الفصل الرابع

الثورة الفكرية والجنسية العربية

١

نستنتج من كل ما تقدم في هذه الرسالة:
  • (١)

    أن الغايات الكمالية الخيالية هي المسيِّرة للأمم كما للأفراد.

  • (٢)

    أن الثورات الفكرية تربط الأمة بوحدة وثيقة العرى تجعلها كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا؛ إذ تكون نتيجتها تأسيس معتقد جديد في نفس هذه الأمة.

  • (٣)

    ينبغي التمسك في هذه الثورات الفكرية بتلابيب التوازن بين عادات الأمم ومشاعرها وأفكارها ونظاماتها القديمة، وبين ما تريد تناوله من المبادئ الجديدة والآراء الحديثة، وأن تسير في هذه السبيل بملءِ التؤدة والحيطة.

فالأمة العربية نائمة نومًا عميقًا منذ ستة قرون، فهي لذلك متخدرة الأعصاب، وإن أخذت تفتح عينيها، لكنها تفتحهما لتغمضهما بعد قليل.

من الضروري لها إذن ثورة فكرية بطيئة حذرة تخلع بواسطتها نِير أفكارها العتيقة البالية، وتصلح خلقها الفاسد، وتقوِّم اعوجاج شرائعها، ثورةٌ تكوِّن لها وجدانًا قوميًّا متين الدعائم.

النظام الذي تقوم عليه حياتها المنزلية والمدرسية والمدنية والسياسية فاسد، تربيتها ناقصة، وتعليمها مشوَّه، ونظاماتها ممسوخة، وفي أدمغة أبنائها مبادئ سقيمة آسنة، ينتهي تاريخها بعهد مضى من أمد بعيد، فقد ذهب أوانها، وحان وقت تغييرها، فكما أنه لا يحسن نقل الأمة دفعة واحدة من الظلمة الحالكة إلى نور الشمس الذي يبهر الأبصار بل يعميها، كذلك لا يوافق تركها في حندس ذلك الليل الأليل، تتخبط على غير هدًى.

إن الجامعات مولعة بالقديم كل الولع، كارهة للجديد أشد الكره، فهي ما برحت متشبثة بالأول تشبُّثَ المُشْرِف على الغرق بحبل النجاة، وهذا ربما كان سبب جرِّه إلى قعر البحر، وجمودها الفطري ليس كرهًا للجديد من حيث إنه جديد؛ بل لأن إقبالها على أمورٍ لا عهد لها بها يدفعها إلى التفكير العميق، وهذا ما لا تطيقه.

هذه الثورة التي ينبغي بثُّها في الأمة العربية يجب أن تتناول — كما تقدم — كل ما يتعلق بحياتنا الأسرية والعلمية والاجتماعية، وأن ترمي إلى وضع غاية كمالية، يغار كل فرد من أفرادها عليها كل الغيرة، ويتعصب لها جدَّ التعصب، وهذه الغاية الكمالية هي — كما قدمنا — إعادة مجد العرب، وتجديد حضارة العرب، وخلق كيان حقيقي للعرب!

إن المعتقدات الدينية أو الاجتماعية أو السياسية لا تحرز قوة إلا بعد أن يجدها الجميع ملخصة في غاية كمالية أو مقصد أعلى، وليس تكوين هذه الغاية — كما أسلفنا — عمل سنة أو سنتين، وإنما هو نتيجة حركة مستمرة وإجهاد دائم، سيما ونحن لا نرضى بالاتكال على الظروف الحسنة السعيدة؛ وخصوصًا لأنه تكوين معتقد جديد.

جاء محمد من قبل، فشيَّد للعرب ديانة كانت سبب فوزهم — دون نظر إلى صحة تعاليمها أو خطئها، موافقتها للزمن الحاضر أو عدمه؛ لأن قوتها وسلطانها على النفوذ ليسا في ذلك — فحملوا على العالم القديم حملة شديدة، تمكنوا بعدها من إخضاع الفرس والرومان وغيرهم، وتأسيس حضارة من أكبر الحضارات، وأملئها لصفحات التاريخ، ولم يتسرب إليهم السقوط في الدرجة الأولى إلا لما أخذ الوهن يتسرب إلى غايتهم الكمالية.

وكأني بهم الآن وهم أفراد مشتتون، لكلٍّ وجهةٌ هو مولِّيها، وكعبة يحج إليها، لا يفهمون من ديانتهم إلا جزءًا يسيرًا كالصلاة والصوم، ولا يدركون ذلك المقصد السياسي العالي الذي قام لأجله النبي الكريم، والسر العظيم الذي بواسطته وحَّدهم بعد أن كانوا قبائل يُغِيرُ بعضهم على بعض، أقل عاصفة تذهب بريحهم كأنْ لم يسبق لهم وجود.

ليس السبب في نجاح الأمم قوتها المادية؛ من أساطيل ومدمرات ومدافع وقنابل، وإنما المهم هو ذلك المؤثر الأدبي: الغاية الكمالية.

ولذا قلنا بأن الثورة الفكرية في الأمة العربية يجب أن ترمي إلى تكوين غاية كمالية، أو ديانةٍ جديدة لها، هي الجنسية العربية.

٢

الجنسية العربية

تحوي بعض الممالك أممًا شتَّى، وعناصر مختلفة في اللغة والتقاليد والعادات والطبائع والعقائد، فكيف حصل ذلك؟

قال العلَّامة ماكس نوردو مجيبًا على هذا السؤال:
دخل شعب غازيًا بلاد شعب آخر، فلم يطرده منها بتاتًا، بل بقيت مئات من الشعب المغلوب بين الشعب الغالب، أو إن الشعب الغالب كان أقل عددًا من المغلوب، فلم يبق منه إلا فئة قليلة، هنالك يشتد التنازع بعد أن كان ساكنًا، فيضطر الشعب الغالب لأن يستجمع آخر قواه ليدفع عنه الشعب المقهور، أو أن يعدمه أدبيًّا بحرمانه من لغته بالقوة الوحشية، اللهم إلَّا إذا نهض الشعب المَغْزُوُّ فجأة مدافعًا عن نفسه فيطرد الغازين خارج بلاده، أو يضطرهم إلى نبذ جنسيتهم.١
ثم قال بعد أن أتى على تعليلات أخرى لا يهم ذكرها:

إن مسألة الجنسيات هي الفصل الخامس الأخير لقصص تاريخية محزنة بدأ بعضها من هجرة الشعوب، وأكثرها بعد ذلك بكثير، وقد طالت فترة ما بين الفصلين، لكنها لن تدوم، فالستار ارتفع، والكارثة على وشك الوقوع، إنها ستكون شديدة قاسية، وكذا تكون مقادير كل كائن حي؛ إذ الحياة جهاد لا رحمة فيه، وليست هذه مسألة حقوق، بل مسألة قوة في أعلى وأعظم معانيها، وما من أحد يضطر الكائن الحي للتنازل عن الأسباب الضرورية لحياته، ولا يمكن ذلك إلا بالقوة، والقوة تسبب الدفاع والممانعة، وهل يُطلَب من الأسد أن يُبرز صكًّا يُخَوِّله الحق في افتراس الحَمَل؟ الأسد يغتصب الحمل اضطرارًا، وهذا مبدأ حقه في افتراسه، لا جَرَمَ أن للحمل الحق بقتل الأسد إن قدر عليه! … وحينما تكون الحياة أو ما يماثلها معرَّضة للخطر يتساوى الحق بالقوة. وهذا ظاهر حتى إن الشرائع البشرية جميعها تبيح للفرد الدفاع عن نفسه؛ أي إنها تسمح له في بعض الأحوال أن يستعمل القوة في الدفاع عن حقه، أَوَلَيْسَتِ الحرب حالة من حالات الدفاع عن النفس بين الشعوب لا بين الأفراد؟

إذا رأى الشعب في بعض الأمور ما هو ضروري له مدَّ يده لامتلاكه، وحقه في هذا الشيء هو عين الحق الذي للأسد في افتراس الحمل، فإذا شاء شعب آخر منْعه فيجب عليه إذن أن يعارضه بالقوة بنفس الحق الذي له أيضًا، ولا وجه للمغلوب بالتشكِّي ما دام له الحق بإعادة الكَرَّة مرة أخرى، فإن قُهر نهائيًّا وأضاع الأمل بالقوة في المستقبل وجب عليه أن يُذْعِن للقضاء، قائلًا: «خُلقت حَمَلًا فيجب أن أعيش عيشة الحمل، حبذا لو كنت الآن أسدًا! ولكن من الحمق مشاكسة الفطرة؛ لأنها لم تخلقني أسدًا!»

وقال في مكان آخر:

لا بدَّ لأوروبا أن ترى مِرْجَل الجنسيات ينفجر انفجارًا هائلًا عندما يأتي دور تصفية الحساب، والفِرَق المتبعثرة في كل شعب إما أن ترجع إلى أصلها فتلتف حوله، وإما أن تستصرخه وتستنجده فتنتصر بمعونته على الشعوب التي تستبد بها، ومصير الشعوب الصغيرة التي اكتسحت بلادًا بالاشتراك مع غيرها إلى الزوال إن لم يكن لها من قومها عضد قويٌّ يساعدها على الثبات أمام جيرانها الأقوياء، هنالك لا تثبت إلا الأمم الكبرى، ومن الأمم الصغرى من تستطيع تأسيس دولة مستقلة بعد طرد أو محو سائر العناصر الأجنبية التي تعيش بينها.

وقد لا يمضي القرن العشرون قبل أن يُشاهَد ختام هذا المشهد التاريخي، بل سترى أوروبا منذ الآن إلى ذلك اليوم العصيب شرورًا كثيرة ودماء مهدورة ومظالم عديدة وقساوة بربرية، فستُمحى شعوب وتُسحَق أقوام بدون رحمة ولا شفقة، وتبدو أمام هذا التسفُّل البشري مظاهر شجاعة عالية! هنا شراذم أنذال يخضعون أدبيًّا بدون مقاومة، وهناك أبطال يشربون كأس الردى ممزوجة بالعز والشرف، وبعد كل ذلك تتمتع الأمم الباقية بحقوقها الوطنية لا يرون فيها غير أنفسهم.

إنها لنظرات مرعبة تتراءى لنا، لكنها قلَّما تخيف من استعد لتحمُّل قسوة ناموس الحياة العام: الحياة جهاد، وقوة الحياة تكسب الحق فيها.

نعم، إنها لنظرات مرعبة، ولكنها قلَّما تخيف من استعد لتحمُّل ناموس الحياة العام: الحياة جهاد، وقوة الحياة تكسب الحق فيها.

فليستعد العرب إذن لتحمُّل قسوة ناموس الحياة: الحياة جهاد، وقوة الحياة تكسب الحق فيها!

إن المستقبل للشعوب القوية المتمسكة بقوميتها، فلتكن الجنسية العربية ديانة للعرب جديدة!

إن الجنسيات آلهة العصور الآتية، فلمَ لا نسعى منذ الآن لخلق إلهٍ للأمة العربية، هو الجنسية العربية، إله يضحِّي كلٌّ من عباده حياته في سبيل نصرته لمَّا تتطاحن الجنسيات؟

إن جامعة الجنس وحدها الثابتة؛ إذ يمكن أن يرد الإنسان ما سواها، بَيْنَا هو غير واجدٍ سبيلًا إلى نكران دمه الذي يجول في عروقه، والتاريخ الذي خطَّه أجداده على جبهة الدهر، واللغة والحضارة اللتين وضع كل منهما حجرًا من أحجارها.

وما العاطفة التي يتحسس العربي بها نحو غيره من الأقوام الغريبة إلا أقلها دوامًا.

ألا لا عاطفة أسمى من الجنسية، ولا رابطة أوثق من رابطتها!

قال العالم الإسرائيلي:

إن الذين لا تُعمي بصيرتهم الأغراض الشخصية يعترفون بأن تنبه الشعور الجنسي حادثة طبيعية تظهر ضرورة عند حد محدود من النشوء البشري لا يمكن إعاقتها أو منعها إلا إذا أمكن إعاقة مد البحر وجزره، أو منع حرارة الشمس من أن تصل إلينا إبَّان الصيف، فالذين يقولون بأن الأمم ستنبذ جنسياتها فلا تعود تذكرها ليسوا أكبر عقلًا من ذلك الغلام الذي قال لأمه وهي تضمه: متى أصبحت طفلًا صغيرًا مثلي، فأنا أيضًا أحملك.

والذي يحدد الجنسية هو في الحقيقة اللغة، فبها وحدها يصبح الإنسان عضوًا في جسم الأمة، وهي وحدها تخوِّله الجنسية، فلنتمثل حق التمثيل مكانة اللغة للفرد، وحظها في تكوين وجوده وفكره وشعوره ومظهره الإنساني.

باللغة يتكيف نظر الإنسان حسب نظر الشعب الذي هذَّبه ورقَّاه وأودع فيه وفي تركيبه أرق حركاته الفكرية وأرقَّ خصائص علمه وتصوراته، باللغة يصبح الإنسان ابن الشعب ووارث مفكريه وشعرائه ومؤدبيه وقادته، باللغة يخفض المرء جناحه لأدبيات الشعب وتاريخه، بفضل ما يؤثران في جميع أفراد ذلك الشعب فيجعلانهم سواء في الشعور والعمل.

حقًّا، إن اللغة لهي الإنسان نفسه!

١  مقالة الجنسية، نُشرت ترجمتها في مجلة المقتبس في العدد الثاني من السنة السابعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤