بين الغناء والرقص والعزف بالآلات الموسيقية.

ولقبائل «الزونيس» رقص عظيم للمطر يعتبرونه من أقدم عقائدهم وعاداتهم، وهو متدوال بين كافة طبقاتهم ومصحوب بغناء يحدث في حفلة شائقة تقام بكل اعتناء لنوال الأمطار، وهاك ترتيب القسم الموسيقي للحفلة:

تُضرم أولًا النيران على الصخور وذُرى الآكام المجاورة، ويستمر إشعالها إلى أن تُتقبل صلاتهم، ودليل ذلك نزول وابل هتان، وللمطر كاهن يخاطبه بخشب خاص يحدث عند إحراقه دخانًا كثيفًا يحلق في السماء كالسحب.

ثم يُرتل العزائم والأغاني السحرية الفتيان الشجعان والعذارى اللاتي يلبين دعوة الكهان وينشدن بحمية وحماسة، وهن لابسات حللًا بيضاء حاملات ألواحًا نُقشت عليها من جهة سحب مربدة، ومن الأخرى صورة البرق.

يستمر الرقص والغناء ليلًا ونهارًا بصبر لا يستطيع العقل تصوره، والجميع مرتسم على وجوههم الوثوق بنجاح أعمالهم، وتتركب الحفلة الموسيقية من الأقسام الآتية:
  • (١)

    طبول تؤذن برقص المطر.

  • (٢)

    يأمر كاهن المطر الفتيات بافتتاح الرقص (غناء).

  • (٣)

    يدعو الجميع المطر (لحن).

  • (٤)

    إشارة بالسكوت.

  • (٥)

    يضرب على صفائح رنانة تمثل صوت الرعد.

  • (٦)

    غناء العذارى للاستغاثة بإله المطر.

  • (٧)

    نشيد الحمد والثناء عقب سقوط المطر.

(١-٧) الاستسقاء عند الفراعنة

اشتهرت بلاد الفراعنة من غابر الأزمان بخصبها وتقدمها في الزراعة، وكان الملك مسئولًا عن فصول السنة، ويعتقدون أنه قادر على منح المطر ومنعه؛ لأنه كان في الوقت نفسه كاهنًا وُهب قوة الصوت ونفوذه السحري.

وأقدم دليل على ذلك نشيد النيل وهو أشبه بغناء سحري للاستسقاء، وقد لاحظ الناس الذين ابتدءوا بعمار هذا القطر عدة ظواهر للنيل، إذ يرون أمامهم نهرًا يجهلون منبعه ويظنون أنه يخرج من حفرتين لا يُعلم لهما قرار بين جزيرتي «الفيلة وإيليفانتين»، يتغير لون هذا النهر عدة مرات في السنة، فحينما تحترق الزروع من الرياح الحارة برمال الصحاري في شهر يونيه يكون لونه أزرق رائقًا، ووقتما يزيد ويحمل بقايا النباتات المتخلفة من مستنقعات بحر الغزال يخضر لونه، «ويعتقدون أن هذا الماء الأخضر هو عبرات المعبودة إيزيس تبكي قرينها»، ثم يستمر في الزيادة ويتلون ماؤه بالحمرة كأنه دم قانئ فيغمر الشواطئ، ويترك فيها قبل أن يبارحها مقدارًا عظيمًا من الطمي يخصبها ويجدد قواها.

تدل ترجمة المسيو «ماسبيرو» لنشيد النيل أن هذا النشيد مثال من النَّظم الشائق المختلط بالعزائم السحرية، ونذكر فقرته العاشرة لنقف على نموذج من أغانيهم:

الفقرة العاشرة لنشيد النيل: «يرتفع لأجلك نشيد الأعياد موقعًا على «الهارب» ومسندًا بالأيدي، يحبذك فتيانك وأطفالك، يعدون لك صفوف أولادهم الطويلة، أنت أفخم زينة للأرض، اجعل سفينتك تتقدم أمام أعين الناس، امنح الحبالى قوة عظيمة، أحبب نمو قطعان أنعامك.»

(١-٨) الأغاني السحرية والحب

كان للفتنة فن شهي يعد من العلوم القديمة، وهو مؤسس على أصول وقواعد واضحة قبل أن يصبح أمرًا متداولًا لأهواء زينة الحياة والابتداع الإنساني.

لم يكن هذا العلم مستعملًا لمحض الزينة، بل كان يرمي لغرض حقيقي، وهو على نوعين؛ أحدهما موسيقى، والثاني كلام موزون، ولكن هذا الشكل الأخير صادر من الأول، وما الشعر في الحقيقة إلا موسيقى يعوزها جزء من أصولها.

وقد ترجم المسيو «ماسبيرو» أغاني للحب وجدت في البردي المحفوظ في «تورينو» بإيطاليا و«هاريس» بإنجلترا، وهي أشبه بنشيد الإنشاد — باب في التوراة — والبعض منها أشبه بعزائم سحرية، والمثال الآتي يدلنا عل شكلها:

«أيها الحبيب الجميل! مناي أن أهيمن على محاسنك وشيمك بما لي من نفوذ الحليلة بأن نتريض سويًّا كما تريد وتهوى وأنت ممسك بذراعي، لأذكر وقتئذ توسلاتي لفؤادي الذي أصبح مندمجًا في أحشائك، إن غاب عني حبيبي طول ليلي ولم يأتِ أكون بمثابة من ووريت في لحدها! ألم تكن أنت الصحة والحياة؟ أنت الذي تنعش بالصحة والمسرات فؤادي الذي ينشدك؟» — كثيرًا ما يصادف المسيو ماسبيرو عقبات في الترجمة ككلمات باللسان الهيراطيقي المكتوب بعضه بأحرف يونانية قديمة أو محو في الكتابة أو تمزيق في البردي يذهب ببعض الكلمات، وغير ذلك، مما يجعل الترجمة في بعض الأحيان غامضة.

(١-٩) أغاني الحب عند هنود أمريكا

يشعر هنود أمريكا المتوحشون بنفس عواطف المتمدينين، فيعبرون عنها تعبيرًا ناقصًا لكنه مناسب قليلًا، وإنا ذاكرون بعضًا منها لقبائل «أوماها».

يقتصر الهندي على مقابلة أقارب أمه وأبيه ونفر قليل غيرهم، وحيث إن زواج أقارب الأبوين محرم عندهم فالبنت لا يسعدها الحظ بالعثور على زوج ممن حولها، فيلزم إذن أن ترتبط علاقات الحب سرًّا بطرق غريبة خارجة عن دائرة الأسرة.

وحينما يصادف الشاب الفتاة وهي ذاهبة لطلب الماء يراقب رجوعها ليعرف خيمتها، ويتربص في مكان غير بعيد ليتسنى للفتاة أن تسمع غناءه ليلفتها إليه ويحوز إعجابها.

تسمع الفتاة الصوت دون أن ترى المغني، وتجهد نفسها في معرفة صاحبه وتقول: «من المغني؟» وهذا السؤال هو نتيجة اللحن وفائدته، يعقب ذلك مناجاة الحبيبين مدة ليست بالقصيرة، وينتهي الأمر باختطاف أو زواج أو مغازلة طويلة.

وتدل بعض أغانيهم على شكوى الفتاة من بُعد حبيبها الذي لا تفكر إلا فيه وتود أن يكون قريبًا منها.

والغناء الآتي الصادر من هندي أميركي إلى حبيبته يدل على النفوذ السحري للصوت متحدًا مع تأثير سحري لشيء مادي:

«اصغي إلى صوت مزماري يا عين الحمامة (اسم الفتاة)، اصغي إلى ألحاني فهذا صوتي، لا تدعي للاحمرار إليك سبيلًا فإني عالم بأفكارك، إنني أحمل مجني السحري فلا تستطيعين الفرار، إنني أجذب فؤادك إليَّ ولو كنت في جزيرة بعيدة عما وراء البحيرات العظيمة … لا تهربي مني فأذهب في طلبك ولو إلى السحاب، معالجتي عظيمة وهي طوع بناني، إذ بها أجذب النماء سواء أكان في الأرض أو في السماء، الروح الأعظم خاضع لأمري يا خطيبتي.»

(١-١٠) لِمَ وجدت العزائم السحرية للحب؟

نريد أن نبين بعض مسائل عامة تساعدنا على فهم استعمال آخر للعزائم السحرية في أعمال العواطف.

اعتاد القدماء أن يعتقدوا أن جميع الظاهرات والحوادث مهما كان نوعها من أعمال أرواح خفية، والحب معدود أيضًا ضمن دائرة نفوذ هذه الأرواح، وكان الذين يصبحون هدفًا لسهام الحب يشعرون بتأثر قوي أو عنيف يداهمهم على حين غفلة ويُغيِّر حالتهم الخلقية، فالإنسان الذي يحس لأول وهلة بهذا التحول المبهم الذي يحدث له اضطرابًا ويعكر صفوه يظن نفسه مملوكًا لغيره، وأنه أصبح تحت مشيئة روح استحوذ عليه.

كانت العواطف التي يشعر بها هؤلاء المحبون شديدة معروفة بين الناس، وقد بلغ منهم أن صوروا هذه الأرواح وجعلوا منها آلهة شديدي الحَوْل والقوة يُخشى جانبهم، وأنشئوا لهم القصص الخرافية، وجعلوا لها مكانًا رفيعًا في «الميتولوجيا».

كانوا يعدون الحب قوة لا تغالب تسيطر على الإنسان وجميع الكائنات الحية، سواء أكانت في البر أو في البحر فتقربها وتجمع بينها، وقد فخم الفلاسفة والشعراء الأقدمون الحب وأظهروا قوته التي لا تقهر مثل: أفلاطون و«أوريبيد».

قد علمنا أن العزائم السحرية لها نفوذ عظيم على القوى غير المرئية المختفية حول الإنسان والمستترة في الظاهرات الطبيعية، وحيث يوجد روح للحب صار بعدُ إلهًا، فللعزائم والصلوات المرتلة والشعر المعبر عن العواطف دور مهم في علاقات الإنسان مع هذا الروح أو الإله القوي.

وقد عد القدماء الحب المبرح من الآلام وحينما تكون العواطف شديدة غير منتظمة ولا خاضعة لمراقبة العقل أو الضمير يحدث في الحياة الباطنة اضطراب أشبه بعواصف الحياة الظاهرة، وينتج عوارض مرضية تختص دراستها بالأطباء؛ كاضطراب التنفس والدورة الدموية، واختلال نظام الأعضاء.

وكان عندهم عزائم خاصة بشفاء الأمراض وتسكين غضب أرواح الحب، وأعظم دليل لإثبات ما ذكرناه فقرتان من صفوة ما تركه لنا الأقدمون من رائع البلاغة وساحر البيان؛ ألا وهي رواية «إيبوليت» التي رفعت شأن مؤلفها الشاعر اليوناني القديم «أوريبيد».

نشيد: فنيت «فيدر» على فراش الآلام، واعتكفت في قصرها مختمرة بخمار شفوف يستر منها رأسًا ازدان بشعرها العسجدي، مر عليها ثلاثة أيام لم تذق فيها طعامًا، أصيبت بألم خفي فأرادت أن تجعل لحظِّها المنكود حدًّا.

أيتها المرأة الرافلة في برد شبابها! إن أحد الآلهة يطاردك وربما كان «بان أو هيكات أو كوربيانت أو سيبيل» الضال في الجبال وهو غائب الرشد.

ليت شعري هل أصابك ما أصابك من جراء إهانتك لأرطميس «إلهة الصيد»، أو خطأ ارتكبته في إتمام شعائر القربان؟ إنها تطوف بأطراف الأرض وتخوض البحار فلا يفلت أحد من ملكها.

نشيد آخر: أمور يا إله الحب! أنت الذي يسكب من عينيه سم الرغائب والملذات في القلوب التي تطاردها، لا تكن لي معاديًا ولا تجعلني هدفًا لسهام غضبك، ليست النيران الملتهمة ولا الحراب التي ترميها الكواكب بأشد هولًا وإزعاجًا من حراب الزهرة «ربة الحب» التي تقذفها أيدي «أمور» ابن «جوبيتير».

عبثًا يضحي اليونان مئات الثيران «لجوبيتير» على شواطئ «الفيه» و«لابلون» في محارب دلف.

إن كنا نهمل عبادة «أمور» الظالم الغشوم حارس ملذات «الزهرة» والمتسبب في فناء من كتب عليهم الموت فليهوِ بهم حينما ينقض عليهم إلى دركات المصائب والإحن.

(٢) الأغاني السحرية والطب

(٢-١) مداواة لدغ الثعابين بواسطتها

إن أقدم أثر يعتمد عليه تاريخ الموسيقى هو الكتابات المنقوشة على هرم مصري بسقارة أُنشئ قبل الميلاد بآلاف من السنين.

يحتوي هذا الهرم على رمس الملك «أوناس» آخر ملوك الأسرة الخامسة، وقد اكتشفه المسيو «ماسبيرو» في شهر فبراير سنة ١٨٨١.

إن الغرفة المودع بها تابوت هذا الملك مغطاة حيطانها بصيغ معظمها سحرية والبعض منها دينية، بفضلها يكون الميت آمنًا مطمئنًا، ويستطيع أن يتم ما قُدِّر له من الحياة الجديدة.

يرى المتأمل في هذه الكتابات أنها بليغة وأسلوبها أشبه بالقصائد، ولكنها لم تعمل للسماع ولا للجمهور، بل هي مركبة من صيغ تعمل وحدها من نفسها بما لها من الخواص والتأثيرات.

لننظر في قطعة من هذه الصيغ دون أن نشتغل بالآثار الموسيقية التي يتسنى لنا استنباطها منها، وهي تدل على ما يتمنونه وينتظرونه للملك «أوناس» ومضمونها أنه لم يمت، إذ يقرأ منها هذه الجملة: أيها الملك أوناس! يد شخصك الثاني أمامك، يد شخصك الثاني خلفك، رِجل شخصك الثاني أمامك، رجل شخصك الثاني خلفك … إنك موجود، صولجانك «آب» بيدك، إنك تصدر أوامرك للأحياء، ومن تواروا في مساكنهم الخفية … إنك تطهر بماء الكواكب الزلال ثم تنزل على حبال من حديد … تحبذك الأرواح النورانية … إلخ. ثم يمر ذكر عدة آلهة ويقول لكل منهم: إذا كان وجودك حقًّا ليس بوهمٍ فكذلك وجود «أوناس» أمر حقيقي، إذا كان ابنك «هور» حيًّا «فأوناس» مثله … إلخ. تفتح أبواب الأفق وتهشم مزاليجها، ها هو مقبل نحوك يا «نيت» قد أمك يا «نوازيريت» … إلخ.

تجد من مميزات هذه العزائم أنها أشبه بدفاع للموت والفناء تلبسه روح بليغة من الشعر، ولكنها في الحقيقة مخالفة للشعر من بعض الوجوه؛ لأنها لم تعمل لتلفت إليها أحدًا حتى الميت نفسه، إذ تخاطب بها بعض الأحيان الآلهة وهي مختفية طي حصن حصين، ولا قيمة لها إلا أنها ظاهرة يعتبر مفعولها غير خاضع لأي إرادة إنسانية، وهذا هو خاصية السحر.

وقد بين المسيو «ماسبيرو» أن هذه الكتابات مركبة من آيات، وكل جملة منها تشمل الأنواع الآتية: (١) دعاء. (٢) صيغة تسد مسد عمل حقيقي. (٣) تتمة لهذه الصيغة.

لم يقتصر الملك (أوناس) بعد موته على أن أصبح متمتعًا بحياة جديدة بل صار إلهًا، ولذلك وجب أن يُزود وتقدم له الهدايا، والكتابة تدل دلالة صريحة على كيفية تقديم الهدايا من فطير ولبن وزبد وجعة سوداء مصحوبة بالعزائم التي كانت تعمل معها، وكذلك العطور والبخور الذي يحرق عند الحاجة مع بيان الإشارات التي كانت تعمل وقتئذ.

وأهم ملاحظة تلفت النظر في غرفة الملك «أوناس» هي السطور المنقوشة فوق تابوته، وهي حاوية لصيغ سحرية تصلح لوقاية الميت من لدغ الثعابين التي تعترضه في رحلته إلى الإله «أوزيريس» حامي الموتى.

يعتقد قدماء المصريين أن الحياة الآخرة أشبه بالحياة الدنيا معمورة بنفس حيواناتها وهوامها، فيستعملون للموتى ذات الصيغ التي كانوا يستعملونها لوقاية أحيائهم من لدغ الثعابين وينقشونها فوق توابيتهم.

(٢-٢) الأمراض عند العائشين على الفطرة

زار سائح في أوائل القرن التاسع عشر جزائر المحيط الأعظم فقال عنهم: «إنهم يعتقدون أن الموت هو الذي يحصل من إصابة تسبب الوفاة كموت الحروب.»

ليست الفكرة القائلة بأن الموت من قوانين الحياة معروفة عند القدماء؛ لأن الإنسان حسب عقيدتهم لو مزقته الضواري إربًا إربًا أو اخترقت جسمه السهام فلا يكون ذلك شيئًا غريبًا أو خفيًّا؛ لأن سببه ظاهر للعيان، ولكنهم يعدون الموت من العلل والآفات أمرًا من خوارق العادات ويعزونه إلى الأرواح الشريرة، فإن شكا أحد من صداع أو مرض في الأمعاء أو غيره قالوا: قد لبسه جني، فمداواة هؤلاء المرضى ليست إلا طرد هذه الأرواح المتسلطة عليهم.

يبدءُون بمداواة مرضاهم بالعزائم السحرية ثم يصحبونها بالعمليات الجراحية والمعالجات الطبية الأولية، وهم معتقدون أن الفضل في تأثيرها راجع إلى الأغاني السحرية.

حينما يُدعى الكاهن الوثني في الكونغو لطرد روح خبيث استحوذ على زنجي يقيم للمريض حفلة غناء ورقص أمام كوخه، وتمكث يومين فيهرع إليها الناس من كل فَجٍّ عميق ليشاهدوا الساحر الذي يسمونه بلغتهم «ماكنجا»، يعزف العازفون بآلاتهم الموسيقية ويغني الحاضرون أناشيد تصحب الموسيقى ولا يترنم الساحر إلا بمطلع النشيد، ويستمر كل دور نحو ساعتين فلا ينتهي إلا حينما تنفد قوى الراقص الذي يمثل في رقصه الحروب، فتراه محمر العينين كأنه ثَمِل من شدة الوغى، بيده رمح يمثل به هجوم ودفاع خصمين، وينتهي الأمر بأن يتخيل أنه ظفر بعدوه فينشد أناشيد النصر، وتكون الموسيقى وقت هذه الحرب التمثيلية بطيئة أو سريعة على نغمة واحدة أو متنوعة، وذلك وفق حركات الراقص الممثل.

والطريقة المتبعة لغاية يومنا هذا عند الإسكيمو هي المعالجة بالعزائم السحرية.

(٢-٣) الأغاني السحرية والطب عند الهنود

أنشأ أحد الهنود الرحالين المسمَّى «هوفمان» رحلة يدور بحثه فيها على غرائب قبيلة «أوجيباوا» وهي من أشهر القبائل الهندية المنتشرة بين مقاطعتي «أونتاريووريد ريفيراوف ذي نورث»، وقد صور صورة تمثل رجلًا من الذين يعالجون بواسطة الأعشاب، متربعًا في كوخه يجهز خليطًا من الأعشاب يحركه بيمناه في مرجل واليسرى ممسكة شيئًا أشبه باللعبة التي تحدث صوتًا من لسانها المعترض أمام أسنان ترسها.

يغني هذا الرجل وهو يحضر دواءه معتقدًا أن الغناء يصير طعم هذه العقاقير رديئًا فيستبشعه الشيطان المستحوذ على المريض.

بين هؤلاء الهنود جماعة تسمى «مديووبن» — ولعلها محرفة من كلمة مداوين جمع مداوٍ — ويسميهم السياح «الجماعة الكبرى الطبية»، تتركب هذه الفئة من «الشامنس» وهم في الوقت نفسه أطباء يعالجون بالسحر وكهنة وعرافون وأنبياء وأساتذة للموسيقى.

وهذه الجماعة مجهولة الأصل وهي في حماية الآلهة ورعايتهم، ولا تعهد الأسرار للمريد الحديث إلا شيئًا فشيئًا.

ليس الهندي المعدود عندهم كفؤًا لشفاء المريض قاصرًا على مهنة المعالجة بالأعشاب؛ بل هو مغنٍّ ذو صوت حائز لنفوذ عظيم، أقر بأذنيه تابع لموسيقاه، بل يستخرج خواصه الفعالة من الموسيقى.

وحينما يتعلم التلميذ الجديد التعاليم الأولية يلقنه أستاذه بعض أغانٍ وأناشيد تكون لتجارته أول مورد للارتزاق، وهذه الأغاني مؤثرة لحد معلوم، ولا يقتصر التلميذ على بعض أغانٍ محفوظة بل يتدرب على إنشاء أناشيده الخاصة.

وقد ذكرت ميس «فليتشر» في أبحاثها في موسيقى قبيلة «أوماها» الأغاني الطبية، وجعلت لها قسمًا خاصًّا فقالت: «الأغاني الخاصة بمعرفة استعمال بعض الجذور أو الأعشاب الطبية تنشد عند البحث عنها وجمعها وتحضيرها، ويباح لجميع الناس سمعها ولكن لا يستطيع أحد أن يستعملها غير صاحبها؛ لأنها ملك وحق خاص يحترمه الكبار والصغار، وهو بمثابة الصيادلة في عصرنا هذا كل منهم يملك مخترعاته ولا يجوز لغيرهم تقليدها.

(٢-٤) تأثير الموسيقى في الحيوان

للموسيقى تأثير عظيم في الحيوان، فتراها تارة تشجعه كالإبل إن أعياها السير من التعب أو القيظ أو الجوع حداها السائق بشجي الحداء فتطرب وتنسى النصب وتداوم سيرها بنشاط وحمية، والحداء أمر معروف بين العرب لا يخلو منه قول شاعر.

ونشاهد أن بعض الحيوانات كالخيل والحمير والإبل تكون بعض الأحيان مستنفرة غير مطمئنة حينما ترد الماء، فلا يهدأ روعها وتطمئن حتى يُصفِّر لها راعيها فتشرب وهي آمنة.

وأغرب من هذا وذاك تأثير الموسيقى في الثعابين والأفاعي، هذه الهوام الخبيثة التي جُبِلت على الشر والأذى، والمثال الآتي يرينا أن للموسيقى وحدها دون أن تستعين بالسحر نفوذًا عظيمًا على هذه الهوام، نرى الهندي يعزف بألحان خاصة فتهرع إليه الثعابين من جحورها وتقف بين يديه ذليلة صاغرة وديعة متجردة من ميولها الخبيثة، فيأخذها الطرب وتلعب وترقص على نغمة مزماره.

روى الرحالة «روسليه» ما شاهده في الهند من استحضار الثعابين وترقصيها فقال: حينما كنا في الهند دعانا اثنان من السحرة المشتغلين باستخراج الثعابين والاتِّجار بها، وقدما لنا بعضًا منها ومن أندرها نوع يسمى «جولابي» أو ثعبان الورد؛ لأن ثوبه منقوش باللون المَرْجاني، ونوعًا آخر يشبه رأسه ذَنَبه حتى يصعب التمييز بينهما، رددت ناظري في الثعابين فلم أجد بينهما النوع المسمى «كوبرا كابللو» فقلت لهما: «ما الفائدة من جميع هذه الأنواع إذا لم يكن فيها «الكوبرا» الذي نريده؟» فأجابا: «إن هذا النوع نجده بسهولة، بل نستطيع أن نعثر عليه في فناء داركم.»

أخذني العجب ولم أصدق أنهما يعثران عليه في وقت قصير، فقام أحدهما وتجرد من ثيابه ولم يترك إلا سرواله وأخذ المزمار المعروف عندهم باسم «تومريل» وهو خاص بالثعابين ودعاني لاقتفائه، فذهبنا خلف البيت إلى خلاء مغطى بالحجارة والعوسج، وأخذ يعزف بمزماره فينبعث منه أصوات حادة يتخللها تنويعات في الصوت ألطف من التي ابتدأ بها، وما هي إلا هنيهة حتى أشار إليَّ أن أنظر إلى نقطة عينها فرأيت ثعبانًا مطلًّا برأسه من جحره أسفل حجر، فرمى الرجل مزماره وانقض عليه كالبرق وقذف به في الهواء ثم أمسك بذنبه حينما وقع على الأرض، وبعد فحصه وجده حية غير سامة فعاد إلى عزفه، وما هي إلا لحظة كلمح البصر حتى شاهدنا ثعبانًا يثب في الهواء ثم وقع على الأرض فهجم عليه الرجل وأمسك به فإذا هو من النوع الذي أنشده أسود هائل يربو طوله على متر، طفق الثعبان يختبط ويحاول الإفلات، فأسرع الرجل وأمسك به من خلف رأسه وفتح فمه وأرانا أنيابًا حدادًا يقطر منها الموت الزؤام؛ فتحققنا صدق عمله؛ لأن معظم هذه الفئة يستخدمون الثعابين بعد تجريدها من أنيابها، وعندما يكلفهم أحد باستخراج ثعبان يطلق أحدها خفية ويوهم الناس أنه استخرجه من المكان المرغوب، ثم أخذ الرجل يخلع أنياب الثعبان ليمنعه من الأذى، وقد فاجأه أثناء عمله بلدغة في إصبعه فسال الدم منه وأسرع يمتصه بفمه بقوة ثم وضع عليه حجرًا صغير أسود مخرمًا، وقدمه لي أخيرًا قائلًا: إنه دواء ناجع للدغ «الكوبرا» فاشتريته منه، وبعد تحليله وجدته قطعة من العظم مكلسة رقيقة الأنسجة.

وبعد هذا الصيد أنشأ الهنديان يريانا من أنواع ألعاب الثعابين ما أدهشنا، فنفحناهما برنيتين بعدما قضينا أكثر من ساعتين في الصيد والألعاب، فكان هذا العطاء الحقير أجرًا عظيمًا لهما وخرجا لاهجين بالشكر والثناء.

(٢-٥) الموسيقى والتربية

إذا كان الغناء كفؤًا للتسلط على الجن وتسكين غضبها وطرد الشياطين والتنبؤ بالمصائب أو منعها، فيكون من باب أولى أهلًا لأن يؤثر في قلوب الناس ويهيمن نفوذه النافع على عقول الأمة أو شبانها، ومبلغ القول أنه يكون خير وسيلة يستعملها الحاكم أو المهذب للتربية.

وقد قال الكتاب القدماء: إن العادة التي كانت متبعة عند الفرس أن يُعهد بالأمراء وهم في الرابعة عشرة إلى أساتذة أكفاء، ويختص بكل واحد منهم ثلاثة مهذبين ممن كملت أخلاقهم وآدابهم، ويكون أحدهم قاصرًا على تعليم سحر «زورواستر»، فهل كان هذا السحر موسيقيًّا؟ إننا لا نستطيع أن نجيب على هذا السؤال بالضبط، ولكننا نقدر أن نصل بالاستدلال إلى ما يقربنا من الحقيقة.

وقد روى المؤرخ الصيني الشهير «سيماتسبين»: «أن ملوك الصين الأقدمين حينما سنوا قوانينهم الخاصة بالسحر والموسيقى لم يقصدوا منها تشنيف الأسماع ومسرة العيون، بل أرادوا أن يعلموا الشعب أن يكون عادلًا في حبه وبغضه وأن يهدوه إلى الصراط المستقيم، ولما رتبوا الموسيقى جعلوا ضمن مبادئها تلطيف الأخلاق الإنسانية.» فمن الموسيقى ما يريح النفوس، ومنها ما يحثها على الخير، وترى في الحفلات الموسيقية سواء أكانت عامة أو خاصة أن الموسيقى تحدث في القلوب احترامًا وطاعة وحبًّا؛ إذ تُصير الناس طائعين لشجي الألحان والأنغام.

تجد في الكتاب الصيني القديم المسمى «يوكي» ترجمة المسيو «شافان» العبارة الآتية:

ولما كانت الموسيقى تؤثر في أعماق النفوس، وتُحدث تغيرًا في الطباع، وتحولًا في العادات؛ فلذلك اتخذها الملوك الأقدمون وسيلة للتربية.

وقد رأى جميع المفكرين حتى من عهد فيثاغورس أن الموسيقى من أنجع الطرق للتربية، وقال أفلاطون: «إن أعظم فن مهذب هو الذي ينفذ إلى النفوس بواسطة الأنغام فيهيئها للفضيلة، وقد أُطلق عليه اسم الموسيقى.» وقال أيضًا: «جميع حياتنا محتاجة إلى النظام والانسجام.» ومن هذا نعلم التأثير الطيب النافع للموسيقى، وقال «أريستوكسين» الفيلسوف والموسيقي اليوناني القديم: «لقد أصاب قدماء اليونان في كونهم أعاروا كل اهتمامهم للتهذيب بالموسيقى؛ لأنهم استحسنوا أن يهذبوا نفوس الأطفال بواسطة الموسيقى لتنقاد إلى الجمال والشرف.»

إن هذه الفكر لا تستغرب؛ لأنها نتيجة طبيعية معقولة للاعتقاد بأن الموسيقى قوة فتانة ساحرة، وإذا كان الغناء يؤثر في آلهتهم فكيف لا يؤثر في نفوس الأطفال؟

يسمح لنا السحر أن نفسر مسألة غريبة تمس ما كانوا يسمونه في مادة التربية التهذيب الراقي، وفيه الكفاية لإقناعنا بأننا نكون مخطئين إن ظننا أن الفن كان في منشأ أمره من دواعي الزينة.

يدهش كل من كان مولعًا بالموسيقى مداومًا على سماعها حينما يعلم أنها كانت معدودة ضمن العلوم الأربعة العالية عند القدماء، وهي: الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، فماذا كان يعمل هذا الفن الرقيق الذي مُلئ بالمحاسن والحرية وسط هذه العلوم؟ يخيل إلى العصري أن هذا التوفيق به تناقض وتنافر عظيم.

ما كان الساحر القديم الفطري ليعمل في أركان بيته بل كان يعمل في الخلاء أمام الطبيعة، ويستعين بالعالم المادي وجميع الكائنات الحية والكواكب، فكان في الوقت نفسه طبيعيًّا كيماويًّا فلكيًّا.

أختم الآن بهذا الباب حلقة أبحاثي مؤقتًا وربما عدت إليها فيما بعد إن صادفت أبحاثًا جديدة يكتشفها أحد العلماء الغربيين المعاصرين، ولدي الآن شيء كبير مما يتعلق بالموسيقى من الوجهة الفلسفية ولكنه مشحون بالمواد الفنية مما يجعله غير مفهوم بالمرة إلا لمن له إلمام بفن الموسيقى الغربية، ويسمع شيئًا كثيرًا من مختلف المؤلفات القديمة والحديثة ليفهم ما يسرد منها للاستشهاد، وقد توخيت في عملي أن لا أنشر إلا الأبواب التي لا يشوبها شيء من المواد الفنية؛ لتكون سهلة التناول والإدراك لكل قارئ، سواء كان مشتغلًا بالفن أو غير مشتغل به لتكون الفائدة أجزل وأعم.

(٣) الشرف

لو أنعمنا النظر في جميع مكارم الأخلاق لوجدنا الشرف أفضلها بل جِماعها، ولا نكون مغالين إن قلنا: إنه هو السبيل الوحيد لسعادة الدارين، فلو كنا جميعًا شرفاء بالمعنى الصحيح لأصبحنا في مصاف الملائكة الأبرار، نرتع في جنة أرضية لا نعرف للشقاء معنى ولا للشرور لفظًا.

الشرف هو شعور تحدثه عزة النفس والرغبة في اعتبار الغير، وهو الذي يحرضنا على القيام بأشرف الأعمال وأصدقها.

وللشرف ثلاثة فروض؛ يقضي الأول منها بحفظ كرامة المرء وعزة نفسه، والثاني بأن يحب للغير ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لها، والثالث بطاعة الخالق وأداء فروض العبودية.

وقصارى القول أننا لو بحثنا في معجم الشرف لوجدنا أنه هو والعدل والخير والمروءة والكرم والإخلاص والتقوى مترادفات.

وإن وجدت تلك الشروط جمعاء في فلاح حافي القدمين مرتدٍ جلبابًا أزرق فهو أشرف ممن جمع الأموال والألقاب وتجرد من معنى الشرف، ولعمري إن من يحتقر الأول ويحترم الثاني لأحط من الحيوان الضار.

لم يحرم الله علينا السعي وراء المنافع والملذات، ولكن هناك غرض أرقى وهو الخير أو العدل أو الشرف.

خُلق الإنسان من نفس وجسم، فالأولى عالية رفيعة، والثاني سافل منحط.

وللجسم عوامل محرضة على التدهور إلى مصاف العجماوات كالحواس والشهوات والإلهام، فإن لم تتغلب النفس على هذه العوامل كان الإنسان في عداد الأنعام وفقدَ كل معنى للشرف.

وقد عبر أفلاطون عن هذه الفكرة أحسن تعبير، إذ قال في «فيدر»:

«نفس الإنسان أشبه بجوادَيْن يجران عجلة حوذيها العقل؛ أحدهما من كرام الخيل والآخر نقيضه، وقد تجمعت فيه العيوب والنقائص؛ فترى الأول جميل المنظر متناسب الأعضاء مرتفع الرأس بعرنينه انحناء قليل، أبيض اللون أسود العينين، يحب المجد برزانة واعتدال، ويلبي نداء حوذيه وإشارته دون أن يُضرب.

والثاني غليظ الأعضاء معوجها كبير الرأس، قصير العنق أفطس الأنف، أسود اللون أخضر العينين مشربهما بالحمرة، ولا يميل لغير الإعجاب والنفور والهياج، أذناه مغطيتان بشعر كثيف لا تسمعان نداء السائق، ولا يطيع هذا الصعب إلا إذا ألهبه السوط ووخزته الإبر.

وهذا الجواد الرديء هو صورة للجزء الأول من النفس؛ أي أصل الإحساس والرغبة والخوف والغضب الأعمى والحب الدنيء السافل الذي يجرؤ على كل شيء ويفسد كل من صادفه.

والجواد الآخر هو الشجاعة؛ أي أصل الغضب الشريف والعواطف النبيلة والحب الطاهر والحماسة.

وأما السائق فهو العقل، وهو القوة المميزة التي نعرف بها من الأشياء ما كان حقًّا خالصًا دائمًا، وهو يصعد إلى الخالق نفسه؛ أي علة العلل.»

إن الإنسانية لأشبه بجمع عظيم من المجرمين، وكل من يُلقي نظرة إلى ما يظهر منهم يهلع فؤاده ويتقهقر من الفزع، إذ كلما عرف الإنسان الإنسان كلما كبرت الهاوية في عينيه ولا يشاهد المرء إلا منظرًا رهيبًا حيثما ردد طرفه؛ لأن الإنسان أينما سار يترك أثره، ويا له من أثر مزعج مرعب.

انقاد الإنسان لأمارته بالسوء، واستبشع الحلال وهو هنيء، واستمرأ الحرام وهو غاص قاتل، واستحل الشرور إرضاء لرغائبه وشهواته حتى أصبح كالنمر يلهو بسفك الدماء فيفترس ولو كان بشمًا، وباع شرفه وقدره واعتباره فأصبح ممقوتًا كالوحش الضاري.

إن الأنفة هي مدار الشرف فإن أعوزت الإنسان أعوزه الشرف مهما حاول، فلنبثها في عقول أطفالنا حتى تنمو معهم وتجري في عروقهم، ولنعدل فكرة الإرهاب أو الترغيب في الجزاء حينما يبلغون السادسة؛ فإنها عقيمة ضارة لا تُهذِّب النفوس ولا تُقوِّم الأخلاق.

(٤) أين السعادة؟

السعادة عقدة العقد وكبرى المعضلات التي ضل في تيهها الفلاسفة والحكماء والشعراء؛ فتشعبت فيها أفكارهم، وتضاربت آراؤهم.

لا تخشَ أيها القارئ أن أضايقك بسرد أقوال أفلاطون وأرسطو وغيرهما من فلاسفة اليونان الأقدمين وشرحها وتحليلها، أو البحث في آراء المتأخرين من حكماء الغربيين.

دعنا من الفلسفة ونظرياتها والمنطق وقضاياه واصبر إلى النهاية ولا تسأم حتى أسمعك ما علمتنيه الأيام والليالي، فلربما كان أصدق من خواطر الخيال، وأقرب منالًا وأسهل تحققًا.

ظن البعض أن السعادة في كثرة الأموال والأولاد والحرث والقصور الشامخات والخيل المطهمة والجواري والغلمان؛ فتكالبوا على جمع المال ولو بأخسِّ الطرق وأدنى الوسائل؛ فأمات حب المال ضمائرهم وجعلهم غلاظ القلوب والأكباد، فلم يجدوا لهم ضميرًا يحاسبهم، أو وازعًا من الدين يزجرهم، حتى أصبحوا مكروهين ممقوتين عند الله والناس.

نرى كثيرًا من الناس لا يعرفون معنى الحياة وكيف يقضونها، حتى بلغ من شدة عجزهم وضعف إرادتهم وسفاهة رأيهم أنهم ينتحرون خوفًا من الكد في سبيل الحياة، فهم في الحقيقة أحط من أحقر الحشرات، إذ نرى النمال متحدة متضامنة مجتهدة في الحصول على أقواتها بهمة لا تعرف الملل، فتقضي الربيع والصيف والخريف في ادخار القوت لتستريح في الشتاء وتستكن في مساكنها، ومن نباهة النمال أنها تقرض طرفي الحبة من القمح أو الشعير لئلا تنبت من رطوبة الأرض.

لِج القصور الشائقة واختبرْ أهلها تجد فيها ألوفًا من مصائب متوارية وكروب خفية وآلام نفسانية ومتاعب جثمانية، ترى رب القصر وقد أوقعه التفاخر بمظاهر الغنى ومنافسته لجيرانه الأغنياء في هاوية الخراب والدمار، وهذه عَقيلته التي لم يحسن اختيارها تريه كل يوم من صنوف الرزايا والخراب ما يثقل كاهله، وهؤلاء أولاده الأشقياء الذين لم يحسن تربيتهم يزيدون في آلامه ومتاعبه، يكاد يقطع هذا المنكود سبابته من الحسرة والندامة قائلًا: لو اقتنعت بما لدي من المال وأحسنت اختيار عقيلتي وربيت أولادي تربية طيبة لكنت الآن ناعم البال مرتاح الضمير.

كل من في الوجود من إنسان وحيوان يكد ويعمل طلبًا للسعادة، ترى الحيوان حينما تكمل قوته يصبو إلى أليفة يسكن إليها فتراه ينسى الجوع والظمأ، ويداوم البحث عنها، وكثيرًا ما يصادفه مزاحم عنيد فيشهر عليه حربًا عوانًا ربما كانت عليه القاضية.

نريد أن نستدل على طريق السعادة وحينما نجتازه نصل إليها ونعرفها حق المعرفة، وهذه السبيل لها أربعة أبواب والسعادة وراء الباب الرابع، فمفتاح الأول بيد الأقدار وهو أن تولد سليمًا عن العاهات والآفات، فربما كان أبواك سليمين قويين ويعاندك القضاء، والثاني بيد أبيك الذي بذر بذارك، فإن كان البذر جيدًا والتربة خصبة سليمة نما غرسك وأينع ثمرك، والثالث بيد أبيك أيضًا وهو التربية الصحيحة الراقية بجميع فروعها العلمية والدينية والأخلاقية والبدنية، والرابع الحكمة ومفتاحها بيدك.

أتدري ما هي السعادة الحقيقة التي ضلت في مفاوزها العقول؟ إنها لا توجد في وسط القصور الفخمة والجنان الفيحاء والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والكواعب الحسان، ولا تألف هذا الوسط المضطرب، وإنما هي منزوية في أعماق فؤادك.

السعادة أن تكون صحيح الجسم والعقل، مهذبًا عالمًا متحليًا بمكارم الأخلاق، نقيًّا طيبًا قانعًا بما أوتيت، صبورًا على الملمات، مؤديًا ما يفرضه عليك الواجب نحو ربك ونفسك وأهلك ووطنك، محبوبًا عند الله والناس، تحاسب ضميرك قبل نومك فتجد نفسك لا عليك ولا لك.

آتاك الله ووالداك هذه السعادة، والواجب يقضي أن تكلأها بعين عنايتك وتورثها لأبنائك، وتعاهدهم على أن يحذوا حذوك ويحافظوا عليها حتى يتوارثها عقبهم أبد الآباد، ويرشدوا الناس إلى منهاجها القويم.

خيرٌ لشقي تعس منكود جنى على نفسه أو جنى عليه أبوه بمرض عُضال ورثه منه أو أهمل تربيته حتى أصبح عالة على أمته أن لا ينقل شقاءه إلى غيره، ويتزوج ويجني هذا الإثم العظيم، فإن امتنع فتلك مروءة نادرة وطيبة عظيمة.

أيها الشقي المسكين الذي جنى عليه أبوه وسدت في وجهه أبواب السعادة، وحرمه طالعه المنكود من راحة الجسم وهناءة البال؛ تدرع بصبر أيوب، وفرج كروبك وبدد همومك بمواساة البائسين وإغاثة الملهوفين وعيادة المرضى وبرهم بقدر ما تستطيع ولو بكلمة حلوة، فإن ذلك سعادة عظمى لا يفهمها إلا الكيس الحكيم، وتَعَزَّ في وحدتك بقول أبي العلاء:

هذا جناه أبي عليَّ
وما جنيت على أحد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤